الخميس, ديسمبر 19, 2024
دراساتأبرز التغييرات المجتمعية في الأحواز:  من الـكميانشفت (الجماعة) نحو الكزلشفت (المجتمع)

أبرز التغييرات المجتمعية في الأحواز:  من الـكميانشفت (الجماعة) نحو الكزلشفت (المجتمع)

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المدخل

نتناول في هذه الدراسة أبرز التغييرات المجتمعية التي حدثت في المجتمع الأحوازي، طيلة العقود الأخيرة، ملقين الضوء على أبرزها فاعلية، تاركين الكلام عن أقلها تأثيرا. وقد كنا في دراسة سابقة تطرقنا إلى تلك التغييرات الفردية الأسرية فسجلنا أبرزها، وظل لزاما التوالي في تعديدها حتى بلغ الأمر  هنا بالمجتمعية.

وعند الكلام عن التغييرات المجتمعية يجب القول بأنها تغييرات تصطبغ بطابع تصارعي لأنها وليدة ظروف تاريخية قُدّر للأحواز تجربتها: قوامها الحياة مع المجتمع الفارسي المتغلب، بسلطانه ودولته، وما ينتج عن ذلك التغلب من فرض اللسان وأنماط الحياة تزامنا مع نبذ العربية ومشتقاتها الحضارية.

وعلى الرغم من الإذعان بهذا المعطى التاريخي، ظللنا ملتزمين في رصد التغييرات المجتمعية في الأحواز بالرؤية من داخل هذا المجتمع، وجعل التطور الجواني فيه الأصل، وعدّ المؤثرات البرانية الفرع؛ وإنْ كان هذا التصنيف بألأصل والفرع تصنيف مصطنع إلى حدود بعيدة، لا يصلح الاستخدام إلا إجرائيا حصرا، لأن ذلك المعطى التاريخي طاغ بجميع حمولاته على صيروة المجتمع هذا.

 

«المجتمع الأحوازي» بأي معنى؟

إنه لطالما شغلني سؤال الأحواز  هل هو «مجتمع»؟ هل هو «مجتمع» متكامل أم منقوص؟ بأي معنى من المعاني يكون الأحواز «مجتمعا»؟  وقد كانت تعترض القول بأنه «مجتمع»، جملة ملاحظات يومية معيشة، معززة  بنظريات مجتمعية تفيد كلها بكونه «مجتمعا منقوصا»، بمعنى مروره بحالة لا هي بالمجتمع شبيهة، بل هي لباقي الكيانات قريبة. وفي أول تلك الاعتراضات كان يأتي ذلك التشرذم الحاصل من كون الأحواز مجموعة من القبائل المتناحرة طورا، والمتسالمة طورا آخرا، المنكفئة على ذاتها المقدرة باقي التجمعات والكيانات عالما معاديا أو أجنبيا أو غريبا.

ومن دون الاسترسال بجملة الاعتراضات تلك، فقد كانت الإجابات الخاصة بالأحواز أمجتمع هو أو تجمعات أو جماعات أو مجتمع انتقالي إلخ، تتلخص وفق الرصيد الثقافي هنا، في اثنيتن: إجابة فرد ريغز التي أتينا بها في عُرض دراسات سابقة، تتحدث عن مجتمعات تعيش حالة من التذبذب يسميها المجتمعات الانتقالية: التي لا هي بالحديثة ولا بالقديمة بل ترزخ بين هذه وتلك، فتكون فيها البنى القديمة حية قوية تزاحمها البنى الجديدة، لتخلق معا كيانات لا هي إلى تلك المتوارثة تنتمي، ولا على هذه الحديثة تصنف.

وإجابة أخرى وافية، لها زخم برهاني من القوة بمكان في ترويض الأسئلة المماثلة، وقوة إقناع، وصلاحية معرفية تاريخية لتغطية أكبر قدر من المفاهيم والمحدثات من الظواهر، في «المجتمع الأحوازي» على وجه الخصوص، يقدمها العالم الاجتماعي المبرز فرديناند تونيز؛ وبها هنا، في هذه الدراسة، نسند المرجعية الفكرية اللازمة للبحث، في كل ذلك محاولين الدُرْبة على تبيئة النظريات الغربية الموعبة حقا، في ميدان الدراسات المجتمعية الأحوازية[1]:

لقد كان عالم الاجتماع فرديناند تونيز قد عاصر فترة في التاريخ الألماني، هي بدايات القرن التاسع عشر، شهد فيها انتقال المجتمع الألماني من القديم، إلى الجديد؛ من بقايا العالم القديم وشذراته من الألفة وقداسة الأسرة وتقدم الجماعي، إلى تجذر الفردانية والعلاقات الميكانيكية وتفتت القداسة الأسرية إلخ. فكان كل ذلك التحول من القديم إلى الجديد مبعث تساؤله، حتى أخذ يبدأ من الفرد والمجتمع، من تلك الإشكالية التي أخذت من البحوث العلم اجتماعية جهودا جبارة، تارة للتوفيق وتارة للتنافر. ونحن هنا من دون الأخذ بكل حركة تونيز، اختصارا للكلام، نبدأ بعرض أهم محاور أفكاره التي ستساعدنا في تحديد معنى «المجتمع الأحوازي».

