مقدمة
المتتبع لتاريخية العلاقات بين الدولة العثمانية وبلاد فارس، والمعاهدات المعقودة بين الدولتين، يلاحظ أن أساس جميع الخلافات بين الدولتين، إنما تتعلق بالنزعة التوسعية، التي ميزت الطموحات فكرة الإمبراطوية، أكثر من كونها علاقات تتعلق بالدفاع عن حقوق تاريخية مكتسبة. وهو ما يميز الصراع التاريخي في الإقليم بين العثمانيين والفرس.
تميزت العلاقات بين الدولتين العثمانية والفارسية بصراعات وحروب ذات أبعاد اقتصادية، تركزت حول السيطرة على طرق الملاحة، فجرت محاولات لبسط نفوذ القوتين العثمانية والفارسية على الحدود في شط العرب. ما جعل العلاقات بين الدولة العثمانية وبلاد فارس، تمر بمراحل طويلة من التوتر، نشب على أثرها حروب طاحنة، دفعهما في فترات تاريخية عديدة، لعقد العديد من المعاهدات، التي كانت تعكس في كل مرحلة تفاهمات مرحلية تصب في إطار التنافس على المصالح وتقاسمها، الأمر الذي جعل من هذه المعاهدات في مهب حالة الصراع. لذلك تميزت جميع الاتفاقات بين الدولتين، بكونها مجرد حالة من التفاوض المحكوم بخلفيات سياسية، وهو ما حصل في معاهدة أرض روم الأولى سنة 1823م، التي حاولت حل مشاكل الدولتين العثمانية والفارسية عن طريق التفاوض.
لم تهدأ عقيدة الصراع بين الدولتين العثمانية والفارسية، بسبب استناد هذه العقيدة على نزعة السيطرة والاحتلال، إذ تفتقر الدولتان لأي حقوق تاريخية تشرعن لأي منهما إثبات أحقيته في السيطرة، لذلك فقد ظلت الخلافات قائمة بينهما، دون الوصول إلى أية وثيقة تثبت حق الملكية، وهو ما ظهر جلياً بانهيار معاهدة أرض روم الأولى 1823م ، التي لم تنجح في معالجة تلك المشاكل وفي مقدمتها مشكلة الحدود، بسبب عدم امتلاك الطرفين لأي مستند تاريخي، يثبت أحقية أي منهما في الملكية، بقدر ما جنحت إلى مبدأ القوة في العلاقات الدولية، الذي لا يشكل أي سند تاريخي يجيز لأحدهما ديمومة السيطرة.
أمام ذلك، لجأت الدولتان العثمانية والقاجارية سنة 1837 إلى الوساطة البريطانية والروسية، فأصبحا أطرافاً في التفاوض، يبحث كل منهما عن حصته في إطار عقيدة الصراع والقوة، وتقاسم النفوذ، الذي خلط الأوراق من جديد، وأدى في نهاية المطاف إلى عقد معاهدة أرض روم الثانية 1847، التي تنازلت فيها الدولة العثمانية عن المحمرة وجزيرة الخضر (عبادان)، مقابل عدم مطالبة القاجاريين بمدينة السليمانية.
أولاً- الأسباب المباشرة لمعاهدة أرض روم الثانية 1847: الدولة الكعبية في عين العاصفة.
