الفكر الثوري
هل الفكر الثوري أمر ملح للمجتمع؟
إذا ما نظرنا إلى الدراسات الاجتماعية لرأينا ان ظاهرة الثورة من أهم الظواهر التي تميز السلوك بل الوجود البشري، لان الإنسان وحده القادر ومن خلال إدراكه للطابع المزري للواقع المعاش على رفضه للواقع والعمل على تغييره بأفضل منه، بعيدا عن كل استسلام أو عن مجرد الإدانة اللفظية له.
“الثورة تشكل تلك الهزة العنيفة والقطعية الحادة في صيرورة المجتمع، قطيعة جذرية وفاصلة وشاملة تجعل ما بعدها مختلفا إيجابيا عما قبلها، وذلك من خلال ارتفاعها بالوعي الفردي والجماعي على حد سواء إلى مستوى ذلك المستقبل الجديد المنظور إليه، الذي يحول الواقع المزري إلى واقع مرفوض جملة وتفصيلا. وكما يقول ريمون آرون ان تلك الهزة الثورية هي التي تحول الحياة الإنسانية من حياة أو وجود من اجل الموت كما ذهب هيدغر إلى وجود من اجل تحقيق الذات نظرا إلى ان الإنسان هو وحده الكائن المدرك بان هدف المغامرة الوجودية ليس الموت بل تحقيق الذات”.[9]
من جهة أخرى نرى بانه ما ان يجري الحديث عن الثورة والفكر الثوري حتى تطل عدة أسئلة برأسها أمامنا، تطلب الإجابة ملحة، إذ يشكل تقديم الإجابة منطلقا لإجراء الحوار مع القارئ الكريم. لكي نضع النقاط على الحروف نرى من الضروري الدخول في تعريف الثورة والكلمات المحيطة بها، ونبين ما يميز الثورة عنها. غني عن القول بان العالم لقد عرف ثورات عدة ورغم اختلاف الأسباب، إلا ان الغايات من كل الثورات تبقى واحدة، وهي الخروج من حالة إلى حالة أخرى، فقد ألف ونظر عدة مؤرخين للثورة، وذلك راجع إلى حجم الثورات التي شهدتها البشرية، فقد حاول الكثير دراسة هذه الثورات، والتنبؤ بها قبل حدوثها، كما دعا البعض إلى ضرورة الثورات من اجل التغيير الفعلي للواقع. عند التعريف نرى بان الثورة تعني كما جاء في كتاب دائرة المعارف ان الثورة مؤنث الثور والهيجان والأرض الثور الكثيرة الثيران.[10] جاء في اللغة العربية ان الثورة من فعل ثار يثور ثائر وثار يعني هاج ونقول ثار الثائر أي زاد هيجانه.[11] ومن الملفت بانه في اللغة الفرنسية جاء مصطلح الثورة يعني الحركة الدائرة للكواكب أو النجوم[12].
من المفردات المهمة التي ارتبط اسمها بالثورة هي الإصلاح، إذ نرى ان الثورة يختلف مفهومها عن الإصلاح، فكما نعرف انها تعني التغيير الجذري والكلي للنظام دون إتباع أي قانون وتقوم على الوسائل الأكثر عنفا، بينما الإصلاح يتضمن العودة إلى الأصولية.[13] ذلك انه لا يرفض الركائز، بل ما يريده هو تغيير الوضع السائد، الذي ابتعد عن تلك الأصول، فالإصلاحات الدينية هي خير مثال على هذا ومنها على سبيل المثال ما قام به لوثر إذ لم يكن قائما على أسس العنف وإسقاط النظام بل هي إصلاحات دينية، حيث رأى ان الكنيسة خالفت المنطق في تفسيرها للكتاب المقدس. غير ان ما ورد لا يعني ان الثورة والإصلاح بعيدان كل البعد عن الآخر، إذ في الغالب ان الثوري هو مصلح في نهاية المطاف والمصلح يدعو إلى إصلاح الوضع القائم وبهذا يسعى الاثنان إلى التغيير، لكن الاختلاف يتجلى في حجم التغيير وكيفية التغيير.
