الأربعاء, نوفمبر 27, 2024
دراساتالدين وأداءه السياسي في المجتمع الأحوازي

الدين وأداءه السياسي في المجتمع الأحوازي

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

الملخص

لقد خصصت الدراسة في مطاويها مسألة أداء الدين في المجتمع الأحوازي، على أن لو كان للدين أداء في العناية والاهتمام بالإنسان الأحوازي بصفة خاصة، وبالإنسان بصفة العموم فما هو حجم ذلك؟ وبناء على هذا الاعتبار فالبحث في سياق تاريخي يكشف عن أداء الدين في نشوء إحدى الدول التي حكمت الأحواز وهي الدولة المشعشعية التي ضربت المسكوكات باسمها، فقد كان الدين جوهر الدولة المنظورة في عصور الإسلام التقليدية. بينما برصادة واقعية وكتمثل لما هو حاصل في القرن العشرين ــ الواحد والعشرين، يترادى أداء الدين في السياسة في العالم الحديث.

وأساسا من منظور اجتهادي شخصي لدي: أرفض مقولة ترابط الدين والسياسة، وهي عندى من وجهة اجتهادية لا مبرر لها ولا مقبولية في التشريع، ولها باثولوجيا خطيرة ناتجة من المزاوجة الحاصلة أدت إلى انتشار ظواهر سلبية عديدة منها:  الإلحاد في المعتقد والتطرف والعنف ومحاولة إعدام الدين من الهوية العربية طبعا عند شريحة معينة من الشعب الأحوازي.

                                     

سؤال الدراسة

سوف تجيب الدراسة على إشكالية مقولة الترابط بين الدين والسياسة وتكشف أن الأصل في هذا الحيز: (لا ترابط ولا تلازم) من منظور اجتهادي عندي في فهم الشريعة ( الكتاب والسنة)، وأن مزاوجة الدين بالسياسة تبقى سياقا تاريخانيا في دولة الأحواز المشعشعية وأن ولاية الفقيه كيف بإمكانها المساهمة في ترادي المجتمع الأحوازي مما ينتج باثولوجيا على مستوى الدين والإنسان الأحوازي.

 

المقدمة

 القول بترابط الدين (الإسلام المؤيرن) مع السياسة وإمكان بناء مجتمع نامي وحديث للأحواز هو في ذاته ينافي الحياة الجديدة  ومطالب الإنسان في العصر الحديث، والإصرار عليه انتهاك للقيم الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي نِيلت بالتنوير والعقلانية والخطابات الحديثة. وأن تكوين هذه الدولة فضلا عن مغايرتها للأعراف البشرية المعتمدة في السياسة والاجتماع إنها تساعد على نشوء الإسلام الأصولي أو فوبيا الإسلام  في الغرب الصديق.. وحديث دعوى الترابط بين الدين والسياسة حديث لم ينته بعدُ لا أقل في المنطقة (= الشرق الأوسط) بناء على تواجد إيران ( 1979- …م) ويمكن الاجتهاد بقول ما أن نظرية ولاية الفقية هذه العاهة التي وضعها الخميني 1988م في تاريخ الشيعة الحديث في نهايات القرن العشرين، وهي بعقدها الرابع فقد حملت تجارب خطيرة ومسيرة عدائية للمجتمعات الغربية، والعربية بخاصة، وأن مجتمع الشعب الأحوازي الأكثر جنوحا إلى الدين من بين الشعوب المتواجدة في خارطة إيران السياسية بحسب الإحصائيات تأثر بطبيعة المعايشة والمداخلة بالإسلام المؤيرن وهو إسلام لا رباط بالهوية الأحوازية أيضا في الكليات.

ومن واقع الرصد لمسيرة جمهورية الاسلامية الأربعينية ومحصلتها السلبية في المتاجرة بالدين [1] وانتهاك حقوق الإنسان وزعزعة الأمن الإقليمي كإثارة الصراع العقائدي وتدعيم الإسلام السياسي السني العربي لتشويه سمعة غير الشيعة.. وغير ذلك من أمور مما ليست أخلاقية في السياسة كالتوسع في صلاحيات ولي الفقيه خارج الدستور ( العمل بما فوق الدستور!) وهي من ظواهر الفقيه السلطان[2] وضرب من الطغيان لرجل الدين، الرجل الذي تظاهر قديما (حتى قبل 1979م) بالتقوى والزهد والطهارة بينما اليوم يقف في قائمة المنافسة على السلطة الرسمية في الدولة وتكوين منظمات ومؤسسات وجيوش وميليشيات وفِرق وتنظيمات للسياسة والحرب والاستخبارات والتوظيف كعميل للدين الرسمي والسياسة! لم يبقي من مسمى رجل الدين (المصداق) بالمعنى التقليدي شيء يصدق عليه اليوم نتيجة ما يمارسه في السياسة.