شكلت معاهدة أرض روم الأولى 1823 اعترافاً واضحاً بالدولة الكعبية، إذ لم يكن هذا الاعتراف بسبب التجاذبات الدولية بين القوى المتصارعة حينذاك (الدولة القاجارية والدولة العثمانية وبريطانيا)، بقدر ماجاءت اعترافاً بواقع الدولة الكعبية وامتلاكها لمقومات السيادة تاريخياً وثقافياً وببلوغرافياً وجغرافياً. الأمر الذي دفع الأطراف من جديد لإيجاد صيغة توافقية لحل جميع المشكلات العالقة. وفي مقدمتها الرغبة القاجارية في الضغط على كل من البريطانيين والعثمانيين، فبادرت الدولة القاجارية باتخاذ بعض الإجراءات العسكرية، التي تحرشت من خلالها بالدولة العثمانية، في محاولة منها لإعادة خلط الأوراق من جديد، ففي سنة 1840، هاجمت الدولة القاجارية السليمانية التي كانت تطالب بضمها، واجتاحت جيوشها المحمرة، ووصلت القوات القاجارية بقيادة محمد شاه القاجاري (1834- 1848) إلى حدود بغداد للتلويح بقدرتها العسكرية على احتلالها (١) ، واستمرت المناوشات بين الدولتين العثمانية والقاجارية طوال سنتي 1841 و1843. إلا أن العثمانيون وفي محاولة منهم لتخفيف الضغط على السليمانية، تمكنوا من دخول أراضي الدولة القاجارية ومهاجمة مقر الوالي في وادي أردلان(٢)، فعادت القوات القاجارية وتصدت لها وهزمتها، ما أدى إلى اشتداد حدة الصراع بين الطرفين، وتصاعدت حدة الاتهامات بين الدولتين بخرق الاتفاقات والمعاهدات التي بينهما، وأخرها معاهدة أرض روم الأولى 1823، التي رأى فيها الطرفان أنها لم تحدد بدقة الحدود بين الدولتين(٣)، وفي مقدمتها منطقة المحمرة، التي رأى فيها الطرفان أنها مازالت غير تابعة لأي منهما، الأمر الذي وضع الدولة الكعبية المستقلة حينها، مكسراً لعصا التجاذبات بين الدولتين، وأنّ جميع المعاهدات والاتفاقيات بين البلدين ومنها معاهدة ” نادر شاه” 1746 ، التي عقدت قبل مائة عام تقريباً بين الدولتين، و حددت جميع الأراضي الفاصلة بينهما، بدءاً من أقصى الشمال في وان وقارص، مروراً بشهرزور وبغداد والبصرة، إلا أنها لم تحدد موقع منطقة المحمرة والسليمانية، وأن معاهدة أرض روم الأولى 1923، قد عُقدت على عجل بغرض التوصل لإنهاء الحرب، فأعادت العلاقات الطبيعية بين الدواتين القاجارية والعثمانية بسبب حالة الصراع المحتدم، لكنها لم ترسم الحدود بينهما، ولم تحل مشكلة المحمرة والسليمانية، ومشكلة تنقل العشائر بين أراضيهما(٤).
أ: الأحواز ومفاوضات أرض روم الثانية: في دلالات التشدد القاجاري حيال احتلال المحمرة
تشير التقارير والوثائق التي مرت بها مفاوضات أرض روم الثانية، ، رغبة كل بريطانيا وروسيا في إطار مصالحهما الخاصة، فرئيس الوفد الروسي في المفاوضات كان يؤيد المطالب القاجارية بالحصول على الأحواز والسليمانية، لكي تعوض الدولة القاجارية عن مدينتي روان ونخجوان التابعتين للدولة القاجارية، واللتين استولت عليهما روسيا بشكل رسمي(٥) أما بريطانيا التي كانت تخطط لزيادة نفوذها في العراق ، فقد اهتمت هي الأخرى بمفاوضات أرض روم الثانية 1847، وقد ظهر هذا الاهتمام عندما عينت بريطانيا مندوب خاص لها في بغداد، مهمته متابعة شؤون الحدود مع الدولة القاجارية، وتشير بعض الوثائق العثمانية، إلى أن بريطانيا كانت تؤيد أيضاً الدولة القاجارية في مطالبتها بالأحواز، مقابل تعهد القاجاريين بأن بحرية بريطانيا في التجارة الحرة في ميناء المحمرة (٦).
أما بالنسبة للموقف القاجاري، فقد رافق المفاوضات بين أعوام 1843 و1847 الكثير من التشنجات التي كانت تترجم على شكل هجمات متفرقة على الأرض، بسبب تعنت الجانب القاجاري بالمطالبة بالمحمرة وزهاب منذ بداية المفاوضات (٧)، الأمر الذي يكشف عن تبعية الأحواز للدولة القاجارية خلال تلك المرحلة.
