السبت, نوفمبر 23, 2024
دراسات النخبة العربية الأحوازية والوعي القومي فيها

 النخبة العربية الأحوازية والوعي القومي فيها

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المدخل

بادئ ذي بَدْء يتوجب هنا، في المدخل، تحديد القَصْد من النخبة، والمَعْني به عند اطلاق مفهوم النخبة عليه، وذلك بالنظر إلى المجتمع الأحوازي العربي، أولا وأخيرا. لا يفيد مفهوم النخبة في الحالة الأحوازية، التي نضعها موضع البحث هنا، الجماعة السياسية التي تستحوذ على السلطة، ولا تلك الطبقة الاقتصادية التي بيدها زمام الشأن الاقتصادي العام، ولا ما في معنى ذلك. بل النخبة هنا هي أولئك الأفراد الذين تحصلوا على تعليم عال، في شتى العلوم الجامعية على العموم، وخاصة منها العلوم الإنسانية الاجتماعية على وجه الخصوص، أَيْقَظَ فيهم وعيا ذاتيا قوميا، عربيا بالضرورة[1]، انفصل بهم عن المجتمع الأحوازي الذي نشأوا فيه بكامل بِنْياته، من جهة، انفصاله عن الدولة الإيرانية التي فُرضت عليهم، وهي فارسية بحكم واقعها وتاريخيها، من جهة أخرى. وهكذا تكون النخبة العربية الأحوازية، مجتمعيا، تحتل موضع بَيْنْيّا، أو لنقل إنها لا تحتل موضعا أصلا، بل هي معلقة في الفضاء، لا إلى البنى المجتمعية الأحوازية العربية تنتمي، أو في تاريخها أو واقعها تتموضع، ولا في الدولة والمجتمع المفروض من الدولة الفارسية الإيرانية تعيش[2].

وبعبارة أخرى هي نخبة وجدت نفسها، بحكم ما تَعَلمته، وبحكم ما عاشته وجربته: سواء في عهد الجمهورية الإسلامية، أو في عهدي البهلوي، تعيش حالة من الغربة، لأننا لو نظرنا لها من الداخل، أي من داخل مجتمعها العربي الأحوازي، وجدناها متعالية، بالمعني القيمي الإيديولوجي لهذا المفهوم، متعالية على البِنيتن الطاعنتين في تاريخها: أقصد بهما القبيلة والدين، لأنها لا تعترف بالقبيلة ولا بالدين انتماء لها، وهي بالآن ذاته لا تعترف بالدولة الإيرانية وإفرازاتها على المجتمع الأحوازي، لأنها لا تعترف بالطبقة السياسية، العربية منها وهي منزورة جدا، أو الفارسية على سواء النشطة في مفاصل الدولة الإيرانية، ولا تتلهف للولوج فيها والسقوط في العمل ضمنها، مثلما أنها نخبة لا تنتمي للطبقات الفارسية[3].

وإذا كانت النخبة العربية الأحوازية، ونحن هنا في طور تحديد صفاتها، عائمة معلقة، بفعل سموها عن القبيلة والدين العربيتين، والدولة الفارسية بكامل إفرازاتها، فإنها تبعا لذلك نخبة مستوحشة، بالمعني الواخز لهذه الكلمة، أي أنها نخبة فردية، تعيش حالة من التوحد، يشبه الهيام بالذات، جعلها لا تعمل إلا في النطاق الفردي، ولا تتحرك إلا من مصدر المصلحة الفردية التي قد تتقاطع مع المصلحة العربية القومية وهكذا. النخبة الأحوازية العربية بالضروة، هي نخبة لا صلة لها ببعضها، وبالمجتمع ومختلف فئاته، ومن أجل ذلك فهي تخلفت عن تكوين طبقة وسطى عربية أحوازية، تبدع طرقا للمضي في تاريخ الأحواز إلى وجهة هي تتبناها وتتوخها، عند المنعطفات التاريخية[4]، بل تركته (الأحواز) رهين الحكومة الإيرانية سياسيا، وأسير المجتمع الإيراني وقضاياه مجتمعيا وقوميا وحضاريا.

