المقدمة
تنفذ سلطات الإيرانية، والمجتمع الفارسي المُهيمن ، سياسات وتتخذ خطوات يمكن إدراجها في صنف السياسات الناعمة؛ أي تلك السياسات المنطوية على الأعمال والفعاليات التي يقوم بها الفرد والجماعة في خفاء، وفي فترة زمنية طويلة. ومن أجل ذلك هي ناعمة لأنها لا تستهدف هدفا سريعا، ولا يتم تنفيذها في فترة قصيرة ثم ينتهي استمرارها وتتبعها، بل يطول أمدها في خضم إخفاء غاياتها وأهدافها. إنها سياسات ذكية ومتأنية تتجه نحو الآليات الذهنية، إذا جاز القول، وتريد التأثير عليها، أو توجيهها إلى مسير معين، وقولبتها في أطر جديدة، تلبي الغايات المرجوة من قبل منفذيها.
وعلى رأس هذا الصنف من السياسات، ومن العدوان الذي يطال الشعب الأحوازي، تلك السياسة أو ذلك التوجه أو تلك الروح التي تصدت إلى وعيه القومي وجعلته محل تركيز من أجل تقزيمه وكيه، وقولبة عقلانيته بناء على المقاسات الإيرانية.
-
في معنى كي الوعي
ويدل هذا المفهوم على تمثيل يقرب المعنى، ويوضح الصورة بقدر مستطاع. فهو ليس مفهوما فلسفيا أو مجتمعيا متداولا، بل هو صورة تمثيلية، يتبين معناها من خلال شرح طرقها وأساليبها. فكي الوعي يعني بالدرجة الأولى إجهاضه، ومنعه من النمو والظهور. فإذا قصدنا بالوعي هنا تلك الحالة العامة، التي يستطيع الفرد والجماعة بها، إدراك الواقع المعيش بشكل يقترب من حقيقة الواقع، فإن الكي يكون تلك العقبة التي تريد منع الفرد والجماعة من إدراك واقعهم المعيش كما هو في واقع حاله وحقيقته.
إن الوعي يعني بصورة أكثر وضوحا الإدراك والفهم. وإذا أخذنا الأحواز مثالا على ذلك، فإن الوعي يعني عندها إدراك تلك الصورة العامة والمتاحة (بكل تأكيد)، التي جعلت الأحواز تتحول من إمارة أو دولة أو من شبه استقلال، إلى «محافظة إيرانية». وكي الوعي وفقدانه في هذه الحالة يعني النظر إليها من هذا المنظار، من منظار وضعها الراهن، كأنه هو الوضع الطبيعي لها منذ الأزل، لا يمكن تصور غيره؛ والنظر له من عين الحاضر والابتعاد عن وضعه في سياقه التاريخي(١). كيّ الوعي بمعنى الآخر يعني تشكيل قناعات وتكريس سياسات جديدة إلى أن تكون في نهاية المطاف متفقة أو غير متعارضة مع سردية الاستعمار الايراني وخطابه و شروطه، أو تكون في إطار السقف الذي يقبله.
وبما أن فقدان الوعي وإجهاضه، عبر عمليات كيه، يخفي وراءه متضررين منتفعين، يتم هنا التطرق إلى تلك العمليات التي يتم فيها كي الوعي الأحوازي، وممانعة تكوينه وبلورته.
مستويات كي الوعي
تنقسم عملية كي الوعي في الحالة الأحوازية إلى مستويين متشابكين: مستوى الجهة المستهدِفة، والجهة المستهدَفة. ويظهر في الجهة الأولى مستويين: «الدولة الإيرانية» بكامل ثقلها واذرعها، والمجتمع الفارسي بكامل فئاته وطبقاته. أما في الجهة الأخرى فيظهر أيضا فيها مستويين: الفرد، والمجتمع. وهكذا يتبين إذن بأن الجهة الفاعلة المستهدفة تقوم بكي الوعي وإجهاضة عبر الدولة، دولة الاحتلال، وعبر المجتمع الفارسي المناصر لها. كما يتبين في الجهة المفعول بها كي الوعي الفردي المتمثل بالذات الأحوازية، وبالمجتمع العربي الأحوازي. ولذلك وجب الآن إيضاح كيفية سريان هذه العمليات على هذه المستويات.