انطلاقا من تعريف الفكر الثوري وهو عندنا وبالمعنى العام نشأ مع حاجة الإنسان للتغيير وقد مارسه منذ أن بنى لنفسه كوخا ومدينة، وهو يعمل على تغيير وضعه وأحواله، بأحسن من سابقه بطرق معينة يستعملها أحيانا بالتأمل وأحيانا باحتكاكه مع الواقع. فمن هذا المنطلق الفكر الثوري لا يشكل ضرورة فحسب، بل ان الحياة الكريمة من دونه لا يمكنها الاستمرار، فما ان رأى الإنسان النور وهو بحاجة إلى الثورة، ليقف بوجه كل ما يريد إبقاءه حيث هو زمنيا ومكانيا، الفكر الثوري لا يعني ذلك النمط من الثورة الذي استبد بأفكارنا وهو السياسي، بل ان الثورة عندنا كل ما يريد الأخذ بيد الإنسان إلى الامام، وخاصة فيما يتعلق بالأحوازي الذي يعاني الاحتلال، فما الذي يهز أركان الاحتلال إلا تبني الفكر الثوري، في التعامل مع الواقع والذات والآخر.
الفكر الثوري ضرورة ملحة في التعامل مع الذات وفي إبداء المقاومة بكل أنواعها، وخاصة الثقافية، وفي التعامل مع الواقع المرير والتعامل مع الآخر. لكن تبني الفكر الثوري يتطلب منطلقا من دونه لا تنجح أي نظرية ألا وهو الاتصاف بالشجاعة في مواجهة الواقع، واقع يريد المحتل الإبقاء عليه في نقطة ما كتلك الدائرة التي رسمه له. ما ان يخرج الاحوازي عنها حتى يشعر المحتل بالخطر. الفكر الثوري يتجلى في مقاومة التفريس وكل ما يقوم به الآخر لإبادة هذا الشعب ثقافيا، فما ان تبنى الاحوازي الفكر الثوري واتسم بالشجاعة، حتى تمكن من الوقوف بوجه الآخر الذي يدعوه بصمت أو علنا إلى التفريس، الفكر الثوري هنا يعني الرفض لا غير، لكنه لا يتوقف عند هذا الحد بل انه يريد إحداث ثورة في الذات، كي لا يتخلى عن ركب قطار الحضارة، فالفكر الثوري ليس موجها للآخر فحسب، بل انه موجه للذات أكثر من أي شيء، عندنا ان تبني الاحوازي الفكر الثوري في التعامل مع الذات، كفيل بتحقيق قفزة نوعية في حياة فكما تقول مقولة: حرر نفسك من العبودية الفكرية، فلا أحد يستطيع تحرير عقولنا سوى أنفسنا.
تجليات الفكر الثوري في الاحواز تاريخيا عند النخبة والعامة
يتجلى الفكر الثوري عند النخبة في الكثير من النواحي ومنها الوقوف بوجه المحتل والاحتلال بكل عدة وعدته، فالنخبة بتبنيها الفكر الثوري تمكنت من الحفاظ على عروبة الاحواز، رغم كل المحاولات التي بذلتها سلطة الاحتلال الأولى والثانية، وخاصة الثانية المتمثلة بثورة الخميني وتبني الفكر الديني الإرهابي، كما شكلت النخبة السد المنيع لمواجهة التفريس، هذا الخطر الكبير، والمحافظة على العروبة، بالتأكيد الثورة هنا تعني الثورة الثقافية، كما وقفت بوجه القبيلة والفكر القبلي وخاصة إذا ما شكل عائقا أمام وحدة الصفوف، فهناك الكثير ممن يرفضون القبيلة لعدة أسباب ومنها ماضوية هذا الكيان وتخلفه عن العالم وعما يجري من حوله. الفكر الثوري للنخبة لم يتوقف عند هذا الحد، ويلزمنا الكثير للحديث عنه، إنما نريد الإشارة إلى جوانب منها، فان النخبة وبتبنيها الفكر الوحدوي وسط أجواء محافظة تهيمن عليها سلطة الاحتلال والقبيلة والصفوية، أحدثت ثورة تؤتي ثمارها يوما بعد يوم.