الغريب، من وجهة نظر العقل السليم، أن ولاية الفقيه التي استخدمت الدين وفسرته انطلاقا من أصول وقواعد لصالحها كقاعدة الأصولية: (لله في كل حادثة حكم[3]) أصبحت تمارس سياسة ماكيافلي بمعنى[4] وآخر! ثم هذه القاعدة بالذات في ضوء التحليل الوصفي تكشف لنا عن نظرة دينية متطرفة تجاه الدين فيها منطق شمولي  تحاول فيه ولاية الفقيه التدخل بكل حادثة في الحياة والاجتماعية والسياسية والثقافية. وهذه الدعوى لا يقر بصحتها فلاسفة الدين ولا المفكر الأحوازي، بل يعتبرها ضربا من التوهم ودعوة إلى الظلام التاريخي (ظلامية الكنيسة – الشعب / ظلامية الخلافة / ظلامية الإمامة) وينظر إلى دعاتها بأن لهم نوايا ومصالح يعتزمون نيلها بعمامة الدين ومساعي في الانشغال بغير رموزه (محراب الجامع وصفوف التدريس الديني وعباءة الافتاء[5] ).

وبناء على هذا الاعتبار تبدأ إلزامات المفكر الأحوازي والإقتضاءات لتحليل ونقد الوضع الاجتماعي الأحوازي في عتمة الدين المؤيرن  وما تنهتي إليه الأوضال حاضرا ومستقبلا بصفة العموم والخصوص. يقول Pierre Bourdieu في تحليله عن باثولوجيا الدين المؤدلج ورجال دينيين إن (رجال الدين في تحويل منظومة ما بعد الطبيعة إلى أيديولوجية ورأس مال متجسد فيكون نصيبهم من النجاح أكثر وسعيهم في نقل المجتمع إلى خارج صعيد الأعراف والتقابيد الاجتماعية أنجح وهذا التمكين في الرأس المال المتجسد يساعد رجال الدين في الاستيلاء على الأحداث [والمتغيرات] الاجتماعية وعلاقلات القدرة، الجو الديني أرضية أعم وأوسع من الأمكنة  الدينية[6]!

في الحقيقة أن عاهة مسماة بالجمهورية الإسلامية يمكن أن تتضح مفاسدها وأضرارها في ضوء فهم العالم الجديد الذي يناهض كل ضرب من التفكير الآحادي المنغلق أو الدوغمائية  الموروثة، بناء على أن البشر اليوم من خلال عدة علوم وفلسفات وفنون ومهارات وامتلاك تجارب عديدة وانفتاح آفاق واسعة أمامه لا يمكنه أن يسلم أحوال المجتمع بعد كل هذا التقدم والتفوق إلى رجل الدين ومزاعمه (ولاية الفقيه) ذي ذهنية مقدِّسة للتراث بسلبياته وإيجابياته، لا يرتضي بالعقلانية ولا المعقولية ولا التنوير، ولم يزل يحلم بمناصرة موضوعات متهالكة كالإمامة ــ الخلافة أو النيل من مناهضي رموز مذهب لا يتفق معه، وغير ذلك من رؤية سالبة بائدة. وبخاصة أن الخطابات الدينية  فقدت أهميتها، وخطاب الإسلام السياسي الأكثر رفضا بعد تجربة ولاية الفقيه في إيران [7]. ولا أتصور غاب عن متابعي تاريخ الإسلام الإبراني الحديث أداء ولاية الفقيه وسياساتها في المجتمعات وتدخلها السافر في شؤون الخليج العربي والبلدان العربية بذريعة الإسلام والدفاع عن الله ونصرة المظلوم! فهل هذه الأفعال الجنونية صدرت عن مجانين؟ لا وكلا، إن القائمون يفعلون ذلك من دافع الدين واليقين الديني، الدين في مثل هذه الأحوال يحول المتدين الأصولي إلى حضيض الطبيعة الوحوشية وهذا هو أداء الدين السلبي الذي طالما خصصت له دراسات سابقة.