وبعد هذا التحديد الوجيز الذي استوجبه الموضوع، وجدنا النخبة الأحوازية بهذا المعنى الجائي أعلاه، على ثلاث أصناف: أساتذة الجامعات، والمتعلمون المثقفون، والنشطاء، وكلهم نعدهم في صلب المجتمع الأحوازي، بينما هناك فئة أخرى من النخب هم المستفرسون الذين هم خارج العروبة وبالتالي فهم من غير الفئات العربية في المجتمع الأحوازي العربي، وإنْ كان منبتهم عربي، وإنْ عادت أصولهم للعرب. وفيما يلي من القول نحاول تحديد أبرز صفات كل من هذه الأصناف، حسب ما نعايشه في الوقت الراهن من الحياة الأمة العربية الأحوازية.

النخبة من أساتذة الجامعات

لم يأتي وضع أساتذة الجامعات من الأحوازيين في رأس التصنيف للنخبة العربية الأحوازية وضعا اعتباطيا، بل يأتي ذلك لأننا اشترطنا التوفر على مستوى من التعليم عال لتحقيق النخبة في الأفراد؛ ومن أجل ذلك توجب علينا هنا البَدء من أساتذة الجامعات عند الحديث عن تحديد صفات النخب. ومن أبرز الصفات التي تتميز بها هذه النخب، بالإضافة إلى الصفات العامة المشتركة التي جاءت في المدخل، فهي الصفات التالية:

