الإثنين, نوفمبر 18, 2024
فن وثقافةشاعريّة الهايكو: قراءة في مجموعة رائحة الطّلع لتوفيق النصّاري

شاعريّة الهايكو: قراءة في مجموعة رائحة الطّلع لتوفيق النصّاري

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

“الشّعر يكون، حيث العالم، في مثل حياء الحجرِ وصمتِه، جاهزٌ، كل لحظة، لكي ينغلق على نفسه، أو يتغطى. العالم الشّعري الحقيقي هو العالم شبه الصّامت، المكشوف المحجوب في آن” (الأديب والشّاعر السّوري أدونيس).

الهايكو، قالب ياباني قصير، مكوّن من 17 مقطعاً صوتياً (في لغته الأصليّة) موزَّعاً على ثلاثة أسطر (5 / 7 / 5). له تاريخ طويل وتاريخياً قد انشق في القرن الرابع عشر من قالب آخر هو التانكا أوالواكا؛ وفي أواسط القرن الثامن عشر أصبح شعراً مستقلاً تماماً له ضوابطه الخاصّة. ليس للهايكو أي قافية أو إيقاع، كل ما فيه أنّه يصوّر لنا صورة قصيرة ذات بعدٍ حسيٍ كثيف موجز، بمفردات قليلة وبشروطٍ فنيّةٍ ضيّقة.

الهايكو روح الشّيء وباطنها، ذات شعريّة طلقة ناريّة ناعمة لذيذة، تكون ساريّة بحرارة النّقر الدّمويّ في شرايين القلب، نفاذّة في زجاجة الروح دونما جراح وموضع طيرانٍ حرٍ للخيال الصّامت، عَقب معان حسيّة مستخدمة في هذا النّمط الشّعري؛ أساليب توظيف الحواس مثلاً ودونما فعاليات ذهنيّة معقدّة أو بعبارة أخرى أن تخف في صياغته، حدّة العمليّة العقليّة تلقاء الواقع وأمام خضم الأحاسيس المجردّة وأن يتمرّد فيه، التّدفق الشّعوريّ المنساب انسياب الدّمع، على فن التخييل!

من هذا الجانب، فإنّ الهايكو ليس بشعرٍ فقط بل هو طريقٌ للحياة أو الحياة عينها، بجمالها النّاقص طوراً والكامل طوراً آخر، ضمن تجربتنا الشّهودية الحسيّة ومن هذا المنظار فإنّه فن بصري يوصَفُ بالكتابة عن طريق النّظر في الأشياء وإطالة البصر؛ وعلى المتلقي العالمي أن يستحضر الشّعريّة التأمليّة هذه، بطء رفرفة الخيال؛ تلو قائله الّذي قد كتبه إثر تأمل عميق وفكر أصيل ومراقبة حادّة في الطّبيعة والذّات (مكتب الزِّن!).

بهذه البساطة يوجّهنا الهايكو نحو كتابةٍ مباشرةٍ، بل يدفعنا لتناقل جماليّات بصريّة عاريّة الشكل، بطريقته الأدبيّة المحاكاتيّة دون تكلّف في مجاراة الواقع وتشويهه أو تمويهه بعناصر اللا واقع المفسدة لوضوح مرآة الواقع المنعكس في نص الهايكو، حيث يجعل الشيء المحجوب مكشوفاً والظّاهرَ الخفيَ، ظاهراً جليّاً، ذات روحانيّة دافئة بعد ما كان جامداً بارداً لا روح له ولا صفاء!

الأحوازي توفيق النّصّاري، نشر للأسواق مجموعته الهايكويّة الأولى تحت عنوان رائحة الطّلع عن دار هرمنوطيقيا للتوزيع والنّشر بعبادان (كانون الثاني / يناير 2019) وتمّ ما بدأ، من محاولتي توجيه وتوسيع، لهذا النّمط الشّعري من بوابة النّشر الرّحبة، على قدمٍ وساق.

لا غرو، إذ بات اسمه متداعيّا لهذا القالب الياباني ذي الجذور العميقة وهو يحاول منذ سنوات أن ينفخ في أجواء الأحواز الشّعريّة، روحها النّاعمة النّقية، بنعومة الموطن الشّعريّ الأصلي لها؛ فتراه يجعل من البيئة الأحوازية حقلاً خصباً لبذورها المثمرة وموضع سقيٍ لمطيّته الشّعرية نفسها، وذلك لاشتباك شعريّة الهايكو بالبيئة والعالم الطّبيعي من حولها وتواشجها الأصيل واستمراريتها في باطن الإنسان وتوحيده بها كذلك، كيف لا وإذ البيئة كلمة مهذبّة نستوحي منها أصدق وأنبل مشاعرنا، فهي الأصل والجذع ونحن الفروع.

