الخميس, ديسمبر 19, 2024
دراساتأهم أسباب فتور النضال الأحوازي في الداخل

أهم أسباب فتور النضال الأحوازي في الداخل

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المقدمة

 

تشهد الساحة الأحوازية منذ أكثر من عقد صمتا عاما يمكن التعبير عنه بالفتور في النضال، في جميع صوره، سواء من حيث النضال المقاوم، أو من حيث النضال الثقافي، أو من حيث الحراك المجتمعي الإصلاحي، حيث لم تسجل مختلف الساحات أي اعتصام أو إضراب أو مظاهرة، وأصبح الشعب الأحوازي بعيدا عن الحراك  الوطني الهادف إلى تذكير القضية الأحوازية أو مساعدا لها. من أجل ذلك أصبح السؤال هو لماذا لم يشهد المجتمع الأحوازي حراكا نضاليا، مدنيا أو مقاوما، في الفترة الأخيرة التي تجاوزت العقد الكامل، وما هي الأسباب التي فرضت على الشعب هذا الفتور والسكوت العام؟ 

 

وللإجابة عن هذا السؤال يمكن احصاء أسباب كثيرة وعديدة، منها ما هو سياسي وما هو مجتمعي، وما هو ظرفي وما هو بنيوي، والقائمة طويلة. من أجل ذلك ستتم محاولة الإجابة عن هذا السؤال بأهم الأسباب التي أثرت بشكل مباشر على فتور الساحة الأحوازية النضالية، دون الإشارة إلى باقي الأسباب. 

 

ومن أهم هذه الأسباب التي يتم الإشارة إليها هنا، باعتبارها أسباب هامة أكثر من الأسباب الأخرى تستحق الذكر هي الأسباب الظرفية، والأسباب البنيوية. الأسباب الظرفية هي الأزمة الاقتصادية، وتشديد قمع النظام الإيراني؛ والأسباب البنيوية هي ضعف الحراك المدني، وزيادة الدور القبلي. 

 

الأسباب الظرفية

 

تعريف الأسباب الظرفية هو الأسباب التي تشتد في فترة معينة وتغيب في مرحلة أخرى أو يقل تأثيرها. من أجل ذلك تعتبر الأسباب الظرفية وقتية عرضية، يأتي دورها في عرقلة الحركة أو المسيرة التي تجتازها ظاهرة أو يمر منها المجتمع، وتجعل من المرحلة بطيئة في التقدم أو غامضة من حيث المعالم والمحددات. لكن هذا المعنى لا يقلل من أهمية هذه الأسباب أبدا لأن تأثيرها يبلغ مقدارا يجعل المجتمع متوقف، أو يخرج ظاهرة نشطة في المجتمع عن مسيرها أو يضيف لها معاني جديدة قد لا تشبه المنشاء الأول. 

 

على سبيل المثال كانت انتفاضة 2005 على أشدها لم تنفد تأثيراتها وارتداداتها على المجتمع الأحوازي وإذا بموجة السادة اجتازت الأحواز وجعلت الهاجس الأول لغالبية الشعب الأحوازي إيداع أموالهم النقدية لدى مكاتب الاستثمار النقدي متناسين جميع معاني الانتفاضة الكبيرة التي اندلعت قبل أشهر وملقين ارتداداتها وراءهم. وكانت ظاهرة السادة ظاهرة ظرفية، بدون ترديد، لكنها تركت تأثيرا كبيرا أربك البنيات الاجتماعية الأحوازية وحول حياة الناس في تلك الفترة وغير معظم الحسابات. ومن هنا يمكن رؤية التأثير الذي تتركه هذه الأسباب الظرفية الآتية من خارج الصندوق والحسابات السياسية والمجتمعية، على النضال الأحوازي والحراك المناضل فيه. 