في جانب العامة فان الحفاظ على العروبة بوجه الغزاة المحتلين الذين يرون ان العروبة تشكل أكبر المخاطر بوجهها، حققت ما هو كفيل بالحفاظ على الوطن، انها بالتأكيد ثورة فكرية تركز على الذات، انها ثورة مقدسة، وكلما حافظت العامة على مثل هذه المكتسبات، اقتربنا إلى تحقيق الهدف الأسمى وهو التحرر من نيران الاحتلال.
الفكر الثوري السلبيات والايجابيات
غني عن القول بان الثورة في سعيها إلى تحقيق ما تهدف إليه وتقويض ما هو كائن باسم ما يجب ويمكن ان يكون، لا تلبث ان تصطدم بالعديد من حقائق ذلك الواقع المرفوض الذي يمثل تجاوزها شرطا للانطلاق نحو المستقبل.
وعلى غرار كل جوانب الحياة، للفكر الثوري سلبيات وايجابيات، تتجلى السلبيات في عدم استيعاب الظروف الزمكانية التي يعيشها المرء، والقيام بأعمال وممارسات تلحق أضرارا جسيمة بالفرد والمجتمع، على سبيل المثال يعد تبني الثورة العسكرية بوجه الاحتلال على غرار القيام بعمليات مسلحة من أكبر الأخطاء التي تضر بالقضية أيما ضرر. لكن إذا ما بقت الثورة بعيدة عن تبني العمليات العسكرية وتغلغلت في الجوانب الاجتماعية والثقافية، على سبيل المثال؛ فانها لا تقدم القضية فحسب، بل تشكل أكبر المخاطر على الاحتلال، ومن هنا يتضح لنا لماذا يحاول إدخال أي مقاومة في خانة المقاومة المسلحة كي يقوم بقمعها، وان برهن الاحتلال البربري بانه إذا ما شعر بالخطر من المقاومة الفكرية والاجتماعية، فانه يقوم بالعلميات المسلحة أو ما ماثلها، كي يقول للعالم باننا إرهابيون وقتلة!!!
لا خلاف على ان الوعي وحده لا يكفي لإسقاط الأنظمة ولابد من استخدام العمل العنيف ضد النظام، لكن الخلاف كله ينبع من الإجابة على سؤال يتمحور حول: متى نلجأ إلى العمل العنيف؟ هذا ومن السلبيات الأخرى للعمل الثوري هي أن يتحول هذا العنف الثوري المفهوم جماهيريا إلى “عنف نخبوي إقصائي” منعزل عن الناس، لا يعي الناس رسالته وقيمه، بل قد يصبح هذا العنف أصل الرسالة لدى كثير من التنظيمات المسلحة التي لا تعي دور الشعب في المعركة وتُهمل حشده لتأييد الثورة، و غالبا تكون نتائج هذه العمليات ميدانية فقط ولا تصل لمرحلة الانتصار السياسي وهى تُكسب مناعة للنظام، لعدم جدواها و تزداد خبرة الأنظمة في التعامل مع تلك التنظيمات ويسهُل الفتك بها إعلامياً حيث أنها منعزلة عن المجتمع و القضاء عليها تماما.
غني عن القول بان تبني الأفكار الثورية يتطلب الكثير من الأمور ومنها النفسية، أو ما يسمى بالاستعداد النفسي، فإذا لم يكن المرء قويا وشجاعا، ومقتنعا بما لديه، لم يكن مستعدا للدفاع عن أي شيء، ناهيك عن تبني أطروحات ثورية، هذا ما تعمل سلطة الاحتلال ليلا ونهارا على تحقيقه، أي إضعاف نفوس الشعب، وخاصة محاولاته المركزة على الحط من لغة الشعب، انطلاقا من مقولة: ” إن أردت أن تغتال شعبا فاجعله يخجل من لغته”، والطامة الكبرى هي عندما تجعل النخبة تركن لهذه المقولة. هنا لابد من العمل على نفسية الشعب وتمتينها.
