الإثنين, نوفمبر 18, 2024
دراسات إيران وتداعيات الحزمة الثانية للعقوبات الأمريكية في قطاعي النفط والبنوك: رؤية تحليلية...

 إيران وتداعيات الحزمة الثانية للعقوبات الأمريكية في قطاعي النفط والبنوك: رؤية تحليلية استشرافية

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 مقدمة

دخلت الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران في قطاعي النفط والبنوك و700 كياناً وفرداً إيرانياً يوم الاثنين 5 نوفمبر / تشرين الثاني الجاري ( 2018)، في إطار علاقة معقدة وصعبة بين جناحي الغرب الأطلسي، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. فمع اليوم الأول لدخول العقوبات حيز التنفيذ، أعلن مفوض الشؤون الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي ” بيير موسكوفيسي” في حديث له على قناة فرانس برس يوم الاثنين 5 نوفمبر / تشرين الثاني الجاري، قال فيه: ” أنّ الاتحاد الأوروبي يعارض قرار الولايات المتحدة بإعادة فرض العقوبات النفطية والمالية على إيران، وأنّ الاتحاد الأوروبي لا يوافق عليها1″.

بينما فتحت تغريدة الرئيس دونالد ترامب  ( لعبة العروش الشتاء المقبل) الباب على مصراعيه لسيناريوهات مفتوحة على جميع الاحتمالات  تتعلق بمستقبل إيران، بدءً من مع دعوات الإدارة الأمريكية التي اعتبرت ” أنّ إيران مقبلة على أصعب نظام عقوبات فُرض عليها على الإطلاق”، وسيستهدف قطاعات الشحن والطاقة والمصارف.  قابل ذلك استثناءً أمريكياً لثمان دول من حلفائها، وهي إيطاليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وتايوان واليونان والصين، بينما قررت كل وروسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، أنها ستواصل استيراد النفط الإيراني بشكل مخفض وعلى مراحل، قبل أن تقطع هذه الدول علاقاتها بشكل نهائي، كونها أيضاً لا تستطيع تطبيق الاتفاق بشكل فوري، لتراكم التزاماتها التي تحتاج إلى وقت، تزامن ذلك مع تصريحات جديدة للإدارة الأمريكية يوم7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أكدت أنها قادمة لعقوبات أخرى، لأن شروط الاتفاق لن تمنع إيران من تطوير صواريخها الباليستية والتدخل في شؤون جيرانها.

المتفق عليه، أنّ العقوبات الأمريكية دخلت حيز التنفيذ مرة أخرى منذ أخر دفعة في أيار/ مايو الفائت، وستشمل هذه المرة عمليات التمويل والطاقة والشحن والبنوك. ويبدو أن العقوبات هذه المرة مازالت – حسب تصريحات الإدارة الأمريكية- تهدف ” إلى تغيير جذري في سلوك إيران”، وفرض12 شرطاً أمريكياً تعجيزياً بالنسبة لإيران من أجل رفع العقوبات، ومنها إنهاء دعم الجماعات الإرهابية، وعدم التدخل في سورية والانسحاب منها، ووقف تطوير صواريخها الباليستية يشكل كامل، ما يعني إفراغاً للإيديولوجيا الإيرانية التي تأسست على هذه العوامل، وكانت أساساً لنفوذها في المنطقة. بينما ردت إيران – بصراحة- أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتمكن من تمرير أهدافها السياسية في الخارج، كما أهدافها الاقتصادية في الداخل. وأمام هاتين المعادلتين تبدو أزمة إيران مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة أمام حالة من التصادم الذي ستكون له نتائج وتداعيات على مستقبل الشرق الأوسط برمته.

أولاً- تأثير العقوبات على السياسة الخارجية الإيرانية: العلاقة الصعبة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

حاولت أوروبا إنقاذ الاتفاق النووي تخوفاً من هواجسها الأمنية الإستراتيجية، وحفاظاً على موقعها في السياسية الخارجية، كونها طرفاً أساسياً في الاتفاق. لذلك ظهرت المحاولات الأوروبية في معارضة العقوبات كمحاولة لحفظ ماء الوجه أمام الشركات الإيرانية المتعاملة معها، في مواجهة الإصرار الأمريكي لمنع هذه الشركات من التعامل مع إيران.

