مقدمة
يشكل مبدأ حظر استعمال القوة أو التهديد باستعمالها من أهم المبادئ التي أقرها القانون الدولي، حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية من ميثاق هيئة الأمم المتحدة ” يمتنع جميع أعضاء منظمة الأمم المتحدة في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه أخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
وبالعودة إلى نص المادة آنفة الذكر نلحظ أنّ هناك استثناءات لاستخدام القوة بما يتفق ومقاصد ومبادئ الأمم المتحدة، لاسيما تلك التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة ذاته، الذي جعل من ” مبدأ الدفاع عن النفس” ذو قيمة يعلو على كونه مجرد استثناءاً، بقدر ما جعل من هذا المبدأ (الدفاع عن النفس) أحد المفاعيل المؤدية لتطبيق مبدأ حظر استخدام القوة وردعها. وهو ما أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عند إقراراها للقائمة غير النهائية للأعمال المحظورة في القانون الدولي، التي قالت فيه:” يعتبر استعمال القوة غير الشرعي من أخطر إشكال العدوان “. وبالتالي فقد اعترفت الجمعية العامة بالقوة الشرعية، في إطار قراراتها التي أكدت فيها على حق تقرير المصير للشعوب المحتلة بكافة الوسائل المتاحة، والذي أكدته في جلستها العامة رقم ٢٣١٩ تاريخ ١٤ كانون الأول/ديسمبر ١٩٧٤، الذي تضمن تأكيدها بموجب ميثاق الأمم المتحدة ووفقاً للقانون الدولي المعاصر، بالحق في استعمال العنف المشروع في إطار القانون الدولي، مشيرة في ذلك أنّ استخدام كلمة ” دولة”، هو اصطلاح مستخدم ” دون مساس بمسألة الاعتراف ولا بمسألة كون الدولة أو عدم كونها عضواً في الأمم المتحدة(١) ( كما هو الحال في القضية الأحوازية )، مؤكدة على أحقية استعمال العنف المشروع في إطار القانون الدولي في حالتين:
-
الحالة الأولى- المشاركة في تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي:
بهدف درء الحظر على السلام أو إزالته وصد الأعمال العدوانية أو غيرها من انتهاكات السلام، استناداً لنص المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة، المتعلقة بالإجراءات الزجرية لردع العدوان وقمعه.
-
الحالة الثانية- في إطار تحقيق حق الدفاع الفردي أو الجماعي عن النفس:
في حال التعرض للاعتداء المسلح، وبعد نفاذ الوسائل السلمية التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة، استناداً للمادة ٣٣ التي نصت” يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجئوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها، استناداً إلى المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي اندرجت تحت مقاصد الهيئة ومبادئها، و التي تضمنت ضرورة تحقيق ” حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها”)٢(. وعلى هذا الأساس، أصبحت – من حيث المبدأ- مسألة استخدام القوة في العلاقات أمراً محظورا سواء بين الدول أو بين الجماعات، تحقيقاً للغاية التي ولدت من أجلها منظمة الأمم المتحدة بعد فشل سابقتها عصبة الأمم في الحيلولة دون اندلاع الحربيين العالميتين الأولى والثانية.
لم يأخذ القانون الدولي بمبدأ حظر استعمال القوة على إطلاقه، إنما عززه أكثر بمبدأ الحق في الدفاع الشرعي، كحق طبيعي و أخلاقي متأصل في النفس البشرية، ولعل خير دليل على ذلك، أنّ أهم آليات المنظمة الدولية، هو ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة باتخاذ قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع (المادة ٤١ من الميثاق)، التي أجازت للأمم المتحدة القيام بعمل عسكري أو تكليف غيرها من أحلاف عسكرية و تحت غطاء شرعي لرد الظلم والعدوان عن الشعوب المقهورة والدفاع عن سيادتها والحق في تقرير مصيرها، حيث أقرت الأمم المتحدة الكثير من القرارات في هذا الشأن، كما اعتمدت قرارات ملزمة أخرى خارج مجلس الأمن الدولي، كما حصل في القرار الشهير ” الاتحاد من أجل السلام” ١٩٥١ خلال الحرب الكورية (٣).
