1
المدخل
كل وقعة تاريخية مسبوقة بأسباب هي التي تفضي لحدوثها. ولكن الأسباب المفضية لوقعة ما لا تكون على ثقل واحد: فبينما يكون البعض منها ظاهرا للعيان على أنه المسبب الرئيس، يتبين بالتفحص أنه انبثق عن دلايل أهم هي من سوقت وجوده، وإنه ليس إلا كجبل جليد خفي منه أكثر مما ظهر على صفيح البحر. لقد أطبق المؤرخون في البرديغم التاريخي السائد، على أن تضافر أسباب متعددة هي التي تؤدي لأشتعال وقعة أو بروز تحول. وبعبارة أخرى فإن كل حادث تاريخي فهو لا ينتج عن سبب واحد طاغ على المشهد، بل إن ذلك الحادث ما كان ليكون لو لا تضافر عدة مسببات، خفية وظاهرة، هي التي أخرجته إلى عالم المحدثات.
فإذا أخذنا قيام الانتفاضة الخضراء في العام 2009 مثالا على ذلك، يتبين لدينا على الفور أن اندلاعها جاء بسبب تزوير نتائج الانتخابات الإيرانية لصالح أحد المرشحين. فهذا هو السبب الصحيح والمقبول من جانب الجميع، وهو الظاهر في بادي الرأي. بيد أن الانتفاضة هذه عندما تأتي إلى ميدان التاريخ أو الاجتماع أو السياسة إلخ، فهي تُظهر من نفسها خفاياها التي لها الدور الكبير، حتى يتبين، من وجهة نظر تاريخية-سياسية أن إبعاد فئات من الطبقة الحاكمة في إيران، التي تمثلت في قوى سياسية أسمت نفسها التيار الاصلاحي من جهة، وتصلب الحكم الإيراني عبر احتكار السلطات بيد المرشد ومنحه المزايا لمن يدور في فلكه من جهة أخرى، هما ما اشعل الانتفاضة تلك. أما الجانب المجتمعي، هو الآخر، عندما يسعف السياسة يفيد عن هذه الوقعة بأن: حدوث التغيير في الأجيال التي أعقبت الثورة الإيرانية، وتَغْذيتهم بقيم تختلف عن قيم القيادات الثورية الآخوندية التي تقدس المذهب ودور المرشد المتصل بعالم الغيوب، وميل هذه الأجيال الجديدة إلى القوانين الدنيوية الوضعية المنافرة للقوانين الإلهية، أحدث ذلك كله شرخا بين السياسات التي تنفذها القيادات على المجتمع، بينها وبين ما يريده المجتمع هذا من أطوار مختلفة، فتولد نتيجة هذا سخط بين الكثير من الفئات، سارع هؤلاء الاصلاحيون فاستغلوها وقادوا بها تلك الاحتجاجات.
أما هنا، وبحيال ما يجري عندنا من إباء الأحوازيين عن مساندة الاحتجاجات القائمة، فتتم عملية التأويل/الفهم على هذا المنوال، وإني أفهمها بالمنطق ذاته[1]، هذا الذي اومأت إليه مختصرا. فعندما نضع السؤال هذه المرة عن أسباب امتناع الفرد الأحوازي عن مساندة الحراك الاحتجاجي 2022 القائم في إيران؟ تأتي الإجابة تفيد بوجود عدة أسباب هي التي جعلت الأحوازي غير راغب في اللحاق بركب تلك الاحتجاجات. ولكن عند السعي وراء العثور على هذه الأسباب، فإنه من البدهي أن يكون بعضها أهم من بعض: لذلك أسميت الأسباب تلك حسب أهميتها بـالشرط التام والشروط اللازمة، أريد بذلك التمييز بين الأسباب الأكثر أهمية ودورا، عن تلك الأسباب المهمة التي بالرغم من دورها الفعال لا تؤدي ذلك الدور الرئيس والكافي لإظهار حادثة أو إشعال احتجاج أو تسيير انتفاضة، على عكس الشرط التام الذي ما إن يتواجد حتى يسبب لوحده ظاهرة تامة.