من الناحية الاقتصادية:

تشكل المحاولات الأوروبية في عدم الامتثال لتطبيق العقوبات الأمريكية، استعداداً سياسياً أوروبياً للاعتراف بالسياسيات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، التي قد تتجاوز في الثقافة الأطلسية فكرة العامل الاقتصادي، الأمر الذي يلقي بتداعيات خطيرة على الثقافة الأوروبية، إذا ما تم إعادة تأهيل سلوك النظام الإيراني، وهو ما سيحد من مكانة أوروبا و تأثيرها في الأمن والسلم العالمي، خصوصاً وأنّ التبعات الاقتصادية ستكون أكثر كارثية على أوروبا، إذا ما تجاوزت العقوبات الأمريكية، لأنها ستكون مهددة بالطرد من ” المنظومة المصرفية الأمريكية” التي تفوق بكثير عائدات ما تستفيده أوروبا من شراكتها الاقتصادية مع إيران. لذلك تأمل أوروبا بالحصول على إعفاءات تصب في مصلحتها، وربما لن يكون أمام الاتحاد الأوروبي سوى إنشاء صندوق تعويضات – بموجب قانون الاتحاد الأوروبي- يمكنها من استعادة الرسوم والغرامات التي سيتم فرضها من الإدارة الأمريكية.

من الناحية السياسية:

مازالت أوروبا تشكل الحاضنة التاريخية لمبادئ حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، والمرشحة قبل غيرها بتداعيات هذا الخطر، ومن غير الممكن تهديد ثقافتها، بأن تكون مصدراً لدعم الإرهاب الإيراني عن طريق الضخ الاقتصادي، الذي تؤمنه لدولة مارقة داخل النظام الدولي. وبالتالي ستكون أوروبا مسؤولة أمام ثقافة الحلف الأطلسي وأمام حليفها الاستراتيجي الأمريكي في تحمل أي هجوم إرهابي على الأراضي الأوروبية، الأمر الذي يضع الديمقراطيات الأوروبية أمام تحدٍ مفاده الانفتاح على نظام ديني قمعي2. وعليه، لا تبدو على المدى البعيد رغبة أوروبية في الوقوف إلى جانب دولة راعية للإرهاب، في مواجهة الحليف الأمريكي الاستراتيجي، وإلا فإن أوروبا ستكون أمام خطوة غير مسؤولة.

ظهرت بداية ملامح  الاختبار الأوروبي في مواجهة الإرهاب الإيراني بشكل واضح، بعد  تداعيات محاولة الاغتيال الفاشلة لقيادات في حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، الذي اثبت تورط الاستخبارات الإيرانية في الضلوع بتنفيذ هجمات إرهابية في الدنمارك، بعد استهدافها في أكتوبر/ تشرين أول الماضي لقياديين في الجبهة، التي تعتبر الأكثر عداءً وتهديداً لإيران من بين جميع المكونات الأحوازية وحتى المعارضة الإيرانية. إذ طالت محاولة الاغتيال زعيم الجبهة ” حبيب جبر”، الأمر الذي دفع السلطات الدنماركية إلى استدعاء سفيرها في طهران بعد تقارير أفادت بضلوع إيران بالتخطيط لهجمات إرهابية في البلاد، وقد جاء هذا الموقف أيضاً بعد إجراءات صارمة اتخذتها فرنسا ضد هجوم كانت تخطط له إيران لاستهداف اجتماع للمعارضة الإيرانية، وعلى إثر ذلك سارعت الخارجية الدنماركية إلى إعلان عزم بلادها فرض عقوبات على طهران، ومطالبتها الضغط لفرض عقوبات جديدة من الاتحاد الأوروبي على إيران، تزامن ذلك مع رأي أوروبي مؤيد أعلنت من خلاله الشرطة النرويجية عن استعدادها للتعاون مع الأمن الدنماركي. وهي الواقعة التي يُفهم منها حقيقية المواقف الأوروبية تجاه إيران، بما ينسجم مع شريكها الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي سيكون متفقاً مع حليفه الأمريكي، إذا ما وجد المخارج الموضوعية لتعويص خسائره في حال تطبيق العقوبات الأمريكية على إيران.

