المقدمة: الهوية صوغ التاريخ
الهُوية هي إجابة، إجابة عن سؤال الأناء: الفردي والجمعي. وتتصدى كل من العلوم الإنسانية الاجتماعية هذه الإجابة من منظورها المحدد: فعندما يتناول، على سبيل المثال، علم النفس، الهوية فإنه يصنفها، عن لسان فرويد، في ثلاث مستويات: مستوى الفطرة (id) والأناء والسوبر أنا؛ تصنيف يحدد الإنسان، في نهاية المطاف، بأنه كائن غريزي يتصارع مع المجتمع للظفر باللذات في غمار كبت المجتمع لمساعيه. وهذه الإجابة ذاتها عندما تَدْخل في علم الاجتماع فهي تتحدد في علاقة الفرد بالجماعة وبطبيعة التأثير القائم بينهما. وهكذا عندما يُوضَعُ السؤال عن الأناء البشرية أمام الفلسفة يحددها الفيلسوف (وهو هنا هيغل) على أن الأنا هي حالة مستعدة، يصوغها التاريخ والمجتمع وَفق صيرورته نحو الحرية (وهذا التحديد للذات البشرية أو الأنا على يد هيغل لاقى استحسانا من جانب ماركس وأخذ يوصف الأنا البشرية على أنها حالة مستعدة للتصيّر والقولبة).
ويعني هذا بصريح العبارة أن كل تخصص من العلوم يأخذ جانبا من المظاهر البشرية ويوسعها بالدرس، ويترك جوانب أخرى لتناول علوم أخرى. وبناء على ذلك فيَحِقُّ للباحث أن يضع السؤال عن الأنا في إطار أي علم من العلوم يراه الأَجْدَر بالغرض الذي يتوخاه من دراسته. ومن دون الاسترسال بمزيد من المقدمات فإن هذه الدراسة تضع موضوع الهوية، التي قلت عنها إنها إجابة عن سؤال الأنا، في فلسفة التاريخ، وفي أفقه تستبين بعض المحددات. ولكن ما هو المقصود أولا بأن الهوية إجابة يصوغها التاريخ، وماذا تدل عليه فلسفة التاريخ ثانيا؟
الهوية إجابة
يكاد يُطبق الفلاسفة وعلماء علوم الاجتماع بصفة عامة على أنْ لا صفات فطرية في الفرد البشري تحدد هُوية وجوده، وتعرّفه كائنا يحمل الشر في ذاته، أو مجبولا على الخير وَفْق فطرته، أو ما في معنى ذلك. فالحديث عن امتلاك الفرد البشري صفة أو صفات غير مكتسبة، بهذا المعنى، غير موضوعي ذاتي النظرة يجعل الهوية، الفردية والجماعية على سواء، معطى مُسْلَف لا تغيير فيه. والواقع هو أن الهوية الفردية أو الجماعية-وهي ما تهمنا هنا قبل كل شيء- للوجود البشري متأثرة في أبعد الحدود بمحيطها على سبيل الرفض أو القبول أو التعاطي: فمعنى الهوية الجنسية مثلا لا يجد موضوعية التصريح به إلا على ضوء وجود جنسين مختلفين: فلا معنى لأن يقول الفرد البشري «أنا رجل» إلا إذا قصد المَيْز عن المرأة. ولا معنى لأن يقال «أنا أب» إلا لتحديد العلاقة مع الأبناء وهكذا… .
إذًا هويتي كرجل تكتسب معناها من هوية المرأة، وهويتي كأب تأخذ معناها من علاقة الأُبوة.. وهكذا هويتي ككاتب تستمد موضوعيتها من اختلافها مع أصحاب الصناعات الأخرى. ويعني هذا بعبارة وجيزة أن التمظهرات الهووية في البشر والجماعات إنما تنبثق عما يتلقونه من خارجهم وعن محيطهم الذي يحوط بهم. فعندما تغيب هذه التأثيرات الخارجية تغيب معها جوانب من الهوية، لتحل محلها جوانب هووية أخرى تكتسب موضوعيتها وشدة تمظهرها من الظروف الباعثة لها.
ولكن هذه التمظهرات التي ذكرناها لغاية الان تندرج في المحددات التي تحدد الجوانب الفردية في البشر(«أنا رجل» و«أنا أب» و«أنا كاتب»)، والتي يدرسها علم النفس وعلم الاجتماع الأسري ونحو ذلك، فماذا عن تلك الجوانب التي تتعلق بالوجود الجماعي؟
فلسفة التاريخ: الدين، القبيلة، المدنية والعامل الخارجي
أفادت الفقرة السابقة أن من يبعث الهُوية فیصوغها هو الباعث الخارجي على طول تاريخ حياة الفرد. ولكن بما أن الباعث هذا يتغير بتغير الظروف، مثلما قلنا، فإن الهوية الفردية تبعا لذلك هي متغيرة وبالتالي تُصْبح في سيلان مستمر. وهنا ننطلق من هذه المسلمة لنخطو خَطْوة تنقلنا من الجوانب الفردية للهوية، التي خصصنا لها الفقرة السابقة، إلى الجوانب المجتمعية. أي إلى تاريخ حياة جماعة[1] بحيالها.
وهنا عند مرورنا من الحيز الهووي الفردي، إذا صح القول، إلى الحيز الهووي الخاص بجماعة ما، نجدنا أمام واقع يُصادق عليه في بادي الرأي المشترك: وهو أن ذلك السيلان الجاري على الهوية الفردية، يتباطأ لدى الجماعة، ويطول مكوثه في تاريخها، ولا يكون تغيره إلا حصيلة كبير تغير في الأحوال العامة لها. ومن هنا تتصور الجماعة أن هذا التمظهر الهووي كأنه ناموس لا تغيير فيه، لطول مكوثه، متغافلين هكذا عن أنه حصيلة ظرف أثاره وعمل على إبقائه[2]. لندع هذه الإشارة الخطيرة هنا ونكتفي بالقول أنها هي المبرر المنهجي لوضع موضوع الهوية في فلسفة التاريخ.
وفسلفة التاريخ، بطبيعة حالها، تنفذ إلى مسامات الأحداث التاريخية ويلج فيلسوف التاريخ فيها، منعتق العقل هكذا عن الزامات الأحداث الماضية والراهنة وعملية توثيقها، ليظفر بوضع أحداث التاريخ في أفق الترابط المجتمعي، وفي أفق فاعلية الدولة، وفي كل ما لم يستطع عالم الاجتماع ولا عالم السياسة ولا المؤرخ إلخ الوصول إليه. ولأن فلسفة التاريخ هي فلسفة فهي تُظْهر ما وَقَبَ عن باقي علماء العلوم الاجتماعية برمتها، مكتشفة بذلك زاوية نظر ما كان لها أن تَحْصل. وإلى جانب كل ذلك ففلسفة التاريخ هي، أولا وأخيرا، فلسفة وهي بالوقت ذاته تاريخ. والتاريخ عندما يستقدم الفلسفة فإنه يستفتيها لتكشف له عن خفاياه الموجهة لسيره. وبذلك يكون التفكير الفلسفي في التاريخ يعني الكشف عما ينزل منزلة الثابت الذي تدور حوله المتحولات. فعندما نضع موضوعا كالهوية، هوية الجماعة، في صيرورتها، نضعها أمام الفلسفة التاريخية، نكون بذلك قد بحثنا عن الثوابت التي تقتعد عليها المتحولات. وهنا بالتحديد تسعفنا الفلسفة التاريخية بمقاربتها، بذلك الفرز الذي تقيمه بين أحداث التاريخ والأسباب الكامنة خلف مآل الأمور.
وإذا ما أردت في هذا السياق تحديد ما أريد أستعينه من فلسفة التاريخ، في دراسة الجانب الهووي العربي في «الأحواز»، فهو بيان تلك الثوابت التي صاغت الهوية العربية «الأحوازية» على طول تاريخ تمظهرها، حتى بلوغها الشكل الذي نعيشه اليوم بشكل حدوسي . أقصد بهذا أننا لو عاينَّا تاريخ «الأحواز» محاولين فهم كيفية مآله إلى ما آل إليه اليوم، واستكناه ما تَحكَمَ في مجريات منعطفاته الخطيرة، فإننا بذلك نكون أولا قد ولجنا في حقل فسلفة التاريخ، مثلما قلت مرارا، وثانيا نكون قد استفتينا هذا الحقل لاستظهار أهم المحددات التي حكمت أعمالنا وحددت هويتنا وبالتالي صاغت تاريخنا أي حضارتنا. وبهذا الاستفتاء يكون الطريق معبدا أما طرح هذا السؤال القائل بأن: ما هي المحددات الحضارية للهُوية العربية «الأحوازية» وفق ما تكشفه لنا فلسفة التاريخ.
تفيد النظرة الفلسفية إلى تاريخ[3] «الأحواز» وجود ثلاث محددات هووية خاصة بالجماعة القاطنة في «الأحواز»، وهي جماعة عربية بالضرورة، عملت(المحددات الهووية) على تمظهر الهوية الجماعية للفرد والجماعة على سواء. فنظرة خاطفة إلى هذا التاريخ، تزكي الدور الكبير الذي كان لهذه المحددات الهووية الحضارية؛ دور ما زال حاضرا بقوة في حياة هذه الجماعة في يومها المعاش. وقد كانت هذه المحددات الثلاث قد ظهرت في التاريخ بشكل جلي، وهي من حدد الفعل الجماعي برمته. وإذا ما أوضحنا القصد من الفعل الجماعي هنا، بأنه التمكن من إقامة دولة قومية بوصفها أعلى درجات الفاعلية الجماعية، حينها نجد أن كل محدد مما ذكرنا، طبع بطابعه مصدر سلطة الدولة التي كانت تقام في فترة من تاريخ هذه الأمة، مثلما سنرى بعيد قليل.
وهنا إذا ما جعلنا بدء التاريخ «الأحوازي» هو قيام الدولة المشعشعية -مثلما أشرت بشكل مستعجل بالهامش رقم ثلاثة- رأينا أن هذه البداية، وهذا البعث الأول للأمة «الأحوازية»، كان مغلفا تماما بالدين، وهو الطابع الطاغي على الدولة هذه، لِما لسلطانها المؤسس من اعتداد بالدين، وارتكازه في قيامه على الغزائر الدينية، بالرغم عن كل ذلك الطابع القومي الذي كان في هذه الدولة حاكمين ومحكومين. دولة ذات هوية دينية شيعية، تنتظم فاعلية الجماعة فيها بناء على ما تحدده هويتها هذه.