 

الأزمة الاقتصادية الخانقة

 

يمر النظام الإيراني الراهن بعقوبات صارمة وضعت الاقتصاد الإيراني كله أمام أزمة خانقة متعددة الجوانب، ارتداداتها كبيرة على المجتمع الفارسي، إلى جانب المجتمع الأحوازي، وهي تجعل الأحوال العامة مرتبكة تدور حول عمق التأثيرات الآتية من هذه الأزمة. وقبل تبيين تأثيرات هذه الأزمة على المجتمع الأحوازي، يجب الإشارة سريعا إلى كيفية تأثير هذه الأزمة الاقتصادية، حيث تظهر تأثيراتها في المؤشرات التالية: سقوط العملة، التضخم المطرد، الغلاء المعيشي، الفساد البنيوي. وكل هذه المؤشرات تنعكس بقوة على الأحوازيين أفرادا وجماعات، وهي مضاعفة عليهم لأنهم يعانون أصلا من ضعف الجانب الاقتصادي نتيجة سياسة نظام الاحتلال، وتفقيرهم التاريخي الهادف إلى ضعف فاعليتهم كليا. 

 

أول ساحة عامة ظهرت فيها تأثيرات العقوبات العالمية ضد النظام الإيراني كانت سقوط العملة بشكل بلغ أكثر من 700 بالمئة، وتبعات ذلك كفقدان المدخرات المالية لعامة الناس بشكل كبير، تزامنا مع غلاء بلا حدود. وذلك ترك تأثيرات كبيرة على الأفراد لأنهم فقدوا ظرف فترة زمنية قصيرة معظم مدخراتهم النقدية، وعجزوا عن توفير احتياجاتهم عن طريق المال الذي ادخروه. 

 

ثم زاد سقوط العملة تأثير التضخم، وأصبح الفرد أمام عجز في توفير جميع متطلبات الحياة، بدء من الأكل والاحتياجات اليومية، وانتهاء بشراء البيت والسيارات وأثاث المنزل. وذلك لأن جميع الأدوات والأجهزة الصغيرة والكبيرة هي الأخرى سجلت قفزة في الأسعار تضرر منها سويا الطالب والعارض، لأن عملية الطلب والعرض اختلت بشكل كبير وبات العرض خاليا من الطلب، وتكدست الأضرار لدى المصانع الكبرى والصغرى بشكل واحد بعد ارتباك منطق الطلب والعرض معا. 

 

ولكن من البديهي أن تكون وطأة ارتباك عملية العرض والطلب شديدة أكثر على الطرف الثاني، لأن الطلب عادة ما يصدر عن الناس العاديين، عجزهم عن توفير الأموال اللازمة للاحتياجات يعني الفقر بكلمة بسيطة، وهذا ما تشير له احصائيات النظام الإيراني الذي يتحدث بين الفينة والأخرى عن تقليص حصة اللحم والحليب والفواكه في مائدة الأفراد، وعجز معظم العوائل عن توفير ذلك. 

 

ويبدو أن النظام الإيراني جعل من قضية العقوبات جسرا لجني أرباح تخص الطبقة الحاكمة فقط، وذلك من صور الفساد في هذا النظام، ذلك الفساد الناتج عن العقوبات. أحد صور هذا الفساد يتعلق بتصدير النفط، حيث يبيع النظام النفط بالعملة الأجنبية الدولار، ثم يرفع سعر صرفه في الداخل حتى يزيد من قيمته من جهة، ويقلل من قيمة الرواتب الحكومية التي عليه تسديدها من جهة أخرى، وهكذا يكون مثلا حجم الرواتب في الدولة مليار دولار، لكن ارتفاع سعر الصرف داخليا في فترة تسديد الرواتب بالتحديد يجعل حجم الرواتب نصف ذلك المبلغ أو أقل منه. 