أخيرا وليس آخرا وكما استنبط القارئ الكريم، فان الثورة عندنا ليست تلك الهادفة من وراء تأملها الفكري للواقع إلى الخلاص الفردي منه فحسب، فلو كانت كذلك لتحولت إلى قضية فردية، بل اننا أردنا بها التغييرات التي تحدث على المستوى الجمعي الذي ينطلق من الفرد، فانها تعني عندنا الوقوف بقوة بوجه الواقع الذي يدعوك إلى إتباع المحتل، واقع مرير يسيطر عليك بفضل القوة والمقدس، وان القوة لا تعادل شيئا أمام المقدس، فالقوة لا يمكنها ان توظف في كل مكان، لكن الأخطر من هذا هو المقدس المتمثل بالتاريخ الاجتماعي والديني، الذي أورثناه من آباءنا، أو جاء مرافقا للمحتل، المقدس المتمثل بالصفوية وأطروحاتها البعيدة عن الإنسانية، كل البعد، تستغل الإنسان لتصعد على أكتافه تحقيقا لما تصبو إليه. الوقوف بقوة ليس بوجه الذات والتاريخ، بل الأهم من هذا الوقوف بوجه الفارسي، صاحب الشخصية السلطوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الثورة تعني معاملة الآخر من منطلق القوة ورفضه رفضا باتا، انه صراع لا ينتهي، التوقف عن مواجهته يعني الدمار. فبالنسبة لشعب يعاني الاحتلال يعني الفكر الثوري مواجهة الذات والأخر والواقع بقوة فلا سبيل سوى اللجوء إلى الفكر الثوري.
الختام
ختاما وكما يقول البخاري حمانة فان: الثورة تكشف للإنسان عن ذاته وعن ضرورة إعادة تجديدها انطلاقا مما هي كائنة ومما تريد ان تكون وصولا إلى تلك الجدلية المتجددة التي تلتقي فيها المعرفة الباطنية والاختيار الموضوعي والقبول بالواقع والجهد من اجل تجاوزه في الوقت ذاته… وبمثل ذلك يتحول التشاؤم السلبي للفرد وللجماعة أمام واقع الاستعمار إلى تشاؤم إيجابي لا يلبث ان يولد لديه شعورا بضرورة العمل على تجاوزه وعلى إعادة اتساقه وتوازنه أمام الواقع الذي يتحول لديه إلى ما يشبه الكابوس الذي عليه الخروج من بأقصى سرعة، وان مثل هذا العمل الهادف لتجاوز الواقع ولإعادة التوازن إلى الذات هو الذي لا يلبث من خلال كشفه للفرد والجماعة على حد سواء عن حاجات جديدة وعن إمكانيات جديدة لتحقيقها عن مدى دقة الخيط الذي يربط بين رفض الواقع وبين العمل على تغييره ذلك الخيط الذي عليه الإمساك به بقوة حتى لا يقع المشروع الثورة العامل له في دوائر التمرد والانقلاب… وبذلك تدرك الثورة طبيعة المسافة التي عليها ان تعرف كيف تتجاوزها حتى لا تقع في حدود تلك الدوائر، وليس ذلك الخيط الرفيع سوى الفكر الذي بلغ الدرجة من العمق ومن الأصالة في تمثله للواقع الاستعماري تجعله قادرا على تحديد الصورة المثلى التي يريد استبداله بها وللأسباب الموضوعية التي مكنته من الوجود ومن الاستمرار. كما ان تلك المسافة ليست بدورها سوى ذلك العمل الثوري النوعي الكفيل بتجسيد ذلك الواقع البديل… ففلسفة الثورة الحقيقية فلسفة مستبقة للمستقبل تتجاوز الحاصر والواقع المجسد لها.[14]