أولاً- شرعنة العنف المشروع في القانون الدولي ومبدأ حق تقرير المصير:
بدأ مبدأ تقرير المصير يجد تطبيقاته العملية، كأحد مبادئ القانون الدولي، خلال الحرب العالمية الثانية، فترسخ كأحد أهم القواعد الآمرة في القانون الدولي، وشهد هذا المبدأ العديد من التطورات القانونية ، بدءاً من تصريح الأطلنطي الذي أعلنه الرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل في ١٤ أغسطس ١٩٤١، والذي جاء فيه أنهما يحترمان حق الشعوب في اختيار نظم الحكم التي تروق لها، ثم تم التـأكيد عليه في كل من تصريح الأمم المتحدة ١٩٤٢، وتصريح موسكو ١٩٤٣، ومؤتمر دومبرتون أوكس في عام ١٩٤٤، و مؤتمر يالطا في فبراير/ شباط ١٩٤٥، التي شكلت المقدمات الرئيسية التي أرست مبدأ حق تقرير المصير كحق قانوني ملزم (٤) وعدم النظر إليه كمبدأ سياسي، قبل أن تُقره الأمم المتحدة في ميثاقها الأممي في مؤتمر سان فرانسسكو عام ١٩٤٥.
وعلى هذا الأساس، حصلت حركات التحرر على مشروعية اللجوء إلى القوة المسلحة، كأسلوب من أجل تحقيق أهدافها، وكحالة مستقلة في القانون الدولي العام، أخذ قيمة قانونية في إطار مبدأ حق الدفاع عن النفس، الذي تضمنته المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة، وفي إطار حق استعمال القوة من قبل مجلس الأمن استناداً للفصل السابع. وبالتالي أصبح للعنف المشروع أو المقاومة قوة إلزامية لجميع العالم، خصوصاً بعد إقرار هذا الحق، سواء في ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة، أو في المعاهدات والمواثيق الدولية وقرارات محكمة العدل الدولية.
-
العنف المشروع في ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية:
نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، التي حددت مبادئ ومقاصد منظمة الأمم المتحدة في ” إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها. وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العالمي”. حيث تضمنت المادة 55 من ميثاق الأمم المتحدة هذا الحق، وتعزز بموجب الفقرة الأولى من المادة الأولى من العهدين الدوليين والمتعلقان بحقوق الإنسان، الذين أكدا على أن كل الشعوب لها الحق في تقرير مصيرها. كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة العديد من القرارات الدولية، كالقرار ١٥١٤ / ١٩٦٠، والقرار ٣١٠٣ / ١٩٧٨، الذي اعتبر ” أن كفاح الشعوب لتقرير مصيرها هو كفاح مشروع يتفق مع مبادئ القانون الدولي العام. (٥)”. كما شكل ” مؤتمر تطوير القانون الدولي الإنساني” من أهم الخطوات التي أولت اهتماماً بتحديد الوضع القانوني لحروب التحرير الوطني، حيث خرج المؤتمر بإقرار بروتوكولي جنيف الأول والثاني لعام ١٩٧٧، وتم إلحاقهما باتفاقيات جنيف للعام ١٩٤٦، حيث اعتبر البروتوكول الأول ” أن حروب التحرير حروبًا دولية (٦)”، فنصّت الفقرة ٤ من المادة ١ على أن ” تُعد من قبل الحروب الدولية المنازعات المسلحة، التي تناضل بها الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير”.
قد نجحت منظمات التحرير الوطني خلال مشاركتها في المؤتمر بصفة مراقب في انتزاع الاعتراف بأنّ حروب التحرير الوطني هي من الحروب الدولية. كما أخضع البروتوكول الأول في المادة ١ فقرة ٤ بشكل واضح لا لبس فيه حروب التحرير لقواعد القانون الدولي الإنساني آخذًا بعين الاعتبار طبيعة هذه الحروب، والإقرار بها كحرب مشروعة تخضع لقواعد القانون الدولي، وتشكل تعزيزًا لحق الشعوب في النضال من أجل حق تقرير المصير. كما جرى تطبيق كافة القواعد المتعلقة بالاعتراف بالمقاتلين بصفة ” المناضلين” من أجل التحرر الوطني (٧).