 

وبعد الإشارة إلى الاقتصاد الإيراني من البديهي أن ينعكس ذلك على الشعب الأحوازي أيضا، وهو جزء من هذه الدولة، دولة الاحتلال، وأن يعاني الفرد والأسرة الأحوازية من شتى صنوف هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة، ويواجهون في حياتهم اليومية أزمة غذاء، وأزمة توفير المتطلبات اليومية وأساسيات الحياة، وأزمة جميع ما يحتاجونه. إضافة إلى ذلك فإن الأحوازي يعاني سابقا من تمييز اقتصادي خانق، حتى في عز الاقتصاد الإيراني وغياب العقوبات، لذلك يمكن اعتبار الأزمة الاقتصادية الإيرانية والعقوبات، مزيدا من الضغط عليه وتشديد الخناق الاقتصادي الذي يعاني منه أصلا المجتمع الأحوازي بجميع فئاته.

 

ومن مظاهر هذه الأزمة الاقتصادية بين الشعب الأحوازي هي زيادة الفقر، زيادة العشوائيات، زيادة الأمراض الناجمة عن سوء التغذية، تضرر المحال التجارية وهي الأمكنة الوحيدة التي ينشط معظم الأحوازيين فيها لأنها ليست بيد النظام، ولا يستطيع التحكم فيها بصورة مباشرة. ولذلك يعتبر النشاط الاقتصادي الحر هو أكثر الأماكن الاقتصادية حرية للأحوازيين، وارتباكه إثر الأزمة الاقتصادية يجعل الناشطين، من المبعدين عن التوظيف والعمل في الدولة، في أزمة أخرى هربوا منها فأوقعهم النظام فيها مرة أخرى. 

 

كل تلك الأوضاع، الفقر وإنعدام إمكانية شراء البيوت البسيطة، وزيادة الأمراض وانخفاض نسب الخصوبة بين الرجال والنساء، ودمار النشاط التجاري البسيط في الأسواق الأحوازية العربية، جعلت التفكير في النضال السياسي والقضية الأحوازية الأولوية الرابعة أو الخامسة للأحوازيين، وتحولت الأولويات الأولى إلى توفير الغذاء والخوف من المستقبل وانعدام الأمل بالحياة، والتفكير في الهروب من البلاد. وكل ذلك انعكس مباشرة على ضعف الحراك النضالي الأحوازي في العقد الأخير، تزامنا مع تفاقم الأزمات الاقتصادية على الأحوازيين، وانشغالهم بصعوبات حياة توفير رغيف الخبز فيها مهمة شاقة.     

 

تشديد القمع الإيراني

 

هنا يجب أولا إقامة تمايز بين ما اسمه قمع النظام الإيراني، وهو من الأسباب الظرفية، وبين ما هو وجود النظام الإيراني أصلا، باعتباره سلطة احتلال، وهو من الأسباب البنيوية (في فقرة ضعف الحراك المدني تتم الإِشارة إلى أن وجود النظام الإيراني وتعامل النشاط الأحوازي معه بأي نوع من التعامل الرافض أو المتعاطي بحد ذاته مشكلة بنيوية أضعفت النضال). والمستهدف هنا هو قمع النظام الإيراني، ودور اشتداد القمع في فتور الحراك النضالي الأحوازي، وهو سبب يشتد في بعض الفترات ويضعف في فترات أخرى. 

 

ويأتي تشديد هذا العامل عند زيادة نشاط الحراك النضالي الأحوازي، وتصدي النظام الإيراني له وإحكام قبضته الحديدية على الشعب وفرض حكم عسكري غير معلن، ثم بدأ حملة مداهمات يومية واعتقالات واسعة يلقي القبض على آلاف المشتبه بتورطهم في النشاط القومي الوطني.

 

ولكن هناك فترات أخرى يهمل النظام الإيراني الأحواز ويترك الشعب الأحوازي إلى حد ما يعيش حياته الخفية عن النظام، وفي هذه الفترة بالذات يكثر النشاط الثقافي والمجتمعي وتكثر الظواهر الاجتماعية التي يبدو عليها مسحة من التحدي والتصدي للاحتلال، وهي فترة يمكن اعتبارها فترة تمهيدية إلى قيام حراك وأنتفاضة أخرى، فترة تكثر فيها الروح القومية والوطنية، ويظهر جيل شاب متعلم عنده المسؤلية الأخلاقية التي تجعله يشعر بهموم الوطن.  