في صياغة الهايكو نحن أمام صمت كلامي وسيع ودفقة شعوريّة بطيئة الانتفاض، حين تصل لذروتها تتمخّض منها أصدق المشاعر كالعشق والفرح والحزن والكآبة إلخ.

هكذا يعبرّ النّصّاري عن هذه الدُّفقة الشّعوريّة بكلمات موجزة:

يا له من حزن!
في النّهر
لا يتدفّق القمر (ص 6).

فالقمر كان منذ الأزل صديق المياه والنّهر مرآته الأجمل ولكن ما أعطي لهذا الهايكو منزلة شعريّة رقيقة ذات رؤية جديدة، هو جفاف النهر، إذ لم يعُد ممتلئاً مثلما كان والشّاعر لم يعُد يرى انعكاسه الجميل، مثلما تعوّده فيما مضى من الزّمن؛ فيحزن ويحكي باقتصاد عمّا يراه؛ وبهذا يُحسّس المتلقّي خير تحسيس، بما كان وما حلّ بمصير النّهر تلو هذه الدُّفقة الحسيّة المتعاليّة من أحاسيس الحزن.

الهايكو هو الشّعر النّاعم أي يستضيف عناصر الطّبيعة ورموزها بين أطرافه ويستعبدها ويصفها كما تراها العين دون اجتهادات خياليّة ودونما أي مبالغة في التّنقيح والسّعي وراء الفنون البلاغيّة البيانيّة من كناية واستعارة وإلخ، أي إعادة تصوير الحياة وإيجادها دون بنائها، مستفيداً بالعواطف الجياشّة لنقل الصّورة بتعبير مباشر ذي جرعة شعريّة ثقيلة:

نقطة التّفتيش…
يمرُّ بلا قلقٍ
سنونو الرّبيع (ص 25).

وهل لنا نحن المصابون بداء الخوف من الفتك دونما أي ذنب، أن نعبر من سيطرات الشّرطة دون قلقٍ ما! فهاهنا الشّاعر يبرز نقطة التّفتيش أمامنا ثم بتكبير الصّورة للسنونو وحدها يجرحنا بواقعٍ لطالما تحاشيناه وأمنيّةٍ لا نعرف متى تتحقّق في بلدان الخوف؛ علّ طير الحريّة أتانا بربيعٍ أزال الخوف والقلق القارّين في دواخلنا وأنقذنا من شتاء السّيطرات…

المحاكاة ونقل الصورة بحياد هما أهمّا ميزتين مرتبطتين بهذا القالب الشّعري، فالشّاعر الهايكوي يرسم على الورق ما يباشره بالنّظر العذري ويسمع في القلب رنينه الفطري، حتّى يومض في سمائه الشّعريّة نيزك الصّورة السّاطعة، فيرسمها هو بدوره كما شاهدها وببراعة المشهد الأصلي دونما أي تصرف آخر:

توقّفَ المطر…
النّخلةُ
لا تزال تقطُر (ص 18).

أوَلاْ يحدث أن نحدّق لبرهة زمنية في شيء ولا نراه! أو تغاضينا عن بعض تفاصيله إثر الانشغال ببعضٍ أُخَر. السّماء أفرغت فيما جوفها من أمطار! فنبدأ بتعقيب السّحب أو نشم رائحة التّراب أو تجرفنا الذكريات لأحضانها القديمة، هذا ومن ثمّة، نسمع رنيناً كأنّه المطر، مستمرٌ، كأنّ غيمةً غفوت على نخلةٍ والقطرات تلو قطرات. فإنّ الحياد المشهدي هنا، جوهر النّقل الشّعري والمحاكاة فن لإبراز الجديد من القديم المألوف!

الزمنيّة الآنيّة أو آنيّة اللّحظة الشّعريّة البصريّة تلو أحداث متسلسلة مرتبطة ببعضها البعض، تتحكّم في البدء بقرع الجرس الزماني رويداً رويداً لاندفاع الحواس الرّاقدة حتّى اللّحظة الحاسمة والإتيان الحركي البطيء، بمشاعرٍ كانت مخبوءةً في وادي النّسيان حتّى بلوغ الذّروة الشّعريّة والانسياب السّريع وراء كلمات توصف المشهد بتعابير صادقة، ونستخلص من هذا الأمر بأنّ الهايكو يجاري زمن الحال ويهتم به فقط، دون الولوج بالماضي أو الاهتمام بتكهنات مستقبليّة أخر. يقول توفيق:

ما إن تلاشت
السّيّارة في البعيد
حتّى بدأ الحنين (ص 60).

