مقدمة
لا يمكن الحديث عن مستقبل إيران داخل النظام الدولي، دون تحديد طبيعة التحولات البنيوية في ماهية الصراع داخل الوحدات المكونة للنظام الدولي من جهة، كما تحديد طبيعة التحول في خريطة الفاعلين التقليديين ( الفواعل الدولية ) في المنطقة العربية، التي تشكل المجال الحيوي للسياسية الخارجية الإيرانية، ابتداءً من إيديولوجيا سياسية تقوم على نشر الفوضى في المنطقة العربية، كسياسية اختصرت محددات الدور الإيراني من خلال الانقلاب على خريطة الفاعلين المؤثرين بدءً من الولوج في تفتيت النظام الإقليمي العربي، من خلال استغلال الخاصرات الرخوة في بنية الدولة العربية القطرية، ومصادرة مكونات بعينها لصالح المشروع الإيراني في المنطقة.
تصاعد الدور الإيراني بدرجة كبيرة مع صعود الفاعلين من غير الدول ( اللاعبين غير الدوليين)، ما عكس أنماط جديدة من التفاعلات التي نتج عنها مستويات جديدة من النشاطات والتأثيرات في تحديد عناصر القوة التي يمتلكها الفاعل في النظام الدولي والإقليمي، وهو الوضع الذي افرز مواقف جديدة وانقسامات حادة داخل النظام الإقليمي العربي، ما أدى إلى تراجع واضح للفاعلين الدوليين المؤثرين في المنطقة العربية، كالجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، ومجلس التعاون في الخليج العربي.
عبر ديناميات طويلة المدى، استطاعت الدولة الثيوقراطية في إيران أن توجه نشاط لاعبيها غير الدوليين، وانطلاقاً من إطار إيديولوجي – ديني، انطلقت من مستويين سارا في طريقين متسقين ومتوازيين أحدهما الصعيد المحلي، وثانيهما على الصعيد العابر للحدود. فعلى الصعيد المحلي، انحصرت بدايات نشاط لاعبيها غير الدوليين في دولة واحدة فقط، كما حصل في المراحل الأولى لـ ” حزب الله في لبنان”.
أما على صعيد الفاعلين غير الدوليين العابرين للحدود، فقد ظهرت في مراحل موجة إقحام الإسلام السياسي في الصراعات الدولية، حيث ربطت إيران علاقتها مع الكثير من الجماعات الجهادية المتطرفة كالقاعدة و تفريخاتها في العالم، ما أهلها لأن تكون لاعباً مهماً في النظام الدولي، بسبب امتلاكها في هذا الخصوص للكثير من الملفات في المنطقة.
أولاً- واقع السياسة الإيرانية في إطار النظام الدولي الجديد:
يمكن اختصار واقع ومستقبل الإستراتيجية الإيرانية بعاملين رئيسيين، أحدهما مرتبط بالأهداف النهائية لهذه الإستراتيجية التي تتمثل بتطلعاتها في المنطقة العربية، الذي تدور في فلكه تداعيات تحدياتها المستقبلية، وذلك في علاقتها مع الغرب، كمفرز جاء نتيجة محاولات إيران في توسيع نفوذها في المنطقة العربية والخليج العربي .
-
الإستراتيجية الإيرانية و النظام الإقليمي العربي:
بالرغم من وجود الدول العربية في قلب عاصفة الأزمات التي تعصف في المنطقة، إلا أنّ ما أفرزته أحداث العقدين الأخيرين، أظهر تراجعاً واضحاً لهذه الدول لحساب أدوار القوى الإقليمية خارج النظام الإقليمي العربي، ويعود ذلك بسبب تزايد الانقسامات التي عصفت بالنظريات التي تأسس عليها هذا النظام، لاسيما الفكر القومي، الذي شكل الإيديولوجيا الواحدة في الكثير من البلدان العربية. وبسبب الأحداث والتحولات القسرية التي طرأت على دول النظام العربي الإقليمي، سواء على صعيد الأحداث الخارجية أو على صعيد العلاقة بين الدول التي حكمتها الإيديولوجيا القومية ذاتها، فقد أدى انحسار هذا النموذج القومي بشكل سريع ومطرد إلى إحداث فراغ سياسي وفكري سرعان ما استطاعت التيارات الدينية المتطرفة أن تملئه بسرعة خلال أحداث الانتفاضات العربية، الأمر الذي أوصل النظام العربي إلى حالة من العجز والضعف المتزايد، الذي ارتبط بشكل أو آخر بتصاعد الأدوار الإقليمية غير العربية، وفي مقدمتها تزايد الدور الإيراني.
