الأربعاء, ديسمبر 25, 2024
دراساتالحراك الاجتماعي الحديث في مواجهة السيول في الأحواز عام ٢٠١٩

الحراك الاجتماعي الحديث في مواجهة السيول في الأحواز عام ٢٠١٩

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

مقدمة

ان التحقيق في تاريخ الحركة الاجتماعية سيجر بنا حتما نحو تشكيلة بداية التحرك البشري وتعد ممارسة ترتبط ارتباطا وثيقا في التاريخ الانساني، الا ان استعمالها كمفهوم نظري- تطبيقي على المجتمعات يظل حديثا جدا بتزامن مع عام ١٨٤٢ عندما أبدع لورينز فون ستاين مصطلح الحركة الاجتماعية للدلالة على اشكال وصيغ الاحتجاج الإنساني الرامية الى التغيير واعادة البناء أو تطوير الوضع الموجود. فالتاريخ البشرى حافل بالكثير من الحركات الاجتماعية في سياقات السوسيولوجية الواقعية.

يمكن ان يرى القارئ هذا النوع من الحراك في شكلين اولهما وكما تعودت المجتمعات يأتي في مسار التحول والتجاوز وبرزت في اشكالها العنيفة منذ قيام حراك العبيد (من مختلف الاطياف والألوان والجنسيات) ضد سلطة روما وتوسعت لتشمل حراك وثورات مثل ثورة الفلاحين والعمال ومن ثم حراك الأفارقة – الامريكيين في الولايات المتحدة وصولا الى الحركة النسوية باعتبارها من أحدث الحركات المناهضة للعرف الاجتماعي الذي لا يعترف بحقوقها. الهدف من هذه الحركات الاجتماعية صوغ مجتمعية جديدة وبناء أسلوب حياة يكرم الانسان بها (صافي، ٢٠١١). وأما من جهة اخرى تمثلت هذه النظرية وبشكل اخر من خلال تعاطف المجتمعات البشرية مع احداث اخذت نصيبها من الاهمية على مستوى جغرافية محددة أو بشكل أوسع ولعبت دورها في تشكيل الحجر الاساسي في الحركات الاجتماعية للعديد من الشعوب واعتبرت من المواقف التي مهدت لصياغة “مفهوم الشعوب الحديث” وعلى سبيل المثال حضور جيوش كندا في الحرب العالمية الثانية للدفاع عن قيم الانسانية في مواجهة هتلر تعتبر اللحظة التي ولد فيها “روح الشعب” وانبثق من خلالها الشعب الكندي.

هذا الواقع الزمنا ان ندرس ونحلل هذه الثنائية في تعريف الحركات الاجتماعية في الأحواز بالتركيز على حراك الشعبي في مواجهة السيول عام ٢٠١٩ والتي أصبح موضوعا يستحق النقاش بهدف فهم شروط انتاج هذه الحركة وسيرورتها ومآلاتها.

 

حراك السيول في الأحواز من المفهوم الى النظرية

حصل حراك اجتماعي غير مسبق ليس على مستوى الأحواز في عام ٢٠١٩ فحسب، بل ربما على مستوى عالمي أيضا بعد ما فتحت السلطات الايرانية السدود متعمدة ومنها سد الكرخة وسد الدز على الأراضي الأحوازية وأغرق على أثر ذلك ستة مدن ومئات القرى ومئات الالاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية والالاف من الأغنام والبقر.

 وفقد على إثر ذلك الالاف من المواطنين الاحوازيين منازلهم وما يملكون من ممتلكات وثروة واملاك. حصل هذا الحدث غير المتوقع بعد المضي على صيف جاف حرم المواطن الأحوازي من الزراعة والري، كما حرمت المئات من القرى الأحوازية من مياه الغسل أيضا. وبعد أشهر قليلة أعلنت السلطات الإيرانية فجاءة “ان السدود قد امتلأت تماما ولا يمكنها ان تتحمل حجم المياه” في قنواتها الإخبارية وجرائدها. نتيجة لذلك، فتحت بوابات السدود حيث دفع المواطن الأحوازي فاتورة سياسة النظام وخططه التي باتت واضحة للمواطن في الإقليم. حيث حاول النظام الإيراني منذ عهد البهلوي الأول وسيما في عهد الجمهورية الإسلامية تهجير الأحوازيين من أراضيهم واستبدالهم بمواطنين من الفرس. وبحسب المقابلات التي أجراها بعض النشطاء مع الأحوازيين حينها وانتشرت في شبكات التواصل الاجتماعي، قد أعتبر الاحوازيون السيول المفتعلة ليس الا استمرار في تنفيذ هذا المشروع الأمني فحسب.