بالتالي فإن لهم الحق بالتمتع في ميزات المقاتلين في الحرب النظامية. ولعل من أبرز هذه الحقوق هي الحالات التي قد يعرضون لها في معرض أدائهم لعمليات العنف المشروع، مثل حالات أسرهم واعتقالهم، و الاعتراف بهم كأسرى حرب، و التعامل معهم بما يتفق مع القانون الدولي الإنساني، وأن انتهاك هذه القواعد يشكل انتقاصاً من قواعد القانون الدولي العام، كما تعتبر خرق هذه الأحكام تشكل جريمة حرب. وهكذا تم وضع مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها في إطاره العملي والقانوني، بحيث لم يعد مبدأً من مبادئ القانون الدولي فقط بل أيضًا حقًا يجب ممارسته عبر جبهات وحركات التحرير الوطني، التي شرعن لها القانون الدولي، الحصول على حقها عن طريق جميع الوسائل المتاحة بما فيها استخدام العنف المشروع.
لقد اكتسب هذا التطور القانوني أهمية قصوى في القانون الدولي العام، فلم يعد يقتصر على شرعنة الحق في استخدام العنف المشروع والمقاومة وحسب، بل أصبح حالة مستقلة في القانون الدولي العام، تماماً كما حق الدفاع عن النفس الذي تضمنته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وحق استعمال القوة من قبل مجلس الدولي استناداً إلى المادة 43 من ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي فقد أصبح حق المقاومة المسلحة حقًا أساسيًا في القانون الدولي وله القوة الإلزامية القصوى.
-
العنف المشروع في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية:
لقد أدى تطور القانون الدولي إلى عدم الاعتراف بحركات التحرر وحقها في المقاومة وحسب، بل و حمايتها والدفاع عن قضاياها بغية تحقيق أهدافها. إذ لم يكتف القانون الدولي بالاعتراف بحق الشعوب بتقرير مصيرها، وإنما حرّم أيضاً انتهاك هذا الحق، حيث اعتبر القرار 3103 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1972 بأن ” كل محاولة لقمع حق الشعوب بتقرير مصيرها تعتبر أمرًا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي العام”، حيث أكد المشروع المتعلق بمسؤوليات الدول الذي اتخذته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة في مادته التاسعة عشرة ” أن انتهاك حق الشعوب في تقرير مصيرها يعد جريمة دولية”.كما أصدرت محكمة العدل الدولية، العديد من القرارات التي اعترفت فيها بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبالتالي الحق في استخدام العنف المشروع، كالقرارات الصادرة بقضية ناميبيا وقضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأميركية، والفتوى الخاصة بالصحراء الغربية التي أصدرتها عام 1975 ، التي أكدت فيها محكمة العدل الدولية على حق الشعوب في تقرير مصيرها، و كذلك القرار الشهير بشأن الجدار العازل، الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية حالة من حالات الفصل العنصري، معترفة في القرار ذاته بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وبالتالي فمحكمة العدل الدولية لم تؤكد على حق تقرير المصير وحسب، بل اعتبرته حقاً من القواعد الآمرة من قواعد القانون الدولي العام.
وفي هذا الخصوص، يلاحظ مدى إصرار بعض القوى الدولية التي مازالت تحمل عقيدة التوسع، على وضع القيود التي تحاول من خلالها تقييد هذه الاتفاقيات والقرارات بشأن مشروعية المقاومة والحق في التحرر كمبدأ قانوني دولي، وذلك بوضع عبارات فضفاضة مثل ” حركات المقاومة المنظمة” بغية تضييق الخناق على العمليات المسلحة ضد الاحتلال. وفي سبيل ذلك نجحت هذه الدول في تضمين المادة الرابعة من البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف 1949 شرطين لا يتفقان بتاتاً وآليات الحق في العنف المشروع في إطار حق تقرير المصير، حيث تضمن الشرط الأول عبارة ” وضع إشارة مميزة”. أما الشرط الثاني فتضمن عبارة ” حمل السلاح علناً” لتقييد ما يقره القانون الدولي من حماية دولية لحركات التحرر وحقها في العنف المشروع. وبالتالي التعارض وآليات عمل المقاومة المسلحة ضد المحتل، إذ غالباً ما يتسم عملها بالسرية، بالإضافة إلى ذلك فإن ” حمل السلاح علناً”، أصبح أمراً متعذراً وغير وارد في عمليات الحروب الحديثة. لذلك رأى الكثير من الفقه القانوني أن هذين الشرطين، لم يعد يشكلان قيدين يجب احترامهما، وقد راعت الكثير المحاكم ذلك، فاتخذت مواقفاً لينة تجاه حركات المقاومة8، التي لم تلتزم كلياً بهذه الشروط، بسبب تطور العمليات القتالية وأشكالها الحديثة.