-
الفئة المستَهدفة
وليس هنالك شك بأن النظام الإيراني القائم ودولة الاحتلال منذ إقامتها، لم تعترف بالأحواز شعبا عربيا، ولم ترى فيه صاحب تاريخ مغاير، بل نظرت له كجزء يجب إخضاعه كليا، ليس على المستوى السياسي عبر القضاء على الحكم العربي فيه فحسب، بل عبر دمجه بالشعب الفارسي المحتل، ونكران عروبته، ومسخ هويته، وجعله خاضعا للتفريس مستحيلا بالفرس. ولكن الشعب الفارسي بدولته ونخبه سرعان ما أدرك بأن الوصول إلى هذه الغاية يتطلب تغيير العقلية العربية، وإعادة قولبة الوعي العربي، وكيه إلى درجة يصبح فيها مستعدا إلى قبول تلك العملية. وهكذا عمد على المستوى الفردي إلى السياسات الآتية:
المستوى الفردي
- تقزيم الذات الفردية العربية وعزو جميع مظاهر التخلف والقبح إليها. حيث دأبت منشورات النظام الإيراني، وإعلامه وكتبه المدرسية، وتصرف المستوطنين الذين جلبوا بأعداد كبيرة إلى الأحواز بعد احتلالها(٢)، إلى بث صورة الازدراء، وتوطيدها في نفوس العرب. فهنا لم يكن الفرد أمام انتقاص لحظي عابر حصيلة رد فعل، بل كان أمام عملية ممنهجة طويلة وناعمة تسير ببطئ وهدوء، وعلى مدى عقود طويلة، تستهدفه في تعريفه عن ذاته، بل وفهمه لذاته بعيون الآخرين. فلم تكن هذه العملية تستند على صفة معينة بذاتها، بل أخذت تبحث عن كل ما يشد الشخصية الفردية، ونالت منها. ليتم تصوير العربي بأنه غبي لا يمتلك الفطنة، لأنه غير مثقف لا يتقن اللهجة الفارسية ويلفظ وينطق مفرداتها بقبح وفق المخارج الحروف العربية بعيدا عن « الطلاقة والسلاسة الفارسية ورنينها». ثم لم يقتصر هذا القبح العربي، وفق هذه العملية، على نطقه فحسب، بل تجاوز إلى منظره، وبشرته السمراء المختلفة عن البشرة البيضاء الفارسية. ثم إذا نظرت إلى أحوال العربي تراه مفقرا يسكن في مناطق هامشية، تجعله مختلفا عن التقدم، ليكون هذا محل سخرية من قبل الفارسي الذي يجاوره في الأحياء الفارهة، بينما لا يعبر هذا المستوى الحضاري والمدني العربي المتردي الا عن ترد في جميع صفات العرب. وقد مانع الفارسي بشدة النظر إلى كل هذه المظاهر على أنها حصيلة سياسة دولة أو هيمنة مجتمع، بل دأب يزيف الوعي ليجعل العربي ينظر لها باعتبارها صفات ذاتية، تلازم كل عربي، منبثقة عن تشوه ذاته وخلقته.
- مصادرة الأفراد الجدراء ولذلك إذا حدث أن خرج عربي حصل على مدارج علمية كبيرة، أو بات مظهره يختلف عن المنظر النمطي «القبيح»، فإنه سرعان ما يتم توجيه سؤال له بأنك عربي فعلا؟ سؤال يشبه الإجابة منه إلى سؤال، حيث يكشف تلك الصورة المتخيلة التي أريد لها أن تكون هي المهيمنة عنه، وأريد لها أن تسكن في أعماق وعيه، وبأنه صاحب تلك الصفات التي روجها المستوطنين الفرس ودولتهم وصوروا بها العربي وفق زعمهم. وفي مثل هذه الحالات سرعان ما يتدارك المحتل هذا الاستثناء في رأيه، ويقوم مباشرة يخاطب العربي بأنك واحد منا نحن المتقدمون وأهل العلم وأصحاب المظهر السوي.
- إزدراء الفرد وهكذا تصبح مصاحبة هذا الجدير من قبل الفرس، مكسبا له، على خلاف أقرانه الذين لا تتم مصاحبتهم، لأنهم أدنى مرتبة. ولذلك ما إنْ يصر هذا الجدير الذي حظي بمعاشرتهم، على عروبته وتمظهراته العربية، سواء عبر الملبوس أو العادات أو اللهجة العربية التي ينطق بها اللغة لفارسية، فستتم معاقبته مباشرة بالابتعاد عنه، والتقبيح من ثقافته وطباعه وعاداته العربية التي لم يستطع التخلص منها، وظل يجرها كعلامة على تلوثه. وهذا الإبعاد ما كان ليتمكن من نفوس الفرد وكي وعيه، إذ كان بإمكانه تعويضه بمصاحبة العرب أهله وذويه وهم الأكثرية في الأحواز، لو لا ترجمته بقوة عبر عدم التوظيف في أجهزة «الدولة» مثلا، أو عدم منحه منصب، وتضييق أية مساحة لفاعليته من شأنها مساعدته على الإبداع والتأثير على المجتمع وعلى ذويه. ومن أجل ذلك أريد للأحوازي أن يتسائل مرارا عن سر هذه الخيبات التي مني بها، وأن يتصور العروبة رويدا رويدا كنقص يمنعه من نيل الأهداف، وأن يكره العروبة وهويته وذاته شيئا فشيئا بحجم الخيبات التي يصاب بها. فكلما كانت الخيبة التي منيت به من قبل المستوطنين وأجهزة دولة أكبر، ومنعته منعا باتا من تحقق أهدافه، كان مستوى عودته على ذاته والنيل منها أكبر. وهكذا يصبح المتهم الذات بنفسها، وهكذا بدل توجيه الإتهام إلى الجاني، يدوخ الضحية ويدور في فلك توجيه التهمة إلى ذاته، ويسعى مليا بالتخلص منها لأنها هي من منعته عما يريد، وليس تلك العملية من كي الوعي التي أناطت كل مكسب في الحياة بالتخلص من العروبة. وليس الجنوح نحو تغيير الكنية العربية، أو الاسم العربي من قبل فئات ملحوظة في الأحواز إلا ترجمة يسيرة من هذا الأمر؛ إذ كثيرا ما يبرر العربي الذي غيّر اسمه إلى اسم فارسي، بأن ذلك جاء كوسيلة للتقدم في العمل أو تسهيلا لشئونه في المجتمع المُهيمن.