 

مفهوم الحراك من منظور وسع ونوعية المشاركة

 شارك في هذا الحراك الاجتماعي جميع القوى الأحوازية في الداخل من مختلف اطيافها وتم تشكيل حراك اجتماعي من مختلف الأطياف الاجتماعية- المدنية والسياسية. ورغم وسعة الحراك ودقته ونتائجه الإيجابية والتي تحلى بالتكاتف والتآزر غير المسبوق في تاريخ الأحواز الا انه لايزال لا يمكن ان يؤسس مفهوما دقيقا لما حصل والنتيجة هي طبعا غياب تعاريف واسباب غير نهائية تصنف الاختلاف والتناقض على خلفية الأطر المعرفية وما كان وراء هذا النشاط الجماعي. تركت الامور في نهاية في حالة ضبابية في الرؤية وفى تقدير حجم وطبيعة الحراك والاسباب التي ساعدت على ذلك. بشكل عاجل أرى ان حراك ديسمبر ٢٠١٨ في قضية إطلاق سراح المواطن جبار على العبود ونجاحها (وأن كانت النتيجة محدودة جدا) والتي سبقت حراك السيول بأشهر قليلة لعبت دورا بارزا في تحشيد وتنشيط حراك سيول عام ٢٠١٩.

الأهم في ذلك، يبدو أن ما حصل من تعاضد بين الشعب الأحوازي ليس حراكا فحسب وانما احتجاج وصراع سلميا ومدنيا راقيا قل نظيره في العالم. كانت قد حصلت المواجهة بين الشعب الأحوازي من جهة ومشروع سيول المفتعلة بفعلة قيادات الحرس الثوري الذي يتولى تنفيذ هذه السياسة من جهة أخرى. كانت ساحة الصراع هي النقطة الفاصل بين السواتر الترابية والمياه التي غمرت الارض. من جهة مياه ممدودة على طوال عشرات أو ربما مئات الكيلومترات ومن جهة أخرى رجال ونساء وأطفال وشيوخ من جميع الجهات والأطراف والاصناف تأزروا وواجهوا خطط النظام الإيراني. بطبيعة الحال، دفع المواطن الأحوازي الثمن بأمواله واملاكه كما توفى ما يقارب عشرة اشخاص على أثر السيول وتم سجن العشرات من النشطاء البارزين ممن شاركوا في الحملات الاغاثية. لكن لا ننسى كانت الحصيلة هي البشرى التي جعلت المواطن الأحوازي ان يثق بنفسه وامكانيته في إدارة الازمات بدل من النظام الإيراني. اذن، يجوز لي ان أطلق عنوان ” المقاومة السلمية” أو “الصراع السلمي” أو “التحدي السلمي” بحسب افكار تولستوي وغاندي على مثل هذه الحراك الكبير.

وإذا نظرنا الى نظريات علم الاجتماع، يعتقد العديد من السوسيولوجين ان تاريخ الحركات الاجتماعية جاءت تبعا للصراعات الدائرة في المجتمعات الانسانية فعلى سبيل المثال الصراع بين الأحوازيين من جهة وقوات الاحتلال الايراني والمستوطنين الفرس من جهة اخرى يعتبر العامل الاساسي للحراك الشعبي في مواجهة السيول في الأحواز. واقع الامر، ان هذه الحركات تدل في الأصل على الصراع الذي يكشف ” الوجه التعارضي” بين الطرفين على ارض الأحواز من حيث القيم والمصالح. ذلك ما يجعل الحراك الاجتماعي الاخير نوعا ما يصنف ضمن الحركة الاجتماعية في شكلها الاحتجاجي القائم أصلا على التطوير والرفض.