ثانياً- الحق في مقاومة الاحتلال في القانون الدولي: فكرة العنف المشروع في المواثيق الدولية.
أكدت المواثيق الدولية الحق على مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل المتاحة، ويشكل هذا النص دليلاً قاطعاً على رفض وإدانة الأمم المتحدة والمواثيق الدولية للاحتلال واعتباره جريمة مستمرة، لا يمكن إزالته إلا بإزالة أسبابه وهو التعدي على الحقوق المتأصلة. وبالتالي فقد اعتبرت منظمة الأمم المتحدة والمواثيق الدولية، أن تهدد الحق مقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير هو تهديد فعلي وحاصل على أهم مبادئ ومقاصد الأمم المتحدة وهو حفظ السلم والأمن الدوليين. فاستمرار الاحتلال هو استمرار لخرق لمبدأ ” عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية”، وفي هذا الخصوص يرى الفقيه Hans J. Morgenthall ” أنّ القوة المشروعة هي قدرة أشخاص أو جماعات على فرض إرادتهم على الذين يقومون بأشياء متناقضة مع أولوياتهم، وما كانوا ليقوموا بها لولا ممارسة تلك القوة” 9، بينما يرى Niculae Tabarcia بأنّ ” حق الدفاع المشروع غالباً ما يكون أساسه ما يقوم به الآخرون من أعمال عن طريق امتلاكهم للنفوذ الذي يمارسونه على الأخرين، وقد تكون ممارسته إما بالقهر أو الأمر أو التهديد، أو الإقناع، أو بمزيج من بعض تلك الوسائل معاً 10″.
وعليه، فقد اتفقت قواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية وآراء الفقهاء، بأن فكرة استخدام العنف المشروع هي مجرد علاقة خاصة بين طرفين، تستلزم أن يكون أحد الطرفين فيها على قدر أكبر من الإمكانات، ما يتيح له التفوق في السلطة والسلطان، وبالتالي تتوفر للقوة فعاليتها المحرمة دولياً، قبل أن تتحول إلى عملية أخرى، تولد في مراحل لاحقة فكرة الصراع. وهي الإشكالية الكبيرة التي تعترض القانون الدولي في توصيف فكرة مفاعيل القوة ومولداتها، التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وبالتالي فإن شرعنة العنف المشروع في مواجهة العنف اللامشروع، ماهي إلا صراع بين الشرعي واللا شرعي. ولهذا انبرى القانون الدولي في تفسير وقوننة عبارة ” تهديد” السلم” ، في إطار شرعنة ردعه ” بجميع الوسائل المتاحة”. غير أنّ هذه الوسائل اصطدمت في مراحل طويلة من عمر تطلعات الشعوب بازدواجية المعايير، فكلما اقتربت رغبة الشعوب في الحصول على حقوقها بالطرق السلمية التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة، كلما تعارضت مع مصالح الدول الأقوى، ما يدفعها للجوء قانوناً إلى استخدام المقاومة، التي أصبحت مادة لخلطها مع الإرهاب بسبب مصالح الدول التي تلتف على أحقية أساليب استخدام العنف المشروع، سواء بالغرض أو المضمون أو الطريقة التي تم استخدامها من أجل تشويه صورة المقاومة وخلطها بالإرهاب، ويؤكد ذلك الاختلافات البنيوية بين الدول في توصيف الكثير من المنظمات إرهابية أم مقاومة11. وهو ما حصل مع المقاومة الأحوازية التي استهدفت عرضاً عسكرياً ( الأشخاص المستهدفة)، في داخل إيران ( المكان)، ولأهداف تحررية ( الغاية والتوقيت)، فانبرت السلطات الإيرانية وحلفائها بتوصيف الحادثة بأنها عملاً إرهابياً قام به تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش).
