يصطخب المشهد السياسي الإيراني، في هذه الأيام، بانقسامات حادة في جناحي النظام الإيراني على خلفية إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الموقع عام ألفين وخمسة عشر مع القوى الست الكبرى، محدثة آثارًا بالغةً على مجمل الاقتصاد الإيراني، إذ فاقت معدلات التضخم الستين في المئة وتراجعت قيمة العملة الإيرانية أمام الدولار الأمريكي بنسبة سبعين بالمئة.
فلم يعد الصراع السياسي بين جناحي السلطة خفياً، حيث ترتسم حدود التمايز- إن لم نقل العداء- يوماً بعد يوم بين أصوليين يحاولون تكوين جسم سياسي تحت عناوين “ثورية” والمحافظة على قيم الثورة الإسلامية المتجسدة في شخص المرشد علي خامنئي، في تضاد مع التيار “الاعتدالي” ومن يدعمه من الإصلاحيين، الذي استند على دبلوماسية حسن روحاني وحكومته.
تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق لم تقتصر على انهيار الاقتصاد والتضخم والبنى التحتية وإفلاس معظم الشركات الضخمة وسوء الوضع المعيشي الناجمة عن إعادة فرض العقوبات على إيران، بل بلغت أضرارها داخل تيارات النظام نفسها، حيث وجهت أصابع الاتهام من قبل جهات فاعلة في تياري المرشد والحرس الثوري اليمينيين لحكومة روحاني باعتباره أخل بالاتفاق، إذ أقال البرلمان الإيراني خلال الفترة القليلة الماضية وزيرين من هذه الحكومة واستجوب رئيسها بسبب انتشار الأزمات الاقتصادية في البلاد، عبر مقترحات قدمت من قبل نواب في البرلمان يحسبون على التيار المتشدد في إيران.
تتضافر آثار العقوبات الأمريكية على إيران، مع فشل سلطات القضاء الإيراني في الحد من انتشار الفساد الإداري والاختلاس المالي من قِبَل مسؤولين في الحكومة الإيرانية، وارتفاع نسب القبضة الأمنية على الحريات السياسية والاجتماعية العامة والخاصة، فضلاً عما وصفه المرشد الإيراني علي خامنئي بـ”سوء الإدارة” في البلاد، الأمر الذي ساهم في إضعاف علاقة الثقة بين الجمهور والنخبة السياسية الحاكمة، كما ظهر جلياً في ديسمبر العام المنصرم، من خلال مظاهرات اجتاحت معظم المدن في إيران بسبب تردي الأوضاع المعيشية وتفشي الفساد شملت أكثر من ثمانين مدينة وبلدة في إيران، وأسفرت عن سقوط خمسة وعشرين قتيلاً.
وقد تجددت المواجهات في الأشهر الأخيرة، صب خلالها المتظاهرون جامّ غضبهم على رأس النظام، كالمرشد ومسؤولين آخرين، متهمين إياهم بالفساد، مطالبين بضرورة كف يد النظام عن المنطقة وصرف أموال الناس لتوغل الترسانة العسكرية الإيرانية في المنطقة لصالح الاهتمام والتنمية الداخلية.
من الجدير بالذكر، أن الآثار التي تشهدها إيران ناجمةٌ عن الحزمة الأولى للعقوبات المفروضة على إيران والتي استهدفت قطاعات مالية وصناعية وتجارية. إلا أن الحزمة الثانية من العقوبات ستدخل حيز التنفيذ في نوفمبر المقبل، والتي تستهدف بشكل أساسي قطاع النفط الذي يشكل العصب الأساسي للاقتصاد الإيراني؛ فوفق خطة الإدارة الأمريكية، فإن العقوبات تتوخى الحد من صادرات النفط الإيرانية والوصول بها إلى المستوى “صفر”، مما سيسهم في تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية الداخلية ويزيد من التحديات التي يواجهها النظام بشكل عام.
في المقابل، تسعى إيران لإقامة حلف مع دول الجوار الإقليمي كتركيا وقطر وباكستان والدول المطلة على حوض بحر قزوين، فضلاً عن دول لها مصلحة اقتصادية في ذلك كالصين، لاستباق بدء تفعيل الحزمة الثانية من العقوبات الاقتصادية، عبر عقد صفقات اقتصادية معها لتفادي تداعيات العقوبات من هذه الحزمة التي ستطال قطاع النفط. فقد سارعت إيران إلى اتخاذ المواقف من إدارة ترامب تجاه فرض العقوبات على تركيا، مبدية استعداها للتعاون مع تركيا في عدة مجالات لتفادي العقوبات عليهما.