- الصدمة النفسية: ثم إذا كان هذا هو واقع الحال بالنسبة لعموم الأفراد، وقولبة وعيهم بالتقزيم الذاتي، فإن حال المناضلين لا يهدف إلى كي وعيهم، لأن الفرد الذي يصل إلى مرحلة من الوعي يقوم به بمكافحة النظام لا يمكن النيل منه أو كيه، بل يكون الأسلوب عند هذه الحالة هو استخدام الصدمة من أجل إفراغ جهاز إدراك المناضل كليا من أية معتقدات. ويعد أسلوب الصدمة أسلوبا متبعا من قبل أجهزة الاستخبارات الإيرانية، حيث يعمد عناصرها إلى إنزال أكبر قدر من الصدمات، سواء عبر التعذيب الجسدي، أو قتل الأقارب، أو اعتقال الآباء البالغين سنا عالية تشارف على الانتهاء، أو قتل معتقل من أجل اعتبار زملائه، لبث حالة يفقد المعتقل تماسكه النفسي والسيكولوجي تماما، ويصبح مستعدا نفسيا وعقليا لتقبل معتقدات جديدة يصوغها المعتقِل. وهذا أسلوب معروف في الأحواز حيث لا تعني تهمة الإنفصالي إنزال العقوبة الفتاكة بالمتهم فحسب، بل بكل أسرته وجميع أصدقائه وأقاربه. وهنا يكون أسلوب الصدمة للمقاوم بمثابة إعادة ضبط للإعدادات النفسية وأحواله العقلية كليا، حيث تعمل شدة الصدمة على تذويب جميع معتقدات الفرد وقيمه، وتجعله أمام حالة من الانفعال النفسي المحقون فيه في السجن، لا يفقه معه حوله ولا يعد متمتعا بتماسك نفسي يسمح له برباطة جأش أو في تعامل يكون فيه واعيا يفهم ما يجري حوله من أمور. ومن أجل ذلك يخرج بعض الأسرى مختلين في التصرف الفردي عند الإفراج عنهم من الأسر، ينتهي بعضهم بالانتحار، ويكون مصير آخرين الانطواء غير العادي والابتعاد عن أفراد الأسرة ناهيك عن الأصدقاء والأقارب. إن أسلوب الصدمة هذا وما فيه من تخويف وإرهاب، يهدف أولا وأخيرا إلى كسر المقاومة في الفرد الأحوازي، ليس بعد ميلادها، وإنما قبل ميلادها في مشهد درامي يستبق الحدث بشكل انتقامي فيذهب للفئات المستهدفة يفتك بأقارب المقاومين الذين قد يتأثرون بشخصيتهم، ثم يشن حملة اعتقال عشوائية وقائية تصدم المعتقل، وتزج به في الأسر لسنوات دون الإعلان عن مكانه، ليخلق أكبر قدر من ارتدادات هذا العمل على أكبر عدد من الأفراد. ونظرا للعلاقات التقليدية في الأحواز، وهي علاقات متعددة ومتسعة حيث يمكن لفرد أن يكون على علاقة صداقة بألف فرد على أقل تقدير (من الأقارب والأصدقاء وأبناء الحي وأبناء القبيلة) فإن أسر فرد واحد ثم تغيبه والفتك به وإنزال أسلوب الصدمة عليه، سيعني جعله عبرة وعظة لدائرة من الأصدقاء ولجميع الشبكة التقليدية من العلاقات هذه.
مع اندلاع انتفاضة أبريل/نيسان 2005 في الأحواز، انتهجت سلطات النظام الإيراني سياسة كي الوعي، بمعنى اتباع سياسات لإجهاض الانتفاضة مع تقزيم الوعي الوطني المحرك لها، بغية مواجهة موجة الوعي الوطني المتصاعدة، وتالياً ردع تقدم المجتمع الأحوازي. وعلى ذلك، بدأ النظام الإيراني بحملة اعتقالات واسعة النطاق طالت أغلبية المناضلين، ونفذ سياسات القمع على أشكال ثلاثة:
- اعتقال وسجن عدد من المناضلين والنشطاء السياسيين الأحوازيين وتعذيبهم حتى الموت، وإبلاغ ذويهم بخبر الوفاة دون تسليم جثة.
- انتزاع اعترافات من السجناء الأحوازيين وإجبارهم على الإقرار بالتهم الموجهة ضدهم وإجبارهم على الإعلان أمام الكاميرات عن “الندم على اقترافها المزعوم”، بغية تقزيم القضية الأحوازية، وإظهار المناضلين لأجلها ضعفاء تراجعوا عن إيمانهم بها. بجانب التشويش على الآخرين عبر إجبارهم على التصريح بأنهم تعرضوا لغسيل دماغ من قبل الآخرين.
تالياً، عندما يسمع المجتمع الأحوازي ويشاهد كيف قتلت إيران بوحشية وعذبت وحكمت على هؤلاء الأسرى الأحوازيين، وكيف يعترف هؤلاء السجناء بأنهم نادمون على ما فعلوه، فمن شأن ذلك أن يؤدي، دون وعي، إلى إحباطهم وبث الخوف بينهم للابتعاد عن القضية الأحوازية كليا. بل إنهم إذا ما تجرؤوا على مقاومة الاحتلال الإيراني فيجب عليهم عندها أن يفكروا مرتين في العواقب التي سيواجهونها مثل ما واجهها قبلهم هؤلاء الأسرى.
وبينما استطاع النظام قمع انتفاضات الداخل، إلا أن متابعة أحوازيي الداخل لتلك الحركات السياسية التحررية وشخصياتها الناشطة في المنفى، من خلال القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، جعلتهم على استعداد لخوض انتفاضات أخرى. ومن أجل ذلك بالتحديد وسع النظام نطاق قمعه وارهابه الحكومي ليستهدف قادة حركة النضال في المنفى، بدأً بتخطيط عمليات اغتيالات وخطف، تماماً كما حصل عند اغتيال القيادي أحمد مولا واختطاف حبيب أسيود من تركيا، بالتعاون مع عصابات إرهابية اقتادته منها إلى إيران. وهناك تم إجباره على الاعتراف على نفسه في قنوات النظام، وإعلان ندمه عن كل ما فعله من أجل الأحواز.