 

أهمية الخطاب في الحراك الجماعي الأحوازي: الصراع أم السلام

 

هناك تعارض بين مقولتين يتعايشها المواطن الأحوازي ” السلام والصراع” ورغم ان العالم يحث على السلام والصلح الا أن هذا الجانب من هذه المعادلة لا يبدو يمكن تطبيقها في الأحواز وعلى أقل التقدير في هذه الفترة التي يعيشها المواطن الأحوازي جراء التهميش والفقر وسلب الحقوق وغصب الأراضي. يعيش العالم في مرحلة ما بعد الحداثة؛ ورغم ان العديد من المنظرين يعتبرون الصلح والسلام أحد ركائز هذا العصر لكن بالنسبة للمواطن الأحوازي حياته لا تتفاعل مع هذا الخطاب. معتبرا وفق حركية مقولةالسلام – الصراع ” يحتاج كلتا الجانبين معا. هذه النظرية في تاريخ الأحوازي جاءت كما ذكر ليون تر وتسكي في كلامه الشهير حيث قال ” قد لا تكون مهتمًا بالحرب، لكن الحرب يهمك”. اذن السلام كغاية ووسيلة ضروري لحفظ استمرار ونماء حياة الناس واستقرارهم؛ وفي نفس الوقت الصراع –أيضا- كغاية ووسيلة ضروري لحفظ حق المواطن الأحوازي وهويته وكرامته وأرضه ووطنه، واستمرار الحياة للمواطنين الأحوازيين كأفراد ومجتمعات عبر مختلف الأوطان والأزمان.

وفي ظل الظروف الحاكمة، باعتقادي تثقل كفة الميزان لصالح الصراع، فهو من جانبه؛ يعبر عن شكل من أشكال الرفض للاحتلال والظلم الايراني، أو التمرد على الوضع الموجود، أو حتى الرغبة في التميز ثقافيا واجتماعيا من الشعب الفارسي الذي يقع في وضع يمثله النظام الحاكم. فالتناقضات – في المفاهيم حسب الوضع الموجود – بين أوساط الشعب الأحوازي؛ تقحم العلاقات التي لا أساس لها أو تولد الارتباك. فالاضطراب القائم يدفع بالجهتين نحو الاتجاه المعاكس والمخالف؛ ما يعني وقوع مواجهات بين الشعب الأحوازي من جهة والنظام الإيراني من جهة أخرى لا مفرا منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة في ضل الغطرسة التي يعيشها النظام الإيراني. ويقع في هذا الصراع بين الأقطاب المتجاوبة، من جهة يقف نشطاء سلميين وحراك بشري بصدور عارية يدافعون عن أرضهم وهويتهم الأحوازية ومن جهة أخرى قوات الحرس والامن والمخابرات والجيش مدجج بالسلاح وبدعم من محاكم الثورة والحكومة؛ دون شك يؤدى الى صدام المتناقضات؛ يولد الطاقة الكافية لكلتا الجهتين لتعبئة البشرية والمادية والمواقف أيضا نحو استحداث التغيير للطرف الأحوازي من جهة ومحاولة الحفاظ على الوضع الموجود للنظام الإيراني التي يرى الأحواز غنيمة كبيرة لا يمكن ان يتنازل عن جزء صغير لأهلها لكي يعيشوا كالبشر من جهة اخرى. هذه المعادلة هي التي تثقل كفة الميزان لصالح الصراع على حساب السلام التي بات مفقودا نهائيا.

حسب تصورنا لا يمكن ان نتخيل مستقبلا خارج مجال حركية “السلام –الصراع ” للشعب الأحوازي من جهة والنظام الإيراني من جهة أخرى، كما لا يمكن تقديم أي تصور فلسفي أو تفسير علمي أفضل من هذا النوع؛ بشأن الواقع المفروض على الأرض.

ونحن من خلال هذا البعد النظري؛ نحاول تقديم النموذج الذي يراد أن يكون المدخل السوسيولوجي المناسب في توجيه هذه الدراسات والتي تختص بحراك السيول عام ٢٠١٩، لكي نقدم للقارئ دراسة تساعد في فهم ظاهرة الصراع الاجتماعي القائم، عبر سلسلة من التطورات على الصعيد الفكري في إطار ارتباطه بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الأحواز، وهي دراسة حالها كحال البحوث والدراسات الأخرى لا تخلو من الحاجة الملحة إلى التعاون من الكتاب الأحوازيين وغير الأحوازيين المهتمين في شأن الأحواز لتطويرها في المستقبل على نحو يمكن الأهداف العلمية النبيلة بلوغ مقاصدها.