ساعد في ذلك أيضاً، إعلان الولايات المتحدة نقل اهتماماتها الإستراتيجية من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيط الهادي لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي فيها، تواكب ذلك مع التوجهات الأمريكية لـ ” أقلمة” صراعات المنطقة، عبر سياسات الانكفاء الأمريكي التي تركت للقوى المحلية حل مشاكلها بنفسها. الأمر الذي يعني زيادة الولايات المتحدة اعتمادها على قوى إقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل، التي أصبحت تقودها من الخلف، لإدارة الصراعات والأزمات العربية، التي وجدت فيها هذه الدول فرصة للتواطؤ والتنافس حول تصفية حساباتها واقتسام مناطق نفوذها في المنطقة العربية الرخوة، وهو ما جرّ سياسات إقليمية تتقاطع تارةً، وتتعارض تارةً أخرى، وفقاً لمصالحها، التي لم تتسق في غالبيتها مع مصالح الدول المعنية، ” فالدول المتجاورة هي أصدقاء وأعداء طبيعيون لبعضها البعض، لاسيما تلك التي تنتمي لمنطقة جغرافية واحدة 1″.
وعلى هذا الأساس، لم يعد النظام الإقليمي العربي إقليماً محصناً ضد تأثيرات الجوار الإقليمي- كما كان في السابق- فحدود التفاعلات والتأثيرات بين العرب وجيرانهم الإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، لتجعل الشرق الأوسط هو الإقليم الأصل، فيما تحوّل النظام الإقليمي العربي إلى نظام فرعي، وغير موجود، وغير ذي فاعلية تُذكر، بل وتوسع الدور الإيراني – في مراحل طويلة- ليكون ساحة للتدخلات في المنطقة العربية، التي أخذت تارة منطق التدخل الثوروي، وتارة أخرى منطق التدخل كدولة وقوة فاعلة في الإقليم، وتارة أخرى التدخل الذي يجمع بين الدائرة المذهبية والمصالح، الأمر جعل من السياسة الإيرانية ذات طبيعة ازدواجية، يصعب فهمها أو التفاهم معها، ما أهلها لأن تكون” عرّابة الفتن” في المنطقة العربية2.
-
إيران والعلاقات المعقدة مع الغرب:
شكلت مسألة تحدي إيران للغرب، محوراً لفك إشكالية جدلية العلاقة بين الدور الإقليمي وموقع إيران في النظام الدولي، وهي النقطة التي انطلقت منها إيران للسعي بأن تكون فاعلاً إقليمياً، يتمسك بحقة في الحصول ما أسمته بـ ” الطاقة السلمية”، التي شكلت ثنائية للشد والجذب بين إيران والغرب، فتلاقى الطرفان في جوانب، قبل أن تتلبور ملامح الخلاف في فترة أحمدي نجاد الذي أعلن بشكل واضح معركته مع الغرب، بقوله أنّ بلاده لابد أن تستخدم كل مورد في معركتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لمتابعة برنامجها للطاقة النووية السلمية”، الأمر الذي عكس أبان تلك المرحلة، نوعاً من الخلاف – لا الاختلاف- الاستراتيجي، بسبب وجود المحافظين أيضاً في الولايات المتحدة، وهو ما أفرز في الكثير من المراحل سياسة إيرانية تقوم التصعيد لحماية نفسها في مواجهة أية ضربة أمريكية، وهو ما أفرز حوارات مصلحية وقتية لا ترقى إلى الحوار الاستراتيجي العميق3.