 

ولكن هذه الفترة التمهيدية، إذا صح القول، تنتهي سريعا بمحض اندلاع الحراك والانتفاضة وتنتهي المهادنة بين الشعب الأحوازي والاحتلال. ومن أجل ذلك تعتبر شدة القمع وضعفه سببا هاما من أسباب فتور النضال الأحوازي أو اندلاعه. ويؤدي الإحكام الأمني إلى فتور كبير في الساحة الأحوازية للأسباب التالية: القاء القبض على النخب الفاعلة وخلو الساحة من القيادة الميدانية، وإرهاب الأسر والشباب المؤهلين للانضمام للحراك، والقضاء على مكتسبات العمل الثقافي والاجتماعي المؤسس طيلة عقد أو عقدين والقضاء على جل معالمه على يد الجهات الأمنية حصرا.

 

فبمجرد بداية إحكام القبضة الأمنية والحملة العسكرية التي يواجه بها النظام المطالبات الأحوازية القومية، السلمية والغير السلمية، تقع المئات من النخب الأحوازية في الاعتقال والإحالة إلى ذمة التحقيق لمدى شهور وسنوات، سواء اشتركوا في الحراك والانتفاضة أم لم يساهموا فيها. والخطير في الأمر هو أن اعتقال النخب ينعكس مباشرة على حالة الحراك، ويؤدي سريعا إلى فتوره أو تلاشيه كليا لأن النخب المشاركة فيه تتمتع بتأثير كبير على المشاركين والمنتفضين وغيابهم عن ساحة القيادة الميدانية للحراك يجعله ضعيف البنية والرؤية ما ينعكس على فتوره وتلاشيه. 

 

وهذا بالضبط هو ما وقع في معظم الانتفاضات الأحوازية التي حدثت بعد الانتفاضة الكبرى في عام 2005. لأن الحراك المدني واجه في المدن الكبيرة في الأحواز العاصمة ومعشور والخفاجية و الحميدية بالخصوص، نهاية سريعة بعد القاء القبض على القيادات الشبابية المؤثرة مباشرة، إلى جانب غياب النخب الفكرية والعملية الأخرى التي تأخذ المسؤلية على عاتقها، مسؤلية استمرار الحراك أو الاحتجاج. وهنا تظهر حقيقة ملموسة هي أن في ظل القاء القبض على النخب المنتفضة تعمد نخب أخرى إلى الهروب والتخفي خوفا من حصول نفس المصير لها، وهكذا يكون مصير النخب المؤثرة الميدانية بين معتقل وهارب ومتخف. 

 

وإلى جانب ذلك لا تستهدف حملة الاعتقالات القاء القبض على النخب المشاركة فحسب، بل هي عملية انتقامية وإرهابية من نوع آخر غاياتها بث حالة الخوف والفزع بين المجتمع الأحوازي كله، حتى لا يصبح حاضنة إلى المنتفضين، وحتى يبث الإرهاب في قلوب الشباب من الجيل اليافع الذي أظهر استعداده للمشاركة في الحراك الوطني الأحوازي. وهنا تكتسي حملة الاعتقالات طابعا تأديبا غايتها هي تأديب المجتمع وثنيه عن المشاركة في أي نشاط يعارض النظام القائم، ويذكره بتبعات ذلك عليه وعلى أسرته، بالتزامن مع ترغيبه عن مثل هذا النشاط وعرض أمان عليه من العقوبات إذا ضمن هو عدم المشاركة. إنها حالة من إرهاب الدولة تهدف بها إلى صناعة مجتمع طائع وخانع لا يصدر صياح منه من أجل نصرة قضيته، بل هو مجتمع منصهر في رؤية المحتل وخائف من قوة بطشه والعقوبات التي قد يفرضها عليه. 