ب: دلالات إصرار الدولة القاجارية على احتلال الأحواز
بالرغم من الأوضاع المتوترة التي رافقت المفاوضات قبل الاتفاق على المعاهدة. فقد أصرت الدولة القاجارية على ضم الأحواز، فقامت بمجابهات عسكرية ضد العمانيين في أواخر سنة 1843، وزاد من هذا الإصرار من قبل الدولة القاجارية مبادرة الدولة العثمانية سنة 1846 إلى وضع سفينة عسكرية في مصب نهر كارون في شط العرب، لمنع السفن التجارية المتجهة إلى ميناء المحمرة من بلوغ هدفها، وإرغامها للذهاب إلى ميناء البصرة لإجبارها على دفع الرسوم الجمركية قبل السماح لها بالوصول إلى ميناء المحمرة. ويبدو أنّ العثمانيين كانوا يريدون من وراء ذلك تحقيق هدفين:
الهدف لأول- إنعاش ميناء البصرة بعد أن تراجعت فيه حركة الملاحة
بسبب تحول جزء كبير من تجارة المنطقة إلى ميناء المحمرة، بسبب العلاقات المتينة التي تربط الدولة الكعبية بجيرانها.
الهدف الثاني- رغبتهم في دخول بريطانيا على خط المفاوضات
وهو ما حصل، عندما أرسلت بريطانيا رسائلها إلى الدولة القاجارية، وإفهامها بأن لا سلطة لها على ميناء المحمرة، وأنها قادرة على فرض ” نوع من السلطة ” على ميناء المحمرة، بعد الرسائل التي وجهتها بريطانيا للدولة الكعبية بالدفاع عنها وحمايتها في مواجهة أي خطر خارجي يتهددها. وبالتالي محاولة بريطانية لإثبات نوع من الحقوق للدولة العثمانية في ميناء المحمرة، في مواجهة المطالبات الإيرانية بالاستحواذ على الميناء. وفي سبيل ذلك احتجت الدولة القاجارية بشدة على وجود السفينة الحربية في نهر كارون، ما دفع البريطانيين للعب على هذه التوترات، فقدمت دعمها للدولة القاجارية، الأمر الذي دفع والي بغداد إلأى سحب السفينة نحو ميناء البصرة (٨)، لذلك اشتغلت بريطانيا على نزع فتيل هذه الأزمة مع الدولة القاجارية، لاسيما وأنّ مفاوضات أرض روم الثانية، بدأت تتكشف نواياها، وأصبحت تسير نحو تبعية الأحواز للدولة القاجارية.
– وعلى هذا الأساس، عادت الدولة الكعبية لتكون في قلب عاصفة التواطؤ والتنافس العثماني القاجاري، التي دفعت نحو مجموعة من الاشتباكات الحدودية، التي دفعت الدولة القاجارية والدولة العثمانية إلى حافة الحرب من جديد. ما أدى إلى تكرار سيناريو المصالح الدولية، عندما تدخلت كل من بريطانيا والامبراطورية الروسية، اللتين عرضتا وساطتهما في التفاوض بين الدولتين، وبالتالي لعب أدوار جديدة تحقق لهما مصالحهما من الصراع الدائر بين القاجاريين والعثمانيين.
ثانياً- أرض روم الثانية 1847: إطالة أمد المفاوضات والتواطؤ البريطاني الروسي
تم توقيع معاهدة أرض روم الثانية في مايو 1847، حيث قسمت هذه المعاهدة المنطقة المتنازع عليها بين القاجاريين والعثمانيين، ونصت على تشكيل لجنة لترسيم كامل الحدود بين الدولتين، في اتساق مع الكثير من الأحداث السياسية، التي لم تنجح في رسم حدود الدولتين إلا في العام 1914، الأمر الذي يكشف الأسباب الحقيقة وراء إطالة أمد المفاوضات، التي كشفت تواطؤ كل بريطانيا وروسيا في تصفية حساباتهما في خضم الصراع المحتدم بين الدولتين القاجارية والعثمانية.
أ: إقحام الدولة الكعبية في الصراع الدولي:
قبل عقد اتفاقية أرض روم الثانية 1847عجزت الدولتان العثمانية والقاجارية من ضم الأحواز إلى حدودهما، وقد جاء ذلك جلياً في التفاهمات التي أعربت عنها الدولتان في الأسباب التي دعتهما لعقد معاهدة أرض روم الثانية، بالرغم من حالة الصراع المحتدم بينهما، فاشتغلا على التواطؤ فيما بينمها، من خلال بعض التفاهمات، التي كان من أهم أسبابها عجزهم في تحقيق أي تقدم في خلافاتهما بالعراق. وعلى هذا الأساس كان لابد من إدخال الدولة الكعبية في خضم صراع دولي وإقليمي مستعر، نجحت من خلاله في الإبقاء على منعتها وتوازنها الداخلي.