لقد بدأ تونيس من تلك العلاقات التي يتمظهر فيها التجمهر البشري، قديما وحديثا، وفق السير البشري التاريخي، فوجد أن التجمعات البشرية لا تعدو من اثنتين: أطلق على أولها الـكميانشفت (الجماعة) وعلى المتقدمة منها الكزلشفت (المجتمع) مقدرا إياهما النوعين الأبرز في المجموعات البشرية. إن أساس هذا التقسيم هو إرادة الأفراد المشكلين لتلك التجمهرات لأنهم قوام التجمعات تلك، فإذا كانت إرادة الأفراد طبيعية تتكون منها الجماعة، وإنْ كانت إرادتهم عقلانية حينها نشهد بروز المجتمع، وذلك أن طبيعة الإرادة تولد نظام ترابط معين وعلاقات تنبثق عنها فتتوائم معها.

 

الجماعة

 الجماعة لدى تونيز هي وليدة إرادة طبيعية (Wesenwille ) والتي تعني (will to power)، فيها تضامن قوي، متقوم بالمشاعر والعواطف، يحكمها ترابط عضوي آلي، يجعل منها بالأسرة الواحدة أشبه. كل فرد في هذا التجمهر هو جزء من كل، وفي الكل والاستحالة فيه يتحصل على تشخصه ومعنى وجوده، تربطه بالآخرين مشاعر وعواطف، وازعها السنن والتقاليد والعادات المتوارثة. ومن أبرز صفات الجماعة هي الأمور التالية:

 ألف) الاتصالات والعلاقات محدودة؛

ب) لكنها عميقة ومتجذرة؛

ج) منطقها عضوي آلي؛

هـ) يجعل الجماعي متقدما على الفردي؛

و) لأنها متوراثة على طول التاريخ، تاريخ الجماعة.

وعلى العموم تتمظهر الإدراة الطبيعية في الجماعة، على ثلاث تمظهرات هي:

  1. اللذة
  2. والعادات
  3. والتذاكير

وبناء على التمظهرات الثلاث هذه تتواجد ثلاث مستويات من الهياكل المجتمعية هي:

  1. النسب؛ وهو القبيلة في الحالة الأحوازية
  2. والتجاور الجغرافي؛ وهو طول العشرة والقرية في الحالة الأحوازية
  3. والصداقة؛ وهي الولاء والحلف في الحالة الأحوازية دوما.

ويبدو لزاما منطقيا أن تشتمل هذه المستويات الثلاث من الهياكل المجتمعية على فئات تمثلها وتندرج فيها هي:

  1. المزارعون والفلاحون
  2. وفئات من الفنانين نظير الشعراء
  3. والنساء
  4. والشبان والشواب المقيدين بالعواطف والمشاعر
  5. والعمال

 

   المجتمع

وجود جماعات بشرية طبيعية هي أولى الهياكل المجتمعية التي بناها البشر لا يعني قط أبديتها، حيث يؤمن تونيز بحركة المجتمع إلى الأمام، وقد شاهد هو بنفسه حركة المجتمع الألماني معاصره إلى ما ينبذ تلك البنى والعادات القديمة. ولذلك يقابل الجماعة المجتمع، بصفات مغايرة وأنماط عيش تختلف كليا.

 فالمجتمع هو وليد إرادة عقلانية (Kurwill)، يدخل الأفراد إليه كدخولهم إلى بلد أجنبي بملء إرادتهم، حسب قوله، العلاقات فيه لا تتحكم إلا بمنطق الربح والخسارة، وازعها العقل والعقد الاجتماعي. إنه إذا كانت الجماعة متماسكة بروابط القرابة والتبعية والعرف والتاريخ والملكية الجماعية، فالمجتمع هو ميكانيكي يتفاعل فيه الأفراد المستقلون في ما بينهم من خلال المصلحة الذاتية والعقود التجارية، ومفهوم الوعي المشترك الذي ينحو إلى المكاني أكثر من التاريخي، والتقيد الخارجي الذي تمارسه القوانين المفروضة رسميا. وأبرز صفات المجتمع هو :

ألف) تقدم الفردي على الجماعي؛

ب) وانبثاق العلاقات من العقود والمصلحة؛

ج) واحلال المنطق الربحي بدل العواطف والمشاعر؛

د) والنظر إلى الدوائر الاجتماعية بوصفها صنيعة الإرادة الفردية العقلانية بدل أن تكون طبيعية المنشأء.

وعلى العموم تكون تمظهرات الإرادة العقلانية في ثلاث:

  1. الآمال
  2. والمصلحة
  3. والتفكير

حيث تتقولب هذه التمظهرات على الهياكل المجتمعية الثلاث الآتية:

  1. الدوائر السياسية
  2. والدوائر الاقتصادية
  3. والدوائر العلمية

ويمثل هذه الدوائر المجتمعية كل من:

  1. التجار
  2. والمفكرون
  3. والساسة
  4. والطبقة الوسطى
  5. والرجال والشيوخ

وبناء على ما تقدم،  بشكل جد وجيز، سنرصد فيما يلي أبرز التمظهرات الخاصة بالجماعة والمجتمع، في الأحواز . ولكن قبل ذلك يجب الانتباه إلى أن هذا التقسيم التونيزي لا يعني أبدا تصلبا أو تخشبا، يجعلنا نفهمه بشكل حدي، فنكون إما أمام جماعة أو مجتمع. كلا إن إلماعات تونيز تشير بوضوح إلى تساير هذه التجمعات البشرية معا، حيث يمكن بكل توكيد رصد مظاهر تشير إلى جماعة بالتزامن مع تلك المظاهر الدالة على المجتمع، في تجمهر بشري واحد، وفي فترة واحدة بعينها.

