اتخذ الإعلام الإيراني موقع الهجوم، ممتثلاً بذلك طبيعة موقف إيران من العرب والأنظمة العربية، ويحمل في أكنافه حقدًا وكرهًا للعِرق العربي، على الرغم من قِصَر عمر الثورة الإيرانية وقِصَر التاريخ الإعلامي لها. ترى الشعوب والأنظمة العربية حملة إعلامية من القنوات الفضائية الإيرانية والصحف ومراكز الدراسات تحريضًا مستمرًا في تأجيج الوضع الأمني.
في هذه الدراسة يتوقف البحث عند كيفية استهداف الإعلام الإيراني للأمن القومي للدول العربية، وسيما دول الخليج العربي، كأن يقدم حدثًا سياسيًا بمهنية عالية، لكنه يُتبِعُهُ بخبر ذي ملامح طائفية يثير الفوضى والشغب في الشارع العربي.
تُشرف مؤسسة الحرس الثوري الإيراني على تمويل الإعلام المرئي وغير المرئي وتعيين الخطاب فيه ويتم تنصيب وزير الإعلام بأوامر المرشد الأعلى مباشرة، فهو ليس تابعًا لإدارة رئيس الجمهورية.
يعمل الإعلام الإيراني ممثلاً بـخمسين قناة فضائية باللغة العربية والمئات من الوكالات الخبرية ومراكز الدراسات، على تنفيذ أجندات سياسية تصب في مصلحة استراتيجية النظام الإيراني التوسعية في الدول العربية، وهذا ثبت من خلال ما تقدمه القنوات الإيرانية من برامج وتغطيات إخبارية لأحداث الوطن العربي.
تسعى إيران من خلال الحملة الإعلامية التحريضية التي تقوم بها قنواتها في تأجيج الوضع الداخلي للدول العربية، وخلق قلاقل تهدد السلم الأمني، لبسط سيطرتها على دول المنطقة، كما تسعى، من خلال ما تقدمه من دعم لبعض الجماعات الإرهابية أو المشاغبة في الدول العربية، إلى خلق مناصرين ومؤيدين لها في هذه البلدان، بالإضافة إلى هيمنتها على بعض الأنظمة العربية الموالية لها كنظام المالكي، أو تتخلص من أي نظام أو كيان يمكن أن يقف في وجهها كالنظام السابق في العراق.
لكل بلد سياسته في الإعلام، والعمل الإعلامي الإيراني عبارة عن مخطط سياسي واستراتيجي، يظهر في بداية الأمر بمثابة عمل دبلوماسي ثم توجيهي، وأخيرًا مرحلة تبني الفكرة الاستراتيجية.
وللإعلام الإيراني مرتكزات ثابتة، وهذه المرتكزات تتغير تكتيكيًا حسب تغير الأهداف والظرف السياسي، لكنها لا تغيب نهائيًا، وبالتالي لا يعني اختفاؤها أن ثمَّةَ تغييرًا جوهريًا قد حدث، وإنما تظل تعمل وفقًا لتلك الاستراتيجية مع اختلاف الأساليب، ووفقًا لقواعد سياسية وأمنية واقتصادية داخلية وخارجية لخدمة راعيها.
حاول الإعلام الإيراني منذ بدء الألفية الثالثة، أن يأخذ تجاه العرب موضعًا من التغيير تبعًا للاستراتيجية الإيرانية، كما تتبع المعطيات والمتغيرات في السياسة الإيرانية الداخلية وتأخذ أحداث المنطقة والعالم في الحسبان. لكن لطالما سلَكَ النظام في طهران التقية في جميع مفاصله، إلا أن الإعلام الإيراني أصبح مرآة تظهر فيها السياسة الإيرانية وعدوانيتها تجاه البلدان العربية بجلاء تام، يظهر من خلال هذا الإعلام، المواقف الإيرانية من مجمل القضايا العربية والاستراتيجية العامة التي تهدف إليها إيران في المنطقة.