2
التنافر القومي الشرط التام لامتناع الأحوازيين عن مساندة الاحتجاجات الراهنة
أنظر إلى من يحكمنا اليوم؟ إنه قُبيل أيام فقط كان مجرد تاجر يجوب الأسواق، ثم تحول بعد ذلك إلى حاكم.
أما بالأمس القريب فكان مقتادا، في جيده طوق، يزحزح به إلى السجن، وها هو ذا اليوم ينصب حاكما كرة أخرى.
بالله عليك كيف لنا احترام مثل هذا الشخص؟ وهو الكاتب الصغير حتى قبيل سنوات.
إن الأَمرَّ في كل ذلك هو أنه فارسي. ولذلك فإننا سنظل أبدا نجتر التخلف وسيظل الفرس يتقدمون[2].
اختصرت الفقرة الممضة هذه فرْضية المقال هذا، وهي قضية أريد البرهنة عليها، وهي ما أسميتها الشرط التام. إنني أسارع خطوات المقال هذا فأقول: إن إجابتي على سؤال سبب امتناع الفرد الأحوازي عن مساندة الاحتجاجات والخروج فيها، هو التنافر القومي بينه وبين الفرس، جعله لا يهتم بهم وبقضاياهم تماما كعدم اكتراثهم به وبوجوده.
أجل إني أعلم بأن الظاهر على هذه الفرضية «الاختزالية[3]» مسحة سذاجة، وقومية متأثلة طاغية على البصر. لكني، بالرغم من ذلك، سأحاول أثبت تمتع هذه الفرضية بمسوقات علمية، والكشف عن انبثاقها من قضايا هي محل اجماع العلوم الانسانية الاجتماعية الحديثة.
اللغة[4]
لقد تحول بعد الكوجيتو الديكارتي التفكير بصفة عامة، إلى علم المعرفة، وانفصل عن ارتكازه على العالم الخارجي والكشف عن القوانين التي تتحكم بين ظواهره وأجسامه، إلى البحث عما في بطون دماغ الانسان، والغور في آلاليات التي عُبئت في الفاهمة البشرية التي تسمح له بالتعرف على العالم الخارجي وانتزاع المعرفة منه[5]. وهكذا تحول العالم إلى صناعة بشرية بتوسط العقل، وأصبح العاقل هو صانع المعقول، بالمعني الموسع للكلمة[6]. ولكن هذه الفكرة التي منحها الفيلسوف كانْتْ أبعادا أخرى، بقت في المثالية الألمانية عموما تهب الذات محورية في الفهم وتلقي المعرفة وبناها[7]؛ بالرغم من بعض إلماعات هيغل؛ التي اهتبلها بعض اللغوين نظير اللسان هو قتل الشيء في جملته الشهيرة هذه.
ولكن عقيب هذا التوكيد على صنع المعرفة على يد الذات البشرية بتوسط العقل، جاء تحولا في هذا التفكير استفتحه الفيلسوف ويتغنشتاين الذي حدد النشاط الفلسفي على أنه عملية لغوية في نهاية المطاف لا تخلو من تعسف[8]. ولقد استلهم علماء اللسانيات، من بعده هذه الأفكار ودور اللغة فيها، على رأسهم فيرنندو دو سوسور الذي أظهر بأن التفكير البشري بصفة عامة، يتصل اتصالا كبيرا باللغة التي فيها يتم التفكير. فلقد استدل سوسور بأن النطاق الذي يتحرك فيه التفكير يخضع خضوعا بينا لطرق البيان في اللغة، وإنها تفرض أنماطا على المعرفة البشرية، بالنظر إلى قواعدها وطريقة التصريح فيها. وخلافا مع التفكير السائد الذي انطلق منه الفلاسفة في أن اللغة هي مجرد أداة يخضعها التفكير لما يستدل به، تبين أنها هي التي تهب نطاقا للتفكير وتتحكم فيه في الكثير من نشاطه[9].