وعندما يسمع ويشاهد الشعب الأحوازي هذه الاغتيالات وعمليات الخطف للقادة الأحوازيين وتنازلهم المتلفز تحت التعذيب، فإن ذلك يجعله محبطاً ومتخوفاً، وربما يدفعه للتراجع نحو عن نضاله تجنباً لمصير هؤلاء المناضلين الذين انتهى بهم الأمر بالقتل والإعدام، سواء من قارع النظام داخل الأحواز أو كافحه في المنفى. وبهذه الطريقة نجحت إيران نسبياً في كي وإجهاض وعي الشعب الأحوازي، من خلال استهداف الناشطين والمناضلين الأحوازيين المؤثرين.
حيث أرادت الدولة الإيرانية من هذه السياسة تحقيق المكاسب التالية: إيصال رسالة إلى المجتمع الأحوازي وحركاته الوطنية ومقاوميه ألا مناص من قبول الاحتلال الإيراني كحقيقة لا يمكن تغييرها، وبالتالي التنازل عن فكرة التحرر.
– تبني فكرة المفاهيم المرسومة لتوصيف الأحوازيين كأقلية قومية وليس شعباً، والابتعاد عن الواقع التاريخي الذي يدل بقوة على احتلالها للأحواز.
– التطبيع مع الواقع، ومع أن الظروف الزمنية والدولية ليست لصالح النضال التحرري، والشعور بعدم جدوى العمل المقاوم والثورات والانتفاضات في تحصيل الحقوق المشروعة للشعب الأحوازي، أو في تغيير موازين القوى.
– إقناع شريحة من الأحوازيين بتبني فكرة الهوية في إطارها الشاذ، وهي عرب إيران، واستجداء حقوق أولية عبر هذه الهوية الشاذة والمصطنعة الزائفة.
– التستر على حقيقة الاستيطان والمستوطنين، عبر التصريح بأن الأحواز وطن القوميات الإيرانية المتعددة، في تعددية تضم اللور والفرس وسواهما من المستوطنين.
ولقد اتفق النظام مع أصحاب الهوية الشاذة/الزائفة هذه، لجعلها معتقداً لأولئك الذين لا يؤمنون بالعمل المقاوم والحركات التحررية، وينظرون إلى الانتفاضة والمقاومة بوصفها طريقة عبثية أدت إلى نتائج وخيمة، ومنها قتل الكثير من الناشطين وسجن المئات منهم.
المستوى الجماعي
- نكران العروبة: وترتقي عملية كي الوعي، وما فيها من صدمات وأساليب متفننة، إلى المستوى الجماعي فتستهدف المجتمع من أجل ذبح الوعي والتخلص منه. وعلى رأس هذه العملية يأتي نكران العروبة، والتركيز على استخدام ألفاظ في نعت الشعب الأحوازي، تبعده عن عربيته وأصله. وكما هو معروف لدى قاطبة العرب، فإن العربية تعني للعربي، أول ما تعنيه، نقاوة النسب وأصله، وشرف الميلاد وطهارة العرض، ولذلك يعني بعيون العرب استخدام لفظ «عرب زبان أي المستعرب » النيل من شرف المعتد واتهامه في عرضه وصحة انتسابه، لتصدمه بقوة وتصفع وعيه وتكويه. وتجري هذه العملية على نطاق واسع في الإعلام الإيراني، وتستخدم في الفضاء العام، وعند التعامل مع كل العرب، بوصفهم جماعات مستعربة تشوه أصلها الآري، فاستعربت إثر الجوار مع العرب، ولذلك يجب العودة بها إلى الأصل الفارسي.
- تزوير التاريخ : وهذا توجه اضطلع به المؤرخ الفارسي منذ ميلاد هذه «الدولة»، كان هدفه منع تشكيل أية صورة من شأنها التأكيد على عروبة أرض الأحواز، والنيل من جميع الرموز التاريخية التي صنعت هذا التاريخ(٣). ولذلك كان تركيز المؤرخ الفارسي على تلك النقطة المفصلية التي اشتبك بها العرب مع الفرس في عهد الأمير خزعل، وتم تصوير هذا الرمز باللذع العبارات، وباتت هذه الصفات الذميمة فيه خلاصة عن كل تلك الصفات الراسخة في نفوس الشعب الأحوازي من خيانة العهد والجبن وحب الجنس إلخ، حسب اللقاءات عملية صناعة الوعي الفارسية. كما تم تصوير المقاومة ورؤس المقاومين على أنهم مجرد طغاة ولصوص، وليس مقاومة عربية ناهضت الاحتلال؛ وتم غرس صورة في المخيال الشعبي حول أبطال مقاومين نظير حتّه الكعبي على أنه قاتل هارب من العدالة والدولة وزعيم العيارين قطاع الطرق، في محاولة لغرس هذه الصورة في الوعي الأحوازي وقولبة الوعي المجتمعي حول أبطاله وقادته الذين قاوموا الاحتلال. وبينما يتم التقبيح رموز المقاومة الأحوازية ضد الاحتلال سواء عبر التاريخ، أو رجال المقاومة في الوقت الراهن وعدهم من الإرهابيين، أو عملاء لدول أجنبية، أو أعداء الدين والمذهب، أو تجار باسم القضية، عمد النظام الإيراني إلى إفساح المجال لمن هم دون ذلك من المطالبين بالحقوق الدنيا غير الجوهرية، من أمثال دعاة الفدرالية، وأمثال النشطاء الإصلاحيين، وتصوير هذه الفئات على أنها الممثلة للشعب، والمقبولة من قبل النظام. وهؤلاء هم من قام بإستهداف الوعي، بشعور منه أو من دون شعور، عبر التنظير لمفهوم «عرب إيران» أو «الإصلاحيين العرب» بعد أن كان نخب الشعب الأحوازي لا يقبلون إلا بالتحرير من النظام الإيراني المحتل، وبعد أن كانت الصورة ثنائية بين نظام يحتل وشعب محتل.