وبين هذه الأفعال وغيرها إلى جانب تصور ولاية الفقيه الشمولية والمنغلقة الممثلة للإسلام السياسي فإنها لا تكون إلا عاهة عسيرة أمام حياة الشعب الاحوازي الجديدة وقناعات الإنسان الأحوازي وقِيَمه في العصر الحديث وأهمها في السياسة أو إدارة المُلك (الدولة)؟ وبتعبير بديل، كما يحدثنا تشارلز تايلور على سبيل المثال في الحديث عن مسألة: ( الشعب الدولة) إن هذا المصطلح من مقوّمات العالم الجديد، أي: أن لدينا شعب تنهض من خضمه دولة تهدف إلى تمثيل الشعب [8] )، لكن بالاستناد إلى العقل، العقل المستقل في فهمه عن الوحي، العقل الذي يُستند إليه في تبديد كل جربزة وخربشة دينية وظلم سياسي وظلام اجتماعي لا بالاستناد إلى النظرية الدينية. وليس من نافلة البحث لو قلنا أن هذه العاهة وتجربتها المدنسة للتقاليد والأعراف الجديدة أثرت سلبا على المجتمع الأحوازي الذي شهد في اعتداله العقائدي والفكري تاريخ الأفكار في مطاوى الموسوعات والمؤلفات التراثية.

وهذا بحد ذاته يكشف عن محاولة إعادة المجتمع الأحوازي إلى ما قبل عهده الحاضر ولو أنني من وجهة منظوري الاجتهادي أرى تحقق ذلك بالفعل. وأخير يمكن فهم نتاج هذه العاهة كمضمون سلبي على شرائح الشعب الأحوازي بخاصة المتدين المنغلق في ضوء التحولات الأخير في العالم كونها أول تطبيق للإسلام السياسي في الشرق في نهايات القرن العشرين معادية للقيم الاجتماعية الحديثة والأعراف الدولية ومنظمات الأمم ومساعي المجتمعات المدنية. ولو أن حصة شريحة من شعب الأحواز من هذه المسميات بقي معدوما وفي الوقت ذاته محصورا في الانتماء على الثورة والحرس الثوري ومنظماته.. إلا أن الإسلام بكل تأكيد ( بالحجية القطعية) كدين سماوي ليس له منظومة سياسية ولم يرشح رجل الدين إلى تكوين دولة، وأساسا هذه المسائل تم إحالتها إلى الناس (الشعب) في الكشف أو اختيار الأصلح والأولى والأنسب في الحكم وكذا تدوين الدستور المدني بالاعتبار من العرف البشري.

 

هل من رباط بين الدين والسياسة نظريا:

إنه لصعب عندما تتصور وترى وتشاهد حجم الظلم والطغيان الاجتماعي والسياسي والانتهاك لحقوق الإنسان يتشظى هنا وهناك لمزيد من التدمير والتعتيم والإهانة في جغرافيا عالم الإسلام تحت عناوين متعددة كالحكم الإسلامي والجماعات الدينية والحركات الإسلامية والنظيمات الجهادية والأحزاب الإسلامية.. يحاول مؤسسو أو زعماء هذه المصطلحات إيجاد ترابط بين الدين ومنظومة الدولة / الحكم (الإسلام والسياسة). ويمكن الاجتهاد أن ما يسمى نظام جمهورية ولاية الفقيه في إيران، أي النظام المؤسّس على أسّ مقولة الدين في السياسة كما يعرفها الاتجاه الأصولي ــ الفقهي، والإسلام السياسي كما يعرفها علم السياسة، ونظام الحكم الديني كما تعرفها أدبيات الغرب، ليس له اعتبار عرفي إنساني حديث، أجل، الأديان الإبراهيمية لها مبادئ معينة تعنى بالأخلاق والبناء الاجتماعي والإنساني والروحي كما لسائر الأديان، فمثلا الأديان الإبراهيمية تركز على أخلاق الفضيلة وفيها جنوح نحو العدالة ونبذ الاستبداد.. إلا أن هذا لا يكفي لكي تتكوّن دولة ونظام حكم سياسي باسم الأديان أو تصادر حرية الإنسان بين وضع أحكام دينية (حرام وحلال ومكروه ومستحب..)، وهي أحكام يتقبلها المتدين التقليدي وتسوغ له، بينما لا يمكن تحجيم حرية العلماني بها أو ذي النزعة الإنسانية بواسطها وإجباره على قبول التدين أو مشايعة الديننة.. وتقييده بالأحكام على أنها مسار السعادة والفلاح.. ولو حصل بواسطة قوة قاهرة اجتماعية يدعمها نظام الحكم أو الدولة فعندها نحن أمام شكل من أشكال النظام الديني ـ السياسي ـ الأصولي وتاريخه معلوم لا حاجة إلى سرده.