وآکثر من ذلك هو ما يؤكده علماء اللسانيات من أن اللغة ليست وعاء للتفكير فحسب بل إنها تشتمل في طياتها على المشاعر والعواطف التي لا تندرج في نطاق التفكير النسقي. وهكذا يتبين أن التحرك في نطاق اللغة، لغة محددة، هي الكفيلة بدرك طرائق التفكير السائدة في لغة ما[10].
ويعني كل ذلك، بالرغم من خلاصته التي قد تكون مشوشه لكنها كافية إلى الوصول إلى ما نريد الوصول إليه، يعني بالنظر إلى الحالة الأحوازية أن العربية جعلت من العرب، كيانا وفكرا ووجودا، مختلفين عن جيرانهم الفرس، وإنْ وُجودوا في نطاق دولة واحدة فرضت عليهم. إن الأحوازيين هم على مغايرة تكاد تكون تامة، من منطلق لغتهم المغايرة، مع الفرس، ومن أجل ذلك فإن القضايا التي تستهويهم، أو المسائل التي تنهض بهمهم وتشعل نخوتهم إلخ.. هي غير تلك التي تستهوي الفارسي وتضطره على الخروج.
إن الاختلاف اللغوي هنا، لا يعني قط مجرد اختلاف في الألفاظ والنحو إلخ، بل إنه يعني بالدرجة الأولى اختلاف في الرؤي وطرائق التفكير والرؤية الكونية بصفة عامة. إنه اختلاف حضاري يتجلي على جميع الجهات، ويتسربل في جميع المظاهر المادية والمعنوية التي ينتجه نطاق حضاري ما.
ومن أولى سمات هذا الاختلاف هو التباين في الثقافة وفي المجتمع، وما ينتج عن التباين فيهما من شكل الدولة ونظام الحكم.
الثقافة والمجتمع
إن الثقافة تعني بصفة عامة مجموعة من العادات والرموز والتصرفات التي يتوارثها الفرد والجماعة، ببعديها المادية والمعنوية. إن الثقافة تتجلى في الملبوس والمأكل والعمارات والأشعار والموسيقى وكافة التجليات العامة لجماعة ما. ولأن الجماعة هي بالضرورة تتميز بناء على لغتها، أي أن الجماعة لا تصبح كيانا واحدا مميزا عن الآخرين، إلا في كنف تمتعها بلغة واحدة قبل كل شيء، فإن العادات والرموز والعمارة والتجليات المعنوية تنبثق عن اللغة أولا وأخيرا[11].
وبنا عليه فإن اختلاف اللغة سيعني أن للأحوازيين عادات وتقاليد ورموز وموسيقى إلخ.. مختلفة عن الفرس. وهذا هو ما نشاهده في واقعنا المعيش ولا يحتاج إلى كبير استدلال. فجميعنا يعرف أن الموسيقى العربية عند الأحوازيين عربية ورموزها فنانين عرب. كما أن الزي العربي الأحوازي مغاير تماما عن الفارسي. وهكذا تتدرج هذه الاختلافات حتى تصل إلى طرائق الفهم، وأنماط التفكير.
وإذا كان ذلك كذلك، أي إذا كانت الثقافة وتجلياتها العربية الأحوازية تنافر الفارسية، فإن المجتمع والفرد والوحدة الاجتماعية فيها تختلف عن أي قوميات أخرى. فهنا العربي لا يحدد ذاته، فيما يتعلق بمستويات الانتماء لديه، وفي تعاملاته الاجتماعية نظير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ونحوها، لا يحدد ذاته إلا بكونه عربيا ينماز عن الآخرين وعلى رأسهم المجتمع الفارسي الذي يحايثه. على أن هناك مسألة جد مهمة، من وجهة نظر اجتماعية جعلت الأحوازي يشعر على الدوام بالنفور القومي عن الفارسي، وهي مسألة التمييز الذي يطال العربي لمجرد عروبته. وهذا الأمر هو ما دفع الفرد الأحوازي على تعبئة دائمة لشعوره القومي، وتيقظه المستمر بضرورة الذب عن عروبته التي يحاربه الإيراني أفرادا وجماعات ودولة، يقودهم النخب في ذلك[12].
