الجمعة, نوفمبر 15, 2024
مقالاتالتثاقف القسري للاستعمار الإيراني في العراق

التثاقف القسري للاستعمار الإيراني في العراق

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

تعد دراسة الاتصال العالمي (global communication) إحدى المجالات الإيجابية التي ترتكز على التواصل بين الناس، أو الطرق التي يتواصلون بها، ويرتبطون ويتشاركون عبرها ببعضهم، بالرغم من الانقسامات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلخ التي تفصل بين أبناء البشر عن بعضهم  (1) . وقد ارتبط هذا المفهوم بظاهرة أخرى تسمى التملك الثقافي (Cultural appropriation) وهي ما تعد بمثابة تبادل ثقافي، أو تقدير واعتراف بثقافة أخرى (2) . على أن الغموض في مثيل هذه المفاهيم، عند العناية بالعلاقة فيما بين إيران من جهة، والعراق بشكل عام والمحافظات الجنوبية العراقية بشكل خاص، من جهة أخرى، فهي يكمن في الميل الاستعماري الثقافي الفارسي نحو الهيمنة على الثقافة العراقية العربية كما حصل في اقليم الأحواز العربي من قبل، وهو ما أطلق عليه العلماء يوما عنوان: الأمبريالية الثقافية (cultural imperialism) (3)  فبموجب هذا الميل تحاول إيران فرض نفسها كقوة مهيمنة، سياسيا وعقديا وثقافيا إلخ، على المجتمع العراقي في الجنوب. وأخذت تسعى في سبيل تحقيق ذلك عبر توسيع نفوذها بوصفها قوة استعمارية، تريد التهيمن، بأسلوب حياتها وهويتها وثقافتها السلبية، على حياة المواطنين، وعلى حساب مسخ جوانب كبيرة من ثقافة المجتمع العراقي أو إماتته.

والجدير بالعناية هو أن أسلوب فرض الهيمنة الإيرانية الفارسية على المجتمع العراقي في الجنوب، أتى عن طريق استخدام القوة الثقافية الناعمة، بدلا من التدخل العسكري، وذلك ينبع عن إيمان الطرف الإيراني بتفوق أسلوب حياة الفرس، وأخذت تترجم هذا التفوق في ساحة القانون والتعليم إلخ لفرض مختلف جوانب تلك الثقافة الغازية على الشعب العراقي.

ولعل من المفاهيم والفرضيات الجديرة التي تعلل ما يحصل في الجنوب العراقي، هو ما يسميه المفكر العراقي صباح الناصري، بـ”حكم الزمرة الاقطاعية”: حيث تشرح هذه الفرضية بأن البنية الاقطاعية في الجنوب العراقي، بشيوخها وبيئتها المنشطرة إلى ملاكين وزراع، المُسْندَة بالطائفية المستولية على المجتمع، هي التي مهدت الغزو الثقافي ضد محافظات العراق الجنوبية. وإلى جانب ذلك وجد هذا المد الثقافي الغازي أرضية خِصْبة معززة بالصلات البنيوية فيما بين الثقافة الشيعية المرتبطة بإيران والمرجعية من جهة، والاقطاعية المتواطئة مع المستعمر من جهة أخرى.

وهكذا يتبين أن حكم المرجعية الشيعية الخاضعة لإيران، والبنية الاقطاعية بالشيوخ الحراس عليها، وفرتا بيئة مناسبة للغزو الثقافي الفارسي، وجعلت المجتمع العراقي في المحافظات الجنوبية أرضا خصبة لاستيراد التسليع الثقافي الفارسي. وإذا أخذنا حقيقة ما يسمى الأحزاب الشيعية في العراق من أنها ليست أحزابا بالمعنى السياسي للكلمة، بل هي مجرد تنظيمات ولائية سلطوية قائمة على هويات طائفية أو عشائرية أو عائلية تتمتع بأتباع ومرتزقة، عرفنا حينها أن المرجعية هي الحزب المهيمن الوحيد في العراق.

أما بخصوص البنية الأخرى وهي القبيلة فقد ظهر التدخل الإيراني، في التعامل معها، على شكل غزو جلي: وذلك حين أقدم الغازي الإيراني على تتبع تغييرات بنيوية تتعلق بإرساء ملكية فردية، بالتزامن مع تقليص الملكية الجماعية، ما من شأنه مس التنظيمات المحلية للقبائل، وأرباك أولوياتها، وبالتالي القضاء على التوازن القبلي، المعمول في النظام القبلي. ويظهر من تتبع هذه السياسات أنها تهدف إلى إبادة ثقافية بموجبها يتم تعرية الشعب العراقي من عاداته وأعرافه العربية، كأفضل آلية لإماتة مقاومته، والقضاء على كل مظاهر أسلوب حياة المواطن في جنوب العراق. وفي هذا الصدد يؤكد (Schiller) بأن المستعمر يجذب الطبقة المهيمنة، ويضغط عليها ويجبرها، وأحيانًا يتم ارشائها، لتشكيل المؤسسات الاجتماعية الموافقة مع قيم و هياكل الجهة المهيمنة (4).