وبناء على ما سبق تناوله، ارتأينا في هذا البحث ان نقف على حقيقة الصراع الأحوازي- الايراني انطلاقا من معرفة عما إذا كانت الاتجاهات الفكرية والسوسيولوجية استطاعت أن تقدم تفسيرا موضوعيا للجدث يتطابق مع واقع الصراع الاجتماعي في حد ذاته؟ وهل أن هناك ارتباط بين العوامل النفسية للصراع القائم على مستوى الجهتين الأحوازي والايراني وبين العوامل الموضوعية الاجتماعية والمادية للصراع القائم؟

بهذه التساؤلات نصل إلى سؤال بحثنا الرئيس وهو كما يأتي:

هل يعد الصراع القائم بمثابة المحرك الأكثر فعالية في حدوث عملية التغير في مستقبل الأحواز؟

 

 

حراك السيول وتغيير طابع العلاقات الاجتماعية في نظرية بلومر

إذا فترضنا ان ندرس ما كتبه بلومر الى أن الحركة الاجتماعية هي ذلك الجهد الجماعي الرامي الى تغيير طابع العلاقات الاجتماعية المستقرة في مجتمع معين، اذن الحركة الاخيرة في حراك السيول في الساحة الداخلية في الأحواز كانت ترمى للوصول الى قيام مشاريع جماعية تستهدف إقامة عرف ونظام اجتماعي جديد بدلا عن الاعتماد على قوانين النظام الايراني في أراضي الأحواز وتسعى هذه الحركات الى:

 أولا: تطوير مستوى الوضع الراهن (المقاومة) وتترجم الاحساس بعدم الرضا عن النمط السائد (قانون الاحتلال) من جهة،

 ثانيا: تدل على الرغبة في اقامة نسق جديد يعمل على نبذ العرف العشائري المتخاذل من جهة أخرى،

ثالثا: تطوير العلاقات الاجتماعية القائمة الحديثة بين أبناء الشعب الواحد،

رابعا: ترفض هذه الحركات ان تحذوا خطوات وقانون يتبع نظام الايراني لا بل تعمل جاهدة على نبذ الوضع الراهن وتظل مرتبطة بفعل التغيير المستمر.

في نظر الباحث في شأن الأحوازي، تعتبر هذه الخطوات ” كتحول في الزمان يلحق بطريقة لا تكون عابرة بنية وصيرورة النظام الاجتماعي، لمعرفة ما يعدل او يحول مجرى تاريخها”، (صافي، ٢٠١١)، وهذه الحركة الاجتماعية لا تكتس شرعية الوجود ولا تعتبر عرف سائد في المجتمع الأحوازي إلا إذا جعل الشعب هذا العرف غاية يقتدي به ويتطلع الى المشاركة في العديد من الامور الاجتماعية الاخرى ويجعلها شرطا وجوديا له، وإلا سقطت عنه عناصر المعني لوجود حراك اجتماعي الذي يوحى الى هوية الشعب الواحد.

كما أشرنا مسبقا يحضر في تعريف الحراك الجماعي الاحوازي في مواجهة السيول عنصرا مهما إذا ما كانت تنوى الحركة الاجتماعية التطور والتغيير معا. من السهل ان يقاوم الشعب الاحوازي ويعمل التغيير لكن يبقى نجاح عمله مرهونا في تطور العمل وبتبع ذلك تطور العمل مرهونا بعنصر الاستمرارية.  حسب ما جاء في قاموس علم الاجتماع لغولد وكولب يؤكد أن الحركات الاجتماعية هي جهود “مستمرة” لجماعة اجتماعية تهدف الى تحقيق أهداف مشتركة لجميع الأعضاء، فالفعل المستمر هو الذي يؤهل الممارسة الاحتجاجية الى مستوى الحركة الاجتماعية كجهود منظمة وغير عابرة، ينتفي فيه الواقع ويتأسس فيه اخر. لهذا يؤكد فرانسوا شازل ان الحركة الاجتماعية هي بمثابة “فعل جماعي للاحتجاج بهدف اقرار تغييرات في البيئة الاجتماعية أو السياسية”، فالأمر يتعلق بجهود منظمة يبذلها عدد من الناس بهدف التغيير أو مقاومة التغيير في المجتمع (صافي، ٢٠١١). اذن إذا تمت مقارنة حراك السيول الجماعي ٢٠١٩، يجد المتابع فيها البعض من الأفعال التي سعت جاهدة الى إقرار تغييرات في البيئة الاجتماعية أولا حيث فقد التقسيمات المتعارفة عليها كالمناطقية والعشائرية والقبلية مفهومها كما تعودنا عليه في الأحواز وبات المواطن في جميع المدن والنواحي مهتما بالفعل الجماعي، مشاركا في الاحتجاج.