 

مقومات الجماعة في الأحواز

يمتلك المجتمع الأحوازي من التمظهرات والهياكل ما يجعل كل راصد يميل إلى تصنيف الأحواز على جماعة بدل المجتمع، لما فيه من بنى متوارثة، وعلاقات منطقها العاطفة، وتقدم الفردي على الجماعي، بالإضافة إلى المنطق الاقتصادي الاشتراكي الجماعي إلخ.

وإلى جانب كل ذلك فإن البنى الأحوازية تاريخيا، أي تلك البنى الطاعنة في هذا المجتمع، أعنى بها القبيلة والدين، لا تدع مجالا للشك بأن هذه الرقعة الجغرافية تتميز بأول ما تتميز به بكونها جماعة، بالمعنى الذي أفاده تونيز، منطقها منطق الجماعة، تسري فيها من المشاعر والسنن والوازع القديم، ما ينأى نأيا جوهريا عن المجتمع الحديث سمة العصر الحديث عصر الحداثة.

ومن أهم هذه المقومات المظهرة الجماعة فهي: القبيلة، ومكانة الدين، والتفريس، والتنشأة المجتمعية. وكما يفيد تونيز، فإن الإقرار باقتراب الأحواز من الجماعة، لا يعني قط تفرد هذه الصفة عليه، بل الأحواز في جوانب منه يظهر أنه جماعة، وفي الوقت ذاته، تظهر بنى وتفرعات مجتمعية فيه تفيد بجنوحه نحو المجتمع.

وإذا ما أردنا تعديد الفئات المقدرة بقوام الجماعة أمكننا حينها تسمية فئات كبيرة من الأحوازيين منهم المزارعين، وهي اينحلة المنتشرة بين أكبر عدد من القبائل الأحوازية؛ والفنانين خاصة الشعراء بوصفهم الذراع الفكري للجماعة، وهم وقود الاعتزاز بالانتماء للجماعة وعالمها المألوف، والعمال الذين يعانون من تشوه في وضعهم الطبقي المجتمعي، إذ إن معظم من فقد مهنته الزراعية اضطر إلى امتهان حرف متدنية لا يمكن وصفها تماما بالعمال، لأنها لا تشمل جميع مولات هذه المفهوم. وفيما يلي سنرصد أهم تمظهرات الجماعة في مختلف الفئات الأحوازية من مزارع وعامل وفنان.

 

القبيلة

إنه إذا كنا نبحث عن أكبر تجل للجماعة، وما فيها من الزامات وروح سائدة قديمة، ينطبق عليها كليا مفهوم كماينشفت، فهي القبيلة أولا وقبل جميع التجمعات البشرية. فهي من جهة تشتمل على النسب والقرابة الدموية، وهي قائمة أساسا على الانتماء إلى جد مشترك ونسب موحد، يربط الأفراد ويشدهم إلى بعضهم، ويجعل منهم كلا واحدا تستحيل فيه الذوات[2]؛ كما أنها متقومة بالتجاور المكاني الذي يجعل حيز القبيلة يتراءى لهم عالما مختصا بهم لا يجوز لأحد العدوان عليه؛ إلا إذا أتى محتميا عبر آلية الحلف والولاء.

إنها ثلاثة صفات ميزها تونيز للجماعة تتوفر عليها القبيلة في الأحواز بأتم الوجه؛ ولا يلزم علينا هنا البرهنة على ما تتمتع به القبيلة الأحوازية من طغيان على الساحة المجتمعية وحضورها المتفرع، واستحالتها الأفراد. إن الدور الذي تؤديه القبيلة في الأحواز مسخ الروح المجتمعية فيها، وجعلها تبتعد عن الدخول في عالم المجتمع، في عالم الحداثة وما ينتج عنها من منظومات وبنى.

 

الدين

ومثل الدين هو مثل القبيلة يشرع منظومة من الأحكام المتوارثة، جعلت بفعل قوتها الترهيبية وازعا به تنتظم أمور المجتمع وشؤونه. ولعل أكبر ما يميز الدين هو دعوته الأممية التي تجعل الجماعة محل الاعتبار بمخاطبتها إياهم بمنطق الأمة والجماعة، لا بوصفهم أفرادا لكل واحد منهم فردانيته المتمثلة في عقله الفرد[3]. إن سريان الروح الجماعية في الدين تعني في المجتمع الأحوازي تقدم الجماعي على الفردي تماما، خاصة في النسخة الشيعية التي تكون الجماعة فيها جماعية مضاعفة لكونها أقلية مذهبية تجابه دوما الأكثرية السنية.

وفي عرضنا مجمل ما يقدمه الدين لتعزيز روح الجماعة على حساب المجتمع في الأحواز، فإن الجدير بالإشارة هو تلك الروح العضوية في الدين: فنظرا لكون الدين، عند جميع الأديان، يصبح بعد ظهوره الأول متوارثا جيلا عن جيل، فإنه ينزل منزلة العقائد الوراثية الطبيعية، ما يجعل حركة العقل متعرقلة، ليس فيها مساحة يتفعل فيها متحررا عن الالزامات الدينية لها فاعلية متسعة. وهذا بالتحديد هو ما يحوله إلى إرثا مألوفا الانفصال عنه يعني التيه ومواجهة عالم غريب يظهر على شكل معادي، لأن الانفصال في الجماعة عن المتوارث، يظهر على شكل عدائي، للروح المصنفة أي جديد معادي وأجنبي.