 

ثم إذا كان قمع النظام يشتد بعد أي حراك وطني قومي مباشرة، ويؤدي إلى اعتقالات واسعة واعدامات وعمليات إرهاب للمجتمع، فإنه يأخذ اجراء إجراميا آخر يتعلق هذه المرة بالقضاء على النشاط الثقافي والمجتمعي القومي الذي قام به الشعب الأحوازي كشعب ونخب وعلماء. وهذه أسواء الوجوه التي يرتكبها المحتل الإيراني لمنع اندلاع أية انتفاضة أخرى. وفي هذه السياسة يتم تعطيل كافة المؤسسات الثقافية، ويتم مصادرة كافة المجلات ودور النشر العربية، ويتم تهديم جميع المؤسسات المجتمعية العملية والخيرية والمدنية التي حاولت لفترة طويلة القضاء على معالم التخلف بين المجتمع الأحوازي. وهكذا تصبح الساحة المجتمعية الأحوازية خالية عن أية مظاهر من الحياة المدنية، والحرك المدني الممثل لها، وتصبح الساحة فارغة للبنيات القديمة المتخلفة التي يساندها النظام لأنها تعيد في المجتمع دورة التخلف، كما سنرى في قسم الأسباب البنيوية.    

 

    

الأسباب البنيوية

 

الأسباب البنيوية هي الأسباب التي تتميز بتاريخ طويل من التأثير والتواجد إلى جانب كونها أسباب تتوالد منها الظواهر والحالات التي يمر بها المجتمع. فلا يمكن للظاهرة المجتمعية أن تتولد أو تستمر بالحياة على الأقل إلا إذا كانت مرتبطة بالبنى نوعا من الارتباط قريبا أو بعيدا. ولذلك لا يمكن وصف مجتمع معين إلا إذا تم التعرف على البنى القائمة فيه، وتحديد طبيعتها والآليات التي تنظم الحركة والنشاط داخلها.(1) 

 

ضعف الحراك المدني الأحوازي: 

 

يعد الحراك المدني في الأحواز أضعف الحلقات في الساحة الأحوازية لأسباب مجتمعية وتاريخية. وحسب التعريف يدل الحراك المدني على نشاط يكتسب طابعا مدنيا يدور في فضاء المجتمع بين المدنيين، ولا يتخذ بالضرورة شكلا سياسيا أو يهدف إلى المشاركة بالسياسة المتجلية في أجهزة الحكم والدولة(2). ومن أجل هذا يجري الحراك أفقيا في المجتمع، ويتميز بامتزاجه في الثقافة المجتمعية، وقد يكون تعبيرا عنها. ويعتبر هنا ضعف الحراك المدني سببا من أسباب فتور النضال الأحوازي لأنه التمهيد النظري والعملي للنضال، وممارسة سياسية ومجتمعية ومدنية تمهيدية تجعل جميع الممارسات المجتمعية ممكنة أو متعذرة.  

 

ومن هذه الزاوية إذا نظرنا إلى المجتمع الأحوازي يمكن رصد ضعف الحراك المدني فيه، أولا لضعف البنية المجتمعية أساسا، وللأسباب التاريخية المتجلية في وجود الاحتلال الذي يمنع الحراك المدني من الالتزام بمدنيته، والحركة أفقيا في نطاق المجتمع دون الاصطدام مع الدولة.  ولضعف البنية المجتمعية محددات كثيرة أبرزها انعدام الأحزاب السياسية والسابقة الحزبية الشعبية، واضطرار النخبة إلى تبني قضايا لا تخص المجتمع الأحوازي بعد تعاملهم مع النخبة الفارسية الموجودة في هذا النظام، وانعدام القاعدة الطبقية المجتمعية للنخب الناشطة مجتمعيا وسياسيا.