 

حراك السيول والتغيير الاجتماعي في نظريات ابن خلدون

اذن يمكن القول ان هذه الحركة بالإضافة الى مواجهة النظام الايراني، زرعت البذرة الأولى للتطور الهيكل الاجتماعي- العشائري في مسيرة مستدامة نحو المجتمع – المدني في الأحواز وذلك يوضح مقاومة الانسان والمجتمع من أجل المحافظة على الوجود وتطوير الكيان وتجدد الهوية. قال ابن خلدون في كتابه الشهير مقدمة ابن خلدون “أنَّ حاجة الناس بعضهم إلى بعض صفة لازمة في طبائعهم وخلقهم وقائمة في جواهرهم” و ” أنَّ الاجتماع الإنساني ضروري…. أنَّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء…(اي التعاضد والتعاون)… كذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه الاستعانة بأبناء جنسه…(الأمن و الثبات)” (Ibn Khaldun, 2005).

وإذا اعتبرنا الوضع في الأحواز في حالة من الصرع من اجل البقاء وذلك ما نلاحظه في افكار ابن خلدون حيث أصر على ان البقاء لا يحصل بين ابناء الجنس الواحد الا إذا ما أرجع طبيعة كل فرد إلى “الاجتماع والتعاون” وهذه ضرورة وجود وصراع مع اللاوجود بالنسبة للشعب الأحوازي والامل الوحيد الذي يجمع بينهم ويدافع عنهم لصد الاعتداءات الخارجية ومنع الظلم الذي يقع عليهم.

حصلت هذه الحركة الجماعية في الأحواز، لكن لا يمكن ان نصنف هذا النوع من الحركات في مستو مراحل ” التغيير او التطوير” الا إذا افترضنا حصول نظم ومتابعة مستمرة تبلغ اهداف سامية اخرى. حيث “كل حركة تعمل من أجل قضية معينة، وتحتج اساسا من أجلها. ومنه يمكن الانتهاء الى أن الحركة الاجتماعية لا تكتسب مبناها ومعناها بعيدا عن الحد الأدنى من التنظيم ووضوح الأهداف وشرط القضية، وقبلا وجود جماعة تؤطرها قيم ومعايير تتحقق حولها درجة من الأجماع” (صافي، ٢٠١١).

 

جوهرة حراك الجماعي في مواجهة السيول وأسبابها

أن في تعريف هذه الحركة الاجتماعية يثير الكثير من الاختلافات ويبدو وراءها العديد من الاسباب والديناميات:

أولا: النخوة العربية- القبلية كما كانت سائدة تماما من قبل في المجتمع الأحوازي،

ثانيا: النخوة الانسانية اي العمل الانساني الدارج في جميع المجتمعات،

ثالثا: الهوية والوطنية،

رابعا: الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي،

خامسا: الصراع القائم مع المستوطنين باعتباره الية تنفيذ خطط التغيير الديمغرافي في الاحواز،

سادسا: حضور النشطاء ومنهم الشعراء والفنانين وشخصيات ميدانية بارزة على خط الواجهة بالدفاع عن الضحية،

سابعا: موجة حماس سوف تطفئ بعد محاولة إطلاق سراح السجين الأحوازي جبار علي العبود في حراك ديسمبر ٢٠١٨،

أخيرا، ربما جاءت نتيجة محاولة نشطاء في خلق موجة حراك تعبوي يتم استقلاله لمأرب سياسية في مستقبل قريب.

اذن تبعا لتعدد المقاربات والمنطلقات والعوامل النظرية والمنهجية، إلا أن الاختلاف لا يبدو محتدما حول اثبات وجود احدى تلك العوامل بمنعزل عن غيرها، وبالرغم من مجمل النقاش بين العديد من الاطياف الذي أثير حول اسباب هذه الحركة الجماعية المتقدمة، فأغلب المقاربات والمنطلقات تؤكد أن الأمر متصل بجهود جماعية أحوازية ذوي أهداف محددة يسعون إلى تحقيق هدف محدد. كما ان هذه الحركة يكمن وراءها الحس الوطني لدى البعض من الداعمين. بالإضافة الى أن الأمر يتصل أيضا بوجود معايير مقبولة اجتماعيا (الحسي العروبي – القبلي اي العرف السائد) لكن تحقق في صددها نوع من الإجماع في شكل تضامن وتكاتف وتأييد مطلق أو تعاطف نسبي من جميع الاطياف تكلل هذا الاجماع بدرجة معينة من الوعي بالحاجات للدفاع عن الوجود الأحوازي. ومن اهم مميزات هذا الحراك لا يبدو هناك حد أدني من التنظيم المسبق كخصيصة مميزة لحركة اجتماعية معينة تنوي استمرارية العمل واستثمار هذا الحدث لخلق حركات اجتماعية اخرى.