وهكذا إذا ما عرجنا على البعث الثاني، وهو قيام الإمارة الكعبية بمختلف أمرائها، نجدها إمارة يطغى عليها الطابع القَبَلي؛ بالرغم عن كل ما فيها من توجهات قومية ودينية. إمارة أو شبه دولة يتحدد فيها الفعل الجماعي وفق الانتماءات القبلية، والروح القبلية السائدة على حياة المجتمع، أفرادا وجماعة.
وإذا ما تسامينا إلى زمان الناس هذا الذي نحن عايشوه، وإلى ما نجتهد من أجل الوصول إليه من البعث الثالث لروح الأمة، فإننا لا نرى أي مستقبل لابتعاث دولة ثالثة، هي دولة قومية بالضرورة، إلا في تلك الجماعة التي تنتمي إلى هوية حضارية حديثة، هي تلك الجماعة المدنية، التي لا تنتمي هوويا ولا تحدد ذاتها لا في الاعتقاد بالغرائز الدينية، ولا بالنعرات القبلية، بل تضع نفسها في مهيع أرحب، مهيع التاريخ وبناء الحضارات.
وإذًا أثبتت هذه النظرة، الجد خاطفة، على أهم المنعطفات الحضارية في التاريخ «الأحوازي» وجود ثلاث محددات هووية هي من عينت الفاعلية الفردية والجماعية للجماعة، وجعلتها تؤول إلى ما آلت إليه اليوم. وهذه المحددات الهووية الثلاثية، من دون مزيد في الاسترسال، هي الدين والقبيلة والاتجاهات المدنية الحديثة[4]. وصحيح أن لكل هذه الهويات طبيعتها وإمكانياتها في تحديد فعل الفرد والجماعة، بيد أن الأمر هذا لا يعني قط أنها مستقلة تماما عن بعضها. بل الواقع الماضي والحاضر يثبت أنها مترابطة فيما بينها إلى أبعد الحدود، حتى يكون المَيْز بينها في كثير من أحداث التاريخ، مجرد عملية تحكمية لا كبير صحة فيها. فمثلا بالوقت الذي كانت الدولة المشعشعية تتعكز على الدين وعلى الجانب الغالي من المذهب الشيعي، كانت تحتضن التوجهات القومية العربية، خاصة في أوقات المصادمات مع الدولة الصفوية الغازية بالآن ذاته. وهكذا كان أمراء بني محيسن بالرغم من لجوءهم إلى التفرقة القبلية كسياسة يَسوس فيها المجتمع الخاضع لسلطانهم كانوا حاضنين للتوجهات المذهبية. مثلما لم تخلو الهويات الحداثية في المجموعات المدنية الناشئة اليوم من الانتماءات القبلية والمتمذهبة، مثلما سنرى في موضعه.
وقبل البدء بشرح بطانة كل محدد من هذه المحددات، فمن الضرور جدا التطرق إلى محدد آخر له الدور الخطير في توحيد المحددات الثلاثية هذه، ومعاداتها برمتها: وهو العامل الخارجي. وإذا ما كنت قد لجأت في تزكية الدور الحاسم الذي لكل من هذه المحددات إلى التاريخ، مستشهدا بصحتها بالطابع الذي للدول التي أقيمت على موطن «الأحوازيين»، فإن خطورة هذا العامل الخارجي لا تحتاج إلى العود إلى الماضي كثيرا، لأنه دور طاغ على الواقع المعاش، وعلى حاضر «الأحواز»، مثل ما كان في ماضيه أو هو أشد من ذلك. فمن أبرز صفات هذا المحدد أنه ناشئ عن خارج واقع الجماعة، لا ينتمي لها بأي محدد من المحددات الحضارية. لا بالقبيلة ولا بالمدنية القومية ولا بالمذهب: وصحيح أن المذهب يبدو مشتركا في بادي الرأي، إلا أن المذهب في هذا الطرف الخارجي هو أقرب إلى دين قومي، منه إلى مذهب ينماز عن المذاهب الإسلامية. وربما يُفهم هذا التنافر بين النسختين العربية والأعجمية من المذهب في ذلك الاختلاف الكبير بين توجهات الحوزة في قم وحوزة النجف، حول كثير من القضايا، على رأسها ولاية المجتهد، والموقف من القضايا الفقهية الفردية والجماعية، وكذلك أحكام مثل تكفير منكر الإمامة إلخ.
وبعد هذه التمهيدات فإن ما يتبق هو القيام بوصف جوف كل من هذه المحددات الثلاثية، وكيفية قيامها بالتحكم بعمل الفرد والجماعة، وإضفاء بواعث العمل عليه.
القسم الأول
الدين: الدولة المشعشعية المهدية[5]
لقد مثل قيام الدولة المشعشعية البعث الأول في تاريخ الشعب «الأحوازي» وبداية تشخصه عن العالمين. لقد قامت الدولة المشعشعية المهدية على أساس الدعوة التي أشهرها الإمام محمد بن فلاح المشعشعي، فأصبح بها صاحب الدولة وباني مجدها. دعوة كانت منبثقة، إلى حد ملحوظ، عن ذلك الجانب الغالي من المذهب الشيعي الذي يصرح بالاتصال بالغيوب وبالمهدي المنتظر الذي يوجه الخواص من بني مذهبه من وراء ستر رقيق. لقد كان الإمام محمد المهدي يوجه جيشه الذي سيره من أبناء القبائل[6] بناء على تحديد هُوية جديدة لهم كانت هي من تهبهم بواعث العمل ومبرر التضحيات. وقد أطلق صاحب الدولة اسم «المشعشعيون» على ذلك الجيش اللَّجَب الذي جرره من أجل اكتساح الأوطان وبناء السؤدد. لقد كانت «الهوية المشعشعية» هوية دينية مُلِّحة، خاصة في العهد الأول من حياتها، أي ذلك العهد الذي كانت فيه الدولة الفتية تتمتع بسيادة مطلقة لا تخضع لنفوذ أجنبي.
لم تكن هذه الهوية تحدد ذاتها بالانتماء إلى وطن، ولا بالانتماء إلى قومية محددة، أو قبيلة معينة؛ بل كانت تعرف نفسها على أنها هوية متمذهبة تناصر الدعوة إلى ضرورة إقامة السلطان الديني الشيعي الذي يتحصل الإذن من المهدي المنتظر صاحب السلطان الحق. ومن النافل القول أن الإمام محمد كان من أبرز فقهاء الشيعة، وهو أول فقيه شيعي نادى بضرورة قيام الدولة في عصر الغيبة، وبذلك يعد هو أول فقيه نجح في إقامة دولة نابعة عن الرؤية الشيعية للدولة والسلطان، على عكس كافة الفقهاء من بني مذهبه ممن سبقوه زمنيا وتخلفوا عنه بعدم إدراك ضرورة إقامة الدولة في المجتمع في عصر الغيبة، غيبة الإمام المعصوم.
وعموما كانت هذه الهوية الدينية تحدد عمل الفرد والجماعة على أساس البواعث الآتية:
العقل المكبل
العقل الديني والعقل المتمذهب تبعا له، هو عقل مكبل أَوْكَلَ حق الممارسة إلى جهة عُلوية قدسية. يصرح العقل الديني بـ«أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون» ليفتح الباب بدعوته هذه إلى وجود عقل قاصر هو العقل البشري، وعقل تام هو العقل العلوي. وغني عن القول أن العقل العلوي لا يجد تجسدا له، في نهاية المطاف، إلا في العقل القاصر البشري؛ لكنه يتناسى هذا التناقض الدفين في جوفه الذي يقر من جهة وينكر من جهة أخرى.
ولعل من أبرز آليات عمل العقل المنقاد هذا، أنه لا يعترف بمبدأ السببية: لإقراره بالخوارق والمعجزات. وهذا هو ما حصل في تاريخ الدولة المشعشعية بالتحديد، إذ كان بدء الدعوة على يد الإمام المؤسس مرفَّل بالإيمان بالخوارق، وإظهار الإمام المؤسس على أنه يمتلك قدرات لا يمكن للعقل البشري إدراكها، فضلا عن حصولها. وإلباس الحاكم لبوسا خارقا قدسيا جاريا لغاية الساعة في عقلانية أصحاب العقل المكبل.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العقل المكبل هو عقل منفصل عن الواقع لا يتعاطى معه ولا يعير للتطور كبير اهتمام: فالأحكام الفقهية التي تأسست أول مرة في فترة من التاريخ، تتنصل بقوة عن إمكانية التغيير فيها ابتغاء الموائمة مع الواقع المعاش. بل إن الاتصاف بالأحكام الدينية الأبدية، ورجالات الزمن القديم، هي قيمة كبيرة بحد ذاتها. ولذلك فالواقع بحد ذاته ليس بمعطي يجب التعامل معه من منطلق العقل المنبعث عن المصلحة الفردية والجماعية، بل الواقع بدعة يجب أن يصاغ وفق مدى انطباقه على الماضي وأحكامه. ولأن الأمر كذلك، أي لأن الاتصاف بقيم الماضي هو المطلوب والواقع منبوذ، ولما كان الواقع هذا يناقض تلك القيم ويضع بديل يفوقها فتنة، فإن الطريق من هنا إلى الأخلاق المشوبة بالنفاق طريق معبد. (ولا يعني النفاق هنا أحكام قيمة، بل المقصود بالنفاق هنا كتمان جانب من الواقع، سواء في النفوس أو في الحياة المعاشة إلخ وإظهار غيره). وهذا الأمر هو ما نراه في معظم «الأحوازيين» المتدينين الذين يعصف بهم حب المأكول والمشروب والمركوب إلخ في حُلته الحديثة والمعاصرة من جهة، وتفتك بهم ضرورة الالتزام بالأحكام الدينية القديمة من جهة أخرى.
ومثلما يتميز هذا العقل بانفصاله عن الواقع، والمساهمة في تكوين أخلاق منافقة، فإنه في نسخته الشيعية يعاني من فائض في النصوص: فإذا قورن مع المذهب السني الذي له مصدرين من النصوص هما القرآن والسنة، فإن النسخة هذه هنا أمام مصادر كثيرة في التشريع هم الأئمة الشيعة وما يُنْسب لهم من أحاديث. وهذا الأمر لا يدع متنفسا لمختلف مظاهر الحياة إلا استجلب لها حديث ينظم آدابها، سواء بالوجوب أو الاستحباب أو المكروهية.