الدولة القومية
وما دامت اللغة مختلفة وعلى تباين بين العرب والآخرين في نطاق الدولة الإيرانية القائمة، وما دام هذا الاختلاف صَنَعَ مغايرة في الثقافة في جميع تجلياتها، وخلق مجتمعا أحوازيا لا ينتمي إلى المجتمع الفارسي، في انتمائه وماضيه وحاضره، فإنه من المنطقي تماما، بناء على ما يفيد به تاريخ تكوين الدولة الحديثة، Nation state، أن يفضي كل ذلك التنافر إلى مطالبات قومية، أقلها الإقرار بحق تقرير المصير إلى هذه القومية ذات اللغة والثقافة والمجتمع والتطلعات السياسية المغايرة عن القوميات الأخرى.
ولأن حركتنا في هذا المقال هي حركة موجزة فلا نسهب بالقول بل نكتقي بالتصريح بأن الشعب الأحوازي، يشعر في غالبيته على أنه سلب من جانب الحكم الإيراني عن دولته التي كان يقودها الأمير خزعل، وأن الكثير من التبعات الحضارية لذلك، هي ما يجب أن يتخلص منها الشعب، إذا ما أراد الدخول في دولة قومية تنبثق عن خصوصيته القومية اللغوية والتاريخية والثقافية إلخ.
إن التاريخ الخاص بنشوء الدول القومية العالمية يظهر بوضوح وقوة أن الدول لا يمكن أن تقوم إلا على أساس مشتركات قومية، لها تجليات موحدة في الثقافة والمجتمع والتاريخ المولد العيش المشترك، تسمح لوحدة قومية الاستمرار في الوجود والدخول من منطلق التأكد على الذات إلى المشاركة في الركب العالمي.
3
الشروط اللازمة لامتناع الأحوازيين عن مساندة الاحتجاجات الراهنة
بينت الفقرة السابقة أن أَخْذَ الاختلاف القومي على أنه الشرط التام لامتناع الشعب الأحوازي عن مساندة الاحتجاجات، ينبثق من كونه شرطا نابعا عن اختلاف قومي عميق، تجلياته تظهر في الاختلاف في اللغة، والثقافة والمجتمع، والتطلعات المستقبلية لبناء دولة، وتحديد طريق الحياة العامة لأمة موحدة.
أما هنا في هذه الفقرة فسيكون القول مخصصا لتلك الشروط اللازمة المفضية لعدم الاستجابة للخروج. وهي على العموم شروط كثيرة نكتفي بذكر أهمها: وهي المقاربة الأمنية الانتقامية، ومكانة الدين مجتمعيا، وضعف الحركات المنظمة الأحوازية.
المقاربة الأمنية
إن تتبع طرق تصرف النظام الإيراني، وأجهزته الأمنية، في التعامل مع حالات انتفاض الأحوازيين وخروجهم، يظهر بما لا مجال للشك فيه وحشية كبيرة وتعنتا في البطش. لقد اتفقت القوات الأمنية الإيرانية، في الأحواز، مع القيادات السياسية، على أن أولى الطرق المثلى للتعامل مع أي احتجاج يصدر عن الأحوازيين فهو استخدام القوة العسكرية القاضية والمميتة.
إن الأقوال المتداولة بين جل الأحوازيين عند متابعتهم لمشاهد وصور الاحتجاجات في المدن الأخرى، جعلته على الفور يقوم بمقارنة التعامل الإيراني هناك، الذي يتسم ببعض عقلانية ومرونة، مع التعامل الفتاك المتبع في الحالة الأحوازية؛ يقوم العنصر الأمني بموجبه في أول خطوة هي إطلاق النار الحي على المتظاهرين السلميين. وهذه النتيجة لم تأتي عن فراغ، فاحصاء عدد القتلى في الانتفاضات الأحوازية يظهر وقوع عدد كبير من الشهداء في أولى أيام أي خروج فقط.