 

سيكولوجيا الجماعة

ولعل البعد السيكولوجي الدفين يحتل موضع التقدم في الجماعة، لأنه ثاو خلف جميع التصرفات الفردية والجماعية معا، مع ميل شديد للأثر الفردي منه. فهنا تظهر سيكولوجيا الفرد في الجماعة في جميع سلوكياته وفاعليته اليومية: في الروح العاطفية التي تجعله يتصرف مع المحدثات من منطق الانفعال، وفي تلك التضحيات غير المجدية في سبيل بقاء القبيلة أو تقدم الروح للدين والمعتقد، أو في الدفاع عن المألوف والنظرة النوستالجية تجاه القديم.

إن تتبع حديث الفرد الأحوازي يظهر بما لا حاجة لإثباته حنينا أبديا إلى القديم، وعدّه النسخة المثلى لطرائق العيش وأنماط السلوك. والحنين إلى القديم هذا ليس حصرا على القبيلة فحسب، حيث يتكرر موضوع مدح الأجداد والأسلاف وعالمهم وخصالهم وكرمهم إلخ، بل الدين أيضا يحن إلى القديم والعصور الأُول، عصور الخلفاء والأئمة بتقديس غال يقترب من الخرافة. إن المهم في هذا الحنين ليس وجوده بحد ذاته، بل هو تأثيره على تنامي العداء، في أصحاب الحنين إلى الماضي، تجاه أي جديد لم يعتادوه. وهذا بالتحديد هو ما يتمظهر في جل المنتمين إلى العالم الماضي عند قدومهم إلى عالم غير مألوف عما اعتادوه، فيتموضعون ضده تموضع المعادي، ويجابهونه بالرفض والمخالفة.

وبما أن الجديد يعني سيكولوجيا، لأصحاب الجماعة، الغريب الذي يجب الفرار منه، والاحتماء بعالم القديم، فهو يعكس صورة التعقل لتلك الأرواح، حيث يكون التعقل عاجزا عن الحركة، لعادته باجترار المألوف، ونيابة التركة الموروثة عنه في الإجابة عن الأسئلة، مغايرة تماما مع روح العالم الحديث، عالم المجتمع المتشوق عقلا لكل مستحدث مبتدع.

 

التنشأة المجتمعية لدى الجماعة

إنه إذا كانت الأحواز تقترب من الجماعة بما لديها من بنى وسيكولوجيا جماهيرهة، وهي مقوماتها الداخلية، فإن ما طرأ عليها من موضع تاريخي شاذ يتجلى في كونها وطنا محتلا، جعلها أمام إفرازات برانية، أرادت لها التقوقع في مكانة تاريخية وتنموية وحضارية سفلى، تسهل من استمرار احتلالها.

وعلى رأس هذه المؤثرات البرانية تأتي التنشأة المجتمعية، وكل ما فيها من فرض أنماط سلوك غريبة، ومحاولات رامية لتوطيد التخلف، ومعاداة العربية وجميع تمظهراتها. فنظرا للتنشأة الاجتماعية وقفت الأحواز أمام محاولات قوية من دولة قوية متغلبة، أرادت لها أن تبق في قيد الجماعة، أو أن لا تتحول إلى مجتمع قد تكون إحدى مقوماته الرؤية القومية الشاملة التي تصنع من مجموعة جماعات مترهلة مجتمعا قوميا يدخل التاريخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

ومن أبرز عمليات التنشأة الاجتماعية التي تجذر روح الجماعة في الأحواز هي: التفريس (الذي سنفرد له الفقرة التالية) وبث روح الإزدراء تجاه العرب، وتغذية النزعة القبلية، وإماتة الروح القومية.

ففي التنشأة الاجتماعية التي تقودها أجهزة الدولة المحتلة، يتصور الأحوازي على شكل مزر وأنه عنصرا متخلفا لا مجال لتطوره ودخوله في ركب التقدم إلا عند استحالته في الفرس، وانتزاع العربية، والدخول في المجتمع الفارسي، ونبذه العربية، وتقديم رواية عما يثبت هذه الدعوة. فبموجب التاريخ الذي تعرضه المدارس الفارسية الإيرانية، يكون العرب عموما، والأحوازيون خصوصا وبالذات، أصحاب حياة بدائية خالية عن أية عناصر حضارية، من شأنها بعث الاعتزاز ودعم الذات، بل الرواية التاريخية تلك هدامة للعرب تستهدف جيمع انتاجهم الحضاري، وعلى رأسه الرموز القومية.