تحاول إيران في الآونة الأخيرة مواجهة التحديات الاقتصادية والخروج من عزلتها الإيديولوجية داخل النظام الدولي، وهي تعمل الآن على البحث عن بدائل جديدة لها داخل القارة الآسيوية، بالاستفادة من مواقفها السياسية المتقاربة مع الصين، كما محاولاتها في إيجاد موطئ قدم لها في آسيا الوسطى، إلا أنها تصطدم مرة أخرى بالموقف الروسي، الذي يعمل على تحييد كل من إيران و الولايات المتحدة الأمريكية في كامل آسيا من خلال تحويلها إلى تكتل صديق، خصوصاً وانّ مؤشرات النمو الاقتصادي الآسيوي، تؤكد أن يكون القرن الحادي والعشرين سيكون قرن القارة الآسيوية، ومن ثم فإن القدرات السياسية والاقتصادية، التي تتمتع بها بعض القوى الآسيوية الجديدة، ليست مجرد تنبؤات يتوقع حدوثها في المستقبل، لكنها واقع تشير إليه كافة المؤشرات الاقتصادية4، غير أنّ إيران تبدو غريبة أيضاً داخل التكتل الآسيوي ذاته، كدولة ثيوقراطية تستعدي الولايات المتحدة والغرب الذي تربطه بالتكتلات الاقتصادية الآسيوية الكبرى علاقات اقتصادية، لا تؤهل إيران اقتصادياً بأن تكون شريكاً داخل التكتل الآسيوي.
ثانياً- مستقبل إيران داخل النظام الدولي: بين الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي والحرب السورية.
إذا ما تجاوزنا حال المعارضة الإيرانية التي مازالت مرهونة في حراكها بالانقسامات الغربية – البراغماتية بشأن الموقف من إيران، وهو الحال ذاته الذي يبدو فيه تأثير الدول العربية الأكثر تضرراً من إيران في المنطقة، وذلك في عدم قدرتها على تحييد الدور الإيراني بسبب الاختلافات البنيوية التي أورثتها إيران داخل النظام الإقليمي العربي، الذي انقسم إلى محورين، أحدهما ما سُمي بـ ” محور الممانعة”، الداعم لها، ولا يجد غضاضة في الأدوار الإيرانية في المنطقة في معرض تجاذبات حادة بين الدول العربية ذاتها، قابله المحور المعادي لإيران أو ما أطلق عليه بـ ” محور الاعتدال”.
وعليه، فإنّ تحييد السلوك الإيراني مستقبلاً، يتحدد بعاملين أساسين كلاهما مرتبط بموقف الولايات المتحدة الأمريكية من إيران. العامل الأول هو التصعيد الأمريكي بعد الانسحاب من الاتفاق النووي.
أما العامل الثاني فهو الوجود الإيراني في سورية، الذي جاء نتيجة لتصعيد أوصل المليشيات الإيرانية في سورية إلى حدود إسرائيل، وسيطرة هذه المليشيات على طريق طهران- دمشق – بيروت فالمتوسط، ما يعني تجاوزاً لشكل العلاقة البراغماتية الصعبة بين البلدين.
-
الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي:
قبل وصوله إلى سدة الرئاسة، أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفضه للاتفاق النووي الإيراني، بل ووصفه بالاتفاق الذي يخدم إيران وحدها، ولم يختلف في سياسته بعد استلامة السلطة، وزاد على ذلك اتهامه بدعم إيران للإرهاب في الشرق الأوسط عبر حزب الله والقاعدة، وزاد ذلك في تغيرات داخل إدارته ذاتها عندما أقال ريكس وزير الخارجية ” ريكس تيلرسون” واستبدله بـ ” بومبيو” رجل المخابرات الذي لا يخفي عداءه لإيران، كما معارضته للاتفاق النووي، كما استقدم ترامب ” جون بولتون” مستشاراً للأمن القومي الأمريكي، وأحد أهم المعارضين للنظام الإيراني، والذي لطالما دعا لضرورة مهاجمة إيران في كل مناطق نفوذها، والمعروف عن معارضته للانسحاب الأمريكي من العراق، تخوفاً من دور إيراني بتداعيات خطيرة على المنطقة.
مواقف إدارة ترامب هذه، شكلت فرصة جديدة لإسرائيل، للانقضاض على إيران التي أصبحت تمتلك جبهة جديدة ضدها في سورية، كما فرصة للدول الخليجية، التي وجدت في التغوّل الإيراني في سورية مقدمة لاستحواذ إيران على كامل المنطقة، بسبب موقع سورية الاستراتيجي في الشرق الأوسط. لاسيما وأن هذه القوى كانت ترى أن إدارة أوباما تهاونت مع إيران وسمحت لها بالتمدد في المنطقة، بل ونشطت اللوبيات داخل الولايات المتحدة للضغط أكثر على إيران.