مفارقة القومية
لا يعترف العقل الديني بالانتماء إلى قومية معينة ولا يعير للقومية أي اهتمام. وصحيح أن هذا المبدأ يبدو في بادي الرأي تَعالٍ عن النعرات العنصرية، بيد أنه يحمل في مطاويه مفارقة صريحة إلى جانب فتح الباب على مصراعيه للاستغلال السياسي، مثلما يتضح بعد قليل. فالمفارقة تكمن في أن أي دين أو إيديولوجية أو ما في معنى ذلك، لا تنشأ في البداية إلا في جماعة محددة معدودة، عادة ما تكون مرتبطة بنسب واحد أو لغة واحدة في رقعة واحدة: وخير مثيل لذلك هو الدعوة المحمدية ونشؤوها في قريش المحتكرة للخلافة، كنموذج ديني قديم؛ والحركة البلشفية في العصر الحديث وتسريها بين البلاشفة الروس بالرغم من دعوتها الأممية، كنموذج إيديولوجي حديث. وميلاد الدعوة بين هولاء الجماعة الواحدة يحتم منطقيا انحسار الأمر فيهم: سواء من حيث حق التأويل أو إصابة الحكم. ولا مناص أن تنماز، نتيجة لكل ذلك، الجماعة التي ابتدت الدعوة عن غيرها من الجماعات التي ستلحق بها. أما بخصوص الطرف الآخر من هذه المفارقة فوجيز القول فيه هو أن تناسي الجانب القومي سيسمح بخيول المتوافدين الجدد باستغلال هذا الاهمال، لينفتح الباب منداحا لضرب الدعوة الجديدة أو الدولة القائمة مثلما حدث في الدولة العباسية، على سبيل التقريب إلى الأذهان. أما في الواقع المعاش فيكفي بصدق ذلك الإشارة إلى أنه ليس مِن ذي عقل سليم يمكنه تصور وقوع المرجعية في الدولة القائمة في مرجع «أحوازي» أو كوردي أو بلوشي أو أيا من هولاء القوميات المناهضة. وذلك إدراك معقول ومسؤول من جانب رجالات الدولة القائمة على كل حال.
وهذه مفارقة وَهِلَ عنها «الأحوازيين» الذين يحددون هويتهم بالدرجة الأولى بالمذهب، حتى أمسوا وهم لا يعيرون كبير اهتمام بانتمائهم العربي: وهنا المقصود بالدرجة الأولى «الأحوازيون» ذوو التعبئة وغالب أمرهم أنهم من كبار أعداء القوميين. وهذا الاهمال للانتماء العربي عند هولاء جعلهم لا يستخدمون في نديهم اللغة العربية لتبادل الحديث، مثلما جعلهم يرتدون زيهم المتقشف المعروف بدل الزي العربي[7]. وهذا الزي المتقشف، زي أهل التقى، لا يختلف عن ذلك الزي الموحد، الذي كانت تفرضه الدولة البهلوية لاستحالة الآخر لها، كبير اختلاف. ويذوي بين هولاء تماما ذلك الهاجس المتعالي المهجوس بمصير الأمة العربية الموحدة، فتراهم يصطفون ضد الأقطار العربية، مناصرة للدولة الدينية إيما اصطفاف… .
أخلاق الأقنان: مرجع ومقلد
ولعل هذه الصفة، أخلاق الأقنان، تثبت ما أكدته أعلاه من وجود توارد بين كل هذه المحددات الثلاثية. ذلك أن هذه الصفة مشتركة فيما بين المحدد الديني والمحدد القَبَلي، مثلما يظهر في موضعه. ينقسم المجتمع بناء على هذه الأخلاق إلى شطرين: نخبة دينية هم الذين يعلمون وسواد الناس الذين لا يعلمون. فتقسيم الناس ذلك التقسيم الفقهي لا يقر بإتاحة الفهم -فهم النصوص الدينية أولا، وفهم مختلف جوانب الحياة- لجميع الناس، ولا لمن يتلقى النصوص الدينية حتى، بل إنه يجعل الفهم حكرا للمُصْطَفَين من السماء. وصحيح أن الذين يعلمون هم متلقو النصوص ممن تتلمذ في الحوزات ومن يجب انقياد الكافة لهم، بيد أن هذا التتلمذ ليس كفيلا بحصول هبة مرجعية التقليد فيهم. ذلك أنها هبة روحانية يهبها الله أو الأئمة لأتباعهم: فالمرجع الديني، وَفق الفهم الشيعي، يجتمع بالإمام الغائب ويتلقى الهَدْي منه، وهو من يعصمه عن الوقوع في إصدار أحكام مُهْلكات في الأمة. وغني عن القول أنْ لا إمكانية في الفرد أو المواطن لمناقشة، بلْه الاحتجاج أو الاعتراض، ما يؤوله المرجع من الآيات أو ما يُنسب للمشرع من أقوال. ومادام ذلك كذلك، أي ما دام المرجع هو الذي يعلم، العلم الإلهي المحيط، وعامة الناس لا تعلم، بل تقلده وتعمل مثيل عمله، فإن تربّعه على أريكة الملك والسلطان سيعني تبوءه ملك الله، واستِنَابة النبي، وبالتالي إنعدام إمكانية النقد أو الاعتراض السياسي لحكمه وعليه. والملاحظ على هذا التقسيم هو أن المحكوم أو المقلد أو الذي لا يعلم، مطمئن لهذا التقسيم مبررا له، واضعا إياه في الأحكام الدينية التي يجب على الفرد التقيد بها للظفر بالجنة.
التاريخانية
إذا ما كانت الفقرة الثانية من العقل المكبل قد أشارت إلى انفصال العقل الديني عن الواقع المعاش، عبر الإشارة إلى مظهر من مظاهر هذا الانفصال: وهو ضرورة التقيد بالأحكام الدينية الأبدية، فإن ما جعلنا نفرد هذه الصفة هنا لوحدها، هو أن العقل المكبل يفتقر الى التاريخانية، لاسيما الجانب السياسي منه، وهو أخطر الجوانب أيضا. فإذا ما أخذنا مفهوم التاريخانية، على وجه العجل، على أنه الوعي باختلاف العصور والحقب، نظير الاختلاف اللائح فيما بين العصر الحديث والعصر القديم، في تحديد نموذج الحكم الأمثل: وهما الملكية المتوارثة القديمة والديمقراطية الحديثة، إذا ما أخذنا ذلك المفهوم على أنه كذلك، أمكننا حينها إدراك مدى تحلي صاحب الهُوية الدينية، وصاحب هذه الصفات الواقعة في جوف محدده الهووي، بهذا الواقع. لا يعلم المتدين «الأحوازي» أنْ لا إمكانية في ابتعاث موعود جديد يقيم الدولة التي عجز أبوه وأجداده عن إقامتها، لأنه يتجاهل أن باعث هذه الدعوات كانت حاجة مقيدة بعصرها وزمانها، ولا مصلحة ولا تعقل في الإصرار على تكرارها وتحقيقها. وإلى جانب كل ذلك يعجز صاحب هذه الهوية، من منطلق ثقافته السياسية، يعجز عن فهم هذه الحقيقة الحديثة التي تنص على أن القدرة مَفسدة والقدرة المطلقة مفسدة مطلقة: الحاكم ليس إلها مثلما يتصوره المتدين، إنما هو إلى الشيطان أقرب، ولذلك فالحاكم المطلق هو شيطان مطلق، أو يكاد. على المواطن والأحزاب التي تمثله، أن يفكر في صنع آليات تحد من مفسدة الحكام، لا أن تمتدحه بديل نقده. هذا مبدأ يكاد يكون بدهيا في الثقافة السياسية الديمقراطية الحديثة بأن أي فرد معياري يبتلي بالحكم والسلطان، فإنه معرض إلى أن يصبح مفترسا: وتلك حقيقة فاتت المتدينين الذين يرون السلطان نائبا للإمام المعصوم، صاحب صفات قدسية تشابه صفات الإله: إلههم الذي وهبهم عقولا ناقصة واحتفظ هو، أو من يحكم خليفة له؟ بالعقل التام.
ويتبين في حوصلة القول الوجيز في هذا الفصل أن المعاطب الرباعية في هذا المحدد الهووي الديني، وهي العقل المكبل ومعاداة القومية وأخلاق الأقنان والتاريخانية، لا تدع له مندوحة للاستمرار في الحياة، ولا فائدة، نظرا لبليه بهذه الطوام الجسام، من العمل على ابتعاثه. لقد تجاوز الزمان الراهن الهوية المتدينة بمراحل، ولا يسوق لمن رام الحياة والدخول في الركب العالمي المتقدم، أن يجعل وكده ابتغاء بناء مجتمع أو فرد ديني، يعيش مثلما ما عاش السلف الصالح. السلف الصالح قدوة في زمانه ومكانه، لأنه تعاطي مع الواقع من عقل منداح، عقل يستلهم من الأمر القدسي المقدرة في ممارسة تمام العقل، لا يكل له الممارسة العقلية بدلا عنه. وإذًا لا يبقى هنا إلا الدعوة إلى نبذ هذه الهوية، وتركها في التاريخ، والاكتفاء باستلهام العبر منها، والاعتزاز بعظم مفعول ماضيها. لقد حان الوقت أن يتذكر «الأحوازي» أن هويته الدينية ليست ناموسا لا تغير فيه، بل إنها هوية متغيرة، لا يتزلزل الكون إن نزعها، بل هو سيتغير بالفعل، إنْ طرحها، نحو الأفضل، نحو مجتمع ودولة حديثين مدنيين، متحررين عن القيود الرباعية التي عددتها.
القسم الثاني
القبیلة: الأمة في حيز اللا مفكر فيه
إننا إذا ما وضعنا هنا المحدد الهُووي القَبَلي هذا، موضع المقارنة بالمحدد الهووي الديني، وجدناه حينئذ يمتلك من التقدم الحضاري ما يفوق المحدد الهووي القبلي بمراحل. ذلك أن أبرز ما يميز الدين هو أنه عقل أممي، إذا صح التعبير، يتجاوز نطاقه بكثير نطاق الجماعة الواحدة المرتبطة بالنسب أو بالارتباط القائم على الحلف والولاء أو ما في معنى ذلك. وهذا الأمر بالتحديد هو من جعل الأثر الديني في الركب الحضاري وفي التاريخ أثرا مستديما يكاد يكون أبديا لا انقضاء لتأثيرة على الفرد والجماعة. ولكن مهما يكن من أمر المحدد الهووي الديني فإنه محدد معطوب أكبر وجوه معاطبه هي ما عددناه في الفصل السابق.