وبهذا الاعتبار فالنموذج الإيراني حاليا لكونه من أبرز أشكال النظام الديني ـ السياسي فقد أثبت طوال أربعة عقود (1979 – …) فشل إمكان تكوين نظام الحكم بـ أحكام فقهية! و وقواعد أصولية! ومنبر خطابة دينية! وفتوى وعمامة! ولذلك يبقى البديل في إدارة المجتمعات وخطط الأمن والحماية والتنمية ونشوء الدولة أساسا هي النماذج التي يتعمدها الإنسان بالمواضعة (= الأعراف الإنسانية) أولا، وتحظى بالتصويت والاختبار ثانيا من قبل الشعوب كما في الديمقراطية مثلا. والآن إن عدنا إلى نظام الحكم الديني وتخصص البحث على الرباط بين الدين والسياسة كما عند الجمهورية الإيرانية، ولو أنني اعتبرها قضية متناقضة كما نسميها في المنطق الرمزي بـ(Contradiction) حيث كيف يمكن وضع مفهومين متناقضين في مقولة، ولا تنتهي بالتهافت والبطلان؟ إننا نلاحظ في تلحليل:

الجمهورية: حكم الشعب وحرية اختيار نظام الإدارة.

والإسلامية: تطبيق إرادة الله، ونقض إرادة الشعب في اختيار نظام الإدارة!

ولا أدرى كيف نفهم صدق المسألة المتناقضة على أنها منطقية أولا، ثم أنها موضع قبول الإسلام ثانيا؟ وهل الإسلام متناقض في ذاته أم طبيعة الاستنباط (المنهجية ومقدمات الاستنباط) غير سليمة؟ وعليه إن يصر أتباع الإسلام السياسي على صحة ما يطرحونه من هرطقات: فهل الإسلام يوافق على اللامعقول واللامنطقي والمتناقض كما نفهمه من خلال الإداء والتطبيق والعمل في نظام الجمهورية الإيرانية؟ ويمكن الاجتهاد على أن أبرز عينات التناقض القول بالحرية نظريا ونقضها عمليا في ممارسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نقض حرية التعبير وحرية اختيار الأديان والمذاهب والاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وانتهاكات في أثناء تصرف مع حقوق حرية الشعوب غير الفارسية، وهي تمارس القمع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتصطبغ القمع بجواز من أحكام الإسلام للأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الاعتقال والاختطاف والاغتيال وإيجاد المحرقات. وقد جعلت الجمهورية بنظامها الديني الشُمُوليَّ الغريب  كل هذه الممارسات في جواز من الحوزة العلمية والفتوى والمرجع الديني؟ ومهما يكن من الأمر تكفي نظرة عابرة على فهم طبيعة اللاترابط المنطقي والديني بين الإسلام ونشوء منظومة حكم سياسي.

واليوم في ذكرى أربعين عاما على نكبة جمهورية الخميني (1979-  …م)؛ الثورة التي ما كان لها أن تكون جمهورية دينية ولا ولاية الفقيه وذلك لأن الثورة كانت تحالفا لليبراليين واليساريين والجماعات الدينية المتطرفة؛ سعى التحالف إلى الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوى (1959 –1980م) لما شهدت البلاد من فساد وقمع وسياسة معلمنة متطرفة، وكان أداء الخمينى (1902- 1989م) التعاطف والتأييد لغالبية المتدينين المتطرفين وخداع لغالبية الشعوب غير الفارسية التي رأت بعد وعوده لها أنه المخلص الأمين لإنقاذهم من استبدادية الشاه ولا إجبار على تنفيذ الأحكام الشرعية في مجتمعات الشعوب الموجودة في خارطة إيران السياسية ولو هو استعمل الخداع في وعوده، نلاحظ أن الثورة المتحالفة تحولت إلى جمهورية إسلامية! مع وجود علمانيين وليبراليين.. والدليل على أن الصورة لم يراد منها أن تكون إسلايمة كثرة مقابلات الخميني في باريس التي لا تشير إلى تكوين نظام فقهي ــ كلامي يتولى شأن الحكم والسياسة بعد الإطاحة بالشاه! وكذا لم يرد في مسودة الدستور الجديد (نظرية ولاية الفقيه) وكلما في الأمر أن الشعوب غير الفارسية في الأحواز وبلوشستان وكردستان وأذربيجان.. قامت بثورة على الشاه للظلم للتمييز والاستبداد.. ولا علاقة لثورة الشعوب بأي دافع ديني لتطبيق أي حكم شرعي فيا بعد الثورة.