ومن أبرز علمليات التهديم للرموز القومية تصوير الدولة المشعشعية ( في الكتب الفارسية) مجرد زعامة قبلية غالية، جعلت المذهب مطية لأهوائها، على يد قادة مارقين عن المذهب الشيعي، أدبتهم الدولة الصفوية فعاودوا إلى رشدهم، حتى انتهت تلك الزعامة القبلية[4]. وهذه محاولة مفضوحة للواقع التاريخي وواقع الدولة المشعشعية العربية، قومية النزعات في فترات حروبها مع الدولة الفارسية الغازية. على أنه مهما يكن من أمر هذه الرواية، ومثيلاتها الكثيرة، فالمهم هو بثها بين الشعب الأحوازي، ما جعل الكثير منهم يتقوقعون إلى الخلف، ناظرين لأنفسهم بمنظار هذه الرؤية، مجرد جماعات لا شعب بعينه؛ وقد ساند هذا التراجع إلى الخلف، تلك الروح الجماعية في الجماعة الأحوازية، التي ألفت المألوف، المألوف القديم الذي يصورهم مجرد جماعات متباعدة وشرذمة من القبائل المعادية. ومن هنا تم إعادة إنتاج الجماعة داخل الأحواز، بالتزامن مع الابتعاد عن القدوم نحو تكوين مجتمع بجميع الزاماته.

على أن ذلك لم يكن ممكنا لو لم تتمتع القبيلة في الأحواز بذلك الدور المستمر، حتى جعلها الواقع الأحوازي ملجئأ كأنه أبديا إلى كل من يفر من القومية العربية المطالبة بتكوين مجتمع قومي ركيزة الدولة المنشودة، لتحضنه وتجعله مناديا متيقنا إلى روح قبلية لا تذعن لمنطق الجماعات القومية.

وما دام وضع الجماعة في الأحواز على هذا الحال بفعل التنشأة الاجتماعية الفارسية، فإنه يصبح من البدهي التخلف عن الروح القومية. فما دامت التنشأة المجتمعية قائمة على أساس أشعار غير عربية فارسية، وتاريخ فارسي، وأبطال قوميين فارسيين، ومستقبل فارسي إلخ، فكيف بالأحوازي أن يتعرف على قوميته العربية، تمهيدا إلى توطيدها والصدور عنها.

إن التنشأة الاجتماعية ما كانت لتمضي على أساس فارسي لو لا وجود تلك الأرضية في الجماعة التي سمحت لها بالنجاح في جوانب كثيرة، وجعلت عالم الجماعة البعيد عن الجديد المجتر الموروث هو أكبر المؤازرين لعملية تنشأة تجعل الذات العربية الأحوازية متشرذمة على ذاتها لا هي بالفارسية راضية ولا هي على العربية الحديثة متعرفة، بل ظلت عربية في نطاق ضيق هو نطاق الجماعة والقبيلة، الذي لا يمكن بناء مجتمع إلا على أنقاضها وعن طريق الابتعاد عنها.

 

التفريس

وتبلغ عملية تعزيز روح الجماعة في الأحواز بالتفريس الذروة. فهذه الظاهرة تجري على مستويين: المستوى المعنوي والمستوى المادي. ففي المستوى المعنوي يتولى عملية التفريس المؤرخ الفارسي، والفنان الفارسي، وجميع أصحاب الفكر من الفرس في شتى ميادين المعرفة، حتى يتم نكران عروبة الأحواز وشعبها، ويظهر هذا الوطن على هيأة فارسية لا دخل للعربية فيه، ويتحول العربي إلى مستحيل فارسيا أو إلى منكفء.

أما من حيث المادي فتجري العملية في صورها العلانية، فيكون استخدام الاسم الفارسي محضورا يستجلب تبعات سلبية، ويكون الحديث باللغة العربية في الدوائر والمدارس والأماكن العامة ممنوعا ومدعاة إلى الحرمان من المكافئات، كما يكون الانتماء العربي جريمة يعاقب عليها القانون الرسمي للدولة، وممارسة العربية كتابة وشعرا إلخ علامة على خروج الفرد على الدولة وتموضعه موضع المعارض المعادي. أضف إلى ذلك فإن التفريس يعزز عملياته بمحفزات على عكس العربية، منها الدخول في عالم الفرس خاصة في الجهاز الإداري والسماح بالحصول على مناصب عليا، واستقبال المحافل الفارسية الفكرية والمادية المستحيل استقبال الداخل في دائرة الأنا.

 

مقومات الجتمع في الأحواز

إنه إذا كان الأحواز تشتمل على مظاهر بارزة، أحصيناها أعلاه، تدل كلها على أن الأحواز هي كمينشافت (حماعة)، فإنها لا تعدم مظاهر أخرى تجعلها هذه المرة تقترب من الكزلشفت (المجتمع)، والحث على تسمية الأحواز مجتمعا تاما[5]. وهذا بالتحديد هو ما أشار إليه تونيز بوضوح، حيث أفاد بأن المجموعات البشرية عادة ما تتأرجح بين مظاهر الجماعة والمجتمع، وقد تكون البنى القديمة والحديثة متقاربة متجاورة.

فإذا كانت الأحواز تشهد وجود جماعات قبلية، تتوزع على مزارعين وعمال إلخ، فإنها تشهد من الفئات المجتمعية من تجار ومفكرون وطبقة وسطى، ما يحث الباحث على المصادقة على كون الأحواز مجتمعا، لما فيه من فئات مجتمعية وشؤون حديثة، تجعله يصنف إلى العالم الحديث.

وفيما يلي نرصد أهم المظاهر المعززة تصنيف الأحواز مجتمعا، وهي مظاهر تعد كلها من أبرز التغييرات المجتمعية في الأحواز، لأنها جاءت إليه مؤخرا، وهي لا تمتلك من القدم والتجذر ما يمنع من عدها تغييرات طارئة لم تتبين بعد مآلاتها.