تؤمن إيران أن لديها جميع مؤلفات القيادة في الإقليم وحتى العالم الإسلامي بأکمله، حيث اعتبر مساعد القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية للشؤون الثقافية والاجتماعية حميد رضا مقدم فر، أمام المؤتمر الدولي “دور العالم الإسلامي في هندسة القوى العالمية”، إيران المحور الأساس والرئيس لهندسة العالم الجديد، وأکد أنها باتت تتبوأ اليوم مکانة متميزة بين دول العالم الإسلامي، حيث بإمکانها أن تقوم بالدور المحوري بين “الشعوب الإسلامية”. كذلك تؤمن إيران بأنها تمتلك المؤهلات الفكرية والسياسية والدينية والتاريخية والمستقبلية، وحتى الإلهية (ولاية الفقيه)، واستخدم هذا النظام الوسائل الرسمية، السفارات وأجهزة الاستخبارات والكتل الشيعية في العالم في إطار رؤية دينية وتؤمن بتسخير جميع إمكاناتها المتاحة في خدمة أهدافها الخارجية والداخلية، كما تسعى إيران إلى أن تخلق لنفسها موطئ قدم من خلال إعلامها في العالم العربي، وسيما في البلدان ذوي الكتل الشيعية في إطار رؤية دينية تستغلها لمصالحها السياسية ولتحقيق أهداف التوسُّع، ومد مناطق النفوذ، حيث تصبح الأقليات التي تأسَّست عبر السنين أذرعًا وقواعد إيرانية فاعلة لتوتير العلاقات بين العرب وإيران، وصالحة لخدمة استراتيجية التوسع القومي الفارسي كأن تبنى الاستراتيجية الإيرانية على الاختلاف والصراع مع الجوار وليس السلم.! تؤهل إيران هذه الأيديولوجية وتمنحها الحق في التدخل، معتبرة ذلك ليس تدخلاً طالما أن الشيعة يرجعون بالمحصلة للمرجعية الإيرانية وتُوظَّف هذه الكتل لإثارة النعرات الطائفية والصدام الطائفي وإثارة الشغب والفتن، “العراق ولبنان والبحرين واليمن نموذجًا”، لتصبح هذه المجتمعات أدوات في خدمة أهدافها الخبيثة وسياستها التوسعية في الإقليم، وتُتَرجَم في ثوابت الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم.
أما في إطار العقيدة السياسية، فلا تمانع من عقد التفاهمات والصفقات المادية مع الجميع، الشيطان الأكبر وحلفاؤه أو الممانعة والمقاومة – حسب زعمهم – من أجل تعديل المواقف والسلوكيات والانتماءات السياسية؛ كونه بالمحصلة يخدم التوجه القومي الفارسي الشيعي التوسعي وتترجم هذه المتغيرات السياسة الإيرانية باعتبارها، التكتيكات المرحلية.
إذا نظرنا إلى الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه قضايا أمن البلدان العربية، سنجده في طياته وتحليلاته يتناول مواقف متناقضة على صلة بالبعد الاستراتيجي الإيراني. تتسم مواقفه بالتعميم على جميع البلدان العربية، ومن جهة أخرى ترى نوعية الخطاب الموجه إلى كل من هذه البلدان على حدة يختلف تمامًا عما يتخذه الإعلام الإيراني بالجملة أو التعميم تجاه العرب ويبقى يتنوع بين فينة وأخرى.
يتناول دولة من البلدان العربية باستقواء ويمس سيادتها أو شرعية نظامها، ومن جانب آخر يمد يد الصداقة إلى من لا يجرؤ على المساس المباشر به، لكنه يعمل تجاه البلد الأخير سياقاً خاصاً في خطابه الإعلامي بين سطوره ويدس السم في الدسم.
هذه المفارقات التي يتباين فيها الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه البلدان العربية، أدت إلى صراعات طائفية في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين وأحدثت اختلافات بين البلدان العربية “سلطنة عمان في دول مجلس تعاون الخليج العربي نموذجًا”، حيث أدى إلى بلبلة وقراءة خاطئة بين دول الخليج العربي فيما يخص مصالح كل منهما مع إيران على حدة.