بالرغم من ذلك، فقد بلغت حدة التصعيد الأمريكي ذروتها تجاه الموقف الأوروبي المتردد، في الوقت الذي تهدف فيه الإدارة الأمريكية إلى تحجيم صادرات إيران من النفط إلى مستوى الصفر، وهو ما أعلن عنه وزير الخارجية الأمريكي ” مايك بومبيو” على شبكة  CBS الأمريكية قبل دخول الحزمة الثانية بيوم ( 4 نوفمبر / تشرين الثاني الجاري) بقوله : ” أنّ على رجال الأعمال الأوروبيين أن يختاروا بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، ولن نسمح للشركات الأوروبية بالتعامل مع كلا الطرفين، وعلى العالم أن يدرك أن هذه العقوبات حقيقة ومهمة، وأنها ستسمح للشعب الإيراني القدرة على إجراء تغييرات في حياة بلادهم يحلمون بها”. وفي المقابلة ذاتها، ربط بومبيو مسألة امتلاك إيران للثروة من أجل نشر الإرهاب حول العالم، معتبراً أن العقوبات الجديدة ستكون الأكثر صرامة قياساً بالعقوبات التي تم فرضها على إيران في السابق3. بينما تعمل إيران جاهدة على إبقاء اتصالاتها مع دول من الاتحاد الأوروبي، وتقوم الآن بإنشاء آلية لمواصلة نشاطاتها بخصوص قطاعي تصدير النفط والبنوك.

لذلك يبدو الموقف الأوروبي حيال إيران أكثر صعوبة وتعقيداً، فأوروبا مدركة تماماً التهديد الذي تشكله إيران على أراضيها، كما إدراكها الخسائر الاقتصادية، التي تعود إليها بسبب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. وعليه تبدو الجهود الأوروبية تسير نحو التعامل بما هو راهن على أرض الواقع تكتيكياً، وذلك في محاولاتها الإبقاء على إيران في الاتفاق النووي والحرص على التقيد به بما لا يتعارض و منافعها الاقتصادية، الأمر الذي يرتب على أوروبا التزامات سياسية واقتصادية بسبب تصديها للعقوبات، وهي بذلك وكأنها توجه رسائلها إلى الإدارة الأمريكية بأنها بحاجة إلى التزام من جانب الخزانة الأمريكية، يقلل من تداعيات علاقاتها الصعبة والمعقدة مع إيران، وإلا فإن على الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بمهام التعويض للشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، في إطار الأساس الثقافي والقانوني الذي تأسس عليه  الاتحاد الأوروبي، سواء تلك المتعلقة بفكرة التكامل الاقتصادي، أو تأكيد حقوق الإنسان.

ثانياً- العقوبات الأمريكية وتداعياتها على الداخل الإيراني

تأسست السياسية الإيرانية على فكرة الدولة ” المقلقة”، لذلك فقد ظلت في إطار سياسة سلبية منفعلة بالأحداث وغير فاعلة في النظام الدولي، إذ ظهرت على الدوام ومنذ تأسيسها كدولة دينية، غريبة عن هذا النظام. وبالرغم مما حققته من تمدد على حساب جيرانها، أو بالأدق بسبب ضعف جيرانها، إلا أنها تبدو ضعيفة خارج نطاقها الإقليمي في مواجهة الوحدات الدولية للنظام الدولي بل ومرهونة بتجاذباته، ما جعل استمرارية النظام الإيراني مرهوناً بتجاذبات القوى العظمى التي جاءت بهذا النظام، ( تماماً كما يحدث الآن بين أوروبا والولايات المتحدة)، الأمر الذي حوّلها إلى دولة تحكمها أقلية دينية تتصرف بنوازع شخصانية تدور في فلك الرؤية الخاصة للنخبة الحاكمة، أكثر من نوازعها كدولة في محيط تحتاج معه أن تكون آمنة بثوابت سياسية طويلة المدى. ولهذا تُختصر السياسية الإيرانية بميزة سلبية تقوم على فكرة ” تحقيق ذاتها، من خلال انتزاع اعتراف الآخرين  بها4″.