وعلى أساس ذلك، جاءت أهم بنود معاهدة أرض روم الثانية31 مايو / أيار 1847، التي تمخضت عن تفاهمات أبرزها التخلي عن المحمرة للدولة القاجارية، الأمر الذي يشكل عدواناً سافراً على السيادة الأحوازية، و خرقاً واضحاً لأهم مبادئ العلاقات الدولية إبان تلك المرحلة، كما يشكل – في التاريخ المعاصر واستناداً لميثاق الأمم المتحدة – عدواناً سافراً على حق متأصل في القانون الدولي، لا يطاله السقوط بالتقادم ( مرور الزمن)، كون الحقوق المتأصلة تعتبر قاعدة آمرة في القانون الدولي، لا يجوز الاتفاق على تجاوزها، كما تشكل المعاهدات التي تشكل خرقاً للحقوق المتأصلة باطلة بطلاناً مطلقاً.
ب: آليات تنفيذ بنود معاهدة أرض روم الثانية 1847:
تنازلت الدولة القاجارية عن السليمانية للدولة العثمانية، قابلها تنازل الدولة العثمانية للدولة القاجارية عن الأحواز. ومما جاء في بنود المعاهدة، أن تتنازل الدولتان عن كل ما للواحدة للأخرى من إدعاءات مالية في الوقت الحاضر، على شرط أن لا يترتب مساس بالأحكام الموضوعة لتسوية الادعاءات. فتعهدت الحكومة الفارسية بأن تترك للحكومة العثمانية جميع الأراضي المنخفضة أي الأراضي الكائنة في القسم الغربي من منطقة زهاب، كما تتعهد الحكومة العثمانية، بأن تترك للحكومة الفارسية القسم الشرقي، أي جميع الأراضي الجبلية من منطقة المذكورة بما في ذلك وادي كرند، يقابله تنازل الحكومة القاجارية عن كل ما لها من ادعاءات في مدينة السليمانية، وتتعهد رسمياً بأن لا تدخل في سيادة الدولة العثمانية على تلك المنطقة، أو تتجاوز عليها، وتعترف الدولة العثمانية بصورة رسمية بسيادة الحكومة الفارسية التامة على مدينة المحمرة، ومينائها وجزيرة خضر (عبادان) المراس والأرضي الواقعة علي الضفة الشرقية، أي الضفة اليسرى من شط العرب، التي تحت تصرف العشائر.
بالتالي اعترافاً من الدولة العثمانية بتبعية هذه الأجزاء للدولة القاجارية، كما أعطت معاهدة أرض روم الثانية 1847 الحق للسفن والمراكب القاجارية بحق الملاحة في شط العرب بملء حريتها. وقد اتفق الطرفان المتعاقدان بالتنازل استناداً لهذه المعاهدة عن ادعاءاتها الأخرى المختصة بالأراضي، وتعهدا بأن يعينا حالاً ممثلين عنهما من أجل تقرير الحدود بين الدولتين. كما قدم كل من الممثل الروسي والممثل البريطاني في الآستانا، مذكرة إيضاحية إلى الدولة العثمانية، حول بعض الشروط الواردة في معاهدة أرض روم الثانية إلى الحكومة العثمانية في 26 إيريل/ نيسان 1847، معربين عن رغبتهما بالالتزام في إزالة الغموض العالق بذهن الباب العالي حول جميع المسائل المذكورة اعتراضات الدولة العثمانية ، حيث صرح السفيران الروسي والبريطاني ” أن مرسى المحمرة هو القسم الواقع مقابل مدينة المحمرة في قناة الحفار، وأن الممثلين الموقعين يشاطران الدولة العثمانية رأيها بأن قيام الدولة العثمانية بتركها مدينة المحمرة ومينائها ومرساها وجزيرة خضر(عبادان) للدولة القاجارية، لا يعني تخليها عن أية أراضي أو موانئ أخرى موجودة في تلك المنطقة”.