تأسست الدولة الخمينية على إنقاذ الفكر القومي العنصري الفارسي، وبالإضافة إلى نكهة طائفية من خلال تبني النظام الإيراني مشروعاً أساسياً تستند إليه هذه الدولة العنصرية والطائفية يتشكل من مقولتين، بل مؤلفتين، “الثورة الإسلامية المتمثلة بولاية الفقيه وتصديرها” إلى دول الإقليم، وسيما البلدان العربية.
إذن استند النظام الإيراني باعتباره الرائد في قيادة العالم الإسلامي وسخَّر زهاء خمسين قناة ناطقة بالعربية وعلى أشكال عدة، ثقافي ودعوي وتعبوي وسياسي، وبرامج أطفال وإنتاج مسلسلات تاريخية لتصدير الثورة الإسلامية ويحارب هذا النظام من خلال هذا الإعلام، العوامل المتقاطعة معه والمنظومات الفكرية والسياسية المخالفة وركزت الحكومة الإيرانية أخيرًاً تركيزًا تامًا في خطابها الإعلامي على بلدان الخليج العربي، حيث استخدمت جميع إعلامها لخدمة المرتكزات الأساسية؛ “ولاية الفقيه (الثورة) وتصدير الثورة”.
حين نرى الاستقواء والفرعنة على البحرين بموضوع الادعاءات بملكيتها من خلال خطابها الإعلامي والسياسي اليومي، ويأتي هذا الخطاب بالسعي لتحقيق الأهداف التوسعية في قلب الخليج العربي بإشعال النار والفتنة من خلال الإعلام وتحريض المندسين، حيث خصصت قنوات فضائية وصفحات وسيعة جداً في الإعلام الإيراني يتكلم عن مملكة البحرين وعن تشكيل “جمهورية بحرين إسلامية شيعية” تابعة لنظام ولاية الفقيه.
أصبح الغطاء السياسي والإعلامي أبرز أوجه التدخل الإيراني المكشوف في شؤون البحرين الداخلية بشكل يصعب إخفاؤه أو التستر عليه، حيث لعبت تصريحات المسؤولين الإيرانيين والحركة الإعلامية الضخمة دوراً كبيراً في تأجيج الوضع الداخلي في البحرين.
أما بالنسبة لخطاب إيران الإعلامي تجاه المملكة العربية السعودية، الحكومة الإيرانية تقاطع منذ ثورتها “المذهب السني”، وليس سيادة المملكة العربية السعودية، وجعلت من التفكير السني هدفًا مركزيًا لها في المملكة والخليج العربي، لأن سيادة المشروع الإيراني الصفوي والفارسي الغائي يتعارض مع أي فكر له خصوصية مستقلة عن إيران، ولا يؤمن إلا بالفكر الذي يخدم المصالح الإيرانية.
فتحت إيران المئات من المدارس الشيعية وأطلقت العشرات من القنوات الطائفية تقاطع من خلالها أي فكرة عقائدية إسلامية غير التشيع. كذلك يعتبر النظام الإيراني نفسه وكيلاً لبلاد المسلمين في العالم، كما يعتبر نفسه سياسياً، دولة إقليمية ذات نفوذ في المنطقة؛ ولهذا سوقت العشرات من القنوات تنطق باللغة العربية.
إذن المشروع الإعلامي الإيراني مُغلف بنزعة مذهبية وقومية، يستهدف أنظمة المنطقة وشعوبها وخيراتها، حيث اتخذ هذا الإعلام في خطابه مشروعًا توسعيًا ذا بعد قومي – شيعي اثنى عشري حسب طبيعة الموقع الاستراتيجي والمصالح الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.