- عدم السماح بالرقي بالأحواز إلى قضية: والسخرية منها، ليس بين أبناء الفرس فحسب، بل بين الشعب الأحوازي ذاته، إذ كثيرا ما يُشهد خشية الآباء من نزوع أبناءهم وبناتهم نحو تبني القضية، وكثيرا ما تجاهلها الشعب من التداول اليومي في حياته المعيشة. فإذا قورنت القضية الفلسطينية بالأحوازية، ووجه المقارنة بينهما موضوعي وقائم لرضوخ كل من الوطنيين للاحتلال، وجدنا أن الأولى يتم تداولها بين كل المجتمع، ويورث الآباء الفكرة التحررية لأبنائهم ويربونهم على استعداد التضحية لها، بينما الوعي الأحوازي خاو عن هذا المعنى، وتمت قولبة وعيه على شكل يرى في القضية ضرب من المستحيل، أو قضية غير مفهومة خارجة عن نطاق المشعور به. ولو لا هذا الضرب من الوعي الزائف أو الوعي المكوي أو الوعي المقولب، سميه ما شئت، لما تسنى للنظام الإيراني أن يزور الواقع الأحوازي، وأن يصور علاقته بالعرب شعب الأحواز كجزء من إيران، وأن يغيب كل ذلك التاريخ العربي لهذا الوطن. إن وعي القضية الأحوازية، وكسر عملية تزييف الوعي يعني تماما السير به إلى مدارج تنأى به عن هذا الفهم الخاطئ للوضع القائم، ويعني تماما فهم الصورة على ما هي عليه، على ما هي عليه واقعا من أن الوضع الحضاري الراهن بين الشعب الأحوازي والفرس ودولتهم هو وضع احتلال لا علاقة دولة بشعبها، إذ لا يجمع التاريخ بين العرب في الأحواز وبين الفرس في دولتهم فحسب، بل العلاقة اليومية المعيشة تثبت تنافرا بينا بينهم، سعى الاحتلال الإيراني بقوة إلى نكرانه وتذويب عربيته وتزييفها، وخوض عملية واسعة النطاق من كي الوعي لمنع الشعب من الإستيقاظ ومكافحة الاحتلال على هذا الأساس المتنافر.
ولمواجهة هذه السياسة الممنهجة من قبل سلطات الإيرانية ، يتوجب على الأحوازيين أن لا يقعوا أسرى لحالات “كي الوعي”. بجانب ذلك، ولأجل إعادة تأهيل النشاط الوطني الداخل الإيراني والمنفى، يجب على الحركات والأحزاب الأحوازية القبول لإفساح المجال للنقد الذاتي ومراقبة الأداء والمحاسبة على التقصير، والسعي لمعرفة طبيعة الدولة الإيرانية والتعمق في معرفة سرديتها الأمنية والقومية والتاريخية وخطابها الشمولي تجاه القضية الأحوازية، وكيفية تعاملها مع الساحة الأحوازية داخلياً وخارجياً. وكما يقول سون تزو”: أن مَن يعرف عدوه ويعرف نفسه يقود مئة معركة من دون خطر. ومَن لا يعرف عدوه ولكنه يعرف نفسه فقد يحرز نصراً ويلقى هزيمة. ومَن لا يعرف عدوه ولا يعرف نفسه يكون في دائرة الخطر في كل معركة. ويؤكد تزو أن إحراز مئة انتصار في مئة معركة ليس هو الأفضل، بل إن إخضاع العدو من دون قتال هو أفضل ما يكون.
ويجب التنويه إلى أن أهم النقاط التي يجب العمل عليها من قبل الناشط السياسي والمثقف والمفكر الأحوازي، هي بناء الإنسان والمجتمع الأحوازي، وتعزيز ثقافة الوجدان الوطني الجمعي في أوساط المجتمع الأحوازي، حتى لا يقع النشاط الوطني في أغلال الهزيمة النفسية، وحتى يستمد إيمانه من الحاضنة الشعبية الداعمة لنشاطه القومي والوطني. وعلى المناضلين الأحوازيين أيضاً أن يستشعروا معاني العزة والكرامة والحق والعدل، وألا يسمحوا للعدو باختراق بنيتهم الفكرية والأيدولوجية والأخلاقية والمعنوية، للعبث بثوابتها. مع التمسك بالثوابت والحفاظ على الأهداف العليا دونما تنازل أو تغيير ووضع سقف تطلعاتها وآمالها.