والآن بعد مضي أربعة عقود من الجمهورية وقصورها وانتهاكاتها في الاقتصاد والسياسة والاجتماع واللاترابط الذي أريد منه أن يترابط بين الدين والسياسة لقد وجهت الجمهورية ضربات قاضية إلى جسد الدين (الإسلام) والتدين! وكما ألمحت في دراسات سابقة فالحل الوحيد والأكثر اختبارا وتطبيقا هو فصل الدين عن السياسة وعدم شرعنة الثيوقرطية المستندة إلى الفقاهة ورجال الدين! وكما ألمحت في محله أن السياسة من وجهة نظري الاجتهادية أنها شأن مرجعه: العقلانية العقلايئة ولا ترابط بينها وبين السماء وأحكامها الفقهية والكلامية التي تأسس عليها ولاية الفقيه!

الدين والدولة المشعشية (1436- 1724م):

 من خلال المنظور التاريخي الذي نمتلكه بشأن أوضاع الأحواز العقائدية والسياسية الاجتماعية والعلمية، يمكن الاجتهاد أن ثمة مسألة لم يخصص لها البحث وهي أن للدين كان أداء جوهريا وأولي في إنشاء الدولة المشعشية على يد السيد محمد بن فلاح المشعشع ( 866 هق / 1462م – 905 هق /1500م ) وكما نشهد فإن بداية الحكم كان مقارنا مع عصور الكنيسة ( 1217-1834م ) في أوربا المظلمة، وبذلك فكان الدين هو العلم الأعلى والمعرفة الأولى في واقع الاجتماع والسياسة والثقافة قبل نشوء علم السياسة وبدء العلمانية، ومعنى ذلك أن القراءة التاريخية لمداخلة الدين في السياسة فسواء حقق إيجابا أم سلبا فتلك قراءة ولى عصورها، ونحن ندرسها الآن كظاهرة تاريخية لا واقع عيني ملزم في كل العصور. وبناء على هذا المنظور فالدين في تلك العصور حظي بمكانة أولى وكان أداؤه لا مثيل له بالنسبة لمجتمعات وشعوب تعيش بنمطية تقليدية ــ كلاسيكية، لا كما نعيش اليوم على نفيض من تقليدها وفهمها للدين وجعل الترابط بين السياسة والدين. فاليوم الشعب الأحوازي بعد انقطاع دام ما يقرب من مائتي عام مع الدولة المشعشية الدينية، فهناك أحوال وأوضاع تغيرت، ولو افترض أن الدولة دام لها البقاء حتى القرن الواحد والعشرين لشهدت الأحواز تحولات جوهرية في السياسة نتيجة التأثر بما يسود في نظريات السياسة.

   ولكن عودة على المنطلق يمكن الاجتهاد فإن الدين (الإسلام العربي) في عصر الدولة المشعشعية بإدراك تاريخي كان الأكثر تأثيرا في نشوء الدولة وأدى دوره الإيجابي في استقلال الأحواز من الدولة الصفوية (1501-1736م)  والدولة العثمانية (1299 – 1923م) بل بعزيمة حكام الأحواز المتدينين دام الملك حتى الإطاحة بالحكم من قبل الإمارة الكعبية. ولو ترصد حياة المؤسس السيد محمد بن فلاح المشعشع ( 866 هق / 1462م – 905 هق /1500م ) لأبان للباحث أن هذا المتصوف والفقيه وصاحب الرياضة الروحية والمكاشفة الإشراقية إلى جانب اعتكافه في جامع الكوفة سنة كاملة قبيل القيام بإنشاء الدولة والتخطيط لها [9] ليصاب الإنسان بالذهول في حرص المتدين على أمر المحتمع وأناسه (الشعب) أحيانا. والآن فالدين الإسلامي كان فيما مضى له تأثير في السياسة وبهذا لا يمكن نكرانه أو تناسيه، أجل موقع الدين في السياسة  في الوقت الحاضر غير مبرر ولا أساس له إن أريد منه إنشاء حكم ديني أو إسلامي في العصر الحديث.