قابل ذلك تردد أوروبي أصبح يشير إلى نهاية التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وأوروبا، التي أصبحت بمشارب متعددة الاتجاهات فيما بينها، حتى على صعيد بنية الاتحاد الأوروبي. لذلك رأت بعض الأطراف الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، أنّ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي كان خطأً كبيراً، وهو الرأي الذي لا ينم عن رغبة أوروبية حقيقة للتقارب مع إيران ، بقدر ما يعكس توجهات براغماتية تكتيكية، في مقدمتها التخوف مع الدولة المقلقة إيران، والتي تمتلك الكثير من الملفات المتعلقة بعلاقتها مع الإرهاب ما يهدد الداخل الأوروبي هذا من جهة، كما الرغبة الفرنسية الألمانية في الدخول إلى السوق الإيرانية والاستثمار فيه، وهو العامل الذي ستعرقله العقوبات الاقتصادية. فقد بلغ إجمالي الواردات الإيرانية من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندة، نحو 5.2 مليار دولار خلال العام 2018، ومن المؤكد أن أوروبا ستخسر هذه المليارات في حال انهيار الاتفاق النووي بالكامل.
بالرغم من ذلك لم تأبه إدارة ترامب بالمحاولات الأوروبية، أو الرغبة الصينية، وقررت الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. لذلك، وأمام الرؤية الأوروبية تجاه إيران، تقف الولايات المتحدة أمام ضرورات الحسم، وإلا فإن التردد ستكون له منعكساته السلبية على الشريك الاستراتيجي الأوروبي، وتهديداً حاصلاً لثقافة للغرب الأطلسي برمته هذا من جهة، كما يهدد مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، الأمر الذي لا يمكن معه ترك الباب مفتوحاً للاحتمالات والتكهنات.
لا يبدو على المدى القريب، وفي خضم صراع مشتعل تشكل إيران أحد أهم فواعله في المنطقة، أن هناك رأياً حاسماً لدى صناع القرار الأمريكي، قد يفضي إلى تغيير النظام الإيراني بشكل جذري بما يتسق وشكل التصريحات المعلنة أو رؤية الشخصيات المعينة في الإدارة الأكثر عداءً لإيران. ونعتقد أنّ البراغماتية الأمريكية مازلت تعوّل على القوى المحلية في تحييد هذا الدور، الذي يأملون من خلاله أن يمهد لطي صفحة نظام الملالي بالتوازي مع طي صفحة الإسلام السياسي في المنطقة، لذلك تحاول الولايات المتحدة الضغط أكثر من خلال أعداء إيران ومدى قدرتهم على تحييد الدور الإيراني، وخصوصاً في سورية والعراق واليمن5.
يمكن القول: أنّ الولايات المتحدة مازالت تدور في فلك سياسة إدارة أوباما التي تقوم على الانكفاء وعدم التدخل، ولكن الفرق بينهما أن إدارة ترامب تريد أن تحييد أو تقضي على النظام الإيراني دون أن تتدخل أو تخسر شيئاً. لذلك يرى صناع القرار الأمريكي في الإدارة الأمريكية الجديدة – التي تعتبر الأشد عداءً من سابقاتها- أنّ العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، ستؤدي إلى رغبة أمريكية طويلة المدى لخنق إيران اقتصادياً في الوقت الذي أصبح فيه النظام الدولي يقوم على القوة الاقتصادية الناعمة، في مواجهة تراجع الإيديولوجيا الصلبة.
الأهم من ذلك، يبدو أن الإدارة الأمريكية، ترى في هذا الضغط مرحلة تكتيكية مهمة لإفساح المجال لمفاوضات جديدة بشروط أمريكية، ستؤدي في نهاية المطاف إلى كبح طموحاتها في دعم ذراعها الأهم في سورية حزب اللبناني، وغيرها من الأنشطة المارقة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وعليه تحاول الولايات المتحدة العمل بطريقة أكثر تعقيداً لشل الاقتصاد الإيراني خلال بضع سنوات قادمة، وبالتالي فإن التزام إيران بشروط الاتفاق النووي التي قدمتها منذ العام 2016، والمتعلقة بالشركات التي أزيلت من قائمة العقوبات، لن يكون له جدوى إذا أقدمت إدارة ترامب على تحديد أساس قانوني جديد لتحديد الشركات التي تريد الولايات المتحدة فرض عقوبات عليها.
-
إيران في سورية: سياسة شفير الهاوية.