وقد أبدت إيران مرونة فيما يتعلق بتقسيم بحر قزوين، أفضى إلى إبرام اتفاقية حُدد بموجبها الوضع القانوني للبحر وكيفية استغلال ثرواته مع الدول المطلة على هذا البحر. حيث تقلصت حصة إيران من الثروات داخل البحر من خمسين بالمئة حسب اتفاقيتي ألف وتسعمئة وواحد وعشرين وألف وتسعمئة وأربعين إلى ثلاث عشرة بالمئة، مقابل زعم الدبلوماسية الإيرانية تحييد الوجود الأمريكي عن شمال إيران.
على المستوى العربي، لم يعد خفياً استغلال إيران للأزمة الخليجية في خرق العمق الاستراتيجي لأمن الخليج العربي عبر إقامة علاقات اقتصادية مشتركة مع دولة قطر. أما عن الصين التي هي بحاجة ماسة إلى مصادر الطاقة وتعتبر الشريك التجاري الأول لطهران، حيث تعتبر المصدر الأول للبضائع إلى إيران بـ4.8 مليار وثمانمئة وثمانية وثلاثين مليون دولار.
إلا أن ثمة عقبات تواجه السعي الإيراني لإيجاد البديل للاستثمارات الأوروبية والأمريكية وبالتالي محاولات التمحور ضمن حلفاء إقليميين، خصوصًا فيما يتعلق باتفاقية بحر قزوين. تتمثل أولى هذه العقبات بالجدل الداخلي الإيراني حول جدوى تنازل إيران عن حصصها التاريخية في بحر قزوين، وبالتالي انفراط التوافق السياسي بين تيارات النظام الإيراني حول إمكانية ومدى استثمار علاقات إيران الخارجية وتحالفاتها بغية تخفيف الأعباء الناجمة عن إعادة العمل بالعقوبات الدولية.
وكذلك بالتوازي بالنسبة لتركيا فمهما بدت حاجتها للتقرب إلى ايران، إلا أنه مازالت قضايا خلافية كثيرة بين الدولتين- لاسيما في الملف السوري- عالقة ولم يتم الاتفاق عليها بعد.
أما بالنسبة لباكستان فمما لا شك فيه أنها ستتعرض إلى ضغوط دولية أهمها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، فالأخيرة تسعى إلى سد أي ثغرات ممكن أن يتنفس من خلالها النظام الإيراني، بالإضافة إلى تعرضها لضغوط إقليمية من قِبَل السعودية- باعتبارها تمتلك علاقات اقتصادية وعسكرية مهمة معها- التي تعتبر الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة في تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة والحد من هيمنته، مما سيسهم في تشكيل جملة من التحديات التي تواجه مستقبل العلاقات الثنائية الإيرانية- الباكستانية وتنفيذ مشاريعهما الخاصة بنقل الطاقة والتعاملات المصرفية.
يشوب العلاقات الاقتصادية الإيرانية مع الدول التي تسعى لإقامة حلف معها الكثير من الغموض والارتباك، ناجمين عن تفاقم الأزمات الداخلية والخارجية. لذا تبقى فرضية نجاح العلاقات الاقتصادية وإيجاد بديل للاستثمارات الأوروبية والأمريكية كرافعة للتنمية الاقتصادية، وبالتالي لجني عملة صعبة من خلالها مرهونة بتقلبات موازين القوى الإقليمية والدولية.
في المحصلة، تبين عقم أداء السياسة الخارجية الإيرانية أو ما بات يُعرف بدبلوماسية روحاني، في تحييد أثر العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني وتعميق الأزمات الداخلية. يأتي ذلك في ظل تعنت التيار اليمني وتشدده في توسيع دوائر نفوذه الإقليمية عبر الاستمرار بدعم أشكال ميليشياوية في دول المنطقة من جهة؛ وتطوير منظومة الصواريخ الباليستية، الأمر الذي يحرج موقف روحاني في علاقاته مع أوروبا وأفق العمل على الحفاظ على الاتفاق النووي.
يعقوب سعيد