البنية الداخلية للنظام الإيراني:

مازالت إيران لا تمتلك المدخلات الفكرية الإستراتيجية القادرة على بقاء نظامها السياسي كقوة فاعلة ببعد استراتيجي. ولعل ما يؤكد ذلك إنّ إيران لم تكن تلك القوة الإقليمية الفاعلة بشكلها الحالي قبل احتلال العراق، الذي كان أحد أسباب تصاعد النفوذ الإيراني في ظل بيئة إقليمية غير مستقرة، شكلت أحد مدخلات الصعود الإيراني5، مع عدم إغفال أهم ميزات بقائها في مواجهة تجاذباتها السياسية مع الولايات المتحدة، وهو أنها تمتلك القوة الناعمة المتمثلة بمعرفتها بالمنطقة العربية، وبقدرتها على استعمال العوامل الطائفية في سبيل تحقيق أهدافها وفي مقدمتها نظريتها السياسية التي تقوم على نشر ” التشيع” كإيديولوجيا سياسية ولدت مع ولادة ” الجمهورية الإسلامية”، ولكن هذا البقاء كان مرهوناً في كل مرة بضعف الخصم أمامها وليس بقوتها. ولعل تواجدها في مناطق الخاصرات الرخوة في مناطق تمددها، أمضى دليلاً على ذلك.

ومن هذه النقطة بالذات امتلكت إيران قدرتها في مواجهة القوة الصلبة الأمريكية، التي تعمل الآن من خلال العقوبات إلى انتزاع مصادر القوة الإيرانية، من خلال التأثير على أهم حواملها من خلال القوة الاقتصادية الناعمة ذاتها من خلال فرض العقوبات، ما يمهد لإفراغ إيران من أهم مصادر القوة في  سياستها الخارجية بدءً من الداخل الإيراني. ويبدو الصراع في سورية بداية الانكفاء الإيراني ومقدمة  لإضغافها داخل المنظومة الدولية والإقليمية، خصوصاً عندما يتعلق الصراع بمنطقة حيوية للتنافس بين الولايات المتحدة وروسيا، إذ تدافع الأولى عن حلفائها على الحدود السورية( إسرائيل)، بينما تدافع الثانية عن آخر موطئ قدم لها في المياه الدافئة( روسيا)، وهي الحقيقة التي أصبحت تدركها إيران، واعترف بها الرئيس الإيراني حسن روحاني في مقال نشرته جريدة الواشنطن بوست، في إشارة للغرب بمعرفة إيران لحجمها الذي تصاعد في سورية، قائلاً: ” لا تعدو الساحة السورية أن تكون رقعة شطرنج تحذو فيها إيران حذو روسيا، لتمارس استعراضاً للقوة والنفوذ، مع تحذير ناعم بتبعات تجاوزها في ترتيبات حل الأزمة6″.

العقوبات والتداعيات الاقتصادية الداخلية: البعد الاجتماعي للجيل الإيراني الجديد:

لا يختلف اثنان بهشاشة الاقتصاد الإيراني قبل بدء تطبيق العقوبات، إذ ظهرت هشاشته بشكل تصاعدي. فحسب المعهد الإيراني للإحصاء، بلغ معدل البطالة في العام 2016 ما يفوق الـ 12 % من السكان القادرين على العمل، أي أكثر من 25 مليون نسمة، قياساً بـ 10% خلال العام 2015. وبحسب دراسات اقتصادية غير إيرانية، فإن العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل في إيران يفوق 6 ملايين شخص. وحسب احصائيات لمجلة ” فوربس” الأمريكية، تقول أنّ هذه الأرقام أصبحت من الماضي مع بدء سريان العقوبات الأمريكية، مايضع الاقتصاد الإيراني أمام مقدمات من الانهيار الكامل. فإيران في المستقبل القريب لن تتمكن من بيع نفطها في الأسواق العالمية، ما يعني خسارة أهم محددات سياستها الخارجية القائمة على التمدد ودعم المليشيات في الإقليم7.

توقع الكاتب الكندي ” غارت فريزن” في المجلة ذاتها، أن الأوضاع المتدهورة والعزلة السياسية ستقود إيران إلى ما أسماها بـ ” رياح التغيير” لنظام الملالي، التي بدأت بالفعل مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو / أيار الماضي ( 2018)، و الإصرار الذي تبديه إدارته حول إعادة فرض عقوبات جديدة على إيران، ما يضع النظام الإيراني أمام عزلة سياسية ستحول دون تصدير النفط الإيراني، وتفاقم الأزمة الاقتصادية التي لوحظت مع ارتفاع سعر صرف الدولار و اليورو ارتفاعاً غير مسبوق مع بداية العام 2018. خصوصاً وأنّ الجيل الجديد من الإيرانيين لم تعد تنطلي عليه شعارات الإيديولوجيا الدينية في عصر التحديات الاقتصادية. إذ يعتبر هذا الجيل أن نظامه هو المسؤول عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية منذ 40 عاماً.

