المقدمة
تعدُّ الأديبة الأحوازية “إلهام لطيفي” منَ الشواعرَ اللائي يشغلنَ السَّاحة الأدبيةِ والفكرية بشاعريتها ، وأفقها الحداثوي في انتقاء المفردة الشعرية ، والصورة الفنية التي تنمُّ عن خيال مبدع وثر ؛ حيث تنوعت صورها بين الصور النفسية ، والتجسيدية ، والبيانية ، والبديعية ، وما في سياقاتها النصية من أنساق شعرية اجتماعية ، وسياسية ، ودينية ، وأيديولوجية كامنة خلف هذه النصوص ، هي بحاجة إلى تأويل ، وتفسير ، وتحليل كي يتمكن الباحث من إظهار ما توارى ، وما سُكِتَ عنه ، ويبدو أنَّ بعضها كان بقصدية تامة من المبدع ، أو كان لمساحة الخيال دورٌ في التعامل مع النصّ المكتوب.
وإذا ما أردنا أنْ قراءة هذا النص ، لا بدَّ لنا من قراءة في العنوان “من وحي القصائدِ الموبوءة” ، لأنه واحد من العتبات النصيَّة المهمة في قراءة النصوص الشعرية والنثرية ، ويعدُّ مفتاحاً مهماً يمكن الدخول منه إلى جسدِ القصيدة ، حيث وُسِمَ العنوان في بدايته بحرفٍ من حروف المعاني الذي يهدف إلى ابتداء الغاية ، وكأنَّ علاقة الشاعرة بالوحي علاقة حميمية ، إذ كان حاضراً في أحدِ عنواناتِ قصائدها “منْ نبوءِ وحي الأصابعِ”، وهذا ما يؤكدُ تلكَ العلاقة القابعة في ذهنية المبدع ، فضلاً على دِلالة الوحي ، والملهم ، إيجاباً ، لا سلباً في البناء النصي من القصيدة ، وأختها ، إلاَّ أنَّ الشاعرة أرادتْ أنْ يكونَ موطن الوحي “القصائد الموبوءة” التي فيها تلميحٌ إلى لوثةٍ فكرية سُكِتَ عنها ، تاركة للتأويل ، والتفسير ، واستنطاق المضمرات دورها في الكشفِ عن مديات هذه الأنساق.
وفي هذا المبحث قمنا بتوجيه القراءة وفاقاً لوجهته البلاغية ، التي نكثفُ فيها من رصد الأساليب البيانية ، والبديعية ، وما فيها من صور تشبيهية ، واستعارية ، وكنائية ، وأساليب بديعية معنوية ، ولفظية ، كانتْ حاضرة في النص الشعري ، وما فيها من قيم جمالية ، وتعبيرية ، تركت فسحة إبداعية ، في هذه أسيطراتِ هذه اللوحة التي تنتمي إلى جنس أدبي يقارب الشعر الحر ، وهو ما نطلق عليه بقصيدة النثر ، التي تترك مجالاً واسعاً للشاعر في انتقاء مفرداته ، وألفاظه ، ومعانيه ، وصوره من دون القيد الذي عليه الشعر العمودي بالتزامه بالوزن والقافية ، ولا يعني ذلك المساس برونقه ، وموسيقاه ، وجرسه الأخاذ.
وعند العودة إلى النصَّ أجدني أمام لوحة شعرية إبداعية تستحقُّ القراءة ، لذا سنحدد أهمَّ الأساليب البديعية ، والبيانية فيه :
أولاً – أساليب الأداء البياني
التشبيه : ويدلُّ في اللغة على المماثلة ، ويعدُّ من أهم الأساليب في الأدب العربي شعراً ونثراً، وهو “من أشرفِ كلامِ العربِ ، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم” ( 1 ) ، وقد عرفه قدامة بن جعفر هو ما “يقعُ بين شيئينِ بينهما اشتراك في معان تعمهما ، ويوصفانِ بهما ، وافتراق في أشياء ينفردُ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه بصفتها”( 2 ) ، وفي هذا النصُّ نلحظ تشبيهاً تمثيلياً ، تعددتْ وجوه الشبه فيه “الظلُّ العابرُ لحدودِ أرواحِنا حجرٌ رقميٌّ أخضرُ ينمو في جدراننا” ، إذ شبهت الشاعرة الظلَّ العابرُ بالحجرِ الرقمي ، الذي تدبُّ فيه الحياة ، إذ أدخلتْ الحياة في ذلك الجماد الخامد ، وجعلته ينمو اخضراراً في جدرانا أرواحنا ، وهي صورة تشبيهية غاية في الدقة والإتقان.