على أن مرد ذلك يعود إلى أن عناصر الأمن في الأحواز هي جلها من أكثر القوميات معاداة للعرب، ولا سيما من قومية اللر. فهولاء نظرا لأسباب خفية وظاهرة، نظير مجاورتهم للعرب، أشد الناس كرها بهم، ويظهر هذا الكره على تعاملهم مع الأحوازي حيث تجد العنصر محفزا على القتل المباشر، من دون مبرر، بالتزامن مع تجنبه تجربة طرق أخرى أقل فتكا. هذا والخطير في كل ذلك هو أن المركز، أي الحكومة المركزية الإيرانية، فوضت العنصر الأمني في الأحواز تفويضيا تاما للتعامل مع حالات الخروج، من دون مراجعة المركز وانتظار وصول الأوامر منه. وإذا لاحظنا تجذر البغض لدى هذا المُفوض، أدركنا حينها سببا من أسباب ذلك البطش المفرط وغير الضروري.
وعادة ما تعقب عمليات قتل المنتفضين في الساحات الأحوازية العامة، على يد عناصر الأمن، حملة اعتقالات واسعة تطال جموع كبيرة من المحتجين وغير المحتجين على سواء، ثم استصدار أحكام عاتية فيهم تصل إلى الإعدام، والأسر لعشرات السنين، أو الاختفاء القسري أو الموت تحت التعذيب. وكل ذلك جعل الأحوازي يصرح بعدم استعداده للخروج في احتجاجات سيذهب مئات الأحوازيين ضحيتها من أجل مساندة الفرس الذين لا يعترفون بالمطالبات القومية العربية والمطالبات المتعلقة بباقي الشعوب غير الفارسية.
ولقد جاءت مقتلة زاهدان، في عيون الأحوازي الذي يراقب الأحداث، معززة لاستدلاله هذا، فأصبح يقول بأن التعامل الذي نفذ في البلوش هو ذاته الذي سيحل بالشعب الأحوازي إذا تحرك للخروج. والأمرُّ من كل ذلك، هو صمت وسائل الإعلام المعارضة والمساندة للاحتجاجات عن المذبحة التي حلت في هذه المدينة، وسط التركيز التام على القتلى الذين يسقطون في المدن الفارسية نظير طهران ونحوها.
مكانة الدين
وإلى جانب ذلك فإن الملاحظ على عدم خروج الشعب الأحوازي هو أنه لم يستوعب هذه الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها بمطالبة نسوية قوامها حرية الحجاب. إن الشعب العربي الأحوازي تقليدي البنية، ما زال يقدس الدين، ويلتزم بمعظم طقوسه، ولا يتجاوز نطاق الحدود الإلهيه. ولذلك فإن المطالبة بالسفور تبدو لدى الأحوازي التعدي على حرمات الله، بالتزامن مع العدوان على قيمة الشرف المتجلى بالتعفف بناء على المنظومة القيمية القبلية.
ولكن إلى جانب ذلك فإن الكل يعلم بإن المطالبة بالسفور كانت الشرارة التي أشعلت اللهب، وسرعان ما تجاوزت المطالبات لتصل إلى المطالبة باسقاط النظام والتنديد برموزه، فلماذا أحجم الشعب الاحوازي بالرغم من التحاق القوميات الأخرى، بركب الاحتجاجات الراهنة؟ إن الإجابة عن هذا الاستفهام يعود بنا إلى الفقرة السابقة وهي أن الشعب الأحوازي قومي الانتماء لا يرى نفسه مرتبطا بما يجري في إيران، ولا تعنيه المطالبات الإيرانية.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فلا بد من التصريح هنا أن مطالبات هذه الاحتجاجات، وهي المطالبة بقيم حديثة إلى حدود ملحوظة، قد تعني أن الأحوازي لم يبلغ هذا المستوى من المطالبات حيث لايزال يعاني الأحوازي من حرمانه من الحقوق الاساسية، وأنه افتدى في سبيل قوميته قيما نظير المطالبة بالتعددية القيمية، والحكم الديمقراطي. وهذا الأمر كما يبدو له تبعات مزدوجة سلبية وإيجابية. فهو من جهة يوطد القومية التي هي الركن الركين لأي حراك ومطالبات جمعية، ومن جهة أخرى تبدو هذه القومية مختزلة المطالبات فارغة عن مضامين محددة.