وإذا ما وضعنا هنا، مرة أخرى، المحدد الهووي القبلي هذا، موضع المقارنة بالمحدد الهووي الديني، وهذه المرة من زاوية نظر القومية والحفاظ على العروبة، لغة وعادات وثقافة، وجدناه حينئذ يمتلك من الطابع العروبي ما يفوق المحدد الهووي الديني بمراحل. ذلك أن نظرة خاطفة على الحاضر المعاش تزكي، بما لا لبس فيه، الإقرار بتمتع أصحاب الهوية القبلية بعروبة صريحة: من حيث النطق بالعربية، والحفاظ على العادات العربية الإيجابية والسلبية معا، والدأب على التستر بالزي العربي، وكثرة التواصل الافتراضي مع باقي العُرب إلخ. ولا بد هنا من أن نقر بأن تجذر العربية، بكامل صيغتها ومختلف تمظهراتها، لدي القبليين من «الأحوازيين» يتفوق، بكثير من الحالات، على المتدينيين والحداثيين معا.
وعلى العموم يفيد تاريخ الأمة «الأحوازية» أن البعث الثاني لها كان على يد جمهرة من أشراف بني محيسن سعوا في بدايات سيادتهم إلى توسيع مشيختهم على حساب المشيخات الأخرى، في مجتمع قوامه القبيلة وعصبه الشوكة والرجال. لقد حدى الطموح بأسياد هذا الحلف، أو هذا العشير، إلى التفكير بتوحيد القبائل تحت سيادة بيت واحد هو بيتهم صاحب الرياسة. لكن هذا الطموح كان يَعْوَزه أفكار لم تكن في حيز المفكر فيه في تلك الفترة، وهي أفكار تتعلق بوجود أمة واحدة «أحوازية» تنماز عن الأمم المجاورة لها، باللغة، وبتاريخ عيش مشترك، وجغرافيا واحدة أي موطن مشترك، وبثقافة واحدة إلخ. وصحيح أن هناك إرهاصات ظهرت على يد الأميرين المِقْدامين الأمير مزعل والأمير خزعل تشير إلى توجه عروبي أممي، إلا أنها إرهاصات ونوايا يشوبها الغموض، ولم تسفر عن نفسها، لا لهم ولا للمؤرخ الذي يتناول تاريخ هذه الحقبة الدقيقة.
ومن دون مزيد في تناول الملابسات التاريخية لهذه الفترة الحالكة فقد كانت تنبعث دوافع العمل في المحدد الهووي هذا وفق الأمور التالية:
أخلاق الفزعة
تسيطر هذه الخِلَّة على جميع جوانب الفعل وردود الفعل في هذا المحدد الهُووي وفي الفرد القبلي. وتعني أخلاق الفزعة الاستعجال الطاغي على جميع نشاط الفرد، وهو استعجال يجعل أطول فترات المكوث لدى الفرد القبلي، والقبيلة برمتها، تمتد إلى أمد قصير وجد قصير. والفزعة في العرف القبلي هي مفهوم حسن يعني النخوة وسرعة الإقدام لدفع الضيم عن القبيل، إلا أنها في الواقع المعاش فمن أسوأ الخِلال: فهي فزعة هوجاء في إطلاق الأحكام، وهي إسراع في الجنوح نحو التنازع، وهي ابتعاد عن كل ما يحتاج إلى روية وتريث. وإذا ما نظرنا من هذه الزاوية إلى تلك الانتفاضات التي حدثت في تاريخ «الأحواز»، بعد فشل البعث الثاني في بناء دولته القومية، نستطيع حينها فهم سرعة تقضيها وخبوها لكأنها لم تحدث؛ ذلك أنها انبعاث عن روح الفزعة المتجذر في الفرد والجماعة القبلية. ففي الفزعة في المحدد الهووي القبلي، تثور الجماعة على قلب رجل واحد، وتكتسح كل عظيم أمامها بلمحة بصر، بيد أنها سرعان ما تعود إلى حال كمونها الأول، متناسية هكذا جميع ما صدر عنها، حقا أو عدوانا. ولذلك فهي أخلاق ممزوجة بالجنوح نحو العنف الهائج، لأن القبيل لا يفزع بحالة نزغ إلا لمناصرة فرد من القبيلة أو جماعة منها، وقع الظلم من قبيلة عربية أخرى عليهم. ومن هنا تكون الفزعة مظهرا من مظاهر التحلي بالشجاعة، كمفهوم يحتل محل القلب في المنظومة القيمية القبلية. على أن الشجاعة هنا لا تعني معناها اليوناني مثلا، أو معناها العربي اللغوي الموجود في معاجم اللغة، بل معناها الأول، طبقا للهوية القبلية، هو أنها عدم الخشية من الموت وحب المعاركة. وغني عن القول أن الشجاعة في الفرد والجماعة القبلية «الأحوازية» تتستر على جميع عيوب الفرد والجماعة معا. فمادام الفرد شجاعا فلا ضير أن يكون بذئ اللسان، متجاوز على حقوق الآخرين (وهي من مصاديق البسالة والشجاعة) غير عفيف إلخ، بل الأهم في كل ذلك هو أنه ذوبسالة يصارع الآخرين فينزل الهزيمة بهم.
ولأن الفرد القبلي «الأحوازي» مطبوع، بوعي منه أو من دون وعي، بهذه الخلة، مثلما أشرت، نراه لا يستطيع التخطيط بعيد الأمد في مختلف الصُعُد، بل كل ما في ذلك هو أنه يتوقع تحصيل أعظم المكتسبات بأوحي الفترات. ومن هنا تفسير عدم إستمرار الفعل السياسي الحزبي الذي تفجر منذ ما يقارب القرن. فبالرغم من وجود أسباب أخرى لها قيمتها لعدم نجاح العمل الحزبي أو الحركي، إلا أن من أهم أسباب فشله الذريع هو أنه انعكاسا لأخلاق الفزعة التي لا تثور إلا لتخبو ولا تزدهر إلا لتذوي.
استرزاق لا اقتصاد
إن أكثر ما تنماز به النظرة الاقتصادية هي أن للاقتصاد منطق يتحكم في مجرياته: ومن أبرز أحكام هذا المنطق هي حساب الأرباح والخسائر. لكن كيف للروح القبلية التي تعتبر الكرم والعطاء من أخلاق الفرسان أن تعي هذه الحقيقة وتلتزم بها. فالقبيلة تعتبر الكرم وإغداق العطاء الباذخ سمة من سمات المروءة، وهي تشتط به في كثير من الأحيان. (سنوضح فی المحدد الخارجي كيفية خبو الكرم لدى العرب لمعاشرتهم غير العرب من الذين يحوطون «بالأحواز»).
وفضلا عن كل ذلك، فإن أهم ما يميز العقل المعيشي في المحدد الهووي القبلي، هو النظرة إلى الملكية الفردية، وعدم اعتراف القبيلة بها: ذلك أن الملكية في القبيلة هي ملكية جماعية، لجميع الأفراد الحق في التمتع بها، في معظم الحالات. وصحيح أن الأرض الزراعية والمواشي التي ترعى بها هي مسجلة عرفا باسم أحد أبناء القبيلة، غير أن الفرد هذا إذ كثر رياشه لا يستطيع أن يمنعه عن بني قومه، ذلك أن من يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يُستغنى عنه ويُذْمم. والاستغناء عن الفرد هنا سيعني حرمانه من منعة القبيلة والتحول إلى طريد، واقعا أو وهما، في كماشة أبناء القبائل المتربصين. وهذا ناتج بطبيعة الحال عن الروح الجماعية السائدة على حياة القبيلة.
وإلى جانب ذلك، وكخير دلالة على ابتعاد العقل المعيشي القبلي عن المنطق الاقتصادي السليم، الالتزام بتلك الظاهرة الشاذة التي بموجبها يدفع الفرد المتجَاوِز، على الفرد أو على الشرف أو نحو ذلك، يدفع لاتقاء شر المتجاوز عليه، جميع ما يطلبه المعتدى عليه، وإن كان هذا الطلب يساوي جميع الممتلكات. ونقصد بذلك ظاهرة «الفصل» المعروفة لدي أبناء الوطن عندنا. فهذه الظاهرة كفيلة تماما بذهاب جميع ممتلكات الفرد تَذْرُوها الرياح، وبضياع عمل اقتصادي خصص الفرد كامل عمره له. وتشتد وطأة «الفصل» على الفرد أو الجماعة عندما يكون العدوان النازل على قبيل ما، ليس صادرا عنهم، بل عن قبيل قريب من عشيرتهم أو عن ذوي قراباتهم. وهنا يجد المرء نفسه أمام عقاب اقتصادي قاس، يفصم ظهره، من دون أن يكون له أدنى مساهمة فيه. وإذا ما نظرنا إلى المنظومة القانونية العرفية للقبيلة وشططها في المعاقبات، في «الأحواز»، في جزئية معينة هي القتل أو الزنا: نجد أن الفصل المخصص لهما يفوق بكثير ذلك الحكم المخصص لهما في قانون العقوبات المدنية والجزائية، أو حتى الشرع الإسلامي، خاصة فيما يتعلق بالزنا الذي قد تتطاير الرؤس عليه من جميع الأطراف.
الروح الجماعية: انتساب لا جدارة
لا تعترف القبيلة بالفردانية بالمعنى الحديث للمفهوم، بل هي جماعة واحدة تكون الفردية فيها فردية عشير أو قبيلة، مائزة عن عشير أو قبيلة أخرى، تجاورها أو تنصب لها العداء. وبناء على ذلك فلا مجال لأن ينمو الفرد الواحد اقتصاديا أو عصاميا في المجتمع القبلي. على أنه بعد دخول القبيلة إلى الزمن الحديث، أي ذلك الزمان الذي لا يخصها ولا هو موائم لكيانها، نشأت جماعة داخل القبيلة أظهرت من نفسها جدارة ووكدا، رجعا عليها بشهادات عليا ومهارات كبرى. لكن بالرغم عن ذلك، أي بالرغم عن أن هذه الإنجازات هي إنجازات فردية منعتقة عن الفضاء القبلي، نرى أصحاب الهوية القبيلة يتباهون على أبناء القبائل الأخرى من بني قومهم، بأولئك الذين تحصلوها، سواء كانوا أصحاب شهادة علمية عليا، أو ممتلكين مواقع حكومية كبرى إلخ، لا لشئ سوى لأنهم لا يستطيعون استيعاب ما تفرد به هولاء، وعَزْوه إلى سمات العصر الحديث. على أنه بالرغم من ذلك التباهي تبقى مكانة المتميزين هولاء في القبيلة، خاصة مكانة أصحاب المواضع القبلية العادية منهم، تبقى مكانة متواضعة، ليس لهم أي تأثير في التخفيف من استعار المصادمات، أو توجيه القبيلة إلى وجهة معينة. فهنا اعتبار الفرد لا ينم عما لدية من مهارات اكتسبها على طول حياته، ولا شهادات نالها من كبار الجامعات، بل ينبع ذلك الاعتبار عن أبيه المنسوب إليه، وعن انحداره إلى فرع من فروع الرياسة. وهذه ظاهرة يعاني منها كثيرا «المثقف أو المتعلم الأحوازي»، ممن لا ينتمي لبيوتات الرياسة، وهو يَلْفي نفسه على هامش جلسات «الفصل» أو طلب «العطوة» أو إنهاء خصام إلخ، لأن الشيخ هو محل القلب في مثل هذه الجلسات التي يغلب عليها الشطط بحقوق الناس مثلما أشرت. على أنه من النافل القول أنه في المجتمع الأحوازي، قبيل سنوات قريبة، لم يكن الحصول على شهادات عليا، أو مهارات كبرى، متاحا إلا لأبناء الميسورين من شيوخ القبايل والعِلْيَة من القوم، ما يجعل الأمر العصامي، في نهاية المطاف، حكرا بيد هاته الجماعة أيضا. وهذا الأمر هو ما يفسر احتلال مراكز الحركات السياسية المناهضة والموافقة معا، على يد أبناء الشيوخ الذين حملوا معهم، وفي موقعهم الجديد، جميع الصفات المعطوبة التي يمتلكها المرء القبلي من روح الفزعة، والتعالي على الآخرين، وعدم احتمال النقد ممن هو أدنى مرتبة، والشطط بالمقدرات المالية للحركات على وفق الأهواء واعتبارها ملكا شخصيا، بدل التعامل معها بمنطق حركي اقتصادي سليم.