لذلك لا يؤمن الجيل الإيراني الجديد الذي رفع شعارات ” لا لبنان لا غزة” منذ الثورة الخضراء 20089 بمسألة إلقاء اللوم على العقوبات الأمريكية، بقدر ما يعي أنّ الأموال التي حصل عليها النظام الإيراني عقب رفع العقوبات خلال إدارة أوباما، لم تذهب لحل مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية- كما وعدهم النظام- لكنها ذهبت عبر الحرس الثوري لدعم مليشياته الطائفية في الخارج، الأمر الذي أشعر الجيل الجديد من الإيرانيين بالخديعة والمراوغة من قبل حكومته، وهو ما يدفعه للسخط عليه أكثر، الأمر الذي يرجح تزايد الغضب الجماهيري كلما تزايدت العقوبات، نتيجة السياسات الداخلية والخارجية، وبالتزامن مع عجز إيران من إيجاد المخارج الموضوعية لحل الأزمات التي تعصف بالبلاد.

في تقرير لمجموعة أوراسيا، التي تعمل بمخاطر السياسات، يُظهر التقرير أنّ هذه العقوبات ستخنق قدرة إيران اقتصادياً، إذ سيصل التضخم السنوي إلى 100% ما يعني انخفاض القوة الشرائية إلى إلى النصف كل 12 شهر، وهي معاناة كبيرة للشعب الإيراني. وهو ما أكده معهد واشنطن الذي لاحظ أنّ الاحتجاجات شملت النساء اللواتي طالبن بالمزيد من المساواة بين الجنسين، والنقابات العمالية التي ضاقت ذرعاً بحالة الركود ونقص الأجور والتضخم. كما تلوح في الأفق مسألة الانقسام والصراع على السلطة داخل النظام الإيراني ذاته. فالمرشد الذي بلغ الثامن والسبعين من العمر، يخضع لعلاج السرطان منذ سنوات، وهناك دلالات أنّ القادة العسكريين والسياسيين بدؤوا يتنافسون على السلطة تحسباً لعدم استمراره في الحكم، الأمر الذي قد يدفع بمؤسسة الحرس الثوري اليوم  للاستئثار بإقامة حكم عسكري، بسبب عدم القدرة على الحفاظ على نظام سياسي مستقر، في مواجهة الانقسام المجتمعي، وآراء الجيل الجديد من الشباب الإيراني.

صحيح أن العقوبات الأمريكية ستؤثر سلباً وبشكل مباشر على الاقتصاد، إلا أنّ التدهور بدا أكثر تسارعاً بسبب الفساد الذي سيدفع المواطنين للاحتجاجات بشكل مستمر، وبالتزامن مع تراجع تأثير الإصلاحيين الذين يدفعون لعلاقات أفضل مع الغرب، الأمر الذي سيزيد من سطوة المتشددين، كما يفتح الباب لمزيد من العزلة السياسية، والإفقار الاقتصادي.

 يبلغ إنتاج إيران اليومي من النفط 3.8 مليون برميل، ومع بدء سريان العقوبات ستخفض إلى 300 ألف برميل، وإذا كان بوسع إيران تصديره لبعض الدول المستثناة مؤقتاً مثل الهند والصين وروسيا وتركيا. إلا أن هذه الدول ستطلب من إيران تخفيضاً كبيراً في الأسعار، ما يعني خسارة إضافية، كما أن أرباح هذه التصدير لن تكون بمتناول النظام الإيراني، بل ستكون في بنوك هذه الدول، حيث يقتصر سحب الأموال لدعم المواد الغذائية والدوائية، وتحت مراقبة أمريكية صارمة. وبالتالي فإن تداعيات العقوبات الاقتصادية ستؤدي إلى تراجع الاستثمارات بشكل كبير، بسبب تخوف المستثمرين من هذا التراجع الاقتصادي المخيف، الأمر الذي سينعكس أولاً على الصناعات المحلية، ويدفع المستثمرين إلى العزوف عن ضخ أموالهم في إيران، وبالتالي خنق إيران اقتصادياً، وتقييد قدرتها على دفع الأموال للمليشيات الحليفة لها.