أن تفسيراً كهذا يصنف ضمن سياق الصراع الهوياتي – الايديولوجي الدائر بين اصحاب الارض الأحوازيين من جهة والنظام الايراني المتمثل بالمستوطنيين والشركات الإيرانية وقوات الحرس مقرات التتعبئة (الباسيج) التي يشكل غالبيتها أحوازيون من العملاء التابعين للنظام الإيراني وهذا الاختلاف يمثل صراع تاريخي حاسم وطويل ودائما في الأخير ينتهي لصالح السلم الاجتماعي والاستقرار لجهة المقاومة على حساب جهة المعتدية كما هو الحال في العديد من الدول مثل الجزائر في عهد الاحتلال الفرنسي حسب ما قيل ” ان للباطل جولة وللحق صولة” شرط أن يستمر الحراك الجماعي كما هو الحال في جميع أنحاء الأحواز. اذن اليوم يقتدى الشعب الأحوازي بالتجارب التاريخية حيث أنتج حراك جماعي استطاع ان يواجه القوة القمعية للنظام الايراني.

هنا نأمل بالحصول على انتاجات موضوعية توضح الحراك الجماعي وبهدف ايضاح الاشكال والمضامين الاجتماعية وبتبعها السياسية ضمن دائرة الصراع البشري القائم لتغيير الواقع المفروض وتطوير الهدف المنشود. حيث يمكن ان نتوصل من الخلال الحراك الاجتماعي القائم في الأحواز الى قراءة الافراد والحراك والتغييرات الاجتماعية.

 

نتائج الحراك الشعبي ودور النظم المؤسساتي

 

وفقا لهذا المنهج، الحراك الجماعي الاخير في الأحواز إذا ما استمر سوف يصبح محط اهتمام الحراك السياسي بشكل مباشر ويصبح محطة الأولى لإشعال منارة مسير النقلة المجتمعية من “العشائرية- القبلية” الى المدنية. حيث تبدو هذه القفزة نقطة الانعطافات المفصلية في تاريخ الحراك الثقافي الاحوازي، بعد ما حصل مثل هذا الحراك على مستوى السياسي بشكل شعبي واسع منذ ٢٠٠٥. ولا أعني هنا ان المجتمع الأحوازي أصبح مدنيا، لكن ما أعنيه هو الحديث عن نقطة التحول العظيم الذي يدرك المواطن ضرورة التغيير.

 في الواقع يدور الحوار حول الخطوة الأولى والأهم من هذه المسيرة المعقدة فحسب. حيث يعتقد العديد من علماء والأكاديميين ان الحراك الثقافي والاجتماعي يشكل الوجه الحديث من الحراك المدني ويطلق عليه عنوان الحراك الاجتماعي الحديث (New Social Movement) وإذا ما التقي الحراك السياسي – الاقتصادي والحراك الاجتماعي – الثقافي معا سوف يولد التحول.

تهتم هذه الحركات الاجتماعية الجديدة بالأمور الاجتماعية والثقافية بدلاً من الاعتبارات الاقتصادية أو السياسية البحتة وتعمل كمنصة للعمل الجماعي في المجتمع المدني، وليس كأداة للدولة. حيث اعتبر الكثير من العماء وقيادات الحراك الاجتماعي الجديدة بان هذا الحراك يُعتبر مناهض للاستبداد الأنظمة السياسية.  وبحسب اوفه غالبا ما يتشكل أعضاء الحركات الجديدة من عدة شرائح من الهيكل الاجتماعي ومنها الطبقة الوسطى من اصحاب المهن والأشخاص خارج سوق العمل مثل العاطلين عن العمل والطلاب وربات البيوت والمتقاعدين (Offe, 1987, p. 77). وإذا نظرنا الى حراك السيول في الأحواز كان جل من شارك فيه من الطبقة الوسطى من المجتمع الأحوازي.