- ثنائي الأدنى العربي والأعلى الفارسي: وتصنيف الذات داخل ثنائية قاتلة زُج بها، علمته منذ نعومة الأظفار على أنه البشري الأدنى شأنا من ذلك المستوطن الفارسي الذي يجاوره، صاحب العرق الأعلى. إنها علاقة يشتبك فيها الفردي والمجتمعي بصورة يومية، يكون نصيب العربي منها الازدراء الذاتي، ونصيب الفارسي التعالي الذاتي الذي يرى فيها المستوطن العادي، حتى المتعاطف مع العرب، نفسه أعلى رتبة من العربي، ليس لشيء مكتسب، بل لمجرد عرقه ولغته وحضارته. هذه الثنائية ذات مفعول تعميمي سحري، إذ تتسربل بانسيابية إلى كافة منعطفات الحياة اليومية للفرد والجماعة، فيضطر تحت مفعولها العربي إلى قولبة حياته بقالب التقليد، فيحل الفارسي محل المُقَلد ويكون العربي المقَلِد، في ملبوسه، وفي لهجته، وفي تصميم بيته، وفي نبرة كلامه، وفي زواجه وعلاقاته الغرامية، وفي كل حياته(٤). ومن هنا نشأ ذلك التبني من قبل المثقفين العرب، وهم أكثر الفئات تعاملا مع الفرس، للعلمانية القائمة على افتراض تنافر جوهري بين الإسلام والعربية، وهي تقليد للجو الفكري السائد في إيران القائم على وجود تنافر جوهري بين الإسلام والفارسية، كعرق ومجتمع ودولة وحضارة. فهنا لم يقتصر التقليد المنبثق عن ثنائية الأدنى والأعلى على تقليد الزي والثقافة والسلوك، بل نفذ إلى التفكير وتعقل العالم حتى، وراح ينال من أعز رأس مال اجتماعي عربي هو الثقافة الدينية، واستهدافها وأخرجها على أنها عقبة من عقبات الدخول إلى العالم الحديث (٥).
-
الجهة المستهدِفة
وإذا كان دور «الدولة» الإيرانية في عملية كي الوعي واضحا لا غبار عليه، وبينما دأبت جل الكتابات الأحوازية، والبرامج والأحزاب السياسية المناضلة، على توجيه الكفاح ضدها، وتركزت جهود تحرير الوعي حول محورية النظام المحتل هذا، ولكن عملية التحرر من الوعي الإيراني المفروض والزائف على الأحوازيين، تستوجب النظر إلى الدور الذي يضطلع به المجتمع الإيراني في استمرار الاحتلال، وإصراره على نكران الهويه العربيه الاحوازيه وازدراء الشعب وممانعة تطلعاته للحرية. وذلك لأن النظام الإيراني ما كان ليتمكن من كل ذلك لو لا ذلك السند التام الذي يقدمه له غالبية المجتمع الفارسي المُهيمن.
مستوى الدولة
وبينما لا يمكن تسمية النظام الإيراني بالدولة، لأنه يفتقر إلى شعب متجانس يشكل دولة أمة، بل مجموعة شعوب متنافرة لكل منها تاريخها وحضارتها ودولها التاريخية، مثل الدول العربية والدولة التركية في حالة الشعب التركي في إيران، وهذا شرط جوهري وتام لقيام أية دولة، فإن النظام هذا سلك شتى السبل لتنفيذ سياسة كي الوعي وتزييفه قولبته وفق مصالحه وسياساته لحفظ تماسكه ووجوده القائم على حساب الشعوب الأخرى. ومن أبرز هذه السياسات الهادفة إلى الإندماج اللاواعي المتبع في عملية كي الوعي وصياغته هي:
- فرض اللغة: الفارسية وجعلها اللغة الوحيدة المسموح لها بالتداول، في المناهج التعليمية، حتى صار يتحدث النظام الإيراني عن اللغة الفارسية على أنها اللغة الحضارية الحية التي يستطيع بها «الإيرانيون» التواصل دون باقي اللغات الموجودة في هذا النطاق السياسي المصطنع والمفروض؛ كأن باقي اللغات، سيما العربية صاحبة التاريخ الإسلامي الطويل والتراث المكتوب العريض، قاصرة عن تلبية التواصل الحضاري بين الناطقين بها(٦). ولقد تمكن تحكيم الفارسية من صناعة ثنائية في الوعي الأحوازي جعلته مُنْقَسِمٌا بين الجنوح نحو العربية التي تمثل ثقله الحضاري، وبين الفارسية كلغة التعليم والحياة العامة والرسمية للدولة المفروضة. فتأرجح الوعي في نطاق هذه الثنائية ونشأ فيه حالة مفارقة صفعته بتذبذب وجودي بين تعلمها والعيش فيها والتيه في تبني ثقافتها من جهة، ومحاربتها من جهة أخرى. وهذان الوجهان ما هما إلا دليل على الضغط الذي يتعرض له العربي حيث إن التكلم بلغة ما لا يعني التلفظ بأصواتها وفقا لنسق ومفردات محددة فقط، بل يعني بالضرورة أن المتكلم بهذه اللغة قد تشرب جزءا كبيرا من ثقافة هذه اللغة وسياقاتها الحضارية والتاريخية والدينية(٧).
- فرض الاستبداد: على الوعي العربي الأحوازي، وجعل الثقافة العامة، وسيما الثقافة السياسية للأحوازيين، ثقافة مستبدة متصلبة، طبعت العلاقات العامة في المجتمع بطابعها، وفرضت أسلوبا مجتمعيا قوامه الغلبة والإخضاع في التعامل، حتى باتت العلاقات المجتمعية بين الأفراد كأنها علاقة سيد وعبد، وفق المنطق الإستبدادي الإيراني هذا، وبات يحمل كل فرد خاضع لهذا النظام الاستبدادي يحمل في ذاته صورة مصغرة من الجمهورية الإسلامية بكل خصائصها(٨).