  • الخشية على المكانة المجتمعية والاقتصادية: إن الظاهر على سلوك أساتذة الجامعات العرب في الأحواز هو تسابقهم مع الزمن للظفر بنأي أنفسهم عن كل ما هو عربي، وعن كافة القضايا العربية، سواء منها البيئية أو المجتمعية أو القانونية أو الرياضية إلخ. إن أساتذة الجامعات الأحوازيين يكاد يكونوا منقطعين بالمطلق عن القضايا التي يعاني منها الشعب الأحوازي، بوصفه أقلية تعيش تحت نظام الحكم الفارسي الإيراني القائم، ولذلك فلا ترى فيهم من ينخرط في تحديد القضايا أو المظالم التي تنال من حقوق الشعب الأحوازي، حتى تلك الحقوق التي نص الدستور الإيراني القائم عليها: نظير التدريس باللغة الأم: فعلى سبيل المثال لا نجد أيا من أساتذة العرب، من المختصين في التعليم أو في علم الاجتماع، قام بدراسة يبحث زوايا هذه الظاهرة، كما هو الشأن عند الأكراد أو الأتراك، حيث عمد عدد من أساتذة الجامعات والكُتاب هنالك بدراسة هذه الظاهرة ونَشْرها في مجلات وصحف مشهورة في الداخل الإيراني. وربما القائمة تطول إنْ حاولنا تعديد مواضع تجاهل أساتذة الجامعات العرب للقضايا العربية في القطر الأحوازي.
  • الركاكة العلمية، المتجلية في الاكتفاء بمجرد الشهادة للتعيين في صغار الجامعات: ثم إلى جانب هذا التجاهل، المتعمد أو الساهي، فإن الظاهر على أساتذة الجامعات الأحوازيين أنهم لا يعملون كأعضاء في هيأة التدريس إلا في تلكم الجامعات الواقعة على الهامش، سواء الهامش العلمي أو المُدني: ويظهر العدد الإجمالي، المتحصل من احصاء مبعثر، الخاص بالعرب العاملين أساتذة في جامعة الأحواز(تشمران) أنه لا يتجاوز 30 أستاذا على وجه التقريب، بينما السواد الأعظم منهم فهم عاملين في جامعة آزاد اسلامي وجامعة بيام نور التي لا يمكن عدها جامعة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة. ومن أولى تبعات هذا الوقوع في الهامش العلمي والمُدني هي أنهم لا ينتجون أعمالا علمية، سواء تعلقت بإختصاصاتهم العلمية أو بالقضايا الاجتماعية والقومية إلخ. فتتبع انجازات هؤلاء لا يظهر من أعمالهم كتابة تأليفات رصينة على شكل كتب، أو مقالات محكمة، أو دراسات استقصائية، بل ظل الأستاذ يتمتع بمكانة مجتمعية رمزية، بمجرد احتلاله الموقع هذا، دون أي التزام ينفذه يثبت جدارته في ذلك. على أن هذه الركاكة العلمية لدى الأساتذة لا تنحصر في الأحوازيين فحسب، بل هي مشترك جل الأساتذة العاملين في الجامعات الإيرانية، وهي تخضع لرقابة صارمة في توظيف الأساتذة، الأمر الذي انعكس سلبا على وضع التعليم العالي[5].
  • الابتعاد العامد عن القضايا القومية: على أن الركاكة العلمية ليست هي السبب الواقعي الكامن خلف الغياب المجتمعي للأساتذة الأحوازيين، بل ذلك التغيب إنما يتم بوعي تام من قبلهم: وذلك مثلما قلت يأتي من خشيتهم على مكانتهم المجتمعية. ومن أبرز تبعات هذا التغيب، هو حرمان المجتمع العربي الأحوازي من قواه العمرانية العلمية التي كان تنشيط فاعليتها سيعني المطالبة بكثير من الحقوق المهدورة للعرب، فضلا عن الاتيان بحقوق أخرى يطالبها الأستاذ الجامعي وتسنده الفئات المثقفة في المجتمع، في طور مجتمعي من المطالبات المدنية هي الكفيلة بصنع أمة أو انعاش الوعي القومي فيها. لا يتدخل الأستاذ الجامعي الأحوازي في القضايا القومية في الساحة العلمية والكتابة فحسب، بل هو ينأى بنفسه عن الحضور في الندوات التي تقام، بين الفترات المتقطعة، تجنبا لإثارة المتاعب اليسيرة لنفسه. وعلى عكس الأساتذة في باقي الجامعات المعيارية، التي يكون الأستاذ فيها من حملة الأفكار الإيديولوجية المعرفية، من ماركسية أو ليبرالية، أو هرمنوطيقة أو بنيوية، أو نحوها من الإيديولوجيات والمنهاج والرؤى العلمية إلخ، فإن أساتذة الأحواز هم خلوا من أية من هذه السجالات الفكرية التي هي صفة الجامعي. فترى الأحوازي الأستاذ وهو في حل من المسجلات الفكرية، وهو في غنى تام من الانتماء إلى مرجعية فكرية يحاول البرهنة على مقدرتها العلمية، وقابليتها الأقصى للإدحاض العلمي إلخ.

المتعلمون المثقفون

إنه إذا كانت السمة الطاغية على واقع وسلوك أساتذة الجامعات في الأحواز النأي بالنفس عن القضايا القومية الأحوازية، والركاكة العلمية الظاهرة بقلة الإنتاج النظري والعملي، فعلى العكس من ذلك تجد فئة المتعلمون المثقفون هم أكثر الفئات التصاقا بالقضايا القومية نشاطا وإنتاجا نظريا وعمليا: ومن هنا يمكن عد هذه الفئة رأس الحربة التي تواجه الدولة الإيرانية بكامل سياساتها التفريسية الهووية والسياسية والمجتمعية والحضارية بصفة عامة. ولأن هذه الفئة هي الأكثرية بين النخبة العربية القومية المتعلمة الأحوازية فإننا سنعدد من صفاتها أكثر مما عددناه عند الفئة الأولى والأخرى.