 

لم يكن ميلاد الأحزاب السياسية في الأحواز ميلادا طبيعيا، إذا قارناه بفرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا على المستوى النظري، وإذا قارناه مع الدول العربية على المستوى الواقعي، حيث أن الحزب يعني نظريا التقوقع بين المجتمع من جهة، وبينه وبين الدولة من جهة أخرى، يكون الحزب بهذا الموقع الوسطي صمام أمان النظام السياسي والدولة معا(3). كما لم يكن في استطاعة الحزب الأحوازي أن يسعى لامتلاك السلطة، كما هو الحال في الدول العربية، لأنه كان ينشط في دولة هي دولة احتلال لا تعترف بوجوده و شرعية نشاطه. ومن أجل ذلك ظلت الأحزاب الأحوازية نظريا وواقيعا متأرجحة بين الضعف النظري الوجودي، والضعف في ساحة العمل.

 

وأبرز تجليات الضعف في الساحة العملية هو إنعدام التراكمية في الأحزاب الأحوازية، حيث لم يكمل المتأخر منها المتقدم، ولم يجري تكامل فكري بينها، كما أن فقدان الإيديولوجيا الوطنية الشاملة للأحزاب التحررية جعل منها مجموعة من الأفراد يجتمعون حول فكرة واضحة عقديا ونفسيا هي الاحتلال، ولكنها غامضة نظريا وعرضا ورؤية.  

 

وعندما أرادت الأحزاب السياسية التي هي تعبيرا عن البنية المدنية للمجتمع ونشاطه المدني التغلب على المشكلة الظاهرة في الأحزاب القديمة، المذكورة سابقا، واجهت مشكلة أخرى. لأنها في هذه المرحلة اضطرت إلى التعامل مع الأحزاب الفارسية، والنشاط المدني الفارسي الموجود ضمن نطاق الدولة الإيرانية، ولذلك أضاف هذا التعامل إلى مشكلة الأحزاب مشكلتين: أولهما تحميل الشعب الأحوازي قضايا لا تمت له بصلة، وثانيا شرعنة الاحتلال وإضعاف المناضلين نظريا وعمليا، المناضلين الذين لا يقبلون بأية تعامل من هذا النوع مع الاحتلال الإيراني ويصنفونه خيانة للقضية الأحوازية. فقضية علاقة الدين بالدولة مثلا أو قضية التعددية السياسية هي ليست من قضايا المجتمع الأحوازي، بل كان انتشارها بين النخب الأحوازية (الفدراليين وتيار الإصلاحيين عرب إيران معا) نتيجة التعامل بينهم وبين النخب الفارسية التي تعالج هذه القضايا وهي من صلب اهتماماتهم التاريخية والمجتمعية. وللتعامل مع هؤلاء النخب وتبني قضاياهم وجه آخر وهو الإقرار بشرعية الدولة الإيرانية القائمة، واعتبار الشعب الأحوازي جزء من كلية هذه الدولة والمجتمع الإيراني. 

 

 

ولكن إلى جانب جميع تلك القضايا فإن أهم قضية يمكن اعتبارها مسالة موت أو حياة للنشاط المدني الأحوازي، ونخبه، هو عدم تمتعهم وتمتع الحراك بقواعد اجتماعية وحاضنة شعبية. وهذا ما جعل الحراك يطفو على السطح لا يعبر عن المجتمع المنبثق عنه. ويمكن تتبع تأثيرات ذلك على كافة الأصعدة، سواء في عدم تراكمية الحراك، أو عدم تبني السجين السياسي، أو عدم الوعي بالقضية والارتقاء بها إلى قضية مجتمعية، أو في ظاهرة التفريس إلى آخره. وهي كلها أمور يتم شرحها في الفقرة اللاحقة، لكن هنا يجب القول بأن انعدام الحاضنة المجتمعية جعل من الحراك المناضل يطفو على السطح، لا يتصل اتصالا جوهريا مع مختلف فئات المجتمع، ويعبر عن إجماع قومي وطني لأمة له قضايا مشتركة ومستقبل مشترك ومصلحة مشتركة.     