- التخويف من فراغ سقوط الاحتلال: ثم إن هناك مسعى حثيثا وطده الاحتلال في وعي فئات كبيرة من المناضلين فحواه أن سقوط النظام الإيراني القائم سيجعل الأحواز أمام حالة من فراغ أمني، يجعل المجتمع غابة يقتل فيها القوي الضعيف؛ وذلك عبر تصوير الشعب الأحوازي كطفل قاصر لم ينضج بعد لتأسيس دولة، وأنه مجرد مجتمع من القبائل التي ستنفجر وتطغى إذا انهار النظام الذي ردعها وجعلها تتعايش سلميا. وكثيرا ما تتردد هذه المغالطة بين بعض النخب، وأصبحت في الوقت الراهن حديث عامة الناس أيضا، بأنه إذا سقط النظام الراهن فإننا سنفتك بعضنا، وسيكون غياب الأمن في الحالة الأحوازية أشد تبعات من العراق إبان السقوط، ومن الوضع السوري الراهن وهذا بالنهاية قد يؤدي إلى كارثة وسوء أوضاع إنسانية كبيرة،. وهذا هو التقزيم بحد ذاته، وكي الوعي الذي يجعل الفرد لا يرى في نفسه مقدرة تسمح له صنع مستقبله، بل يظن بنفسه ما أراد الاحتلال أن يظنه، ويتصور نفسه من منظار التفسير الذي يقدمه النظام المهيمن عن مستقبله ومستقبل الأحداث التي ستقع له، في حالات نظير إنهيار الاحتلال، أو أحوال أخرى.
المستوى المجتمعي
وكل ذلك ما كان ليتم لولا هذا الكد والمثابرة والجهد المقدم من المجتمع الإيراني الفارسي من أجل حفظ تفوقه وسيادته على باقي الشعوب. وعلى رأس جهود المجتمع الفارسي، الواعية وغير الواعية، لاستمرار تفوقه على الشعب الأحوازي على حساب ثرواته ووجوده ومستقبله هي:
- فرض قضاياه المجتمعية الإيرانية الفارسية على وعي باقي الشعوب وعقلانيتها واستقلالها وصيرورة تاريخها. فهنا لم ينظر للشعب الأحوازي في استقلاله وتاريخه ومطالبه القومية، بل إن الأحوازي بات تابعا للفارسي، والخصوصية العربية باتت مجرد شذوذ وانحراف عن الأصل. ومن هنا بالتحديد بدأت عملية إرباك وإجهاض سردية وخطاب والوعي النسبي الأحوازي وتقولب ليلف ويدور حول تلك القضايا المتعلقة بالعلمانية، أو تلك القضايا المتعلقة بالحجاب في الوقت الراهن، أو باقي القضايا الفكرية التي جعلت الفكر الأحوازي ينشغل فقط بتلك التي تأتي من هذا المجتمع المتفوق. وهذه قوقعة أكثر من وقع بها الأحوازيين، بين من يعتقد بتبنى المذهب السني والشريعة السلفية أو من يعتقد به تبني مذهب الشيعة أو من يتنبه العلمانية و الديمقراطية ((طبعا استنادا إلى تعريف ونطاق المرسوم والمحدد لطبيقها وفقا لذوق ومصلحة العقلية الاستعمارية الفارسية التي تريد تصنع من إيران ظاهريا دولة ديمقراطية براقه تحترم الحريات الفردية فحسب لا أكثر بعيدا من إنهاء الاستعمار الدولة الأمة الإيرانية(decolonization) وبعيدا من الاعتراف بقضايا المطالب والتطلعات القومية والهوياتيه والثقافية وسياسية الشعب الأحوازي وباقي الشعوب غير الفارسية.))
- الإيمان بثنائية الأدنى والأعلى: ومن أجل ذلك تعامل المجتمع الإيراني بمختلف فئاته، على يقين بأنه هو المعيار والمرجع للبت بالقضايا. فإذا حدث أن خرج الشعب الأحوازي بمطالبات قومية، فإن المجتمع هذا يأخذ على عاتقة إفراز المطالبات المقبولة والمرفوضة منها، من منطلق أنه هو المعيار في الحق. فإذا طالب العرب مثلا بالحق في التعليم باللغة الأم العربية، فإن الفارسي سرعان ما ينهض إما من أجل رفض ذلك، وإما من أجل تعيين الحدود المسموح بها. وهذا تجل آخر من تجليات المصادرة، حيث لا يتم اعتبار المطالبات والتمظهرات العربية تعبيرا عن واقع الجماعة والشعب المطالب بها، بل يتم التعامل معها من منظار المقبول من جانبنا نحن الفرس، والضار لمصالحنا نحن الفرس. وهكذا لا تمنح صفة الحق لأي مطلب إلا إذا ارتضاه الفرس، ويكون الطرد والتهميش لما يناقض المزاج الفارسي ومصالحه العليا أو الدنيا. فبينما كان المجتمع الفارسي في جميع أدوار خروج الشعب الأحوازي ضد النظام القائم صامتا غير مبال، على سبيل المثال، راح المجتمع الفارسي هذا ينعت الشعب الأحوازي باللذع العبارات عندما لم يشارك في إنتفاضة جينا أميني الأخيرة، وأخذت المعارضة المنتعشة من هذه الاحتجاجات تتحدث عن جميع الشعوب غير الفارسية، وأهملت بعمد وكليا الشعب الأحوازي، كنوع من العقاب على عدم تبنيه لهذه القضية. وعوض أن يتفهم المجتمع الفارسي المتغطرس موقف الشعب الأحوازي العربي التقليدي المسلم من الحجاب وتبنيه له بكامل صيغة، راح يتوقع منه مساندة الدعوة إلى السفور ونبذ الحجاب، كأنه قضية أحوازية صرفة، لا قضية منبعثة عن الشعب الكوردي والفارسي ليس لها علاقة ضرورية مع العرب وقيمهم ومجتمعهم.