أدى عقد معاهدة أرض روم الثانية عام 1847 بين العثمانيين والقاجاريين، إلى تبعية الأحواز للدولة القاجارية، إلا أنّ ذلك لم يثني من عزيمة الشيخ جابر الكعبي وأبناءه ومن بعده، الذي رفضوا الخضوع للدولة القاجارية، ولم يعترفوا بمعاهدة أرضروم الثانية التي اشتغلت على سلب حقهم في سيادة دولتهم. فتعرضت الأحواز في عهد الشيخ جابر إلى غزو بريطاني عام 1857، لم يدم أكثر من مدة ثلاثة أشهر.
خاتمة
مما تقدم نستنتح، أنّ معاهدة أرض روم الثانية 1847 لم تتمكن من حسم مسألة ترسيم الحدود بشكل قانوني وفعلي، بسبب الأوضاع الواقعية التي كانت تتمتع بها الدولة الكعبية حينذاك، إذ مارست سيادتها أبان تلك المرحلة بشكل فعلي وقانوني على الأحواز. لذلك لم تتمكن أقوى الامبرطويات أبان تلك المرحلة من تجاوز هذه الوقائع، وهذا ما يفسر الغموض الكبير معاهدة أرض روم الثانية، وعدم قدرة الدولة العثمانية والدولة القاجارية، وبريطانيا وروسيا من ترسيم الحدود بشكل نهائي، بسبب عدم قدرتهم على تجاوز استحقاقات الأمر الواقع، الذي كان يعطي الدولة الكعبية جميع مكونات السيادة على حدوها.
ولعل ما يؤكد ذلك، النتائج التي تمخضت عنها معاهدة أرض روم الثانية 1847، والتي لم تتعدى إقامة علاقات شبه طبيعية بين الدولة العثمانية والدولة القاجارية. كما أنّ المعاهدة لم تتمكن من حل الكثير من الخلافات التاريخية، ومن أهمها موضوع تنقل العشائر عبر حدود الدولتين. وبالتالي فإن المعاهدة لم تتمكن من الخروج بآليات وأدلة القانونية أو توثيقية في مسألة ترسيم الحدود، التي اقتصرت على فكرة ” تنازلات إقليمية متبادلة” بشأن المحمرة والسليمانية ليس إلا. وبما يحقق نزع فتيل التوتر بين الدولتين العثمانية والقاجارية.
وعلى هذا الأساس، ووفقاً لهذه المعاهدة تم إلحاق القسم الجبلي بإيران ( السليمانية)، بينما تم إلحاق القسم السهلي بالدولة العثمانية، الأمر الذي يكشف تناقضاً واضحاً حين تنازلت الدولة العثمانية بشكل رسمي عن المحمرة والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية لشط العرب، التي تقطنها عشائر عربية منذ القدم، بينما لم يكن لإيران – تاريخياً- أي في السهول المكونة لامتداد وادي الرافدين ، أو أي تواجد على الضفة الشرقية لكامل الخليج العربي، لذلك أعطت معاهدة أرض روم الثانية 1847 – لأول مرة- الحق للدولة الفارسية بالملاحة في شط العرب بحرية تامة.
لقد أدت اتفاقية أرض روم الثانية إلى اعترف الحكومة العثمانية بصورة رسمية بسيادة الدولة القاجارية على مدينة المحمرة ومينائها وجزيرة خضر والمرسى والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية اليسرى من شط العرب، الذي ظل عبر التاريخ تحت تصرف عشائر عربية، ما يعني إعطاء من لا يملكون التصرف في مالا يستحقون 9.
مع كل ذلك، ظلت السيادة الأحوازية مصونة في معاهدة أرض روم الثانية ذاتها، فالمتتبع للمذكرات الإيضاحية، التي تشكل الأساس القانوني لتفسير المعاهدة، يلاحظ عدم قدرة الدولتين القاجارية والعثمانية في سلب السيادة الكعبية.حيث تكشف المذكرة الإيضاحية للمعاهدة، والمؤرخة في 26 إبريل/ نيسان 1847 م، التي قدمها كل من السفيرين الروسي والبريطاني في اسطنبول، والتي نصت تعهد الباب العالي بأن الفقرة الواردة في المادة الثانية في مسودة المعاهدة، والتي تنص ” على ترك مدينة المحمرة ومينائها ومرساها وجزيرة خضر للدولة القاجارية، لا يمكن أن تشمل أراضي الباب العالي المتضمنة خارج المدينة، ولا موانيه الأخرى الواقعة في هذا الإقليم10 “، الأمر الذي يشير بما لا يدعو للشك عدم قدرة جميع القوى بالمساس بباقي أراضي السيادة الأحوازية، التي اقتصرت على الموانئ، كاتفاقات مصلحية للقوى الدولية آنذاك، دون أن تطال باقي الدولة الأحوازية بحدودها التاريخية.