 

زيادة الدور القبلي

 

 

تعتبر القبيلة من أقدم البنى الأحوازية والبنى العربية وتعبيرا صارما عن طبيعة المجتمع العربي تاريخيا وحاضرا. وبناء على هذا تتمتع القبيلة برسوخ في المجتمعات، وسيطرة على الأفراد، وثقافة المجتمع برمته، ما يجعلها أولى البنيات التي تزاحم البنيات الأخرى وتطغى عليها، وأكبر سمة من سمات التخلف عن العالم الحديث في المجتمعات العربية، والمجتمع الأحوازي على وجه التحديد. 

 

ويحتاج الحراك المدني والتوجه النضالي إلى أرضية مساعدة، فيها من الإيديولوجيات وتضارب الآراء الوضعية والنخب الفكرية، ما يجعل الفرد هو المستهدف، وليس الجماعة المنتسبة إلى نسب مشترك أو إلى عشيرة وقبيلة واحدة. ولذلك فجميع الأفكار الحديثة لا يمكن أن تجد صدى في المجتمعات القديمة، ومنها المجتمعات القبلية، إلا إذا تحررت عن مثل هذه المعيقات، وأخذت بنى جديدة تتكون شيئا فشئيا لإزاحة القديمة والإحلال بمحلها.

 

وعموما يؤدي وجود القبيلة إلى عرقلة النضال الأحوازي والحراك المدني للأسباب التالية: عدم فهم القضية القومية-الوطنية  الشاملة أو تبنيها، ومخالفة الأدوار القبلية للأدوار الحديثة كالحراك والأحزاب والأفكار القومية، ودور شيوخ العشائر الرمزية ومنع تكوين زعامات قومية.  

 

لا تسمح الثقافة القبلية الضيقة من حيث الانتماء والتحديد الهووي والاعتداد بالنسب إلى تبني أطروحات قومية وطنية رحبة تهدف إلى توحيد القبائل العربية الأحوازية ضمن مفهوم الأمة و الشعب ، تجري عليهم كلهم مساواة تجعل الأفراد متساوين مبدئيا في عروبتهم و احوازيتهم ومكانتهم، بالإضافة إلى أن هذه الثقافة بانتماءها الضيق للقبيلة فقط تجعل الأفكار القومية والوطنية في نطاق اللامفكر فيه، وكأن هذه الأفكار غامضة ليس لها أي انعكاس على أرض الواقع. ومن هنا عدم تبني الأسرى الأحوازيين من المناضلين من جانب القبيلة، بل ذمهم للأسير واعتباره عنصرا غير مرحب به بين أفراد القبيلة يجب الابتعاد منه واتقاء شره، ومن هنا أيضا ذلك الاستهجان للشباب الرافضون التعامل مع الاحتلال الفارسي في الدوائر الحكومية والعسكرية.   

 

 وتخالف الأدوار القبلية الأدوار المدنية والأدوار الحديثة كليا، حيث لا يمكن نشوء ثقافة سياسية قوامها المشاركة والنشاط المدني والحزبي القائم على الجدارة المكتسبة، إلى جانب الثقافة القبلية التي لا تحتكم للجدارة ولا تعتبر مساندة الآخرين من غير القبيلة أمرا حكيما. ومن هنا يمكن التماس المصادمات بين المناضلين قبليا عند احتدام المخالفات بينهم، يسارع كل منهم إلى قبيلته يستنجي بها ضد المناضل الآخر؛ ومن هنا ثقافة العنف ورفض الآخر بين المناضلين ونشطاء الحراك المجتمعي وبث روح النميمة والتشهير بالناشط الآخر بسبب الحمية أو الحسد، وهي من مخلفات الثقافة القبلية. 