استناداً لذلك، ستشهد العملة الإيرانية مزيداً من التراجع، الذي سيتبعه – دون شك- ارتفاعاً بالسلع والخدمات بالنسبة للمواطن الإيراني، وسط توقعات بأن يصل التضخم إلى الـ 71%، وهو ما يزيد من التدهور الاقتصادي بسبب سياسات النظام، الذي سيواجه من جديد احتجاجات قد تكون أعنف من سابقاتها.

خاتمة

يمكن القول: لقد بدا واضحاً أن مستقبل إيران منذ وصول ترامب لسدة الرئاسة الأمريكية، أصبح مرهوناً بأولوية السياسة الخارجية الأمريكية، التي صنفت إيران بالدولة الراعية للإرهاب في العالم، إذ ترى إدارة ترامب أنّ تدخلها ضد إيران للحيلولة دون سيطرتها على كامل الشرق الأوسط.

تقف إيران اليوم أمام بضع سنوات قادمة، تبدو منذ بداياتها أنّ مسألة تغيير سلوكها أصبح أمراً واضحاً للعيان، وبما يؤمن استمرار العلاقة بين الحليفين الأمريكي والأوروبي، إلا أنّ هذه الفرضية قد تتصاعد نحو فكرة تغيير النظام، وربما تفكيك الدولة الإيرانية، استناداً لرؤية مستشار الأمن القومي جون بولتون صاحب الذي طالما حمل على عاتقه تفكيك إيران وإستعادة حقوق الشعوب غير الفارسية. و يبدو أن هذا الافتراض مرهوناً بإقدام إيران على مغامرة غير محسوبة ضد إسرائيل من الأراضي السورية أو اللبنانية، وفي هذه الحالة ستتمكن الولايات المتحدة وإسرائيل من توجيه ضربة قاصمة، مؤيدة بذلك بمشروعية دولية، تقوم على خرق إيران للاتفاقيات الدولية المتعلقة باتفاقية فض الاشتباك على الحدود السورية التي وُقعت في العام 1974، كما خرقها للقرار 1701 لعام 2006 الذي حسم مسالة وقف العمليات القتالية في لبنان، ورسم خطوط التموضع لمليشيا حزب الله.

 الفرضية ذاتها، تبدو مرهونة أكثر بنجاج دونالد ترامب بدورة رئاسية ثانية. بغض النظر عن نتائج انتخابات التجديد النصفي، التي لا علاقة لها في محددات السياسة الخارجية، بقدر مالها علاقة بالقضايا المتعلقة بالتشريعات الداخلية وحسب، كالتأمين الصحي ومشكلة الهجرة غير الشرعية. أما ما يتعلق بالسياسة الخارجية، فستكون الفرصة الحقيقة للرئيس دونالد ترامب للاتفاق على السياسة الخارجية، التي وضعت في أولوياتها إضعاف إيران من خلال العقوبات.

بالعودة إلى تاريخ العقوبات الاقتصادية التي طُبقت على الكثير من النظم الشمولية، يبدو الشعب هو الوحيد الذي يدفع ثمن هذه العقوبات، وقد شهدت دول كثيرة قدرتها على تخطي العقوبات في مراحل الحرب الباردة وتصاعد المد الإيديولوجي الذي يرى في فكرة ” الصمود الشعبي ” في مواجهة العقوبات، بانها تضحيات في سبيل الوطن. وهي الفرضية التي لايمكن إسقاطها اليوم على واقع الشعب الإيراني الذي لم يهدأ في محاولاته الخروج من قفص الإيديولوجيا ” الثورية- الدينية” منذ العام 2009، ساعده في ذلك الانقسامات العميقة بين النخب السياسية الإيرانية على مستوى الصف الأول، وعلى مستوى مؤسستي الرئاسة والمرشد، الأمر الذي يفتح الباب للشعب الإيراني بإيجاد مشروعية داخلية للاصطفاف من جديد في مواجهة نظامه، خصوصاً بعد الأوضاع الاقتصادية المزرية التي يعانون منها، بسبب الانهيارات الضخمة للاقتصاد، الذي جعل من الشارع الإيراني في حالة غليان لم ولن يهدأ للتخلص من نظام لم يعد يمتلك اليوم سوى مواقف خجولة ومترددة  لشركات أوروبية، لن تتمكن في المستقبل القريب من الاستمرار في رهاناتها على الشيطان.