-
الشعب الأحوازي بين مبدأ حظر استخدام القوة ( العنف) والحق في المقاومة:
أصبح القول باحتلال إيران لدولة الأحواز العربية، واقعاً أثبتته وقائع التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والوثائق والمعاهدات الدولية، كما آليات الاحتضان والاعتراف الدولي، والممارسة السياسية بشأن التعاطي مع القضية الأحوازية كقضية شعب. وإذا كانت هذه الرغبة الدولية قد جاءت بسبب الصدام بين النظام الحاكم في إيران والمجتمع الدولي، فإن الشعب الأحوازي مازال يحتفظ بذاكرة شعبية لا تحيد عن قضيته في الاستقلال من الاحتلال الإيراني، واضعاً نصب عينه حركات المقاومة التاريخية للشعب الأحوازي، ومحددات الترسيخ التاريخي لحقه في استعادة وطنه، بالتوازي مع مطالبه بحقه في التحرر الوطني لنيل حقه بتقرير المصير، عبر الأدوار السياسية الجديدة للكثير من الحركات الأحوازية، التي مازالت تدفع بالمجتمع الدولي نحو التعريف بتقرير مصيره في إطار القانون الدولي العام، بعد أن جربت جميع الوسائل السلمية، وفي مقدمتها حقه كشعب في المساواة في إقرار الحقوق الأساسية الجماعية للشعوب، والتي يؤدي تجاهلها إلى تجاهل حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. التي ترتب على السلطات الإيرانية الاعتراف بحق الشعوب في المساواة و الحق في تقرير المصير، إذ ” لا يحق لشعب أن يحكم أو يستعبد شعب آخر”. كأحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي12.
وعلى هذا الأساس، يقر القانون الدولي والمواثيق الدولية و الفكر القانوني المعاصر، فكرة المقاومة كعمل مشروع تقره القوانين الدولية، التي ميزت العمل المقاوم عن الإرهاب كعمل غير مشروع. وذلك بالاستناد إلى:
– واقعية الفعل المشروع أو المقاوم ومبرراته وضروراته: كردة فعل على احتلال فعلي وحاصل ( الاحتلال الإيراني).
– الإطار الجغرافي للفعل المشروع: وذلك بتحديد هذه واقعية الفعل في إطار الجغرافيا، التي يقع فيها الاحتلال فعلياً، دون تجاوزه إلى أماكن أخرى، وذلك لتفريقه عن الإرهاب كفعل مجرم لاجغرافية محددة له، وقد يطال مدنيين لاعلاقة لهم بمرجعيات الصراع. لذلك يحق للأحوازيين ممارسة عنفهم المشروع في إطار الجغرافية الأحوازية، ضد أهداف عسكرية وشبه عسكرية فقط، توخياً لسقوط مدنيين من الطرف الآخر، وبما يشكل حرصاً من القائم بالفعل المشروع على المدنيين، الذين يشكل استهدافهم عملاً إرهابياً مجرماً دولياً.
– التلازم بين زمن العنف المشروع وفعل العدوان الحاصل: وتشكل هذه القاعدة استناداً للقانون الدولي قضية مسلمة في إطار القضية الأحوازية، بسبب حالة الاحتلال الذي ظلّ ملازماً لفعل المقاومة. لذلك لا يجوز الخلط هنا بين المقاومة في معرض احتلال مستمر ودائم وبين الإرهاب كفعل جرمي لا يتحدد بفترة زمنية. إذ من المتعارف عليه قانوناً أنه لا يجوز للمقاومة عند وقف الفعل العدائي أن ترد بعد إلا بالوسائل القانونية غير العسكرية، بينما تشكل الحالة الأحوازية حالة دفاع عن النفس دائمة واحتلال مستمر يستوجب – كلما استنفذت الوسائل السلمية- اللجوء إلى حق تقرير المصير بجميع الوسائل المتاحة.
