هكذا تصدّر الخبر وسائل الإعلام الإيرانية والعربية الموالية لايران: “شاركت حشود غفيرة من أهالي مدينة أهواز في موكب تشييع جثمان القائد الفريق قاسم سليماني ورفاقه الذين استشهدوا يوم الجمعة في قصف إرهابي أمريكي. وبدأ المشيعون بالتجمع في ساحة مولوي وسط مدينة أهواز منذ الساعات الأولى من صباح اليوم الأحد، قبل بدء المسيرة لتوديع جثمان الشهيد الحاج قاسم سليماني، وهم يلوحون بالعلم الإيراني ويهتفون “الموت لأمريكا”.
خبر كان غريب في نوعه، تشييع جثمان شخص لا ينتمي إلى الاحواز لا من قريب ولا من بعيد، بأي صلة؛ إذ لم تكن الاحواز لا مسقط رأسه ولا مقتله، كما لا تعرفه الاحواز إلّا في قمع المظاهرات التي سبقت مقتله بشهرين، وعمّت المدن الاحوازية خاصة في مدينتي معشور والجراحي، إذ أمر هذا المجرم بقمع المظاهرات بأشد الأساليب، وحدث ما أراد.
لكن ماذا حدث حتى يقوم نظام الاحتلال بعد أشهر من قمع أناس أبرياء، بسبب مشاركتهم في مظاهرات لا غير، فلم يقوموا بأي عمل يضرّ بالمؤسسات الحكومية كما حدث في المدن الأخرى الاحوازية، والإيرانية، حتى جاء بجثمان المجرم إليهم، يجول شوارع الاحواز العاصمة، وكما قالت وسائل إعلامهم شارك في تشييعه آلاف الناس؟ أ لم يكن هذا تحدياً لشعب يرضخ لاحتلال، يمارس اشد أنواع القمع بحقه، ويقتله لمجرد الشك في أنّه يتبنى أفكاراً تحرريه، لماذا لم يذهب بجثمان هذا الإرهابي لمدن أخرى يبثّ فيها روح الثورة مثل مدينة شيراز أو يزد أو أصفهان التي تزداد الحركات المعارضة للنظام يوماً بعد يوم وحتى تشهد إحياء الديانات السابقة على الإسلام مثل المجوسية وبالتحديد مدينة شيراز…
واضح بأن الاحتلال مازال ينظر إلى الاحواز المدينة والقطر بشكل عام، بتلك النظرة التي كانت سائدة في فترة الحرب العراقية الإيرانية، إذ لقي كبار قادته العسكريين مصرعهم هنا، ومازالوا يشكلون إحدى الأعمدة التي تقوم عليها ثورة خميني، إضافة إلى هذا يريد الاحتلال بثّ قيمه في الاحواز وهذا ليس بالأمر الجديد، إذ سعى بكل ما يمتلك من قوة منذ مجيء الخميني حتى يومنا هذا، في تطبيق أفكاره في الاحواز، لكن هذه المرة يختلف الأمر كلياً، فإذا كان يوماً ما صنع من الوهابية العدو اللدود في الاحواز، واتهمّ من يطالب بالتحرير، بأنه يتبنى أفكار وهابية وينتمي إلى الجهات الخارجية، لكن اليوم قد غيّر من إستراتيجيته، لكن مازالت خيمة التشييع قائمة، فانه يعرف جيداً كيف يغيّر لونها حتى تصبح مقبولة وسنتطرق إلى هذا الأمر في السطور التالية.
لكن هناك دلالات أخرى عند التمعن بالأمر، وأولها أصبح الاحتلال ووفقاً لأبحاث ميدانية تصلنا من الاحواز ومدنها، يركّز على القرى أو هامش المدن، لما فيهم من سمات يفتقد إليها الشاب الساكن في المدن ويعيش الحداثة من خلال آلياتها ويحاول الابتعاد عن تراث الخميني والصفوي، إذ أصبح أكثر ذكاءاً ويريد تحقيق المصالح المادية، أكثر من الانتماء إلى الباسيج وإسداء الخدمات مقابل تلبية الحاجة إلى الإيمان وأداء الدَين للمذهب، إذ مازالت القرى وهوامش المدن تعيش في ظروف اقتصادية وثقافية خلقها الاحتلال هناك، ليقطف ثمار ما يجنيه، الملفت للنظر بأنه يركز على الشباب الأكثر إيمانا بمبادئ الصفوية الذي يظنّ بأنه يقدم خدمة لمذهبه ودينه، حتى لو كانوا فاشلين دراسياً، – على عكس تعامله مع غير الأحوازيين- ، إذ يختار نخبتهم دراسياً ويسمح لهم بمواصلة الدراسة في أفضل الجامعات والفروع حتى في الغرب، ثم العودة بهم إلى الاحواز لإدارة الأمور، بعدما يبثّ فيهم روح العداء للعرب، وهو لا يريد منهم الإيمان بأي مبدأ ديني أو مذهبي، بل يصنع من العرب عدوا لهم، أما شباب الأحوازيين فيختلف في معاملتهم، إذ يشبعهم بروح الصفوية تحت غطاء ديني، سمتها الأولى معاداة الوهابية (حسب زعمهم)، والسعودية وكل ما يمت لها بصلة ويقدم إخوانه بأنهم ينتمون للوهابية، إذن يجب قتلهم لما في ذلك من ثواب ونشر المذهب، وهنا يقوم بتقسيم شباب الأحوازيين إلى اثنين:
فئة تتسم بالسمات الأخلاقية العربية لما فيها من الشجاعة والبسالة والقوة على خوض المغامرات، وليس من المهم أن يكونوا ناجحين في الدراسة، أم لا، بل العكس فأنه يختارهم بعناية من المدارس، إذ يكونون مشاغبين، وجلهم يتركون الدراسة لأسباب مادية، أي الفقر الاقتصادي، وحتى منهم من يمارس السرقة والسلب، ويقال بأنه يركز على السجون ليختارهم، ويرسلهم إلى الساحات التي تتطلب خوض الحروب وابرز الأمثلة على هذه الفئة هو ما حدث من إرسال الشباب البسطاء والطبيين لكنهم يتمتعون بالجرأة والإيمان بالمذهب حتى النخاع، إلى ساحات القتال إلى سورية، أو العراق واليمن، ومنهم من عاد على الآلة الحدباء، رغم معارضة ذويهم بشدة، لكن لا حول ولا قوة لهم، أمام عمليات غسل الأدمغة.