باثولوجيا الدين السياسي الايراني على الشعب الأحوازي :

لقد بينت فيما مضى دور الدين (الإسلام العربي) في إنشاء الدولة العربية المشعشية، وتم التأكد من الإداء الإيجابي والمبررات والعلاقات بينها وبين المؤسس والشعب الأحوازي، وقد مرت الإبانة أننا في تلك العصور أن الدولة المشعشعية الدينية يمكن اعتبارها كظاهرة تاريخية، لا واقع عيني ثابت في منظور الحياة.. إلا أننا في القرن الواحد والعشرين نجد الدولة الدينية نفسها في مغايرة ومناقضة مع الحياة الكريمة بما تنطوي عليه من حقوق وإلزامات وعلاقات تجاه الإنسان وهذا هو أداء الدين السلبي في السياسة في العصر الحديث. ولو أردت رصد القصور والإنتهاكات التي تسببه الدولة الدينية لطالت الدراسة وصارت تحتاج إلى موضوع قائم في ذاته للبحث. إلا أن المنظور البحثي الذي نحن وهو الدين ومتعلقاته وترابطه أو ما يمكن أن يدرس من خلاله الدين في السياسة والاجتماع، يمكن تعاقبا على الدين نفسه رصد الأداء السلبي له في السياسة. وبما أن الأحواز تعيش في ظل نظام ديني يدعى الإسلامية في شؤون الدولة فقد تسبب هذا الأمر في اهتمامي الخاص لدراسة هذه الإسلامية (الجمهورية الإسلامية). على أن أخصص البحث عن الباثولوجيا المحصلة من هذا في التشرد من الدين كـ:

أ). ظاهرة الإلحاد

رغم أن الدين في الأحواز له مكانة بينة ومعلومة وله أتباع وأنصار مقارنة مع التيارات والاتجاهات الفكرية الأخرى والتي تهدف إلى تقليل شأنه بصفة عامة، إلا أن تغاضي التحليل عن ظاهرة الإلحاد لا يعد محاولة مبررة أكاديميا ولا إسناد منطقي لها. وذلك لأننا نشهد على مدى الثلاثة عقود ( 1990 – 2019م)  ظاهرة التشرد من الدين وحتى الإلحاد نتيجة أداء الدين في السياسة (لجمهورية الإسلامية) السلبي وغير المبرر، كالظلم باسم الدين وتبريره والاضطهاد الديني والقومي ومصادرة الحريات الشخصية ومآت المسائل التي لا يسع ذكرها لتبرير سلطة الحاكم وجرائمه فقد كوّنت هذا الأداء السلبي صدمات كبيرة في عقول وأذهان الشعب الأحوازي ودفعت بكثير إلى الإلحاد أو على الأقل التشرد من الدين الإسلام العربي وقد بينتُ في دراسة سابقة أن الدين كمكون لهوية الأحواز العربية لا يمكن إعدامه وله أتباع يرون لهم واجبا في الحفاظ عليه[10].

وعليه فإن فترة الجمهورية الإسلامية  في أداءها السياسي أبين فترة يشهد الأحواز فيها انتشار الإلحاد ويمكن اعتيار الفتاوى المتلاعبة بالحقائق لصالح جهة دون أخرى ونشوب الصراعات وحتى القتل انتج وعيا معاديا للدين بكل أشكاله جراء وجود فتاوى للجهاد في سوريا فتاوى في إصدار الحكم بالإعدام وفتاوى في التجسس على المواطن الأحوازي وفتاوى في تعذيبه.. وفتاوى في الاستئثار بالمناصب والمراتب وفتاوى في التصرف بفوقية مع الأحوازي العربي. لقد أثارت هذه الفتاوى استفهامات عديدة في ذهن المتدين وغير المتدين الأحوازي على أن الدين في الجمهورية الإسلامية ترتدى الدين كالزي لنيل الغايات والأهداف والمصالح الشخصية والدنيوية عمليا وبذلك يرى الأحوازي نفسه حائرا في معرفة الإسلام الأصل عن الإسلام المسيس والمؤيرن الذي يتصرف فيه الحاكم! إن الأحوازي اليوم يشكك فى كل شيء له رباط بالدين والسياسة من وجود الله إلى الأنبياء حتى الكتب الفقيهة والكلامية وذلك في غياب النقد الإيجابي القادر على التمايز بين الإسلام الإيراني وأصل الإسلام (الكتاب والسنة) المتفق عليهما عند جمهور المسلمين.