أخلاق الأقنان: شيوخ وعوام
وهذه الصفة، مثلما قلت ءانفا، مشتركة فيما بين الهُوية القبلية هذه والهوية الدينية تلك، مع اختلاف مؤدي الدور فيها. فإذا كانت أخلاق الأقنان تتحدد في الهوية الدينية بالمراجع العلماء والمقلدون الجهال، فهنا تنماز هذه الأخلاق بوجود علية من الشيوخ وسُوقَة من العوام. وصحيح أن القبيلة تضم مختلف المستويات من المواضع كالشيوخ والوجهاء و«الحوشي» إلخ كما يحددها علم الاجتماع، غير أن ما يهمنا هنا ليس الغور الإقصائي بهذه المستويات والطبقات، بل ما يهمنا هو التطرق العام لذلك الميز العام الذي يسمح لنا بتشخيص وجود أخلاق تنطبق عليها تسمية أخلاق الأقنان العبيد.
ولعل من أخطر النقاط التي لم يلتفت لها الكثير من الباحثين في التاريخ الإيراني، وعلى رأسهم «آن لمبتون» و«حسين بشيريه» و«أحمد أشرف» إلخ، هو أن «الأحواز»، بالرغم من تاريخه المذهبي الذي شهد قيام دولة شيعية فيه، لم يسجل وجود طبقة من علماء الدين ينحصر فيهم القضاء والفتيا واستصدار الأحكام التي تفض المنازعات. ذلك أن هذا الدور كان حكرا تماما بيد شيوخ العشائر، والقانون القبلي كان هو من يفض النزاعات بمنطومته العرفية، وبما يتواطأ عليه الشيوخ بحيال محدثات الأمور، كما هو معمول لغاية اليوم. والغالب على هذه المنظومة العرفية في حل النزاعات هو الشطط والتسويف مثلما قلت. فجسلة واحدة بعد عطوة، كفيلة بأن تفض ذلك النزاع الذي يتّم أطفالا، و أيَّم نساء، وقطع أياد وأرجل من خلاف: من دون أي احتجاج من ذوي الحق ممن فُتك بهم مرتين: مرة للعداون الذي حل بهم، ومرة للأحكام الجابرة التي أرادت استرجاع حقوقهم لهم فسوفتها إيما تسویف. وكل ذلك يمر من دون احتجاج يذكر منهم، لا لشئ سوى لسريان أخلاق الأقنان فيهم.
ونحوصل كل ما تقدم في أن مواضع الخلل في المحدد الهووي القبلي، مثلما رأينا، أوضح من أن نلوح إلى ضرورة التخلي عنه، وإزاحته من لعب دور في المجتمع والتاريخ. لقد تجنت القبيلة ولا تزال على «الأحوازيين» كثيرا، بتشتيتهم عشائر وقبائل لا اختلاف بينهم، قيد أنملة، سوى اختلاف الأسماء المصطنعة والنسب الموهوم. ثم تجنت هذه الهوية على المجتمع بتكوينها طبقة من المشيخة عاثوا في الأرض الفساد، ونالوا من المجتمع بالرغم عن جميع نزواتهم، التجلة والتوقير، لا لجدارة أُثبتت فیهم، ولا لحنكة ظهرت عليهم، بل لإنحدارهم إلى نسب موهوم أفرد لهم سيادة لا تكبر إلا في نفوس أولئك الذين اعتادو أخلاق الأقنان. وهي عصفت بالمجتمع أفرادا وجماعات ببثها تلك الأخلاق التي تحكمها الفزعة: وتوابعها من إسراع في الخصام، وتلهف للمعاركات، وشطط في «الدكات» التي «لا تميز بين شامي وعامي»، مثلما تقول لهجتنا الدارجة. وعقيب عظيم ذلك التجني، وتواتر هاته العواصف، فإذا ما نظرنا إلى التاريخ نستفتيه الدور السلبي الذي لعبته القبيله، فسيكفينا بهذه الإفادة التي تثبت أنه عند الإطاحة بالدولة الثانية القائمة في البعث الثاني، كان الشيوخ قد تنفسوا الصعداء بإطاحة كبيرهم الذي كان يسوسهم مرة بالعطاء ومرة بالسياط.
لا استقرار في مجتمع يختلج في مهب أرواح أخلاق الفزعة، يعاني من اقتصاد منطقه الاسترزاق، قد يذهب بجميع ما حازه الفرد والجماعة من خيرات اقتصادية ومالية بجلسة «فصل» واحدة. مجتمع تسود فيه قلة قليلة باسم رياسة لا عدل فيها، تتعالي على الأفراد أهل الجدارة ممن تعلم الفلسفة والسياسة والفن ألخ بأرقى تمظهراتها ومن أكبر الجامعات العلمية في الكون، لتستحيل فردانيتهم في كلية لا تظهر إلا عند المصادمات مع الآخرين.
القسم الثالث
المدنية: المرحلة الانتقالية نحو البعث القومي الثالث
إذا ما كانت الهُويتان السابقتان، الدينية والقبلية، تتمتعان برسوخ في منطومتهما القيمية لدى الأفراد والجماعة، فإن أبرز ما يميز المحدد الهووي المدني هو مروره بمرحلة انتقالية جعلت قيمه وبواعث العمل منه محل ارتياب في روح الفرد والجماعة المنتمين لهذا المحدد الهووي، فضلا عن جوانب الغموض فيها بعيون المدنين «الأحوازيين» أنفسهم وبعقولهم. وبالمثل إذا ما كانت الهويتان السابقتان قد شهدتا، في البعث الأول للأمة والبعث الثاني لها، شهدتا تمكنهما من إقامة دولة تمثلهما، فإن هذا المحدد يمر في طور المصادمة من أجل الظفر بتأسيس دولة تمثله، على غرار ما ظفرت به الهويتان الدينية والقبلية.
والواقع هو أننا سنسلك في وصف هذه الهوية الحديثة مسلك النقد الذاتي، محاولين وصف ما يحدد بواعث العمل فيها مرفقة بما يناقضها. فالفَرْضية المتبعة في هذا الفصل هي أن الهوية المدنية تمر بمرحلة انتقالية جعلت أبرز بواعث العمل فيها تعاني من مفارقة من جهة، وعدم رسوخ في نفوس الأفراد والجماعة من جهة أخرى. وإنْ لاحظ القارئ على هذا الفصل إلحاح في النقد من جانبي، فأرجو أن لا يظنه قَدْح بهذه الهوية، بقدر ما يؤوله حرص على معرفة مواضع الخلل، ومحاولة النيل منها. فأنا أولا وأخيرا، أحدد ذاتي بالانتماء إلى هذه الهوية، لا أرى مستقبلا حضاريا للهويتين السابقتين، نظرا لتجاوز الزمان عنهما، ولما لكبير المعاطب فيهما، وجسام تجنيهما على تاريخ هذه الأمة، ومساهمتهما في أيلولة الأمور إلى هذا المآل الذي لا يفوقه انحطاط وتدهور.
العقلية المدنية «الأحوازية» : التأرجح بين العقل الحديث والعقل المكبل
لعل أبرز ما يميز الهوية المدنية هو أنها، مثلما قلت، تعاني من عدم وضوح في ما تريد العمل به، واتخاذه مبادئ لحياتها العامة من جهة، وعدم رسوخ المنظومة القيمية المدنية فيها من جهة أخرى. وحديث العقل المدني لدى «الأحوازيين» هو حديث التأرجح فيما بين العقل المدني الحديث بجميع الزاماته، وعلى رأسها انعتاقه من جميع قيم لا تنبثق عنه، والعقل المكبل بنسختيه الدينية والقبلية. لقد تعرف المدني «الأحوازي» على الفلسفات الحديثة بعض تعرف، وسمع وقراء لُماما عن أن العقل الحديث لا يلتزم إلا بما يقتضيه هو. وبالرغم من أعجابه بهذه الحقيقة، غير أنه بمجرد معارضة هذا العقل للمسلمات الدينية أو القَبَلية، تجده سرعان ما يرتاب ويخيم عليه التيه بكِظام أمره، فلا يدري ما الصُنع في حال رفض العقل الحديث الخوارق الدينية، وتَنَصلَ عن الاعتراف بإمكانية بعث الأجساد مثلما هي، واستحالة الوحي إلخ؛ أو حَكمَ بدنس البيت الذي فيه الرياسة، وأظهر تاريخهم، بدل رمزيته على شرف القبيل واعتزازه، أظهره بيت نزوات وسقوطُ أخلاق ألخ.
وتعود هذه الظاهرة المفارقة إلى أن العقل الأحوازي، شأنه شأن العقل الديني العربي، مصاب بميتافيزيقاء عُلْوية، اعتاد لمدى أحقاب أن يعزو المحدثات إلى عالم فوقاني ربوبي، هو منشأ المعنى ومبدأ الأشياء. ومن مظاهر الإصابة بالميتافيزقاء العلوية هي أن الفرد المدني في حالات غير يسيرة يؤمن إيمانا باتا بنظرية المؤامرة، أي تلك النظرية المتشائمة التي تبحث عن الإخفاق في وراء الوراء، عمن يسير الأحداث بإحكام متقن، دون أن يظهر نفسه أنه الفاعل هو. وعادة ما تتجلى المؤامرة لديهم في شبكة معقدة من الأسباب والتدرج، تشابه فعل الرب أكبر شبه: ولعمري إن هذا لمن عوارض العقل المصاب بالداء الميتافيزيقي.