- في التفريق بين المقاومة كفعل مشروع والإرهاب كجريمة دولية: غالباً ما يتم الخلط بين مفهوم الإرهاب وأنشطة حركات التحرر وحق تقرير المصير، ويشكل الفصل في إطار هذه الثنائية التي تقف على طرفي نقيض، أهمية قصوى للحيلولة دون إفساح المجال للدول والأنظمة المحتلة ومن يقف معها، أن تضع الذرائع والحجج القانونية بشأن محاربة الإرهاب كجريمة دولية، الأأمر الذي قد يفتح الباب للقضاء على حركات التحرر وحق تقرير المصير ، حيث ينبأنا التاريخ بالكثير من الانتهاكات والمجازر التي نفذها المحتل وراح ضحيتها آلاف المقاومين ونشطاء حركات التحرر. وعلى أساس ذلك، فقد انبرى فقه القانون الدولي للتمييز بين الإرهاب والمقاومة، ووضع المحددات الحاصلة بين الدول في تحديد معيار للتمييز بين الإرهاب والمقاومة، سواء في إطار علاقاتهم الثنائية أو الجماعية، وداخل المنظمات الدولية13.
- يرى بعض الفقه أن المعيار الأساسي للتفريق بين الإرهاب والمقاومة يتمثل في أن القوة التي تستخدم في الإرهاب تستهدف الحصول على المال أو الابتزاز، وهذا يختلف اختلافاً ظاهراً مع من يستعمل قوة السلاح لاستعادة حق مسلوب، أو وطن محتل، أو إنقاذ أمة ترزح تحت نير الاحتلال14 . وبالتالي فالمقاوم الذي يطالب بحق إنساني، هو صاحب قضية يرى في تحقيق أهدافة مقدمة لوقف العدوان كجريمة دولية في القرارات والمواثيق الدولية. وبالتالي وقف انتهاك حق تقرير المصير، بما يحقق الحيلولة دون تهديد السلم والأمن الدوليين، بسبب غصب وانتهاك الحقوق المتأصلة في النفس البشرية في الحرية والاستقلال والاستفادة من مقدراتها الذاتية.
- يذهب اتجاه فقهي آخر إن الإرهاب ينطوي على جانب سياسي، تجب إدانته ومكافحته على أنه جريمة، وهو شكل من أشكال التمرد الذي يتولد بسبب اضطهاد داخلي أو تهميش. بينما المقاومة أو الفعل العنفي المشروع هو نوع من الكفاح من أجل حقوق الإنسان والحقوق السياسية والاجتماعية للشعوب والأفراد15. وبذلك يكون الهدف من الفعل هو العنصر الأساسي في تحديد مشروعية العنف من عدم مشروعيته، فإذا كان مشروعًا لا يمكن توصيف الفعل على أنه عملاً إرهابياً، استناداً للقوانين والأعراف الدولية. وبالتالي فإن العنف الذي تمارسه الحركات التي تناضل ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، إنما يدخل ضمن العنف المشروع، الذي يُصنف بأنه الأسلوب الممكن لإخضاع العدو لإرادة الشعب16، وهي الآلية التي أصبحت قاعدة آمرة وملزمة في القانون الدولي.
خاتمة
مما تقدم نستنتج، واستناداً لجميع المواثيق والقرارات الدولية سواء تلك الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، الذي يعتبر الأداة التنفيذية الرئيسية لحفظ السلم والأمن الدوليين، واستناداً لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يتأكد الحق في العنف المشروع كأحد الوسائل المتاحة، التي تُقرها الطبيعة الإنسانية، والتي جرى قوننتها ضمن قواعد القانون الطبيعي قبل القانون الوضعي. مايوجب الاعتراف بها في القانون الدولي دون أي انتقاص من هذا الحق.
وبالتالي يعترف القانون الدولي للشعب الأحوازي، في إطار مبدأ حق تقرير المصير كقاعدة قانونية آمرة بالحق في استعمال العنف المشروع في إطار القانون الدولي، وهو ما أكدته قرارات الجمعية العامة التي أشارت أن استخدام كلمة ” دولة”، هو اصطلاح مستخدم ” دون مساس بمسألة الاعتراف بالدولة ولا بمسألة كون الدولة أو عدم كونها عضواً في الأمم المتحدة، وهو ما يعطي الشعب الأحوازي الحق في استعمال العنف المشروع أفراداً وجماعات بغية الحصول على حقوقهم بعد أن استنفذ الأحوازيون جميع الوسائل في معرض نضالهم التاريخي في تقرير المصير.