وبناء على هذا المنظور تتجلى مهمة فيلسوف الدين والمفكر في إعادة مكانة الدين (الحقيقي) كمكون أساسي في الهوية العربية الأحوازية وكظاهرة لا بديلة لها في حيز المعتقدات والإيمانيات وهذا ما يطلب خطابا دينيا مناهضا لنظرية ولاية الفقيه للحفاظ على المجتمع  الأحوازي وهويته وثوابته وقيمه مُثله ودفع هذا الوضع المأسوي والمترادي لأداء ولاية الفقيه. ويمكن اعتبار رؤى ومزاعم كنيابة الحاكم للمهدي لتبرير السلطة ولغاية سياسية من أخطر ما مرّت به إيران فأدت إلى ظواهر عديدة ومنها الإلحاد.. مع العلم أن المواطن الأحوازي اليوم لا رغبة له في أن يتولي الدين  كل صعيد ونطاق ومجال ويعطي وجهة نظره على أنها ملزمة التطبيق[11].

 

ب). ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب الديني

بمَ قد أضرت نظرية الترابط بين الدين والسياسة وبوجه الخصوص الإسلامية الإيرانية (ولاية الفقيه)؟ قد لا نستيطع إحصاء الجزئيات وعدّ التفاصيل، إلا أن تخصيص البحث عن مسألة وهي دفع شريحة كبيرة من شعب الأحوازي نظريا إلى التطرف والعنف وعند شريحة أخرى عمليا إنه من نتائج هذه المزواجة الخمينية المزعومة! لقد اعتادت أسماع الأحواز على مصطلحات خزعبلانية كأنصار الله وحزب الله ومقاتلي الإسلام والواقع يشير إلى أن أداء هذه المسميات لا عمل لها سوى العنف والانتهاك تجاه المجتمع على مدى أربعة عقود، وقد شهد المواطن الأحوازي عمليات تصفية لنشطاء حراك الشيعة والسنة والمسيحية في الأحواز وبلوشستان وكردستان.. في وضوح النهار وظلمة الليل وهذا في حد ذاته تلويث لبيئة المجتمع وإرهاب فاضح.ثم إن أشكال الإرهاب الإيراني في إيران نفسها والمنطقة والعالم انطلاقا من تحطيم العلاقات الدولية كاحتلال سفارة الولايات المتحدة في 1979م تمّ إعادة مخطط لاحتلال سفارة المملكة السعودية الشقيقة في 2015م وكان لها صدى واسع في الإعلام العالمي والدبلماسي.

على مستوى حقوق الإنسان شبه عدم الاعتراف بأية قيمة إنسانية ومعايير لعقول عالمية وأممية في التعامل مع الفرد الأحوازي هذا التصرف بكل أشكاله غير عقلاني ولا أخلاقي ويساهم في إنشأ ظواهر عديدة منها التجافي مع الدين ثم التوجه نحو الإلحاد لدى الأحوازي ودفعته أساسا إلى عدم الاعتراف بالأديان ولا جدوائيتها وبخاصة الاسلام. ويضاف على ذلك في الوضع الداخلي الإيراني إن وجود منظمات عسكرية مثل الباسيج وتسيس الدين واحتكار دور العبادة بيد الحرس الثوري الإيراني وأدبياتها ورؤاها الخطيرة هي الأخطار البالغة التأثير على تدين الإنسان الأحوازي. فما يحدث فى إيران بواسطة الرؤية الإسلامية سيبقى تأثيره مترابطا بمدى قدرة الشعب العربي الأحوازي ومحاولة إحداث تغيير فى البنية والاجتماعية والثقافية لأجل غاية وهي إبعاد الوعي الخاص بشريحة من الأحواز عن هذه الرؤى العنفية والمتطرفة لإعادة الأسس الفكرية إلى الاعتدال الفكري والثقافي والمجتمعي.. حيث إن ظاهرة الإسلامية ولاية الفقيه أدت طيال أربعة عقود بتأثير سلبي على هذه الأسس بخاصة الشريحة المنتمية إلى المنظمات الإرهابية التابعة للحرس الثوري الإرهابي وهو الأمر الذي يتطلب خطابا ثقافيا واجتماعيا أحوازيا شاملا لحلحلة ما تم وصفه.

ومعنى ذلك تبنى خطط تعليمية وإرشادية ذات اتصاف بالعقلانية والعقلية الناقدة وإرساء منظومة حقوق الإنسان ودولة القانون وانعدام كل ما له صلة  بـالجمهورية الإسلامية وإعادة الأمور إلى الواقع الاجتماعي والثقافي والمصالحة مع العالم الحديث.