الاستعارة : وهي أسلوب بياني مهم في الخطابات الشعرية ، إذ عرفها الجرجاني بقوله :”الاستعارة في الجملة أن يكون للفظِ أصلٌ في الوضع اللغوي معروف ، تدلُّ الشواهد على أنه اختصَّ به حين الوضع ، ثم يستعمله الشاعر ، أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل ، وينقله إليه نقلاً غير لازم ، فيكون هناك كالعارية” ( 3 ) ، ويقوم الشاعر وفاقاً لخياله بالجمعِ بوساطتها بين أشياء مختلفة ، توج بينها علاقة قبلية ، لأجل التأثير في المواقف ، والدوافع ، وينجم عن ذلك علاقات ينشئها الذهن من ذلك الجمع( 4 ) ، ومن الصور البيانية الاستعارية قولها : “حمة للكونِ ، وسعالٌ للطائراتِ”، و”صورٌ وجلةٌ تخطفُ بياض الغاردينيا منْ أقـــــدارنا”، إذ استعارت الشاعرة الحمة للكون ، والسعال للطائرة ، والاختطافِ للصورة ، وكأنَّها جميعها بهيئة كائن بشري ، تدلُّ عليه الأفعال والأوصاف ، وهنا يكمن الإبداع الشعري.
الكناية : وهي أحد الأساليب التي لجأت إليها الشاعر ، لترفد صورها البيانية بأبعاد دلالية ، وجمالية ، تتآزر مع الصورة الأخرى في بناء المستوى الصوري في القصيدة ، وعرفها الجرجاني بقوله : “أنْ يريدَ المتكلمُ إثباتَ معنى من المعاني ، فلا يذكره باللفظِ الموضوع له في اللغة ، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه ، وردفه في الوجود ، فيومئ إليه به ، ويجعله دليلاً عليه” ( 5 ) ، وقد أكد البلاغيون على منزلتها البيانية ، وتشكيلها للصورة ، وما لها من قيمة تعبيرية ، وجمالية ، تقول الشاعرة : “طارَ زندي على لحنِ شوقٍ ، وأناملي هربتْ منكَ إليكَ” ، وفيه كنايتان ، الأولى عن شدة الشوق والهيام ، والثانية عن ضياع السبيل والتيه ، وإلاَّ كيفَ يجتمع النقيضانِ في حدث واحدٍ ، وإنْ حُددا بكاف الخطاب.
ثانياً – أساليب الأداء البديعي
الطباق : ويعدُّ من الأساليب البديعية المهمة ، ويسمى المطابقة ، ويدلُّ على تضاد في المعنى بين لفظتين ، اسمين ، أو فعلين ، أو صفتينِ ، وقد وجدنا الطباق قابع في الصورة النفسية التي اختارتها الشاعرة ، متخذة من قلب الألفاظ ، والتلاعب في مداليلها بعداً تعبيراً يجسدُ هذه الصورة “يوحدنا عن بعدٍ أمْ في القربِ يفرقنا”، الوحدة والفراق ، والبعد والقربُ جميعها ألفاظ متضادة فيها من الإضاءات النفسية الكامنة في اللفظة ذاتها والتي ألقت بظلالها على الصورة الشعرية ، كذلك وقوعها في بنيتين الأولى قلب الجملة في السياق النصي ، وبنية الاستفهام الذي حذفتْ أداته.
الجناس : وهو من الأساليب البديعية التي تضفي جمالية ، وقيمة للنص ، ويقسم الجناس على تام ، وناقص ، وقد يأخذ حرف مكان حرف آخر ، أو قد يقع في حرفين وهكذا ، ومن جماليات الجناس في النص ، قول الشاعرة “نارٌ ولا مواقد تلهبُ … مسكٌ ولا للشعر مطلع … جرسٌ ولا أطفالَ تلعبُ”، وهنا جناس تام وقع بين حرفين هما “الهاء” و”العين”، في الفعلين “تلهبُ ، وتلعبُ”، فضلاً على ما في الحرفين من مدارات اهتزازية ، وعمق في المخرج ، وما فيهما من جرس موسيقي رائع.
التكرار : من الأساليب البديعية اللفظية ، له وظيفة إيقاعية ، وأخرى معنوية ، تقول نازك الملائكة في حديثها عن أهمية التكرار (( يضع بين أيدينا مفتاحاً للفكرة المتسلطة على الشاعر ، وهو بذلك أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيها ، بحيث نطَّلعُ عليها ، أو لنقل إنه جزء من الهندسة العاطفية للعبارة ، يحاول الشاعر فيه أنْ ينظمَ كلماته ، بحيث يقيمُ أساساً عاطفياً ن نوع ما” ( 6 ) ، والتكرار بأنواعه الأفقية ، والعمودية ، والمفرد ، والجملة ، لها جمالية إيقاعية ، وموسيقية ، فضلاً على تأثيره في نفس المتلقي ، تقول الشاعرة “بعيداً … بعيداً”، و”الظلُّ ذاكَ … الظلُّ ذاكَ”، وقد تكون غايته المعنوية التوكيد فضلاً عن التكرار اللفظي المفرد والجملي في المثالين السابقين.