الفردية
ومثل الفردية هنا مثل العقل، غير مصحصحة لدى الفرد المدني، فهي تعني له من جهة وجوب تموضعه في مركز الكون وجميع الأفكار والفلسفات، بينما من جهة أخرى مطوق هو برسوبات دينية وقبلية تناهض هذا المعنى المستحدث لديه. ومن هنا ما إن يلم بـ«الأحوازي» طارئ حتى يسارع إلى الدوائر الناشئة عن الهويات القديمة البالية، وهي من جهتها تسارع إلى احتضانه، متناسين معا مقتضيات الزمن الحديث. ومن أبرز آيات ركاكة الفردية في الهوية «الأحوازية» الحديثة، هي مسألة المَنَعة من القبيلة: وذلك أن جُلّ المدنيين هنا عندنا لا يرتاب في اللجوء إلى القبيلة عند حلول ضيم ينزل به، لما لمنعة يجدها تختص له من أبناء قبيلته. وصحيح أن مبررهم في ذلك هو وجود ضمانة تنفيذية لما يصدر عن القبيلة، بيد أن واقع الحال هو أن هذا اللجوء لأحضان القبيلة منبثق أيضا عن ترسبات قبلية لمّا يستطع الفرد «الأحوازي» تجاوزها. وأكثر ما يزكي ذلك هو أن كثيرا من هذه المنازعات، التي يلجأ فيها الفرد المدني إلى القبيلة، لا تحتاج أصلا إلى تعصب قَبَلي ومنعة صادرة عنها لحماية عضو من أعضائها، بل إنها يسيرة الرفع إذا لجأ للمحاكم المقامة على يد السلطة القائمة. على أنه يجب الوعي بأن السلطة تضافر من جهتها وبما لها من تأثير مفصلي تضافر بقاء الدوائر القديمة على حالها وإن بليت، سعيا منها لمنع الفردية من الانطلاق ومن الدخول في العصر الحديث الذي هو قوميا بالضرورة.
وإلى جانب كل ذلك، فإن من أكبر أمارات إذواء الفردية في «الأحواز» هي وجود ترسبات دينية يمكن وصفها بالخشية من العقاب الديني، تمنع الأفراد من الإنطلاق في ما حُرم على يد الفقه الديني الذي ما فتئ يصنطع أكبر الحواجز أمام انطلاق الفردية في كامل أبعادها.
ولعل أكبر الملحوظات على الفردية «الأحوازية» المدنية، خاصة في نسختها المتعلمة أو «المثقفة»، هي النرجسية في نفوس الأفراد التي تجعل منهم كائنات غير قابلة لأي عمل فردي ولا جماعي ولا أي نوع من أنواع التعاطي الإنسي. فأكبر داء عياء أصيب به المتعلم «الأحوازي»، أو المدني «الأحوازي»، هو أنه لم يُفلح في ترسيخ أيٍّ من الخصال الفردية الحديثة المدنية مثلما أفلح في النرجسية والهُيام بالذات منقطع النظير بين جميع العالمين ماضين وحاضرين. لذلك فلا مجال لتقبل النقد ولا سيطرة الروح النقدية على الفرد والجماعة، مما أفقدت «الأحوازيين» مُكنة صناعة فعل جماعي يتمتع بالاستمرارية والتطور المطرد.
فأكبر داء عياء أصيب به المتعلم «الأحوازي»، أو المدني «الأحوازي»، هو أنه لم يُفلح في ترسيخ أيٍّ من الخصال الفردية الحديثة المدنية مثلما أفلح في النرجسية والهُيام بالذات منقطع النظير بين جميع العالمين ماضين وحاضرين.
وأكبر من كل ذلك هو أن الفردية «الأحوازية» لما تخلت، أو سعت إلى التخلي عن الهويتين الطاعنتين في تاريخها، وهما الدين والقبيلة، سقطت في انفصام عصف بها: ونقصد بذلك الإشارة إلى تلك الفردانية التي ما إن تحررت عن الهويتين المذكورتين، حتى ارتمت في نزع الجانب العربي عن نفسها، ولبست هوية أعجمية لا صلة لها بها. وقد يكون مرد ذلك إلى أن الفرد العربي في مثل هذه الحالة، أي في الحالة الحديثة التي رأى نفسه منزوعا عن المحددين الذين اعتادهما، وسط جموع من الأعاجم الذين افتتن بهم، وظهروا له بمظهر الآخر الأعلى وهو الأدني، في محل عمله بالدوائر الحكومية وغيرها، رأي نفسه لا مندوحة لديه إلا الاستحالة فيهم: في تقليد لغتهم وزِيِّهم وجميع صفاتهم الأخلاقية المرذولة والحميدة. ويرجع هذا الأمر إلى أن المغلوب، مثلما يقول العلامة إبن خلدون، مولع دوما بالغالب، يقلده في جميع جوانب حياته. والأهم من ذلك هو أن هذا التقليد يملي الفراغ الهووي الذي حدث للفرد، بعد تحرره عما ورثه من هويات، تقليد يظهر بزي المنقذ الذي ينتظم عقد شخصية الفرد وتماسكه النفسي والروحاني.
القومية: دين بلا جنة
لن أجانب الصواب إن قلت: إن أكبر آيات الامتراء والمظنة والريبة، فهي في دُعاة القومية والقوميين «الأحوازيين» على قلتهم. فأول ما يُسجل علينا نحن هو أننا مصابين بهول يغلو في المخافة من مخاطر التصريح بقناعتنا القومية، لما لها من مخاطر أمنية جسيمة. وهذا يدلنا مباشرة على مصدر هذا الفزع: وهو عدم رسوخ هذه الأفكار في القوميين، والذهول عن فهمها فهما منطقيا، ينتئي بها عن الرومنسية: ذلك أن القومية هي ضرورة منطقية أكثر منها رغبة رومنسية من الزمن الجميل، مثلما سنبرهن بعيد قليل. نعم إن مرد هذه السرية في القومية هو عدم قناعة منطقية بها تامة من جهة، مثلما قلت، وخِشْية من وقوع مجابهة مباشرة وعدم الاستعداد لها لضعف المعتقد من جهة أخرى. وهذه الخشية من التضحية في سبيل المنظومة القيمية، تعاكس تماما ما نجده من كبير تضحيات في سبيل القيم لدى أصحاب الهُوية الدينية أو الهوية القبلية: فلن تجد ارتيابا مثل ارتياب القوميين في المتدين الحقيقي المستعد التضحية بماله وبنيه وروحه في سبيل الله وما يؤمر به وينهي عنه. وبالمثل فلن تجد القبلي ممتر في المبارزة عند كل منازلة بين قبيلته وقبيلة أخرى، متضاهيا في حال هلاكه بأنه سيترك صيتا ذائعا من الشجاعة لأبنائه وبناته وذوي قراباته. وبالعكس تماما لا بالمثل، تجد القومي «الأحوازي» يتصارع مع الزمان والمكان والقبيلة ومع الله، ليتجنب الوقوع في حالة تتطلب منه التضحية بمال نزر، أو بسمعة متواضعة، بلْه الأنفس والأيادي والأطراف، في سبيل قضيته القومية. وهذا الأمر بالتحديد، أي الوجل المبالغ فيه وضعف الإيمان بالقومية، هو ما يفسر تخلي القوميين عن كامل قناعتهم التي كانوا يجاهرون بها في نديهم الخاصة، عند أول مواجهة أمنية وعند أقل بطشا. ويصبح القومي في هذه الحالة، مِن أكابر مَن يعظم النكير على القوميين، ومن أكثر الناس استنكارا لها. وكثيرا ما سمعنا مبرر هولاء الذين انقلبوا على عقبيهم، ممن لن يضر القومية شيئا، على أنهم تُركوا وحدهم يلاقون البطش السلطوي، وأنهم لم يروا «فزعة» من جموع الجماهير لمناصرتهم: لكأنهم تبنوا القومية لأجل مغنمة يصيبونها، أو جاه ينالونه، أو تَقْدِمة يحظون بها. كلا إن القومية دين يدين به المُعْتَقِد من دون مرجاة جنة، أو حسن مآب.
نعم إن القومية هي ضرورة منطقية في المرحلة التاريخية الراهنة، مثلما كتبنا هذا المقال الوجيز على سبيل البرهنة عليها: ذلك أن الفساد الجواني في الهويتين الدينية والقبلية، مثلما رأينا، حكم عليهما بالزوال أو بضرورة إزاحتهما عن الحياة العامة. ولا يملأ الفراغ الناتج عن طرح هاتين الهويتين نتيجة فسادهما الذاتي، إلا القومية بما لها من قوة في تحديد هوية جديدة للفرد، تجنبه أكبر معاطب الهويتين السابقتين، وتدخله إلى زمن الحداثة بكل ما يحمله من مقتضيات حديثة. ثم إن القومية ضرورة منطقية لأن تبنيها والاجتهاد من أجل المضي في الزاماتها وتوابعها، هو ما سيكفل الوصول إلى بعث ثالث ودولة قومية ثالثة. ثم إن القومية هي ضرورة سياسية، من زاوية نظر أشمل، لأن هذه الأقطار المتشرذمة العربية، الصغيرة الصاغرة، ليس لها أن تتعامل بندية مع جيرانها والدول العالمية العظام، إلا إذا توحدت بنوع من الوحدة القومية، تراعي الخصوصيات المحلية، وتلاحظ التحفظات الجزئية، في كلية تعددية ديموقراطية.
وليس من خطر أكبر على القومية الناشئة عندنا اليوم في «الأحواز» من تلك الدعوات التي تنادي بالتكسي بهوية تقع في كلية «متعددة إصلاحية»، يطلق دعاتها على أنفسهم بمن يطلب الإصلاح من العرب. وهذه دعوة ظاهر عنك فسادها: فأول الزاماتها هي التخلي عن الصلة بالوطن العربي. وثاني وجوه فسادها هي أنها لم تدخل في حسابها صراعات المجتمع المدني الذي لا يمكن أن يكون «الأحوازي» فیه، بإمكانياته الضحلة، طرفا من أطراف الصراع المدني، يمكنه تحقیق مكاسب بقدرته على المناورة. لا مقدرة لدى «الأحوازي» على المناورة في المجتمع المدني الذي ينادي له هولاء، لأن الفرد «الأحوازي» مصاب أولا برسوبات دينية وقبلية، ویعانی فی مدنيته الهشة الناشئة ثانیا. ولا مقدرة في «الأحوازي» تمكنه خوض تجاذبات تشريعية في الإصلاح، لأنه يفتقر إلى وجود لوبيات في المركز، تساعده على سن تشريعات لصالح مناطقه النائية: ولعل خير مثال على ذلك هو أن «الأحوازي» عجز عجزا باتا عن المحافظة على حصته من مياهه التي وهبها الله له، فكيف به أن يطالب بما لم يعترف المركز به له من أول الخط؛ وقد سلبه للتو ما هو أصلا له طبيعيا، وبحكم الصُنع الرباني. وعلى العموم فلا نريد الاسترسال بعدِّ وجوه الفساد الكامنة في هذه الدعوة.