أما القسم الثاني فهم الشباب المؤمنون من يرغبون بشدة في مواصلة الدراسة في الحوزات العلمية حتى لو كانوا فاشلين دراسياً، وإن أصبح توجه سلطة الاحتلال في استقطاب المميزين منهم في الآونة الأخيرة، فانهم يبقون في القرى أو المدن لنشر قيم الصفوية وهذا ما يحدث في المدن المكتظة بالشباب العاطلين عن العمل وخاصة تلك التي ينشط الباسيج بقوة في قراه وقد نجح في الأمر وخاصة في إرسال شباب منهم إلى سوريا، والعراق وقد رجع بجثامينهم، والسبب الجوهري في هذا الأمر هو ابتعاد شبابهم عامة عن القيم العربية وغياب النشاط العربي في تلك المناطق.
الدلالة الثانية هي إطلاق شعارات تتجاوز حدود حكومة الاحتلال، أي الشعارات الإقليمية، تحت عنوان نشر الشيعة أو محاربة الوهابية (حسب زعمهم) وعلى رأسها السعودية، وخاصة نشر الشيعة وكما يصرح قادة الحرس الثوري، بأن لديهم واجب ديني مستمد من القرآن في نشر الشيعة ومحاربة الظالمين، والأسلحة الجوهرية في نشر الشيعة هي الإبقاء على هؤلاء الشباب بعيدين كل البعد عن أي دراسة خارج الدراسات الحوزوية بإبعادهم عن الدراسات الأكاديمية والتركيز على الوهابية أو غيرها من المذاهب، حتى لا يتعرفون إلى أفكار، تشكك في معتقداتهم. الأسلحة الأخرى التي يستخدمها الاحتلال في التعامل مع ضعفاء النفوس من الأحوازيين ومنحهم مناصبا ومالا وجعلهم عبيد لهم، إذ لا يمكنهم التحرك من دونه.
الدلالة الثالثة هي التلاعب بالعناوين والأسماء، بعد أن شاهد الاحتلال تشويه سمعة الباسيج، فجاء بأسماء أخرى تحت عنوان الفاطميون أو الزينبيون إذ ظهرت أول الأمر لتطلق على الأفغان، لكنه لما رأى أنّ سمعة الباسيج في الحضيض لمشاركتهم في كل الأعمال القمعية والتعذيب وحرمان الناس من حقوقهم وخاصة عند تأسيس ما يسمى استخبارات الحرس الثوري وهي وزارة تفوق سلطتها، ليس وزارة الاستخبارات بل الحكومات كلها، انها لجأت إلى حيلة أخرى، وهي الدفاع عن الحرم أو المراقد الدينية، أو ما يسمى بمدافعي الحرم فيما يتعلق بسوريا ومحاربة الدواعش فيما يتعلق بالعراق والوصول إلى الكعبة فيما يتعلق باليمن، هذا على المستوى الخارجي وأما على المستوى الداخلي فهم يقومون بنفس الأعمال التي تقوم بها الباسيج سابقاً، من قمع الشعب والهيمنة على المناصب وتعيين المسئولين والتحالف مع المستوطنين و… ومن هنا يأتي بإطلاق الوعود للحصول على المناصب والوظائف والمال وسط التدهور المالي في الاحواز إذ أصبح الانضمام إلى هذه المنظمات وسيلة للحصول على الرزق، وبإمكانهم أن يصبحوا أثرياء لكن لبساطتهم يختارون الفقر والعيش بالراتب الحكومي، بينما يعيش من هم في صنفهم في ثراء فاحش وهذه من المفارقات الكبيرة وإن أرى فيها تعمد من السلطة في جعلهم فقراء كي يكونوا بمستوى الشعب.
الدلالة الرابعة في الإتيان بجثمان إرهابي إلى الاحواز هو محاولة أسطرة شخصيات صفوية إرهابية، قد قضوا حياتهم في نشر التشيع الصفوي وضرب أهل السنة بقبضة من الحديد. وقتل الأبرياء، فبعد مرور عقود على الثورة الخمينية والحرب أصبح الكثير من تلك الشخصيات التي جعلوها أساطير، في خبر كان وباءت كل محاولات الحكومة في جعلهم أساطير لهذا الجيل، إذ لم يكن يتصور إلّا إذا ما عاش هذه الظروف وما الحادثة التي يمكنها جعلهم يعيشون هذه الأحداث سوى المشاركة في الحروب السورية والعراقية واليمنية أو مقتل إرهابي من الطراز الأول كسليماني وأقرانه.