 

القومية

لقد شهدت الأحواز، خاصة في العقدين الأخيرين بشكل صارم، ميلاد فئة متعلمة من الأحوازيين ينتمون بشكل لا غبار عليه إلى القومية العربية، نابذين بالآن ذاته تلك النزعات القبلية المتمذهبة ضيقة الأطر، واعين وعيا ذاتيا تاريخيا بموضوعية الانتماء القومي وضرورته التاريخية. وهؤلاء القوميون هو النواة الأولى للخروج بالأحواز من الجماعة إلى مجتمع، مجتمع قومي صلب، يحمل جميع الزامات المضي فيه.

إن ميلاد القومية لم يكن يعني فقط تكوين طبقات مغايرة عن المألوف والبنى المتوارثة، بل كان يعني بالدرجة الأولى خروجا من العالم القديم بجميع حمولاته، والدخول إلى العالم الجديد بجميع حمولاته أيضا. خروجا يستلزم فيما بعد، في الفترات الراهنة والمقبلة، محاربة جميع المعوقات القديمة من قبيلة ودين وإفرازات الاحتلال، والدخول معها في سجال حضاري تام، يشمل الفن والتأريخ والإنتاج الفكري بمعناه الواسع، وخوض حروب طاحنة.

لا شك أن مثل هذه الحوادث التاريخية هي التي تدل على سير التاريخ، ودخول الأحواز إليه، وإغلاق الباب أمام العودة. وإذا كان بعض الكتاب في حركة الأمم ومستواها التنموي والتحديثي يحذر ويصادق على عودة المكبوت من بنى وسنن غابرة، فإن كلامهم هذا لا يساوي شيئا أمام كلام هيغل الذي يقول: بأن ميلاد الجديد سيعني تغيير القديم، وإنْ تجيش القديم هذا فقضى عليه قضاء مبرما؛ لأن ذلك القضاء حينها يرتدي حلة جديدة هي حلة القضاء على الجديد، ما يجعله جديدا هو بعينه، وإن كان ينطلق من القديم. وهذه هي لغة هيغل وإلماعاته الفلسفية الصُلبة.

 

الطبقة الوسطى

إنه إذا كان ميلاد القومية يعني جليا دخول الأحواز إلى المجتمع، والخروج من مجرد جماعة، فإن ذلك يجب أن لا يذهب بنا بعيدا عن واقع الأحواز، والذهول عن تأرجحها منذ لحظة دخول الحداثة بشكل متعثر شاذ عليها، بين القديم والجديد.

وتظهر معاينة حال الطبقة الوسطى في الأحواز تعثرها وتيهها في واقع حالها المضطرب. فبينما كانت الطبقة الوسطى هي الوعاء الذي حمل معه مختلف الفِكَر الحديثة، والإيديولوجيات التبشيرية الطوباوية، ظهرت الطبقة الوسطى في الأحواز فارغة عن مضمونها: فمالت تارة نحو التقليدية بمختلف حمولاتها، حتى دعت إلى دعوات فاسدة نظير الإبقاء على القبيلة وحسناتها ونبذ القبلية (نظير دعوة الغذامي إلى مثل ذلك في كتابه أعلاه)، وجنحت تارة أخرى نحو التفريس وعد الشعب الأحوازي إيرانيا دونما مراعاة للفرائض المنطقية والتكوين التاريخياني للأمة الأحوازية واستلزامات مستقبلها، وسقطت تارة أخرى في فخ معاداة القديم معاداة هوجاء لا معنى فيها ولا علم يؤازرها نظير معاداة الدين ونبذ التاريخ الشيعي العربي الأحوازي، والتخلي عن الأحلام القومية الملهمة، نظير الوحدة العربية المنشودة إلخ.

وأكثر من كل ذلك فإن أكبر معاطب تكوين فتوطيد الطبقة الوسطى في الأحواز هو موضعها الاقتصادي؛ الموضع الاقتصادي الذي أفرغ، هو من جهته، معنى هذه الطبقة وكونها وسطى[6]؛ إذ إن معظم المتحصلين على شهادات علمية في الأحواز يصطدمون بعملية آثمة للتفقير على يد النظام الإيراني، وحرمانهم من مصادر رزق تجعلهم متفرغين لتخصصهم غير منهمكين في توفير بلغة العيش. لا تحتل فئات الطبقة الوسطى في الأحواز موضعا قياديا في إدراة شؤون الأحواز لا على المستوى الفكري، ولا على المستوى التنفيذي؛ فالقاء نظرة سريعة على حملة شهادات الدكتوراه في الأحواز يثبت، بما لا مجال للشك فيه، بإبعادهم الممنهج عن احتلال عمل التدريس في الجامعات، كما أن القاء نظرة على الأحوازيين المنخرطين في الجهاز الإداري يظهر إبعادهم أيضا عن احتلال منصب إداري كبير. ولعل أمارة ذلك هي عدم احتلال منصب «المحافظية» لأي أحوازي لغاية الآن.

ثم تصطدم، إلى جانب ذلك، فئات الطبقة الوسطى بفرض عملية رقابية صارمة وقوية عليهم من قبل جهاز الاستخبارات الإيرانية، لرصد أية توجهات قومية عربية فيهم، حتى زجت العملية هذه بطائفة من المتعلمين الأحوازيين في سجون الأسر لمجرد لمح نزوع قومي، ما جعل السجون الإيرانية مفعمة بثلة من هؤلاء يعانون أسوأ الظروف البشرية من أمراض مزمنة وتدمير أسر وتحطيم مستقبل.