ضعف الحركات المنظمة
إنه بالرغم من اجماع الكثير من الحركات الأحوازية والمستقلين تقريبا، على ضرورة الالتحاق بالاحتجاجات ظل الشارع الأحوازي في حل من دعواتهم. وهذا له دلالة على ضعفها في التأثير عليهم. ولهذا الضعف أسباب عديدة أهمها التباعد بين الحركات الأحوازية والشعب في مستويات جعلهم على طرفي مغاير. ويتجلى هذا التباعد إعلاميا ولجستيا وقانونيا كأكثر الأبعاد دلالة على ذلك التباعد.
فمن حيث الجانب الإعلامي ظلت الوجوه السياسية الإعلامية الأحوازية مغيبة عن الإعلام الذي ينشط فيه الأحوازي، كما لم تستطع هذه الحركات المعارضة من بناء وسائط إعلامية تستهوي بها الشعب الأحوازي، من جهة، وتنشر قضيته بين الشعوب غير الفارسية في الداخل والخارج الإيراني من جهة أخرى؛ فضلا عن تغيبها شبه التام في الإعلام العالمي على سبيل المجاهرة بمختطف، أو محاسبة عنصر أمني قتل محتجا، وما في معنى هذه التصرفات.
أما على المستوى اللجستي فقد عجزت التنظيمات نتيجة ضعفها بنيتها في ذلك عن بناء جسور مادية بينها وبين الأفراد المستعدين للانتماء إليهم، وبناء كوارد صالحة للعمل التنظيمي، مثلما جعل عدم التواصل المادي الكثير من أسر المتعقلين والأسرى، إلى جانب أسر الشهداء والمضيعين، يعانون من أزمات في الحياة اليومية. إلى جانب ذلك تعدى ضعف العمل اللجستي الميداني على عدم تواصل مع الطلاب الأحوازيين في الخارج وتشكيل جلسات استشارية معهم أولى فوائدها التعرف على العدد الإجمالي للطلاب في الخارج ومصيرهم بعد انتهاء الدراسة.
أما في الجانب القانوني فقد استطاع الأمن الإيراني، عناصر ومؤسسات، الافلات من توثيق الجرائم التي ارتكبها بحق مئات الأحوازيين من اعتقالات تعسفية، وتغيب مكان المعتقل عن ذويه لمدى سنوات ونحوها من التصرفات اليومية للأمن الإيراني. والحال أن الجدير كان تأسيس منظمات ومنصات حقوقية قانونية كفؤة ومهنية تستطيع إيصال صوتها إلى الدول العالمية في محاولة للتخفيف من وطأة فتك الأمن وتصرفاته المتوحشة.
الاستنتاج
لقد أجبنا عن سؤال الاحتجاجات الإيرانية الراهنة وسبب رفض الشعب الأحوازي مساندتها بأن ذلك التخلف جاء نتيجة رؤية الأحوازي القومية التي جعلت منه غير متصل بالأحداث الإيرانية، أجنبي عنها، لا يشعر أي صلة بينه وبين ما يجري في نطاق الدولة الإيرانية، والشعوب المنتفضة فيها. وقد انبثق سبب هذه النظرة عن الاختلاف الكائن بينه لغويا وبين الفرس والعجم. ورأينا أن الاختلاف في اللغة كيف يؤدي إلى اختلاف ضروري ومنطقي في الثقافة والمجتمع، وبالتالي اختلاف في شكل الدولة التي يطمح الشعب الأحوازي في إقامتها.