- احتكار مزايا الدولة
وفي النقطة الأخيرة التي تبين سريان كي الوعي وقولبته من قبل المجتمع الإيراني الفارسي، يتم الإشارة إلى ذلك الجشع الفارسي الذي حصر جميع مزايا الدولة في يديه، ودأب على المستوى المجتمعي على إبعاد العرب من خيرات الدولة، دولته هو، فأخذ يسهر مجتمع المستوطنين في الأحواز على ترجمة الدولة حرفيا في الساحة المعيشية، فحصر هكذا جميع أجهزة الدولة بيده، معززا بذلك «دونية العرب» وعدم بلوغهم المستوى الذي يسمح لهم بإدارة الشؤون العامة للأحواز، موطنهم. ومن أجل ذلك ظل الأحوازي يدور في فلك هؤلاء المستوطنين القادة، وظل يطبق ما يلقنونه من سياسات تفتك بالشعب الاحوازي، وتجعله عالة على إرادة المستوطن صاحب القيادة والسلطان. كما فرض في الساحة الثقافية جميع مظاهر ثقافته، من زي وعادات وأعياد إلخ، ولم يعترف بسواها. أما على المستوى المجتمعي فإنه ناصر القبيلة لأنه وجدها تصب في مصلحته واستمرار وجوده، بينما ناهض بقوة تلك الفئات الحديثة الأحوازية التي تدعو إلى غلبة مفهوم الشعب العربي الأحوازي الواحد ضد الكيانات التي تشرذمه.
الخاتمة
وهكذا يتبين أن الوجه الأخطر للاحتلال والاستعمار الإيراني لا يكمن في عمليات نهب الثروات، وقتل المقاومين، والإتيان بالمستوطنين فحسب، بل إن الأخطر في كل سياساته هي تلك العملية الواسعة والمستمرة والناعمة من كي الوعي الأحوازي ومحاولة إعادة صياغته وقولبته. سياسات تجعل الفرد العربي والشعب الأحوازي عاجز عن مقاومة، ينظر لما يشاهده من احتلال بكل تبعاته برضى وقبول، ويفسرها على أنها تجري مجرى الطبيعة، لأنه هو الأدنى مرتبة إنسانيا يجب قيادته من قبل الفرس أصحاب العنصر القيادي. لا شيء أخطر على العروبة في الأحواز من هذه العملية التي تستهدف الذات، فتفرض عليها وعيا يجعلها تلقائيا تنفذ ما يريده المحتل، ويجعلها في حالة من الانفعال والاستلاب يسمح للفارسي بالقيام بكل ما يضمن استمراره واحتلاله واستعماره.
رحيم حميد، باحث مختص في شأن الأحوازي في معهد الحوار للأبحاث والدراسات
المصادر والهوامش:
- في معنى الوعي راجع مثلا: هنري برغسون، بحث في المعطيات المباشرة للوعي، ترجمة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009.
- عبدالنبي قيم، تاريخ عرب الأحواز، دار مدارك، بيروت 2012.
- أحمد كسروي، خمسمائة عام من تاريخ خوزستان، دار النشر باهم، طهران 1402
- فرانتس فانون، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، خليل أحمد خليل، دار الفارابي، لبنان والجزائر 2004
- ولا يهم الرأي في الإسلام وعلاقته بالحداثة والتقدم، بحد ذاته، بل المهم هو هذا التقليد المنبثق عن ثنائية الأدنى والأعلى وبيان تبعاته الخفية وكيه لوعي المجتمع الأحوازي.
- راجع في ذلك: سيد جواد طباطبايي، تاريخ الفكر السياسي في إيران.، دار نشر مينوي خرد طهران 1400.
- :كيف يشخص فانون أزمة الهوية لدى المثقف العربي في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”؟ يتناول المفكر وعالم النفس فرانز فانون، أبرز منظري النظرية النقدية وأحد أبرز مفكري نظرية ما بعد الاستعمار، في كتابه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” العلاقة بين شخصية الإنسان المستعمِر والإنسان المستعمَر ويحلل العلاقة ما بينهما عبر إرجاعها إلى جذورها النفسية. يبني فانون مقاربته على التمايز الشديد ما بين السود والبيض، بقوله إن الوعي الجمعي لطالما ربط ما بين اللون الأبيض وكل المعاني الجميلة الجذابة من نور وحقيقة وعدالة، وحضارة إنسانية ومدنية، فيما يمثل الأسود معاني البشاعة والخطيئة والظلام والفسق، وهي معانٍ نجدها حتى في القواميس. لتنعكس تلك المعتقدات ولا شك على العقل الجمعي، والتي امتدت لتطول آثارها تعريف الإنسان الأسود نفسه والإنسان الأبيض. فالإنسان الأبيض هو السيد الذي يملك كل سمات الرفعة والتفوق والذكاء والحنكة، وهو ابن الحضارة البار الذي أتى مضحيا بماله ووقته ونفسه لينقذ ذاك الأسود من براثن الهمجية والتوحش، يعيش عيشة الحيوانات ولا يملك حنكة الرجل الأبيض، وهذا ما يبرر تسخيره للعمل عبدا، أو في مهنة حقيرة، ويعيش حياة أدنى من حيث المكانة والتأثير. الرابط: موقع الجزيره https://aja.me/42mml2
- راجع مثلا: محمود سريع القلم، سلطوية إيران في عهد القاجار، دار النشر مركز. وأيضا: الثقافة السياسية الإيرانية، دار النشر مركز.