إضافة إلى المرتكزات الأساسية التي أسلفناها، تتخذ إيران الخطاب الهجومي في الإعلام لأسباب ودوافع معينة، الأول وجود ضغط كبير من داخل النظام السياسي الإيراني لخلق بلبلة وإثارة الشغب في موضوع المتغيرات الإقليمية ويتم استخدامها وتوظيفها حسب الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وتارة تمنحه إطارًا تعبويًا كدعم المقاومة والشعوب المظلومة حال فلسطين، وتارة تدافع عن حقوق الشيعة كما في البحرين، ثانياً، تمنحه الإمكانية لقمع الداخل بحجة وجود مؤامرات خارجية ضد مشروعه الديني، كما تقمع الشعب العربي الأحوازي المحتل وتنفذ الإعدامات اليومية بتهمة “محاربة الله ورسوله”. يعتبر الخطاب الإعلامي الإيراني المتفرعن في البحرين تحديدًا على أنه كان مخططًا له، ليس لأن هناك حقوقًا مهدرة، ولكن لأن الفوضى في البحرين تقع في منطقة جيواستراتيجية وجيوبوليتيكية حساسة، ليُحدِثَ ارتباكًا في العالم وإرباكاً في المنطقة يدفع العالم إلى الاهتمام بالبحرين ويؤجل احتمالية وقوع هذا الإرباك في إيران.
تمتلك إيران ما يفوق عشرة آلاف موقع إلكتروني وعشرين ألف مركز دراسات تعمل باللغة العربية لخدمة مشروعها في المنطقة على حساب البلدان العربية ونشر أيديولوجيتها بين مختلف الأوطان العربية وفقًا لإحصائيات ويكيليكس. إذن هذا الموضع يجعل الأطراف العربية أن تعرف هناك ضرورة ملحة فرضتها عليهم الظروف القائمة والصراعات المدبرة الإيرانية للنيل من الخليج العربي تتعلق بإنشاء منصات فكرية وإعلامية تحمل الشقين الدفاعي والهجومي تعمل وفق خطط واستراتيجيات مدروسة، فضلاً عن العمل على إنشاء جيل جديد اهتماماته تشمل مختلف المجالات، حيث هناك حالة شبه إجماع على تبني هذا الخطاب الإعلامي التحريضي لخدمة النزعة القومية الشعبوية الفارسية الشيعية المقرونة بالنظرة السلبية الدونية للعرب، والتي تسود الكثير من الأوساط الإيرانية السياسية والمثقفة، الذين يُعتبرون نواة الإعلام الإيراني وأهم روافد تغذيته ونشاطه.
في هذا الإطار، نلحظ كيف وظفت إيران، الإعلام الإيراني المتحدث بلسان عربي، لزج وتوريط العالم العربي في الفتنة من خلال تشكيل حلقات مستمرة بالحديث عن الثورة في دول الخليج العربي واستضافة معارضين وسب وشتم للأنظمة، وتخصيص عمليات رصد ومتابعة إعلامية واستخبارية متكاملة للشأن الخليجي، ونقل العديد منها إلى مستوى الخبر والتقرير، وقيام وحدة التشتيت والتضليل والدعاية بهدف الإساءة وزعزعة الأمن في دول الخليج العربي.
وأخيرًا تبيين أن المخطط الإعلامي الفارسي مستمر وأن الأنظمة الإيرانية مصممة على بلوغ غاية رَسمت لها الخطط ورَصدت لها الأموال وأَعدت لها الرجال وأنشأت لها المؤسسات.
إن الغزو الإعلامي الإيراني العنصري الطائفي الشيعي للمجتمعات العربية ثابت وأقر به الإعلام الإيراني والقيادات أنفسهم، ومن يستريب في هذا القول، فلينظر إلى سوريا، العراق، لبنان، الأحواز، اليمن والبحرين وغيرها، فضلاً عن البلاد الإسلامية، بل يجب أن ينظر إلى فلسطين. إذن المطلوب أن تعمل دول العرب عامة ودول مجلس التعاون الخليج العربي بشكل خاص، لوضع ضوابط للإعلام المتسلل إلى أمنها القومي أولاً والعمل على تغيير المنهج الإعلامي بمستوى الإعلام المتسلل وبنفس الأسلوب وبمهنية عالية تمكنه من التعرض والمواجهة والتدخل إعلاميًا.