تدور في أروقة صناعة القرار الأمريكي اليوم حقيقة مفادها، إن إعلان الإدارة الأمريكية الانسحاب من الاتفاق النووي، في الوقت الذي يتصاعد فيه الدور الإيراني في سورية، الذي تزامن مع وصول أعداء إيران من صقور الإدارة الأمريكية إلى السلطة ( بومبيو وجون بولتون)، هو إعلان حرب واسعة في المنطقة، فالجميع موجودون في ساحة القتال في سورية ( أمريكا، إسرائيل، إيران، روسيا)، إلا وقائع التاريخ الأمريكي خلال العقدين الماضيين، تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها خوض حرب كهذه بدون شراكة حلفائها الأوربيين في – كثقافة مشتركة للغرب الأطلسي- وهي ظلت حريصة كل الحرص في تحقيق هذه المعادلة، وخير دليل على ذلك أن الضربات الأمريكية العسكرية المحدودة في سورية، ما كانت لتتم لولا الدعم والمشاركة الأوروبية، فالولايات المتحدة لم تُقدم على مواجهة المنشآت الكيماوية السورية إلا بمشاركة ودعم فرنسي بريطاني. الأمر الذي يؤكد استبعاد فرضية توجيه أية ضربة عسكرية أمريكية ضد إيران بدون الموافقة والدعم الأوروبي، فهي – أي الولايات المتحدة الأمريكية- ستجد نفسها معزولة عن حلفائها الذين مازالوا يدعمون إيران.
أما القول بضربة أمريكية ضد إيران بالاتفاق مع حلفائها الخليجيين و الإسرائيليين، فهو دون شك سيؤدي إلى جرب شاملة لن يتحملها الجميع، لاسيما وأن إسرائيل مازالت تقوم بشن هجمات استباقية على أهداف إيرانية في سورية، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ طبول الحرب الشاملة تقرع، بالرغم من الغضب الإيراني من الانسحاب من الاتفاق النووي، خصوصاً بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي شدد فيه بقوله: ” إنّ الاتفاق النووي مازال باقياً، وإذا رأينا أن مصالحنا لن تتحقق، فسوف نتخذ القرارات اللازمة”. الأهم من ذلك كله، أن أكثر ما يهدد إيران اليوم، هو احتمالات خسارتها الإستراتيجية من فقدان النظام الحالي في سورية، وقد ربط أكثر من مسؤول غربي بين هذا السقوط وبين خسارة إيران استراتيجياً. يقول روبرت فيسك في مقالة نشرها بتاريخ 30/7/ 2012 في صحيفة الأندبندنت أون صنداي، ” إنّ السعي لضرب الدكتاتورية السورية لا يعود إلى محبتنا للشعب السوري أو كراهيتنا لصديقنا السابق بشار، وليس بسبب غضبنا من روسيا، بل بسبب رغبتنا في توجيه ضربة إلى النظام في إيران من خلال ضرب حليفه6″.
لقد فرضت الحرب السورية متغيرات جديدة فرضت نفسها على خرائط توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط، فلم تعد الدولة الوطنية هي الفاعل في تلك المنطقة، فلقد تداعت خرائط ” سايكس بيكو” وتأسست خرائط جديدة لمنظمات إرهابية لا تعترف بالحدود الوطنية، ساهمت إيران بشكل رئيسي في إعطائها الزخم اللازم ( كما حدث في الموصل)، في محاولة إيرانية لخلط الأوراق وإعادة هيكلة التحالفات في المنطقة، من خلال جر الولايات المتحدة الأمريكية لتعاون إيراني- أمريكي لمواجهة تصاعد نشاط ما يعرف بـ ” تنظيم الدولة الإسلامية”. وبما يساهم بتدشين انفتاح محتمل من قبل الأوروبية على نظام الأسد، إلا أنّ ذلك لم يحصل ولم تفلح سياسات ” الإقلاق” الإيرانية في الاستفادة من تقليدية هذه السياسية. فقد أظهر التحالف الدولي ضد ” تنظيم الدولة الإسلامية استبعاداً لكل من دمشق وطهران، ما يعني حرمان الأخيرة مستقبلاً من التفاوض على الطاقة النووية على المدى البعيد، ومنذ تلك اللحظة أدركت إيران بأنها أصبحت هدفاً استراتيجياً لصناع القرار في الولايات المتحدة، وهو الهدف الذي يتجاوز دور مؤسسة الرئاسة وتغيراتها، بقدر ما أصبح إستراتيجية ثابتة لا تتغير بتغير الإدارة الأمريكية7، وهو ما اثبتته بالفعل السياسات الأمريكية في المراحل اللاحقة للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، وتداعيات الاستقطاب الحاد مع وصول ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية.