وقد ظهر ذلك بالفعل مع الوعود التي قطعتها كبرى الشركات الأوروبية، التي بدأت بتصفية أعمالها في إيران، مبديةً رغبتها في إلغاء عقود مطروحة عليها في إيران، بينما يتحدث الكثير من المسؤولين التنفيذيين لهذه الشركات أوروبية، أنه لا خيار أمامهم – في نهاية المطاف- سوى وقف تعاملاتهم مع إيران. فالعقوبات الأمريكية ستحرم الشركات الأوروبية من ملايين الدولارات في البنوك الأمريكية، ومنعها من العمل في أراضي الولايات المتحدة الأمريكية.

إنّ الغرب كشريك استراتيجي مفترض للولايات المتحدة الأمريكية، لا يمكن أن يُضحي بمصالحه وثقافته مقابل عقود بعض الشركات التي تورطت في تعاملها مع النظام الإيراني خلال فترة إدارة أوباما وعلى حساب رؤية الجمهوريين الذين يقودوهم اليوم صقور العداء لإيران، وفي مقدمتهم مستشار الأمن القومي “جون بولتون” ، الذي مازال متمسكاً بأفكار أبعد من إسقاط النظام الإيراني، ليتعداه إلى تفكيك إيران وإعطاء الشعوب غير الفارسية حقوقها.

وعليه، تبدو إيران من الناحيتين السياسية والاقتصادية أعجز من أن ترد على العقوبات أو تتجاوزها داخلياً وخارجياً. و لم يعد أمامها سوى فخ التصعيد عن طريق مليشياتها الطائفية في سورية ولبنان واليمن، كسياسة نجحت بها إيران خلال فترة الانكفاء الأمريكي عن المنطقة خلال فترة الرئيس أوباما، الذي استمرأ التمدد الإيراني بالتنسيق مع إيران وبالتوازي مع سياسته في الانكفاء، وهي السياسة التي أصبحت من الماضي مع استحقاقات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، التي ترى في إيران ” الدولة الراعية للإرهاب في العالم”.

وعليه، تبدو إيران أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الاعتدال والانفتاح على الداخل الإيراني وعدم تهديد دول الجوار، وإما أن تدفع الثمن. وفي كلا الخيارين يبدو نظام الملالي أمام تداعيات مفتوحة على جميع الاحتمالات، فإذا كان الخيار الأول أمراً مستحيلاً لأنه يعني سقوطاً مبتسراً لنظام الملالي، فأن الخيار الثاني يبدو أقرب السيناريوهات المحتملة. فحتمية التاريخ تشير أنّ جميع الدول التي ولدت كقوة وهمية في إطار إعادة ترتيب النظام الدولي، هي أول من يدفع الثمن، وهي دول عابرة وإلى زوال.

 

د. محمد خالد الشاكر

الهوامش:

  1.  العربية نت، ” مسؤول أوروبي نعارض إعادة فرض العقوبات على إيران”. على الرابط : https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/2018/11/05/%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84-
  2. هل تستطيع أوروبا أن تبقي الاتفاق النووي مع إيران حياً؟ وكيف؟، مركز كارينجي. على الرابط: http://carnegie-mec.org/diwan/76382
  3. مقابلة أجريت مع وزير الخارجية الأمريكي ” مايك بومبيو” في على شبكةCBS الأمريكية بتاريخ 4 / نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.
  4. للاستفاضة انظر: عقيل سعيد محفوض، السياسة الخارجية التركية: الاستمرارية والتغير، بيروت، المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2012، ص 87
  5. انظر: د. محمد ياس خضير، أمن الخليج في ظل التحولات الإقليمية الجديدة، مجلة دراسات دولية، جامعة بغداد، مركز الدراسات الدولية، 2012، العدد 53، ص 138
  6. Hassan Rouhani, Why Iran seeks constructive engagement, Published: September 20, access date: September 20-2013:
  7. مجلة ” فوربس” الأمريكية، عدد 5 سبتمبر 2018.

 

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!