وعلى أساس ذلك، نص ميثاق الأمم المتحدة على الاستثناءات الواردة على مبدأ حظر استخدام القوة، كالدفاع الشرعي الذي يضطلع به مجلس الأمن استنادًا إلى أحكام الفصل السابع. كما أدى الخلط – لغايات إيديولوجية وسياسية- بين المقاومة كعنف مشروع وبين الإرهاب كجريمة عابرة للغايات والحدود إلى اضطلاع القانون الدولي بمهام التمييز بين المقاومة والإرهاب، دفاعاً واحترامًا للأنشطة التي تقوم بها جماعات التحرير الوطني في إطار حق تقرير مصير الشعوب واستقلالها، وعدم السماح للقوى المحتلة ومن يتحالف معها من الدول لغايات مصلحية في تشويه القيمة الإنسانية والأخلاقية للحق في المقاومة والدفاع المشروع عن النفس، أو أن تتذرع – تلك القوى- بالقضاء على حركات التحرر بحجة محاربة الإرهاب.
لقد غدت المقاومة قيمة إنسانية لتحرير الأوطان من مستعمريها، كما أصبح الحق في العنف المشروع متلازماً مع آليات حفظ السلم والأمن الدوليين، و مبدأً يصب في صلب الدفاع عن حقوق الإنسان المتأصلة، بل وأصبحت مسألة ردع العدوان والاحتلال، يُنظر إليها كأحد المبادئ التي تعزز وتساعد مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية.
الهوامش:
- انظر:المادة /1/ من تقرير اللجنة الخاصة المعنية بتعريف العدوان، عملاً بالقرار 2330 (د – 22) 18 كانون الأول/ديسمبر 1967، أعمال الدورة السابعة المعقودة من 11 آذار/مارس إلى 12 نيسان/أبريل 1974، حول تعريف العدوان
- انظر: المادة /1/ من الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة.
- انظر: د. محمد خالد الشاكر، صناعة القرار الدولي- جدلية العلاقة بين واقعية العلاقات الدولية والقانون الدولي العام” ، إصدارات وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011، ص 150 وما بعدها.
- يوسف محمد القراعين، حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، دار الخليل، عمان، 1983، ص 15 وما بعدها.
- انظر: قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 / 1960، و القرار 3103 / 1978 .
- انظر: بروتوكولي جنيف الأول والثاني لعام 1977، الملحقيين باتفاقيات جنيف للعام 1949، البروتوكول الأول، الفقرة 4 من المادة 1.
- المرجع ذاته.
- انظر: أمل يا زجي، الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن ، دار الفكر ، دمشق ، 2002، ص30.
- Hans J. Morgenthall، Politics Among Nations (New York: Alfred A. Knopf، 1948) p 140
- Niculae Tabarcia، “Power Relations between Realism and Neo- Realism in Hans Morgenthau’s and Kenneth Waltz’s Visions”، Strategic Impact، ، April، 2009.
- على سبيل المثال، اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية لعقود طويلة، كما تصنف الكثير من الدول حزب الله كمنظمة إرهابية، بينما تعتبره دول أخرى مقاومة وطنية.
- انظر: عبد الرحمن أبو النصر، مشروعية استخدام القوة بشأن حق تقرير المصير وعلاقته بالإرهاب الدولي في ضوء القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، مجلة جامعة الأزهر، غزة، سلسلة العلوم الإنسانية 2006 ، المجلد الثامن، العدد الأول، ص
- انظر: مسعود عبد الرحمن زيدان، الإرهاب في ضوء القانون الدولي، دار الكتب القانونية، ط 2007 ، ص 100.
- انظر: نعوم شومسكي، الإرهاب الدولي الأسطورة والواقع، ترجمة صبري لبنى، ط 1990 ، ص 7-9.
- للاستفاضة انظر: د.هيثم موسى حسن، التفرقة بين الإرهاب الدولي ومقاومة الاحتلال في العلاقات الدولية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، عين شمس، 1999، ص 362.
- انظر : محمود زكي شمس، عمر الشامي، الإرهاب الدولي و زيف أمريكا و إسرائيل في ظل قانون العقوبات والقانون الدولي العام، مطبعة الداودي، ط 1، دمشق، 2003، ص 12. وفي الموضوع ذاته: انظر: محمد المجذوب و أحمد سرحان، الإرهاب الدولي في ظل المتغيرات الدولية، منشورات الحلبي الحقوقية، ط 2، بيروت 2009 ، ص 65.