-
التحديات الإستراتيجية، التي تواجه موقع إيران كقوة إقليمية:
تواجه إيران اليوم جملة من التحديات الإستراتيجية، التي أصبحت واقعاً قد يهدد مستقبل إيران وطموحاتها المستقبلية في المنطقة، سواء على الصعيد الدولي في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو على الصعيد الإقليمي في علاقتها مع تركيا، التي أصبحت لاعباً يكاد يطغى على إيران في سورية التي أصبحت ” درة التاج الإيراني” في المنطقة، كما التحديات التي تواجه إيران من قبل روسيا، التي أصبحت تستحوذ ملفات المنطقة بسبب الصراع في سورية، التي تعتبرها روسيا آخر موطئ قدم لها في البحر المتوسط.
تُصنف الولايات المتحدة الأمريكية إيران اليوم، بأنها الراعي الرئيسي للإرهاب في المنطقة. لذلك فإن ثمة صعوبات تواجهها في الكثير من ملفات المنطقة، لاسيما تلك التي لها تماس مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وقد طالبت واشنطن عبر الأمم المتحدة بضرورة إخراج إيران وحلفائها من سورية كما إخراج التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي يعني أنها صنفتها في مصاف ما يعرف بـ ” تنظيم الدولة الإسلامية” وتنظيم ” جبهة النصرة” أحد فروع تنظيم القاعدة.
قابل ذلك رفضاً إيرانياً للوجود الأمريكي في سورية، نافيةً الأنباء القائلة بأن دخول الولايات المتحدة لشمال سورية تم بناء على تفاهمات ثنائية بينهما. وفي هذا السياق تتخوف طهران من مستجدات العلاقات بين القوى الدولية والإقليمية بشأن الملف السوري، وفي ذلك صرّح رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني” أنّ تدخل أمريكا في سورية ليس لصالحها، وحضور قوات المارينز لم يكن بالتنسيق مع طهران، و لا نهدف إلى تحقيق مصالح خاصة في سورية8″، كما تنظر إيران بعين الريبة لحالة التقارب الواضح بين روسيا وتركيا، الذي نتج عنه تواجد عسكري تركي في شمال سورية، كحالة خلقت توازناً بين المليشيات الأجنبية على الأرض، سواء منها الفصائل الإسلامية التي تأتمر بالتوجهات التركية، أو المليشيات الطائفية التي تأتمر أيضاً بالتوجهات الإيرانية، إلى جانب مليشيات قوات سورية الديمقراطية. الأمر الذي يعني تقليصاً لدور إيران ميدانياً وسياسياً في أهم مناطق إستراتيجيتها، بالإضافة لذلك فإيران تتخوف أكثر من احتمالات تطور التفاهمات الأمريكية- الروسية، مما يساعد في إخراج روسيا من دائرة حلفاء إيران، أو على أقل تقدير سيؤدي ذلك إلى تراجع مستوى التعاون بينهما عما كانت عليه الأمور قبل التواجد العسكري لإيران في سورية، وهو ما ظهرت بوادره على العلن، عندما لم تبدي روسيا أي موقف تجاه الضربات الإسرائيلية الموجعة للقوات الإيرانية وميليشياتها في سورية، حيث أظهرت الضربات عدم اكتراث روسيا بتداعيات ذلك على العلاقة بينها وبين حليفها الإيراني المفترض.
خاتمة
يبدو أن إيران قد وقعت في فخ صراعاتها الكلاسيكية القائمة على تثوير العوامل الإيديولوجية – طائفياً- بينما كانت وتيرة النظام الدولي تتسارع بنوع جديد من دبلوماسية الأندية الاقتصادية، والتنافس القائم على العوامل الاقتصادية والتنموية، كما تصاعد دور الحرب السيبرانية ( الحرب الالكترونية)، التي أصبحت فاعلاً يتجاوز فكرة الإطار الإيديولوجي التقليدي، الذي تعمل عليه الدول الشمولية، الأمر الذي جعلها تعاني من استنزاف متسارع ليس في مناطق تمددها وحسب، بل في الداخل الإيراني ذاته، الذي بات على فوهة بركان من المشاكل الاقتصادية، التي أصبحت تفرز آفات مجتمعية خطيرة من الفقر والبطالة وانتشار المخدرات بين صوف الشباب.