 

زيادة التعليم

ومن أبرز أمارات الطبقة الوسطى هو زيادة التعليم في الأحواز، حيث مقارنة الأمية ببضعة عقود سابقة، يظهر أنها في تقلص مطرد؛ وإذا كان مستوى الأمية في إيران وفق آخر تصريح لوزير إيراني يبلغ 9 مليون نسمة، فإن هذا العدد في الأحواز مقارنة بعقبتها التاريخية يسجل تناميا لصالح محو الأمية؛ وإنْ كان عدد الأميين في الأحواز ملحوظا.

وتعود ظاهرة زيادة التعليم في الأحواز إلى أمرين معنوي ومادي. فالأمر المعنوي هو ذلك الإجلال الذي في نفوس جميع العرب من ضرورة العلم، وتبجيل حامليه، ومن أنه ضرورة في الحياة كضرورة الأكل والشرب، ما جعل الآباء والأمهات يولون أهمية قصوى لتعليم أبنائهم وعد الأمية قيدا ينعكس على تردي مكانة الفرد وفاعليته في الحياة. أما ماديا فإن نظرة الشعب الأحوازي كانت تظن التعليم، خاصة التعليم الجامعي، الوسيلة الأولى والضرورة في حصول وظائف ومهن تؤمن للفرد وأسرته مردودا ماديا قارا، وتجعله في غنى عن التفكير في حصول مستلزمات الحياة. ويعزز هذا الفرض هو تراجع رغبة فئات كبيرة من الأحوازيين عن الدراسة في الجامعات بعد أن رأوا الدارسة تلك لا تتيح لهم الحصول على مصادر رزق ولا استلام مناصب إدارية أو فكرية في المجتمع.

 

التمدين

لقد بينا وفق ما قاله تونيز بأن أبرز تمظهرات الإرادة الطبيعية في الجماعة هي التجاور والقرب المكاني بين الأفراد المنتمين إلى جماعة واحدة، تجاور جعلهم يتصورون الحيز الجغرافي الذي لهم حدودهم الخاصة التي لا يجب السماح لأحد بالدخول إليها. والتمدين من هذه الزاوية يعني بصراحة كسر هذا الفهم، والخروج منه إلى عالم قوامه تجاور الغرباء، واختلاق ساحة عامة للكافة الحق فيها، وانحسار رقعة العالم الخاص إلى البيت الذي يكون فيه السكن.

ومهما يكن من أمر فإن الأحواز بشمالها وجنوبها سجل في العقود الأخيرة زيادة كبيرة في المدن، وإقبال العرب المتقوقعين في قراهم وحدودهم القبلية إلى مدن ليس فيها من كل قبيلة فحسب، بل فيها من الفرس من غير أمة وملة. ومن هنا بالتحديد أكتسى طابع المدينة في الأحواز طابعا استيطانيا جعل فعل النظام الإيراني الأحوازيين أمام واقع لا يسمح لهم، بعد ترك موطنهم في القرى، إلا بالسكن في الأطراف، والتموضع على هامش المدينة الأحوازية[7].

وإذا كان هذا التمدين قد أدى بالعرب إلى ترك حيزهم المكاني بالقدوم إلى عالم الاختلاط في المدن، فإنه من جهة ثانية أعاد تلك الدورة بين القديم والجديد وأصبح مشهدا آخرا من مشاهد التأرجح ذاك، بعد أن أصبحت هذه الهوامش بفعل حرمانها من مستلزمات التمدين الواقعي، تعيد البنى القديمة، وما تقدمه من سند للمنتمين لها، ممن لم يحظ بما يقدمه العالم الجديد بالمدن من سند ودعم. ومن هنا قوظت فرص التخلص من رسوبات الجماعة لدى ما ترك أولى مستلزماتها المدنية، وبات أفراد الجماعة أمام خيبة من المجتمع الذي احتموا فيه بالمدن، حتى عادت بقوة البنى القديمة، فبتنا نرى المدينة الأحوازية، من زاوية نظر داخلية، كأنها قرية ممطة من أجل احتواء أكبر عدد من الجماعات المتباعدة.

فبهذا المعنى يجوز بقوة وصف المدينة الأحوازية على أنها قرية كبيرة، يحكمها منطق الجماعة، بعد أن تركت حيزها الضيق الخاص بها، وباتت تعيش في حيز أكبر فقد حيزه الجغرافي المادي وأبقى على المعنوي، من روح القطيع مع الآخرين والتمايز عبر الانتماء إلى جماعات. إن المدينة الأحوازية من هذه الزاوية هي مجموعة جزر متباعدة معنويا متقاربة جغرافيا لا رابط بينها سوى هذا الرابط التجاوري الفارغ عن التأثير والمضمون، ولذلك ظلت الجماعات المدنية الأحوازية عبارة عن انتماءات قبلية، أو مذهبية على أحسن الأحوال، ينبع ميزها الرئيس عن بعضها عن انتماءها لتلك القبيلة أو هذه.