 

وفي الختام فإن تمتع شيوخ هذه القبائل بمكانة رمزية جعلت ميلاد زعيم قومي وطني أحوازي أمرا مستحيلا، لم يحصل لغاية الآن، لأن كل شيخ قبيلة هو محل الزعيم القومي في قبيلته وهو من أفضل الرجال في الأحواز على مدى التاريخ من وجهة نظرهم. وخير دليل لإثبات ما نشير له الآن هو تنامي ظاهرة تسمية شيوخ العشائر والقبائل في الأحواز بـالأمراء، حيث أصبح جل شيوخ الأحواز أمراء اسميا. وفي إحدى هذه الحالات التي اجتمعت فيها القبيلة ونشرت اجتماعها إعلاميا، وهي حالة لها دلالة هنا: اشتد الحماس لدى شاعر (مهوال، إمهوسجي) من شعراء أبناء القبيلة فوصف أحد شيوخ قبيلته بأنه “القائد العام للقوات المسلحة لكذا قبيلة”. وإذا كانت هذه حالة تثير الضحك أكثر من أي شيء، لكن دلالاتها الضمنية هي الدلالة على مكانة الشيخ، وغياب منافس قومي يستطيع منافسته رمزيا على الأقل في تمثيل الشعب الأحوازي بكليته لا بقبائله المتفاخرة على بعض. 

 

إضافة إلى ذلك أخذ الشيوخ على عكس الماضي يؤدون أدوارا مضرة بالقضية الأحوازية بوضوح، سواء تلك الأدوار التي تتعلق بمشاركتهم في الانتخابات أو تحفيزهم الابتعاد عن تبني القضية الأحوازية وذمهم للأسرى، أو عبر نفس وجودهم وتعزيز الوجود القبلي بدل العالم الحديث، سواء عبر مناصرة القبيلة، أو تبني الفصول، أو الحضور في “العركات والدك”، وهذه الظواهر القديمة في المجتمع الأحوازي.

 

الاستنتاج

 

  • يعني النضال هنا المعنى العام، بكل الصور التي يتجلى بها، سواء ثقافية أو مجتمعية أو مادية أو علمية، وسواء عسكرية أو مدنية سلمية. 
  • شرط هذا النضال وجوهره مناهضة الاحتلال، والإيمان بوجود احتلال فارسي للأحواز.
  • ضعف النضال هو نتيجة مسلمة في العقد أو العقدين الأخيرين لأن أية انتفاضة كبيرة لم تنشط، كالتي حدثت في العام 2005. وإذا كان الأحواز سجلت خروجا ومظاهرات فلأنها جاءت ضمن المظاهرات التي عمت إيران، أو لأنها اختصرت على بعض مدن الأحواز فهي ليست انتفاضة، أو أنها ليست انتفاضة شاملة، بل يمكن وصفه بالخروج، أو تمرد، أو مظاهرة، أو اعتصام، أو أيا من هذه المسميات. 
  • الأسباب المؤدية لضعف النضال الأحوازي في العقد الأخير هي ظرفية وقتية، وبنيوية. 
  • الظرفية يعني الأسباب التي طرأت على الأحواز حديثا وعرقلت مساره النضالي، وهي الأزمة الاقتصادية الخانقة الراهنة، وشدة قمع النظام. 
  • أما الأسباب البنيوية تاريخية، يعاني منها المجتمع الأحوازي منذ دخل العالم الحديث. 
  • وهي ضعف المدنية والحراك المدني، ووجود القبيلة معيق المجتمع الأحوازي.  

 

 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

 

 

المصادر والمراجع

1: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية. 

2: تشارلز تيلور وليزلي وود، الحركات الاجتماعية 1768-2012، ترجمة ربيع وهبة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر. 

3:  ديويد أبتر، مقدمه اي بر تحليل سياسي، عرفان ايماني.  

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!