العامل الخارجي
إذا ما كانت تعاني الهوية المدنية من مفارقة جعلت كل قيمها وعقليتها برمتها مصابة بالارتياب، فذلك ناتج، في قسط ملحوظ منه، عن وجود عامل خارجي يقف عقبة صلدة لإفشال أي نهضة تولد أو حركة تنشأ أو استيقاظ يحدث. ونظرا لأهمية هذا العامل الحضاري المفصلي يتم تخصيص الفصل الرابع إلى شرح أهم نقاط فاعلية هذا العامل الذي كان دوره سلبيا بصرامة، بالنسبة للشعب «الأحوازي» على طول تاريخه وعلى مر بعثه الثلاثي للروح «الأحوازية»، العربية بالضرورة.
وعلى العموم ومهما يكن من أمر هذا العامل الخارجي، فإنه بالرغم عن كل ما في الهُوية المدنية من خلل أصيبت به، فإنها هي الطريق اليتيم لبقاء الأمة على قيد الحياة، وهي الأمل الوحيد في ابتعاث الأمة بعثا ثالثا يأتي لها بدولة ثالثة، تأمن بها على حالها من الزوال، وبما لها من عقل منطلق حديث، يبدع من ذاته كل ما هو ضروري للبقاء على الحياة، والاستمرار في الوجود. وصحيح أن العقل والفردانية والقومية، كأهم مصادر الفاعلية في الهوية المدنية، فيها كلها ما أحصيته من هنات يسيرة، فإن ذلك يبدو طبيعيا ومُتَفهما تماما، وناتجا عن أنها حديثة النشأة، تحتاج إلى فترة من الزمن، تتضح فيها قيمها لدي الجماعة والفرد على سواء، وتترسخ عقيب ذلك في النفوس، أي عقيب إثبات قوتها الحضارية بالمقارنة مع سائر الهويات أو البواعث السابقة عليها.
القسم الرابع
العامل الخارجی والمحددات الثلاثیة
إذا ما كانت المحددات الثلاثية التي أحصیتها توصف حياة الأمة من الداخل، فإن حديثي هنا سيدور عن حال الأمة من الخارج، من زاوية ذلك العامل الذي كان له الدور الفصل في كافة منعطفات الحياة «الأحوازية». لقد لعب العامل الخارجي، على طول التاريخ، دورا سلبيا أخلَّ تماما بتكوين هذه الأمة، ومانع نموها الحضاري الطبيعي، وأجهدها بطوق كبل قواها العمرانية، وحمَّلها بقضايا لا تمت لها بصلة، وأثقلها بهموم ليست منبعثة عن واقعها تاريخيا ومجتمعيا وثقافيا، وفرض عليها طابعا فصم شخصيتها، وأربك جميع فئاتها المجتمعية، فأعياها بوجوده، وأنهكها بضرورة دحره، حتى حجب عنها العالم بأسره، وطغى بظهوره على تمام بصرها إلخ.
وأيا يكن أمر هذا العامل الخارجي، فهو قد لا يحتاج إلى كبير وصف، لأنه واقع ملموس لكل منا تجربته المريرة منه: سواء في ذلك الشعور الجلل بالازدراء، أو في تلك المعاناة الاقتصادية التي تستهدف إفقار الأمة، أو في ذلك التقزيم التاريخي لدور الأسلاف وأمجادهم، أو في التجاوز على رجال الأمة ومُقَدَميها، أو في مختلف الثبور الذي ينزل كل حين، على أمة مذبذبة لا إلى أولئك المتدينين القبليين ولا إلى هولاء المدنيين المرتابين.
ماهي مكامن القوة لدى هذا العامل الخارجي؟ لماذا فرض علينا الهزيمة في جميع أدوار المنازلة ضديده؟ لماذا نراه أفضل منا ونرانا أدنى منه؟ لماذا نجح في جل سياساته التي أراد بها النيل منا؟ لماذا زهر تاريخه ومجتمعه ومكانته الدولية، وذبل تاريخنا ومجتمعنا ومكانتنا المحلية عند بني قومنا؟ … .
تلك أسئلة نحاول الإجابة عنها في العوامل التالية:
التقدم الحضاري
لا أقصد بالتقدم الحضاري وجود خِلَّة في العرق تتفوق علينا، أو شيء من هذا القبيل. بل كل ما أقصده من التقدم الحضاري، هو أن التاريخ المعاصر والحديث يثبت عدة وجوه لهذا التقدم من أبرزها أسبقية التعرف على الغرب[8]: ففي الوقت الذي مر على تعرفهم على الحضارة الغربية ما يقارب القرنين، ما يزال المثقف «الأحوازي»، فضلا عن السُوُقة، لم يتعامل مع الغرب إلا من خلال الترجمات الفارسية التي يجدها هنا وهناك، أو في أحسن الأحوال من الترجمات العربية. وغني عن القول الإلماع لما في هذه الترجمات من خلل. وبالمثل ففي الوقت الذي يسافرون هم للغرب بصيغة المنح العلمية أو السياحية إلخ، فإن الصيغة الطاغية عندنا اليوم لمشاهدة الغرب والتلذذ بمظاهره وخفاياه، هي صيغة الهجرة عبر اللجوء بكل ما فيها من هوان وافتراء، في سبيل تجميع ملفات سياسية أو اجتماعية ألخ، يضطر فيها المرء العربي «الأحوازي» لصناعة ملف سياسي مزور، أو ملف اجتماعي يرتد فيه عن الإسلام ويعانق النصرانية، أو ينتزع جنسيته ويميل إلى المثلية، أو نحو ذلك مما يخرم المروءة، من أجل الحصول على قبول في اللجوء. (على أننا يجب أن لا ننسى أبدا أن من العوامل الرئيسة في هذا التأخر في التعرف على الغرب: مصدر التقدم والقوة، وعدم الاحتكاك به، هو العامل الخارجي بحد ذاته: ففي الوقت الذي كانت هناك محاولات من قبل الأمير مزعل لبناء مدارس حديثة واستجلاب معلمين من الخارج، أو إرسال بعثات إلى أوروبا، في الوقت ذاته كانت الخطط تحاك، من وراء الوراء، للإطاحة بحكمه وحكم بني أسرته).
ومن المظاهر الأخرى لتقدمهم الحضاري هو تمتعهم بمجتمع مدني ناشئ وروح مدنية مشهودة إلى حد ما. لقد تحرروا هم بشكل لا لبس فيه من الدوائر القبلية ودخلوا في حياة مدنية في المدن التي اختطوها من أجل الممارسة المدنية، حتى بات الحديث اليوم عن قبائل أعجمية لا صحة له في المدن الغالب عليها الطابع المدني، وهي المدن المركزية. وصحيح أن هناك مدن عندهم تعاني من قبلية ونحوها، إلا أن العبرة بالغالب ولا حكم للشاذ. وصحيح كذلك أن حكمهم اليوم ديني، إلا أن هذا الحكم فهو أشبه بدين قومي نتج عن طبقة خاصة، هي طبقة رجال الدين، كان لها الدور الكبير في تطور تاريخهم القومي بجميع منعطفاته، مثلما يعد هذا الحكم مائزة طبيعة مجتمعهم وطابعهم الحضاري. ومن جملة مظاهر التقدم الحضاري فيهم، هو وجود منظومة تشريعية قانونية تامة عندهم، تحدد الكثير من جوانب الحياة فيهم، لها شرعيتها العامة، وتمتع بقبول عام، يهبها قدرة تنفيذية في السلطة والتشريع. وذلك مقابل عرفنا التشريعي الذي تعصف به القيم القبلية والغرائز الدينية.
الدولة القومية
إن من أكبر مكامن قوتهم هو نشوء دولة قومية فيهم، نابعة عن لغتهم التي تشخص قوميتهم وتميزها، ونيل الاعتراف العالمي بها. لم يمر العامل الخارجي، في التاريخ الحديث والمعاصر، بفترة احتلال طويلة يستحيل ميزاته الهووية الثقافية اللغوية الحضارية، ولم يشهد فرض لغة وهوية عليه من قبل سلطة تفوقه سطوة وسلطانا. وهذه الدولة القومية لم تأت من فراغ لديهم، بل كانت حصيلة جهود جبارة لتلك النخبة الحديثة على وجه الخصوص، إلى جانب بعض النخب الدينية من علماء المذهب، منذ عصر المكلية الدستورية، نادوا بها بضرورة الدخول إلى حكم قومي، يقضي تماما على ملوك الطوائف، يتمتع بنظام تعليمي واحد يساهم في التنشئة المجتمعية للأطفال من مختلف القوميات، برنامجه صناعة أمة واحدة بقومية واحدة، تنطق بلسان موحد، يحميها جيش موحد يبطش بكل قومية مناهضة.
وهنا يجب أن لا يفوتنا أن الدولة القومية شيء يتعالى عن نوع الحكومات التي توالت فيهم، وهي ملكية وجمهورية متمذهبة، لأن الدولة هي هي تبقت على حالها، تمثل قومية وحيدة، شاهنشاهية كانت أو متمذهبة. لا اختلاف في التوجه القومي بين أية من هذه الحكومات على كبير اختلافها في السياسات والاتجاهات.
ومحل الدولة في الدول الناشئة على العموم هو محل القلب، وهي صاحبة الأثر الماضي على طول المجتمع. فالدولة القومية هنا هي من يتحكم بالنظام التعليمي، وبأثره العظيم على آحاد المجتمع وجماعاته. والدولة القومية هي من تُكوِّن جيشا مهنيا يحرس ليس على استتباب الأمن الداخلي والخارجي فحسب، بل وعلى إمضاء السياسات العامة لها، بالرضا أو الإكراه؛ سياسات لها الأثر الكبير في خلود اللغة أو اندثارها وفي الثقافة والتاريخ وجميع جوانب الحياة الروحانية والمادية: نظير تسربل مفعولها إلى طريقة توزيع الثروات، والمشاركة فيها من جانب الجماعات السياسية أو القومية إلخ. وبوجيز القول فإن إقامة الدولة بين جماعة ما هو ما يهبها صفة الشعب والأمة، وهو من يدخلها التاريخ: التاريخ الحضاري المتمدن، مثلما ءانف القول أعلاه.