وقد بدأ التأثير الفارسي- الصفوي ينتشر في العراق منذ احتلال العام ٢٠٠٣. فبعد سيطرة الولايات المتحدة على الموارد النفطية في العراق، أذنت لإيران بالتدخل المطلق في الشؤون العراقية، لتسارع إيران في توسيع بث ثقافتها في المحافظات الجنوبية، متوسلة في ذلك بالمرجعية التي تتحكم بالمذهب والقبيلة، ما يعني تحكمها بجل المجتمع. وما كان بعد كل ذلك التوسع إلا دعم الطائفية، وسيادة التخلف، جعل من العراق في صدارة أسوأ دول العالم.

وبعد هذا الواقع أصبحت الأمبريالية الثقافية الإيرانية غير مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتدخل العسكري، بل بات التأثير الثقافي والاقتصادي والسياسي إلخ يجري على ساحة دولة ضعيفة ومرتبكة هي العراق، عبر أساليب ليس لها علاقة بالتفوق العسكري. ولعل أبرز مثال على ذلك هو محاولات الإتحاد السوفيتي فرض الشيوعية على دول أخرى، في إطار الأمبريالية الثقافية. أو يمكن التذكير بالسيطرة الأمبريالية الأمريكية على العالم، التي تتم من خلال خلق طلب على السلع والخدمات الأمريكية، في أجزاء أخرى من العالم. ويقال إن “أمركة” الثقافات الأخرى تحدث عندما يتم تصدير الأفلام والموسيقى والملابس والأطعمة الأمريكية إلى بلدان أخرى، على حساب نبذ المنتجات المحلية وتذويب سمات أسلوب الحياة التقليدي.

ولقد وضعنا هنا محاولة إيران لعب دور أمبريالي استعماري في تعامله مع العراق، وضعناه موضع المقارنة مع الروسي والأمريكي، لنثير نطقة خطيرة، وهي أنه خلافا للنموذجين الإمبرياليين المذكورين، فإن التصدير الإيراني لا يبعث بسلع أو خدمات تُنْتج في إطار التفوق التقني أو الصنائعي، بل التخلف الإيراني مانع هكذا تصدير، حتى لجأ الإيرانيون إلى تصدير من نوع آخر: هو تصدير المعتقدات والمقدسات والمخدرات في نفس الوقت التي من شأنها بث التخلف في المجتمع، وجعله طائفيا غير مبال بالأمور المدنية والاجتماعية والحضرية. ونتيجة لكل ذلك تركت الأمبريالية الثقافية الفارسية أثرها المخرب على ثقافة العراقيين، بتصديرها هذه السلع الثقافية المدمرة (exportation of cultural commodities). وفي هذا السياق دعمت إيران عملاؤها في العراق، خاصة في الجنوب، بالمال والإعلام، وهيمنت على الدولة والبرلمان والمؤسسات المدنية والعقائدية، بطريقة تتناسب مع مبادئ النظام في ايران. وبذلك انتشرت معالم العقيدة الفارسية-الشيعية في جنوب العراق أكثر من انتشارها في المدن والمحافظات الفارسية وسط ايران.  وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور حالات من التعارض الثنائي (tendencies of binary opposition) بين الثقافة العربية والفارسية، يكون أحد أطراف هذا الثنائي الأدنى والمنحط، بينما يكون الطرف الآخر المتقدم والمتفوق. وبحسب أدبيات إدوارد سعيد تم هنا في الحالة العراقية اصطناع “الآخر” (وهو العراقي الوطني) الذي من سماته الانحطاط، والأصل المناهض له وهو مصدر التقدم والحُسن. ويمكن وصف هذه الثنائية بأنها قوام الأمبريالية الثقافية الفارسية (5).