هذا جاء من حيث السبب الرئيس الذي أسيمته الشرط التام، أما من حيث الأسباب المؤثرة الأخرى، وهي بمثابة شروط لازمة، فإنني أجملت أهمها في المالجة الأمنية الفتاكة للنظام الإيراني مع انتفاضات الأحوازيين، بالرغم من لينه في التعامل مع باقي الاحتجاجات، والمكانة الخاصة للدين في المجتمع الأحوازي التقليدي الذي يرى في رمز هذه الاحتجاجات، وهي حرية النساء، عدوانا على قيمته الدينية والقبلية، وفي ضعف الحركات الأحوازية في بعث الشعب على الخروج، نتيجة ضعفها إعلاميا ولجستيا وقانونيا.
توصيات
- إن الانتفاضة الراهنة هي انتفاضة متقدمة، وشعاراتها عالمية، استجاب العالم بأسره معها. ولا نعلم هل ستتطور إلى ثورة حقيقة أو أنها ستؤدي إلى حالات أخرى نظير حدوث إصلاح أو تفكك مجتمعي إلخ، ومن أجل كل ذلك فإن التخلف عنها سيضر بالقضية الأحوازية أكثر من نفعه بها. وصحيح أن مخاطر الالتحاق بهذه الاحتجاجات ستكون باهضة للأحوازيين، نظرا لمعالجة النظام الفتاكة، بيد أن ذلك هو ثمن أي احتجاج في الأحواز ويجب القبول به.
- إن التخلف عن مساندة الاحتجاجات أولا سيفقد الشعب الأحوازي التأثير على مستقبل الأحداث، وإخراجه من المعادلة الإيرانية، التي شئنا أم أبينا نحن طرفا فيها، وبالتالي يعود ذلك ضعفا على حضور المطالبات الأحوازية، وإبعاد الممثل الأحوازي الحاضر بين المعارضات الأخرى، عن تأدية دور في أي مفاوضات تتعلق بطبيعة النظام البديل المستقبلي.
- على الشعب الأحوازي، إذا قرر الخروج، أن يسلك السلمية التامة، وأن يتجنب استخدام السلاح، كما يجب عليه أن يكون ذكيا في مطالباته القومية، تجنبا لتوحيد الفرس في مناهضة مطالباته القومية، وتحين الفرص لتتبع المطالبات تلك من موقع القوة عند تراخي النظام الراهن، في حال حدوث تغيير كبير.
علي مزبان
المصادر:
[1] . Brian Fay, Contemporry Philsophy of Social Science, Blackwell, Oxford, UK, 1996.
[2] . J. Morier, A Journey Through Persia, Armenia, and Asia Minor, London 1812, p 27.
[3] . Reduktionism
[4] . يقول علماء اللغة العربية أن الأصح في التسمية هو «اللسان» وأن استخدام «اللغة» التي تعني «اللهجة» هو من الأخطاء الشائعة. وهنا تُستخدم على المشهور هكذا تجاوزا.
[5] . ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2009.
[6] . محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطعبة السابعة، بيروت2011.
[8] . لودويغ ويتغنشتاين، تحقيقات فلسفية، عبدالرزاق بنور، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007.
[9] . فردينان دو سوسور، دوره زبان شناسي عمومی، ترجمه کورش صفوی، انتشارات هرمس، تهران، 1399.
[10]. Noam Chomsky, Language and Thought, Moyer Bell, 1997.
[11] فوستل دوكلانژ، تمدن قدیم، نصرالله فسلفی، نشر اساطیر، تهران 1397.
[12] . أنظر في ذلك إلى هذا المقال الجيد جدا: عبدالرضا نواح وآخرين، بررسي جامعه شناختي عوامل مؤثر بر هويت جمعي جوانان شهرستان دشت آزادكان استان خوزستان، فصلنامه مطالعات ملي، سال بيست وسوم، شماره 3، 1401.