وبالأخير نتائج مثل هذه الحركة الشعبية في مواجهة السيول تصب دائما في مصلحة التدخل في مسارات التغيير الاجتماعي، وهذا ما يجعلها محلا للانتباه و الاهتمام في خارطة البحث السوسيولوجي وهو ما يتطلب بناء مقاربات أكثر أصالة وعمقا في أثناء التحليل لهذا النوع من الحراك وهكذا يمكن عند بناء الموضوع السوسيولوجي للحركات الإجتماعي لابد ان يضع الفرق والتمييز بين اي بعد من الابعاد الثلاثة، البعد التنظيمي للحراك الشعبي، والبعد الخطابي وهو العامل المهم، فضلاً عن بعد الدعم المادي في مسارات الانشغال العملي بهذه الحركات (صافي، ٢٠١١).

اذن يمكن القول، كل حركة اجتماعية- شعبية بما فيها حراك الشعبي الأحوازي حسب الاهداف إذا كانت ثقافية- هوياتية أو سياسية تلزم لنجاحها حد أدني من التنظيم، مع ما يستتبع هذا النظم من قواعد وسلوك ومعدات باعتبارها الاسس البنيوية للفعل الاحتجاجي. ورغم مرور أكثر من فترة طويلة على هذا الحدث الا ان اهمال الأحوازيين في قراءة الحدث وبحثه ترك هذا العمل الشاق في دائرة النسيان دون البحث عن اليات التنظيم وتطويرها ونقدها وبحث البدائل التي تساعد في الاحداث المتشابهة في المستقبل. كما لا يمكن إطلاقا أن نتصور حركة اجتماعية بلا خطاب مؤطر وموجه، حيث ترك الخطاب في حراك السيول ليس الا يعبر عن صورة من البنية الفوقانية للحراك الاجتماعي فحسب دون النظر أو التمعن الى الجذور البنيوية.

في هذا السياق يمكن ان نبحث هذه الظاهرة الاجتماعية من عدة زوايا مختلفة اولها نظرية السلوك الجماعي وتدين هذه النظرية بالكثير لمدرسة شيكاكو وأساسا لبارك ومن بعده بلومر، وتستند في تفسيرها للحركات الإجتماعية إلى خلاصات علم النفس الاجتماعي وسيكولوجية الجماهير (صافي، 2011). وإذا حاولنا ان نطيق هذه النظرية على الحراك الاجتماعي في الأحواز لابد ان نربط الحركات الإجتماعية بحدوث أشكال من الهستريا الجماعية، حيث تنتقل العدوي الجماعية التي تجعل الفرد منساباً مع السلوك الاندفاعي.

انا لست هنا لكي ابرمج برمجة ثابتة لشعب يتعدى الملايين من البشر ويحمل تراث ثوري طويل، انما أحاول ان البحث عن هوية الحراك الأحوازي من خلال زوايا متعددة غالبيتها مناهج اوروبية ورغم اختلافها عن المجتمعات الشرقية لكنها لا تخلو من الفائدة.

كما ليس الهدف هنا التقليل من نوع الحراك في الأحواز لكن المراد به هنا أن البعض من الحركات الاجتماعية في الأحواز تولد نتيجة الحماس ونتيجة الوعي (Self-aware) وتنطوي على ردود أفعال ليست بالضرورة منطقية. بينما الحراك الوطني الناجح يحتاج الى تطوير هذا الوعي الى مرحلة إدراك (Self-conscious) للانتقال من الحماس الى القناعة. لكن ربما لا يمكن تطبيق هذه النظرية لأنها عملا ولدت لتمثل المجتمعات الغربية التي تعتبر فيها البعض من الحالات السلبية مثل العنصرية، على سبيل المثال في ايطاليا حيث يعتبر المنظر انها لا تحتاج المجتمعات الصحية إلى حركات اجتماعية بل تتضمن أشكالاً من المشاركة السياسية والاجتماعية.

وأيضا هناك احتمال مرجح، ان نعتمد على نظرية تعبئة الموارد، التي تبلورت في الستينيات من القرن الفائت ارتكانا على فهم خاص يبحث في بناء الحركات الإجتماعية وآليات تدبيرها وتشكلها بواسطة الموارد الاقتصادية والسياسية والتواصلية، التي تتوافر للأفراد والجماعة المنخرطة في الفعل الاحتجاجي (Jenkins, 1983).