بهذا الهايكو الّذي لم يضع له أي علامة ترقيم تنوب عن الخَرجة أو القاطعة (كَيري جي، الصّمت الكلامي) يدخلنا النّصّاري عالمه البصري المرتكزَ على سيّارة تبتعد حتّى تتوارى عن الأنظار ويكشف لنا في النّهايّة بأن هنالك غليان داخلي بدأ بالفعل لينتفض أو عالمًا جديدا في النّص الشّعري قد بدأ يظهر، ليملئ فراغ الوجهة بمصداقية الحواس؛ هكذا الهايكو ببساطة يدفع نفسه إلى الأمام، قول لحظةٍ بلحظةٍ في زمان ومكان محددين، كما أن هذه الحالة تُعتبر بياناً معبِّراً وصادقاً عن الحياة، السّريعة الزّوال؛ المتغيرّة الحال!

توظيف الحواس والحالات البيانيّة الوجدانيّة بهدف إثارة العواطف الإنسانية تجاه الطّبيعة إحدى مبتغيات الهايكو ومبادئه السّاميّة في كتابة النّصوص الشعريّة وهذا يرفع من شأن الشّعر والشّاعر سوياً وكما قلنا، ففي هذا النّمط البياني، يقِلّ تبجّح الخيال وتزداد وتيرة الواقع المشهدي دونما تصرف أو توضيح إضافي، من جانب قائل الهايكو:

باعة الجُمّار
آه ” .. النّخلة أرض
عربيّة” (ص 85).

بتوظيف حاستي البصر والصّوت الوجداني وتضمين (النّخلة أرض عربيّة) من الشّاعر العراقي مظفّر النّواب، كرسالة واضحة الوجهة والمصدر، ينهي ببراعةٍ، نصّه الشّعري وعقب هذا الارتباط العاطفي بينه وبين الطّبيعة الأم والوطن؛ يجرف المتلقي نحو التّيقّظ والتّنبّه تلو رموزه الشّعريّة المأخوذة بحيادٍ تام من مشهدٍ واقعي.

قد يُستخدم (كيجو) واضح الملامح والصدى التعبيري في الهايكو أي إدراج لون، وفصلٍ أو موسمٍ خاص من مواسم السّنة أو عنصر مرتبط به ويرشدنا الهايكوي به، نحو ضرب من الإشارات لمواسم تختص بمنطقة جغرافيّة وترتبط بتلك المواسم السّنويّة، ليزيد من حيويّة الشّعر بصبغة البيئة الزّاهية وطراوتها، يُعتبر كذلك مفتاحاً أونقطةَ ولوج لفهم الهايكو وإدراك كُنه ما يقوله الشّاعر الهايكوي:

نهاية الحصاد…
لم يبقَ من الفزّاعة
إلّا صليب مائل (ص 22).

نهاية الحصاد، كيجو صيفي، يرشدنا لفترة زمنية أو يُمثّل أمامنا كافة عناصر ذلك الموسم وما فيه من إظهار صورة حيّة متماسكة أمامنا فمنه نستنتج وندرك ما يلي في الشّعر، من سببيّة عري الفزّاعة، مثلما أصبحت الأرض عارية من قبلها أي لم يبقّ هناك أي جدوى لبقاء الفزّاعة ولقد حان الوقت الطّبيعي للتخلي عنها بعد خاتمة غاية وجودها وسببيّتها المتمثّلة بهذا الكيجو، أمّا بشأن الصليب المائل المنتوج من تفكك الفزّاعة فقد يرمز هذا التفكّك لشروخ أخرى تحدث كل حين في العلاقات الاجتماعيّة ولا يبقى منها إلّا صدى مكثفاً من اليأس والإحباط!

لا شك أنّ التّناغم فيما بين أجزاء الطّبيعة في الهايكو، يكاد أن يكون فاضح الوضوح بصورة مكثّفة، ومن أسسه الكتابيّة الأخرى، تبسيط الرؤية واجتناب التفسير أو الشرح المُرهق وقد لا يكون فيه، مجال لإعطاء أي روح خارجية أو أنسنة الصّورة بفن التّشخيص أو غيره من فنون الخيال العميقّة؛ مع هذا، فإنّ تأويل الهايكو أو شرحه قد يكون عميقاً ووقعه على مشاعر المتلقي نافذاً تماماً:

حقلُ الألغام…
فراشات الرّبيع
تحطّ وتطير (ص 39).

ليس هناك مجال في الوِفق فيما بين عنصر خارجي منقلب على الطّبيعة والطّبيعة نفسها (بكافة عناصرها)، كما أن الشّاعر لا يحبذ أن يرى أي امتداد له خارج هذه القاعدة ومن هنا الوفاء، إذ من المستحيل أن تسكن الفراشة فيما بين حقلٍ لا يمتّ لها بصلة ويسجنها بسياجه الملغّم، ومن هنا الحريّة الشّاعريّة والطّيران تلو ربيع حقيقي.