وعليه، و منذ الثورة الخضراء 2009، يبدو التململ الذي أبدته الكثير من القوى الإيرانية من سياسات التدخل، حين رفع المتظاهرون – لأول مرة- شعارات كسرت المقدس الإيديولوجي الصلب داخل الدولة الدينية، مثل شعار ” يسقط الدكتاتور” و ” لا لبنان لا غزة”، في إشارة لبداية انهيار الأساس الإيديولوجي الذي تأسست علية ” الجمهورية الإسلامية” ، التي مازالت – حتى هذه اللحظة- تُصنف داخل نسق النظام الدولي بأنها مجرد ” دولة مقلقة” لا أكثر، ودولة مازالت تعاني من عدم قدرتها على الاندماج في المجتمع الدولي، ما يمهد لهزات عنيفة على المدى المنظور، وهي الحتمية التاريخية التي طالت كل الدول الثيوقراطية عبر التاريخ. إذ تشير وقائع التاريخ أنّ نهايات الدول الدينية الخارجة عن النظام الدولي، غالباً ما تكون مقدمة لإعادة صياغة نظام دولي جديد، تماماً كما حصل بعد نهاية حكم الكنيسة في أوروبا، الذي أورث حرب الثلاثين عاماً، وكما حصل مع الدولة العثمانية، التي أرثت حرب القرم والحربيين العالميتين الأولى والثانية. النهايات ذاتها، تقف أمامها اليوم، الجمهورية ” الإسلامية”، بعد أكثر ما يقارب الأربعين عاماً من الحروب التي أخذت ما يكفي من حروب دينية، تقتضي معها ولادة نظام دولي وإقليمي جديد.
الهوامش:
- د. عبد الله يعقوب بشاره و اخرين، ” علاقات اليمن بدول مجلس التعاون في ” دول مجلس التعاون ودول الجوار”، اللقاء السنوي الثامن عشر لمنتدى التنمية، الكويت،الطبعة الاولى، دار قرطاس للنشر، 20- 21 شباط/ فبراير1997، ص 145، الرابط https://www.gulfpolicies.com/attachments/article/2304/دول%20مجلس%20التعاون%20والجوار.pdf
- للاستفاضة انظر: د. محجوب الزويري، ” العبء المذهبي: العوامل الحاكمة للسياسة الإيرانية تجاه العالم العربي”، ملحق تحولات استراتيجية، مجلة السياسية الدولية، الأهرام، العدد 199، كانون الثاني/ يناير 2015، ص 19-20.
- مصطفى أبوحلوة. (2006). ندوة إيران والنظام الدولي سيناريوهات المستقبل. ندوات وموتمرات، الرابط http://www.siironline.org/alabwab/nadawat%20&%20motamarat%20(08)/037.htm
- انظر: حسين صوفي محمد، ” إيران وكازاخستان: محددات التقارب”، مجلة مختارات إيرانية، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، السنة السادسة، العدد 69 أبريل 2006، ص 103
- Peter Harrell, ) foreignaffairs. (2018). “The Challenge of Reinstating Sanctions Against Iran” https://www.foreignaffairs.com/articles/iran/2018-05-04/challenge-reinstating-sanctions-against-iran
- د. طلال عتريسي. (2015). ” الرهانات الإقليمية لتركيا وإيران بعد الربيع العربي”، مجلة شؤون عربية، إصدارات الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 161 ، ربيع 2015، ص 51. الرابط http://arabaffairsonline.org/article.php?p=47
- للاستفاضة انظر: محمد عباس ناجي، إيران واللاعبون الجدد في الشرق الأوسط، ” مختارات إيرانية”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، السنة الرابعة عشر، العدد 167، يوليو/ أغسطس 2014 ، ص 4.
- عمر هواش، ” لاريجاني : تدخل أمريكا في سورية ليس لصالحها، وحضور قوات المارينز لم يكن بالتنسيق مع طهران، و لا نهدف إلى تحقيق مصالح خاصة في سورية”، جريدة رأي اليوم، 13 مارس/آذار/ 2017. على الرابط: https://www.raialyoum.com/index.php/