ولقد أدركت الأمبريالية الإيرانية دور الإعلام في العصر الحديث الراهن لبسط هيمنها على جنوب العراق، ولذلك بات الإعلام أكبر تجليات الفعل الأمبريالي الثقافي الفارسي ضديد العراق، حيث  تبث ٥٧ قناة تلفزيونية عراقية، إضافة إلى ١٥٢ وسيلة إذاعية، وأكثر من ٦٠ مكتبا خارجيا لقنوات موجهة إلى العراق، بحسب هيأة الإعلام العراقية، جلها مملوكة للأحزاب والأفراد الممولة من إيران. وقد خلقت ملكية تلك القنوات ومصادر تمويلها، إلى جانب انعدام الرقابة عليها، واقعا إعلاميا في العراق يفتقر للروح الوسطية، أولى تبعاته انعدام الخطاب الوطني، وتكريس الطائفية بدلا عن ذلك، والانشغال بالمصالح السياسية الجهوية الطائفية، على حساب المصالح الوطنية العليا.

كأفضل مثال للإمبريالية الثقافية الإيرانية الوسيطة (medial Cultural Imperialism) هو بث نموذج الشعائر المذهبية الفارسية، وكثرة العمل بها، بأثر من ترويج التدفقات الإعلامية في المجتمع الجنوبي. ويعني كل ذلك أن وسائل الإعلام الإيرانية والصناعة الطائفية باتت قادرة على اختراق الأسواق العراقية، وتصدير المنتجات والقيم الثقافية الفارسية – الشيعية التي تخدم مصالحها. و لعل المثال الآخر الذي يستحق الذكر هو محاولة إيران إنشاء فرع من جامعة طهران للعلوم الطبية، في العراق، يمكن إدراجة بسهولة في إطار المحاولات التي تسعى الهيمنة الثقافة الفارسية على المجتمع العربي العراقي.

وفي ظل هذه الهيمنة الثقافية الأجنبية على العراق، هناك غياب تام لفكرة المقاومة الثقافية، وبات التركيز يصب فقط على الأنظمة الفاسدة التي تدير العراق، تركيز لا يخلو من ريب لإهمال مقاومة الاستعمار الثقافي الأجنبي. على أن ذلك، على أية حال، أمر طبيعي في دولة يعاني فيها المواطن العراقي في أبسط الحقوق الأساسية، جعل مطالباته لا ترتقي إلى المستوى الثقافي. ونتيجة لذلك انعدمت المجالات التي تسمح لمختلف فئات المجتمع مناقشة أساليب مواجهة هذا التحدي، وتقديم منظور مختلف عن المنظور الإيراني المهيمن، وتنشيط فاعلية ومقاومة ثقافة أولئك الذين يخضعون للإمبريالية الثقافية.

وفي الختام نشير إلى أن المحاولات الأمبريالية الثقافية الإيرانية تركت آثارا سلبية للغاية على المجتمع العراقي في الجنوب، لأنها أضعفت العلاقات الثقافية بين العراقيين الشيعة في الجنوب، بينهم وبين الفئات العراقية المختلفة الأخرى، مثيل السنة والأكراد، وباقي المجموعات العرقية أو الدينية الصغيرة التي لاتزال تحافظ على انتمائها الوطني، بدلا عن انتمائها لثقافات أجنبية غازية أو غير غازية. ومن هذه الزاوية تكتسي فكرة إنهاء الاستعمار الهووي (decolonizing identity) وانهاء الاستعمار الفردي أهمية قصوى، بحسب مفهوم فانون الموسع للإنسانية وقراره صياغة الجوهر الأخلاقي لنظرية إنهاء الاستعمار كالتزام بالكرامة الإنسانية الفردية لكل فرد من السكان (6). كما تفيد بأن المحاولات الفردية هي أساس المواجهة في الغزو الثقافي الفارسي، ما يعني أن أية محاولة تتوخى إنهاء الاستعمار الثقافي، لا تأتي ثمارها دون إنهاء الاستعمار الفردي (decolonizing self) وعلى المستوى الفردي أولا.

Mostafa Hetteh, a researcher at Dialogue Institute for Research and Studies(DIRS). Hetteh tweets under @mostafahetteh  

المصادر

David Weedmark , A Definition of Global Communication. 2018 -١ https://bizfluent.com/facts-7601794-definition-global-communication.html

     Encyclopaedia Britannica, What Is Cultural Appropriation -٢  https://www.britannica.com/story/what-is-cultural-appropriation

Cultural Imperialism. http://sociology.iresearchnet.com/sociology-of-culture/cultural -٣ imperialism/ 

, Edward Said., 1994: Culture and Imperialism. Vintage Publishers-٤

Schiller, H., 1976: Communication and Cultural Domination. New York: International Arts-٥ .and Sciences Press.

Fanon, Frantz.  Pour la Révolution Africaine.  Paris: François Maspero, 1964.  [Publishe-٦ English as Toward the African Revolution, trans. Haakon Chevalier (New York: Grove Pres  1967).]

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!