الاقتباس والتضمين : وهذا الفنُّ البديعي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمخزون الديني ، والفكري ، والثقافي للمبدع ، ودرجة وعيه في اقتباساته وتضميناته الدقيقة ، بحيث يضعها في موضعها الصحيح ، من دون تهاون ، أو تلاعب يؤدي إلى ذهاب المعنى المراد ، والاقتباس “هو أنْ يضمنَ الكلام شيئاً من القرآن ، أو الحديث لا على أنه منه” ( 7 ) ، والتضمين أنْ يضمن شيئاً من شعر غيره مع التنبيه عليه ، حتى إذا لم يكن مشهوراً عن البلغاء ، ويعدُّ الغذامي و جلال الخياط ، كلاً من الاقتباس ، والتضمين نوعاً من التناص.( 8 ) ، ومن هذه الاقتباسات قولها : “قابَ شهقة أو أدنى” وهو اقتباس جزئي من قوله تعالى : “فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ”( 9 ) ، ونجد هذا الاقتباس في قصيدة “من وحي نبوءة الأصابع” في قولها : “قابَ قوسي قبلةٍ أو أدنى”، وقد أفاد النصُّ منه كثيراً في ترسيخ قيمته الفنية والجمالية ، أما التضمينات في قولها : (( نارٌ ولا مواقدَ تلهبُ … مسكٌ ولا للشعرِ مطلعٌ … جرسٌ ولا أطفالَ تلعبُ” ويبدو أنَّ هذه أغنية دندنت بها القصيدة ذاتها بفعلية الشاعر ، أو محاكاة للتراث التي انحدرت منه.
الخاتمة
يمكن القول أنَّ الشاعرة تمتلكُ الأداة الشعرية التي استطاعت من خلالها أنْ تبني جسداً لقصيدة موبوءة مثلما تسميها ، كان لها دور في بيان القدرة البلاغية لـ “إلهام لطيفي” التي سخرت الاساليب البيانية والبديعية في صورها الشعرية ، إذ حضر التشبيه والاستعارة والكناية ، والتكرار والاقتباس والتضمين والطباق والجناس في بنائها الفني والبلاغي فكانتْ اللوحة فسيفساء تشكلت من هذه الألوان البلاغية التي بينت المقدرة الكبيرة للشاعرة في اختيار وانتقاء المفردات بألفاظها ، وصورها ، ومعانيها.
د . فاضل الغزي
1. البرهان في وجوه البيان ، وهب الكاتب ( ت 272ه ) ، تح : أحمد مطلوب ، وخديجة الحديثي ، ط 2 ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1967م ، ص 130
2. نقد الشعر ، قدامة بن جعفر ( ت 337ه ) ، تحقيق وتعليق : عبد المنعم خفاجي ، ب . ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ب . ت ، ص 124
3. أسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني ، تح : ه . ريتر ، ط 2 ، مطبعة العاني ، وزارة الأوقاف ، استانبول ، 1979م ، ص 29
4. ينظر : مبادئ النقد الأدبي ، أ . ريتشاردز ، تر : مصطفى بدوي ، مراجعة لويس عوض ، ب . ط ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ، 1963م ، ص 310
5. دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تعليق وشرح عبد المنعم خفاجي ، ب . ط ، مكتبة القاهرة ، مصر ، 1976م ، ص 66
6. قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة ، ط 6 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1981م ، ص 276 – 277
7. الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ( ت 739ه ) ، تح : محمد عبد المنعم خفاجي ، المطبعة الفاروقية الحديثة ، 1950 م ، ج 1 / ص 575
8. ينظر : الخطيئة والتكفير ( من البنيوية إلى التشريحية ) ، عبد الله الغذامي ، ط 1 ، كتاب النادي الثقافي ، جدة ، المملكة العربية السعودية ، 1985م ، ص 55 ، وينظر : المتاهات ، جلال الخياط ، ط 1 ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 2000م ، ص 17
9. النجم ، الآية ( 9 )
المصادر والمراجع :
أولاً – المصادر :
القرآن الكريم
- أسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني ، تح : ه . ريتر ، ط 2 ، مطبعة العاني ، وزارة الأوقاف ، استانبول ، 1979م.
- الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ( ت 739ه ) ، تح : محمد عبد المنعم خفاجي ، المطبعة الفاروقية الحديثة ، 1950 م ، ج 1.
- البرهان في وجوه البيان ، وهب الكاتب ( ت 272ه ) ، تح : أحمد مطلوب ، وخديجة الحديثي ، ط 2 ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1967م.
- دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تعليق وشرح عبد المنعم خفاجي ، ب . ط ، مكتبة القاهرة ، مصر ، 1976م.
- نقد الشعر ، قدامة بن جعفر ( ت 337ه ) ، تحقيق وتعليق : عبد المنعم خفاجي ، ب . ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ب . ت.
ثانياً – المراجع :
- قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة ، ط 6 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1981م.
- مبادئ النقد الأدبي ، أ . ريتشاردز ، تر : مصطفى بدوي ، مراجعة لويس عوض ، ب . ط ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ، 1963م.
- المتاهات ، جلال الخياط ، ط 1 ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 2000م.
- ينظر : الخطيئة والتكفير ( من البنيوية إلى التشريحية ) ، عبد الله الغذامي ، ط 1 ، كتاب النادي الثقافي ، جدة ، المملكة العربية السعودية ، 1985م