النخبة الوطنية
وإذا كانت الدولة القومية هذه نشأت بجهود النخبة القومية في فترة من فترات التاريخ، فإن أبرز ما كان يتصف به هولاء النخبة هو أنهم كانوا مهجوسين تماما بضرورة توحيد من يقع تحت سلطانهم بأي صنف من صنوف الانقياد: حتى بقدر مجرد دفع الضرائب، وصناعة أمة موحدة من أمم متنافرة: باللجوء إلى الأساطير وبعث الروح القومي الذي لا وجود له. ومن هنا انتدبت هذه النخبة المسؤولة إلى صناعة، أو لنقل، تحريف التاريخ بتأويل يوطد دعائم الدولة الوليدة، من منطلق قومي عام، لا من نعرات دينية أو قبلية. وقد كانت هذه النخبة تنماز بالفعل بإخلاصها إلى ما كانت تدعو إليه، وحرصها الشديد على تجنب الدولة الوليدة من وقوعها في أي ظرف يشتت وحدتها. وكان آية ذلك أن هذه النخب العلمانية والقومية واليسارية والدينية والبهائية، والقائمة تطول، كلها تتوحد على قلب رجل واحد، عندما ينهض مطالب من القوميات المناهضة يريد النيل من وحدتها. وهذا ما يفسر دوام هذه الوحدة بالرغم عن كل ما مر عليها من موجبات التفكك: مثل خلع الملك في نهاية الحرب الكونية الأخرى، وانقلاب 1953، وثورة 1979 وحرب القادسية الثانية إلخ.
لم يَفْسُد التوجه القومي في هذه النخبة بأي من الانتماءات الفئوية الإيديولوجية، بل ظل على حاله راسخا لا يتزعزع، يرسم الخطوط العريضة لأي سياسة ينادون بتطبيقها. وذلك على عكس النخبة التي لدينا، وهي مستعدة للتضحية بالقضية برمتها، إذا انمس جانب المصالح الفردية والمنافع الفئوية الخاصة بها. ولعل آية ذلك ما حدث في القادسية الأخرى التي انقلب الفوج المعروف بانقلاب قياداته، وحدث من كلا الطرفين العربي نكث في العهد: جعل المصلحة القومية العليا فرعا للمصالح القطرية الضيقة.
كثرة العدد
إنه ليس اعتباطا منا إدراج هذا العامل القسري في مكامن قوة العامل الخارجي، لأنه أمر طبيعي لا اختيار للأمم فيه. وإنما تم التطرق إلى التفوق العددي للعامل الخارجي، للتذكير بأحد وجوه الضرورة المنطقية التي تتمتع بها الوحدة. لا يمكن لدولة تريد أن يكون لها وزن في الفضاء المحلي والدولي، أن لا يتجاوز عدد سكانها خمسة بالمئة من سكان الدول المجاورة لها. لا إمكانية للأقطار الصغيرة العربية إلا أن تلجأ إلى نوع من الوحدة تحفظ لها وجودها وتقدمها الحضاري. وبالمثل فلا مستقبل في حال التحرر والاستقلال، إلا أن يُضمن من جانب دولة موحدة، كثيرة العدد وكبيرة الجغرافيا، تقف حاميا رادعا لأي محاولات لفرض واقع آخر، وفرض إحتلال مستأنف. ولا وجود لهذه الدولة الكثيرة العدد والكبيرة الجغرافيا، إلا في حالة تحقق الوحدة المنشودة، التي تدر بالمنعة والهيبة على جميع الأجزاء، وتحفظ لهم وجودهم وكيانهم[9].
ثم لهذا العامل وجوه حضارية أخرى تتمثل في كثرة الجامعات والأساتذة والفنانين والأيادي العمرانية إلخ، هي من تسجل تاريخا من العمران في الوطن، وهي من تضاهي بإبداعاتها العالمين. إن العدد هنا بالإضافة إلى معناه الكمي، يكتسي معنى كيفيا: ونقصد بذلك أن حدوث الوحدة يرتقي بالأقطار الواقعة على الأطراف إلى المركز، إلى التمتع بالتعليم الوافر والاحتكاك بالفن المؤصل.
الحوصلة
لقد وَضَعْتُ هويتنا في فسلفة التاريخ، كيما نستكشف معا الثوابت الهُووية التي ظهرت في تاريخنا، وحكَّمت علينا فاعلية أفضت بنا إلى ما عليه أحوالنا العامة اليوم. ثم كشفَت لنا فسلفة التاريخ هذه، عن وجود ثلاث محددات هووية داخلية، ومحدد هووي براني، مجتمعة بداخليها وبرانيها هي من قولبت نشاطنا الفردي والجماعي، وفرضت علينا نمطا خاصا من أنماط الحياة والنشاط. على أننا كنا في البداية قد قررنا أن أيا يكن من أمر محددات الهويات الجماعية، وظهورها بمظهر الثوابت التي لا تغير فيها، إلا أنها متغيرة، وتغيرها خاضع تماما لما يحوط بها: فأنا مشعشعي إنْ قابلت صفويا، وأنا قرشي أنماز عن ذُبيان، وأنا، فوق هذا وذاك، عربي عندما أبصر العالمين وأطلب الحياة. وما دام الأمر كذلك، فمن الطبيعي جدا أن يلبس المرء هوية، ويطرح أخرى، بناء على ما يحوطه من باعث، ويراه من مصلحة.
وبعد تحددينا للهويات الثلاث، الدينية التي كانت بداية بعث الروح القومية العربية «الأحوازية»، والقبلية التي كانت البعث الثاني، والمدنية التي قلت أنها هي الطريق الوحيد للبعث الثالث، قَررتُ ضرورة إطراح الهويتين الدينية والقبلية، لا لمعاداتهما اعتباطا، بل لما فيهما من معاطب في المنظومة القيمية الباعثة للفاعلية، ولما بدر عنهما من مساهمة، لا غبار عليها، في إفشال الدولتين اللتين كان استمرارهما ممكنا في التاريخ. ولكن بالرغم من إشادتي وانتمائي للهوية المدنية الحديثة، أظهرت أبرز مكامن الخلل فيها، ودعوت، على قدر صدق النوايا وخلو النفس من الأهواء، إلى القضاء عليها، وتنقيتها من الرسوبات المتبقية فيها من الهويتين السابقتين.
وفي النهاية تطرقت إلى ذلك العامل الحاسم، الذي طبع جميع نشاطنا، وعادنا بديننا وقبائلنا ومدنيتنا، فبيّنت بقول وجيز ملتبس بعض الشيء، ما جناه علينا مرفوقا بأبرز مكامن قوته.
مجلة نوابت
الهوامش:
[1] . الجماعة القومية التي تصبح شعبا بإقامة دولة خاصة بها هي تجمهر من الناس تربطهم لغة واحدة بالضرورة في رقعة جغرافية واحدة يشعرون بأنها موطنهم، وحاضنة عيشهم المشترك.
[2] وهذا مثال يثبت أن الهويات الجماعية، بالرغم عن طول مكوثها وعدم تصور إمكانية تغيرها لدى المنتمين لها، هي قابلة للتغيير: ربما يصعب أن يتصور المرء العربي، في بادي الرأي، أن ينجب أبناء أو بنات ليسوا بعرب، لا تنطبق عليهم مواصفات الفرد صاحب الهوية العربية: وهي النطق بالغة العربية والانتماء للأمة العربية المجيدة، بتمام أنواع الانتماء. ولكن هذه الظاهرة شائعة عندنا اليوم، إذ نرى أشخاصا من والدين عرب لا ينطقون لغة الضاد ولا ينتمون للأمة العربية بكبير انتماء. حتى وإن تجاهروا بالانتماء (وهذا الانتماء لا يعدو من أنه تجاهر: إذ كيف لشخص يدعي الانتماء إلى الأمة العربية ولا يميل لتعلم لغة العرب. والتظاهر هذا يعود إلى أمرين: هما إما إستغلال المجاهرة بذلك الانتماء لتحصيل مكاسب اقتصادية وسياسية إلخ؛ وإما في أضعف الحالات، للميز عن الجماعة التي غالبا ما تكون غير عربية، ويصبح هو بذلك الانتماء ممتازا عن الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها)، للأمة العربية فإن هذا الانتماء لا يفيد بشيء، لعدم مقدرتهم التحدث باللغة العربية، ميزة العرب وجوهر وجودهم.
[3] . لنسلم هنا، ولضرورة إجرائية لا مناص منها، بذلك التحديد اللينيني القائل بأن تاريخ أمة ما يبدأ منذ تشييد دولة خاصة بها. وبذلك يكون تاريخ «الأحواز» يبدأ منذ ميلاد الدولة المشعشعية. وعلى العموم لا يخفي كاتب هذه السطور ريبته بهذا البت الجد مستعجل حول موضوع خطير كهذا. غير أن عزائه في ذلك هو أنه لا يُستطاع في مقال وجيز البت بكل شيء وقول الفصل. فلا سعة المقال تسمح بذلك ولا مقامه. حسبي من كل ذلك هو وعي بخطورة القضية.
[4] . لا يمكن لكاتب هذه السطور نكران ما استوحاه في عدِّ هذه المحددات من المفكر العربي محمد عابد الجابري.
[5] إن قصدي من زيادة صفة المهدية على اسم هذه الدولة هو أن الإمام محمد كان يدعي نيابة المهدي الغائب، وأن دولته كانت تنوب المهدي. وعلى العموم لم نعثر بعد في آراء الإمام محمد على ما يثبت ادعائه المهدوية لنفسه.
[6] . إن أعظم من وعى مسألة العلاقة بين الدين أو في معناه والعصبية الكامنة في القبيلة في التاريخ العربي هو العلامة عبدالرحمن إبن خلدون. ولذلك نهيب بمن يلتفت إلى وشائجية هذه العلاقة المراجعة إلى آراء صاحب المقدمة.
[7] . الحديث هنا يدور على الأمر الغالب من دون شك، ولا استنكاف عن وجود استثناءات، ليس هنا وبخصوص هذا الأمر فحسب، بل في ثنايا جميع ما أظهرت من أقوال وأطلقت من أحكام.
[8] . ليس التعرف على الغرب مزية بحد ذاته، بل التعرف على الغرب يعني معاينة التقدم الحاصل لهم في جميع الجوانب، وإثارته لدرء التخلف الحاصل فينا في جميع جوانبنا.
[9] . قارن مع قسم «القومية دين بلاجنة»، الفقرة الثانية.