وهنا في ظل هذا الوضع المديني الشاذ لم تبرز الانتماءات القومية، ولا الانتماءات المهنية، ولا الطبقية بل ظلت الانتماءات على حالها تشتق عن العالم القديم. حتى التفاوت الطبقي الظاهر بجلاء في المدينة الأحوازية بين المستوطنين المتمولين والعرب المفقرين ظل لا يفهم على أنه تفاوت طبقي مرده التفاوت القومي، بل فُهم على أنه تفاوت في مستويات الجدارة المنخفضة عند العرب الكبيرة عند الفرس. إنه منطق الجماعة التي ارتميت بتنشأة اجتماعية وطدت فيهم روح الإزدراء الذاتي حتى أصبح الشخص يفرض رقابة على ذاته يصور نفسه فيها هو الأدنى والمستوطن الأعلى.

 

زيادة العدد السكاني

ونختم احصاء المظاهر المجتمعية في الأحواز بظاهرة متنامية هي زيادة العدد السكاني الأحوازي، في العقود الأخيرة، حتى خرج أحد الباحثين بنتيجة تقدر العدد السكاني للأحواز بما يقارب 8 مليون نسمة. ولا شك أن زيادة العدد السكاني، في الظرف الراهن من الحياة الأحوازية، يكتسب من التبعات الكبيرة، حيث إن تلك الزيادة مقرونة بتبعات تصب لصالح جنوح الأحواز نحو المجتمع والابتعاد عن الجماعة ومنطقها.

وذلك أن أبرز ما يصاحب تعاقب الأجيال هو حدوث ذلك الفرق بين الجيل الأول ومن يعقبه، من حيث العادات وأنماط العيش والسلوكيات. ففي ظل العولمة المتحكمة في حياة العالمين اليوم، يظهر جليا على الأجيال الأحوازية الراهنة ميولها نحو قيم العالم الحديث، وتبنيها طرائق العيش الحديثة بالتزامن مع نبذ القديمة، مما يعني كسر تلك العملية المتوارثة التي تعيد إنتاج القديم بقيمه وسلوكياته وبناه. ومما لا شك فيه تتموضع القيم القومية على رأس القيم الحديثة التي أقبل عليها الجيل الأحوازي الراهن وما قبل الراهن: فإذا كان الجيل الثمانيني والتسعيني خاضعا أمام جزئية التنشأة الاجتماعية الدالة على فهم العرب أدنى من الفرس، فإن الجيل الراهن بات لا يذعن لهذه الجزئية، وبات إثر احتكاكه مع الفرس يرى في العروبة ما هو غير ضروري للنبذ ولا للتفاخر، بل بات يفهمه بفعل تبنيه القيم العالمية الحديثة صورة من صور اختلاف الأمم والقوميات. وهذا على الرغم من كونه أضعف الإيمان لكنه بشيرا لوضع حد لتلك العملية المكررة المفيدة بانحطاط العرب بالمقارنة مع العجم.

 

الاستنتاج

 هذه دراسة أردنا منها رصد أهم التغييرات المجتمعية في الأحواز، وعدها مظاهر التغيير وشرحها على سبيل الإيجاز. وعند بدء عملية احصاء تلك التغييرات، وجدنا أنفسنا مضطرين لخوض سؤال المجتمع الأحوازي هل هو فعلا مجتمعا كما نستخدم هذا التركيب كل يوم، أم هو غير ذلك. وللإجابة عن هذا السؤال استعنا بالعالم الاجتماعي فرديناند تونيز فوجدنا أفكاره تميل بنا إلى تصنيف المجتمع الأحوازي جماعة لا مجتمعا.

وعند التطرق إلى معنى كل من هذين المفهومين، تبين لنا أن تصنيف مجموعة بشرية على جماعة أو مجتمع لا يعني فصلا نهائيا حديا لها، تجعلنا أمام خيارين  هكذا إما أن يكون مجتمعا وإما جماعة. بل بين تونيز بأن معاينة الظروف التاريخية لكل مجتمع، يظهر بما لا لبس فيه، تعايش النوعين معا، ليكون التجمع البشري تارة جماعة، وتارة مجتمع بالآن ذاته، في حالة تكون محددات الجماعة وروحها، متبقية في المجتمع والزاماته، على شكل رسوبات تظهر بقوة تارة وتخبو تارة أخرى.

وهذا هو الوصف الأدق للحالة الأحوازية في الوقت الراهن، حيث نعثر على محددات ومظاهر فيها تجعلها تقترب من كونها جماعة، خاصة عند استفحال الانتماء القبلي على سبيل المثال لا الحصر، وتجلعها تقترب من المجتمع التام، أوقات علو الانتماء القومي في الأحواز على سبيل المثال لا الحصر.

 

عبدالله التميمي

 

 

المصادر:

[1] . استقينا آراء تونيزهنا من هذا الكتاب: فرديناند تونيز، الجماعة والمجتمع المدني، ترجمة نائل حريري، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت2017.

[2] . عبدالله الغذامي، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة، المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء2009.

[3] . محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت2004.

[4] . أنظر مثالا صارخا لتلك الرواية في كتاب: أحمد كسروي، تاريخ بانصد ساله خوزستان.

[5] . أنظر: جعفر محمد يوسف، المجتمع الأحوازي المعاصر: رؤية من الداخل، في دراسات في التراث الشعبي الأحوازي، مجموعة مؤلفين، أمل الجديدة، دمشق 2018.

[6] . اليزابث لونغنيس، أزمة الطبقات الوسطى في المشرق العربي: المهن العليا ودورها في التغيير الاجتماعي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 2012.

[7] . معهد الحوار، هيكل المدينة الكولونيالية في الأحواز العاصمة: القائم على المركز الفارسي والأطراف العربية.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!