كان نهج تعبئة الموارد في امريكا مسبقا يشكل أبرز سمة من سمات التحليل السياسي اليميني. هؤلاء اليمينيون المحافظون، يتميزون بإنكارهم ورفضهم لصحة وايجابية حركات اليسار الراديكالي والإصلاحي أو حتى الحركات الليبرالية المعتدلة الاخرى، حيث تدور الافكار والنظريات وبحوث التحليل اليميني بشكل مطلق حول أهمية الموارد “الخارجية”. هؤلاء المحللون يقللون من أهمية المظالم ومطالب الطبقة الدنيا من عامة الشعب يرفضونها باعتبارها انها تمثل المحرك الاسي للحركات الاجتماعية. لان بحسب اعتقادهم تكمن هناك أمور أكثر اهمية وراء الحركات الاجتماعية. لذلك يجد المتابع ان مفاهيم مثل “المحرضون الخارجيون” و “المؤامرة الكامنة” هي ضمن المصطلحات والمفاهيم الرئيسية في قاموس وادبيات اليمينيين (McCarthy & Zald. 1973. p.1). تجادل هذه الفئة بأن نجاح الحركات الاجتماعية تعتمد على عدة الموارد من أبرزها الوقت، المال، المهارات وكيفية استخدامها والقدرة على العمل في الوقت المناسب بطريقة فعالة.

بناء على هذه الرؤية، أن الحركات الاجتماعية – الشعبية في الأحواز هي إستجابات منطقية لمواقف وإمكانيات تطرأ في المجتمع وتعتبر مظهرا من مظاهر الفاعلية الإجتماعية ومكون بنيوي من العملية السياسية. لهذا من الممكن ان يشاهد المتابع العلائق القائمة بين هذه الحركات الشعبية في الأحواز والقضايا السياسية المثارة في النسق المجتمعي. عندئذ يمكن ان يكشف جدول التأثير والتأثر بين الوضع الإحتجاجي للمشاركين في احداث مواجهة السيول والوضع السياسي المفروض على الشعب الأحوازي بشكل عام.

 

الملخص

تتمثل هذه الحركات الإجتماعية كفعل اجتماعي عاكس لتناقضات الحكم الإيراني في المجتمع الأحوازي بسبب اتساع رقعة الحراك بين المواطنين الأحوازيين جراء العولمة المفرطة ويتم التشديد في إطار هذه القراءة على الاختلافات القائمة بين الحركات الأحوازية القديمة ذات الطابع الاقتصادي-السياسي والأخرى الجديدة ذات الطابع الاجتماعي – الثقافي. حسب هذه القراءة أن مثل هذه الحركة الإجتماعية تهتم أكثر بتطوير الهوية الجماعية والمراهنة على جميع طبقات ومكونات الشعب بدلاً من مكون أو طبقة ثورية محددة. مثل هذه الحركات الإجتماعية في الأحواز ديناميات اجتماعية حائلة دون الركود أو الثبات الإجتماعي؛ فهي أفعال احتجاجية تروم التغيير ومقاومة جميع إمكانيات التكريس وإعادة إنتاج القائم من الأوضاع، وهو ما يجعل منها ممارسات ضد الفئة المهيمنة والنظام الحاكم. لهذا ينبغي، وفقا لهذا البراديغم النظري فهم الحركة الإجتماعية في الأحواز كفعل ضد الهيمنة من أجل تحسين الهوية فحسب وليس لتغيير الوضع الموجود.

 

مصطفى حته

 

 

المصادر

لوبون، غستاف. (٢٠١١). سيكولوجية الجماهير، دار الساقي: عدد الصفحات  ٢٢٣.

محمود صافى محمود. (٢٠١١) . سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية”. كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهره.

Ibn Khaldun, 2005: The Muqaddimah, Princeton, ISBN: 978-0-691-12054-6

Jenkins, J. )1983). Resource Mobilization Theory and the Study of Social Movements. Annual review of sociology 9.1 (1983): 527–553. Web.

Offe, C. (1987).  Challenging the boundaries of institutional politics: Social movements since the 1960s. In C. Maier (Ed.), Changing Boundaries of the Political: Essays on the Evolving Balance between the State and Society, Public and Private in Europe. Cambridge: Cambridge University Press. pp. 63-106.

McAdam, D; Tarrow, S and Tilly, C. (2009). Comparative Perspectives on Contentious Politics” in Lichbach and Zuckerman (eds), Comparative Politics, Second Edition. Cambridge: Cambridge University Press. 2009.pp. 260-290.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!