الدين والقضية الأحوازية:

بناء على كل الاعتبارات التي تقدمت في مطاوي البحث هناك مسألة جوهري هي أن ما مدى صحة تدخل الدين في العمل السياسي لمتديني الأحواز؟ ألم يكن المزاوجة بين الدين والعمل السياسي لا يخرج من اعتبارات فقهية وكلامية، وعلى فرض أن هناك من يريد تجربة الدين في السياسة بنمطية مذاهب أهل السنة والجماعة وهي الأكثر انتشارا فهل يجد أمامه غير تجارب فاشلة ومهزمة غير إيرانية كجماعة إخوان المسلين؟ وهل يرتدع الأحوازي المتدين الراديكالي عن الاستتباع لمثل هذا الإسفاف؟ وعليه: يمكن الاجتهاد عجالة أن كل أشكال ترابط الدين والسياسة لإنشاء الحكم السياسي غير مبررة.

المحصلة

اتضح أن تكوين الحكم الديني  مغاير للأعراف والتقاليد الحديثة التي توصل إليها الإنسان بعد جهد متواصل من التنوير والعقلانية وعبور من معاناة العصور التقليدية، وأن نظرية ولاية الفقيه تركز القدرة السياسية بيد الولي الفقيه وتمنحه صلاحيات ما فوق القانون (تعليق للقانون)! ويبدو أن في عصر العلمانية أو ما بعد العلمانية في الزمن الذي تنادي فيه المجتمعات بضرورة تحجيم دور الإسلام السياسي والاهتمام بمقولة فصل الدين عن السياسة، فإن هذا نقض لمكانة العقل البشري السليم. وهذا بصورة عامة هو موقف العالم من مزاوجة الدين بالسياسة. بقي أمر وهو أن الدولة المشعشية لا يمكن إعادة الاعتبار لها والتأسي بها فالفترة التي حكمت بها الأحواز تعتبر من وجهة نظر الهيرمينوطيقا مرحلة تاريخية، إلا أن ما يثير القلق هو تأثير الإسلام الإيراني وأداؤه السلبي على الأحواز مما ساعد على نشوء ظواهر لم تشهد من قبل. وأن أية محاولة سواء شيعية كانت أم سنية للمزاوجة بين الدين والسياسة مختومة بالفشل والإدبار، وهذا ما يلزم التكريس له في الدراسات المعنية بالدين والسياسة.

 

كمال بن سلمان

 

المصادر

[1] .للمرة الأولى يشهد التشيع ظاهرة متطورة جدا في تغيير مفاهيم ما بعد الطبيعة والدين والغيب إلى ما يمكن تسميته بـ (البضاعة)! و(القيمة) المادية!

 [2] .قال رسول: ( الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله: وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم). انظر: الكافي، كتاب فضل العلم، الباب 13، الحديث: 5. (مصدر شيعي معتمد في نصوص الحديث).

 [3] .محمد باقر الصدر، علم الاصول الحلقة الثانية: 50.

 [4] .أي: سياسة بلا أخلاق ومبادئ إلهية.

 [5] . [13]  Pierre Bourdieu, Questions de sociologie, Paris : Les éditions de minuit, 2002, pp. 113-137 (بتوسيط مصدر فارسي(

[6] .بتعبير أدق : مديرية المقدَّس (= الشؤون المقدسة)!.

[7] .تعمل حاليا ولاية الفقيه على خلق قواعد رصينة لها في سوريا والعراق واليمن وشمال أفريقا، وقد توفقت في لبنان بتوسيط حزب الله اللبناني الإرهابي، وفي العراق بواسطة عملاءها وأكثرهم توابو الجيش العراقي السابق الذين أطلقت عليهم إيران (التبوابين) في أثناء الأسر وطلاب الحوزة العلمية والميليشيات الذي عاشوا في إيران فترة الحرب العراقية – الإيرانية.

[8]. Taylor, Charles. A Secular Age. Cambridge, Mass: Belknap Press of Harvard University Press, 2007,pp.90.

[9]. تاريخ العراق بين الاحتلالين 3/111-112 ومجالس المؤمنين 2/396-399وريضا العلماء 4/81 .

[10] انظر دراستي: الهوية الدينية والهوية العربية الأحوازية.

[11]  بعد تكوين الإسلام السياسي في إيران بدأت ظاهرة (انفصال الناس عن رجال الدين) انطلاقا من عامي 1978 – 1979م نتيجة الانشغال في أجهزة الأمن والاستخبارات والحرس الثوري والمؤسسات الحكومية والمؤسسات الثورية وقوات الشرطة والإعلام الرسمي والجيش وتغيرت بالمرة مكانة رجل الدين. انظر: شجاعي زند، المتغيرات الثقافية: 91 – 92.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!