قد يكون الهايكو ذا مضمون اجتماعي اعتراضي بلغة السّخرية، والاستهزاء والهزل وفي هذه الحالة يطلق على نصها، السِن ريو، على اسم كاتبها الأول كاراي سِن ريو( (Karai senryū ، 1718-1790. في هذا النمط من الهايكو، قد لا يكون هناك أثر من (الكيغو والكَي ريجي)؛ وقد نتداول مواضيع شتى من العالم الإنساني أمثال الفضائل، والرّذائل أو الأخلاقيات بصورة عامة، والأفكار والأحاسيس بغية إفشاء الكذب أو السلوك الإجتماعي غير المناسب وجلب انتباه القارئ لمواضيع، يصوغها الهايكوي خير صياغة لمطلب ما:

بُعيدَ الإنتخابات،
ظهور اللّافتاتِ
أسمطةٌ للفقراء (ص 69).

من الأساليب المتقنة في الكتابة هي إضفاء مساحة مشتركة فيما بين النّص والقارئ وذلك بغرض التّوفيق فيما يكتبه الشّاعر وتجربة المتلقي نفسها وهذا ما نراه فيما كتبه توفيق في النّص أعلاه وهو يسخر من وعود النّاخبين وأسمطة الفقراء الّتي باتت تحمل خواء ظهورهم المخادع!

رغم بساطته الشّعريّة ونعومته، فإنّ الهايكو يعتبر شعرية التّأمل العميق والمحايدّة الأعمق (أن يكون على مسافة قريبة ومتباعدة سوياً “حياديّة الصّورة” وأن يربط ما فيه من عناصر ببعضها البعض بنعومة كما قلنا؛ هذا ما يؤهل الهايكو أن يكون شعراً نسوياً بامتياز إذ يكثر فيه الكلام الأنثوي الواضح الفارغ من مشقّة الصّور الغامضة والنّاعم بنعومة الأنيما المكنونة في العنصر الرّجالي:

القصب…
يكبُرن بصمتٍ
فتيات القبيلة! (ص 23).

الصّورة هنا، هي بروز ونمو القصب بصمت، كما لو لا أحد ينتبه له وربطها بفتيات القبيلة وهذه محاولة ساميّة من الشّاعر للاعتراض على كبت المرأة وتقييدها كما لو كانت قصبة جامدة ليس لها قوة إلّا لتبلغ موضع مواتها في المكان ذاته دونما أي إعتراض وبصمت القصب الجاف!! فهنا يقف الشّاعر بمسافة قريبة وبعيدة في آنٍ واحد ويتحدث دون مُحاجّة أو تصويب رأي نحو جهة ما؛ ما أكثر الكلام بعد هذا الهايكو الموجَز!

كثافة المعنى والإيجاز أي مراعاة فن الاختصار والحفاظ على جوهريّة الكلام فيما يقوله الهايكوي والابتعاد عن الوقوع في شَرَك الإسهاب الممّل الّذي سوف يبعِد النّص من أحد شروط الهايكو المصيريّة أي الإيجاز كما يعبّر عنه في الهايكو التّالي:

أذان الفجر،
إمرأة تركعُ في
حاوية القمامة (ص 88).

إبراهيم رحيم

المثقف

المراجع:

١- ريويوتسويا، سعيد بوكرامي. تاريخ الهايكوالياباني، المجلة العربية، الرّياض، السّعودية.العدد175 (https://www.goodreads.com/book/show/11848669).

٢- أدونيس. مقدمة للشعر العربي. ط 3. بيروت، لبنان. دار العودة، 1979.

٣- أحمد شاملو، ع پاشايی. هايكوشعر ژاپنی از آغاز تا امروز. ط 9. طهران، إيران. نشر چشمه، 1393 شمسي.

٤- ألِن كامينگز، رضى هيرمندي. هايكوهاى عاشقانه. ط 1. طهران، إيران. نشر چشمه، 1396 شمسي.

٥- ع پاشايی، كيميه مائه دا. لاكِ پوکِ زنجره، ط 1. طهران، إيران. نشر چشمه، 1394 شمسي.

٦- عبدالقادر الجموسي. مختارات من شعر هايكوالياباني، ط 1. دار كتابات جديدة للنشرالإلكتروني،نوفمبر2015 (https://www.goodreads.com/book/show/34664319).

٧- توفيق النّصّاري. رائحة الطّلع. ط 1. عبادان، إيران. دار هرمنوطيقيا، 2019.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!