بالإضافة لذلك، فقد قسمت المعاهدة الشعب العربي في الأحواز إلى نصف يتبع للدولة العثمانية، وآخر في الأراضي القاجارية، وهو ما يتنافى مع الأساس التاريخي والحضاري للشعب الأحوازي، كما يتنافى مع أبسط قواعد ترسيم الحدود أبان تلك المرحلة، ومفهوم الدولة في فقه القانون الدولي المعاصر. وهو ما أكدته المذكرة الايضاحية ذاتها، التي جاءت على لسان السفيرين الروسي والبريطاني، اللذين أوضحا حول مدى حق الدولة القاجارية في المستقبل في أن تنازع الباب العالي في حق التصرف في الأراضي المذكورة، فاجابها السفيران بمذكرة مشتركة نصت على مايلي” بخصوص أن مرسى المحمرة، هو القسم الواقع مقابل مدينة المحمرة في قناة الحفار، و هذا التعريف لا يحتمل أن يحمل أي تفسير آخر، فان ممثلي بريطانيا وروسيا الموقعين أدناه يشاطران الحكومة العثمانية الرأي القائل: بأن ترك الحكومة العثمانية للدولة القاجارية مدينة المحمرة ومينائها ومرساه وجزيرة الخضر ( عبادان) في المنطقة المذكورة، لا يعني تركها أي أرض أو موانئ أخرى موجودة في تلك المنطقة”.
وبالتالي تتحدد سيادة الدولة الكعبية على باقي المناطق العربية الأحوازية، والتي وأن تم تجاهل مسألة سيادتها خلال تلك المرحلة، والاتفاق على إلحاقها بالنفوذ العثماني، إلا وقائع الأحداث التاريخية التي عادت لترسم حدود الدولة العثمانية استناداً لمعاهدة لوزان 24 يوليو/تموز 1924 التي رسمت حدود تركيا الحالية، تشرعن مرة أخرى السيادة الأحوازية، ما يعني تأكيداً آخر على عدم وجود أي حق تاريخي سواء لإيران في الأحواز.
الهوامش
- للاستفاضة انظر: عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، الجزء السابع، إصدارات شركة التجارة والطباعة المحدودة، بغداد، 1955، ص48. وفي الموضوع ذلته انظر: لوريمر. ج. ج.دليل الخليج، القسم التاريخي، الجزء الرابع، فسم الترجمة بمكتب أمير قطر، مطابع علي بن علي، الدوحة، بدون تاريخ نشر، ص 23، 24.
- لوريمر. ج. ج.دليل الخليج، القسم التاريخي، المرجع السابق، ص20.
- انظر: عبد العزيز سليمان نوار، الشعوب الإسلامية، دار النهضة العربية، بيروت، 1991، ص 396- 399.
- للاستفاضة انظر: شاكر صابر، العلاقات الدولية ومعاهدات الحدود بين العراق وإيران، دار البصري، بغداد، 1966، ص 48- 49.
- للاستفاضة انظر: علي خضير عباس المشايخي، إيران في عهد ناصرالدين شاه 1848- 1896، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1987، ص76 ومابعدها.
- المرجع ذاته.
- المرجع ذاته.
- انظر: مصطفى عبد القادر النجار، التاريخ السياسي لإمارة عربستان العربية 1897- 1925، دار المعارف، القاهرة، 1971، ص 60.
- انظر: حسين الشيخ خزعل، تاريخ الكويت السياسي، الجزء الثالث ، دار مكتبة الهلال،ص ، 96 و79.
- انظر: المذكرة الايضاحية حول تفسير المادة الثانية في مسودة معاهدة أرض روم الثانية 1847، تاريخ 26/إبريل/ 1847.