  • رأس الحربة: إن المصادمات الأمنية التي تقع على الدوام في الأحواز، فيعود قوامها إلى هذه الفئة، على سبيل التهييج والحث والدعوة، كما أن النشاط العلمي الذي يسجله الأحوازي، بمختلف اختصاصاته، فيعود إليهم. إن هذه الفئة هي قوام الحركة القومية الأحوازية، وهي التي تسير بهذه القضية وتحميها من الاندثار، ولذلك فحقيق بها اسم رأس الحربة في مواجهة الاحتلال الإيراني الفارسي. ولعل القوى الأمنية الإيرانية قد أدركت هذه الحقيقة، فجعلت جل تركيزها في نشاطها الأمني على هذه الفئة، وأخذت تراقب مختلف نشاطهم، العلمي منه والحركي. والواقع الأحوازي المعيش يظهر بوضوح أن الطريقة المتبعة في تعامل السلطات الإيرانية مع هذه الفئات كان المقاربة الأمنية التي تستخدم أقصى درجات العنف والعقوبات.
  • غزارة الإنتاج: ولكن على الرغم من هذه المقاربة الأمنية المنفذة ضديدهم، ظل المثقف الأحوازي غزير الإنتاج نظريا: فهو علاوة على اشتغاله بقضايا حركية، مثلما يأتي في الفقرة التالية، يظل بالوقت ذاته الجهة الوحيدة التي تمد كل الصحف والمعاهد بالمواد العلمية وشبه العلمية، وتقوم بكتابة الكتب أو ترجمتها إلخ. وهنا عند تناول الجانب الإنتاجي العلمي لدى المثقفين في الأحواز فلا بد من التذكير بهذه الظاهرة المقدرة التي تنمو فيهم، يوما بعد يوم، قوامها محاولتهم استخدام اللغة العربية، اللغة الأم، في كتاباتهم وجميع ما يصدر عنهم من إنتاج، بالرغم من تعليمهم بالفارسية وعلى الرغم من الصعوبة التي تكمن في تعلم لغة الضاد. وذلك خلافا لما نجده عند الفئة الأولى، من أساتذة الجامعات، التي تجهل استخدام اللغة العربية، أو تتجنب الكتابة بها، حتى من قبل أولئك الذين يتقنونها وهم قلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

على أن الغالب على إنتاج هذه الفئة، الذي وصفناه بالغزارة، مقارنة مع أساتذة الجامعات، هو ضعف هذه الإنتاج التأليفي. ومن دون الاسترسال في بيان هذا الضعف، نكتفي بتعديد أهم نقاط الضعف في الإنتاج العلمي للمثقف الأحوازي: ألف) الضعف النظري في الكتب والمقالات: وهي في معظمها تعاني من جهل في أو تجاهل للمرجعيات الفكرية التي لا يمكن الكلام في موضوع علمي ما إلا في نطاقها وفي نطاق التحاور معها على سبيل الدحض أو القبول أو الإضافة. ب) الضعف المنهجي: ويتجلى في عدم تطبيق المناهج العلمية، المستندة إلى مرجعيات فكرية توائمها وتناسبها، وعدم جعل تلك المناهج معالم في طريق دراسة ظاهرة ما تختص في الأحواز وحالته الفريدة. ج) الضعف العلمي العام: المتجلي في الضعف اللغوي، لأن معظم المثقفين لا يتقنون إلا الفارسية، إلى جانب العربية في أحسن الأحوال، ولا قوة فيهم لاستخدام اللغات العالمية من أجل الوصول إلى أكبر عدد من النظريات والمناهج والمصادر الموثوقة بصفة عامة. د) الضعف بالشخصية العلمية أو الفردانية الحديثة: إنه إذا كانت المعاطب الثلاث الأولى تتعلق بالجوانب العلمية، فإن هذه الخلة تتعلق بشخصية المثقف الأحوازي سيكولوجيا، حيث ترى الكثير من المثقفين الأحوازيين يستعجلون في نشر مقالاتهم وكتبهم حبا بالظهور والتمايز على الآخرين، واستعراضا لأنفسهم في مجتمهم. ومن أجل ذلك فهناك عدد غير يسير من الكتب والمقالات الخاصة بهذه الفئة لا يمكن وصفها لا بالمقال ولا بالكتب، لأنها خالية عن أي التزام منهجي وعلمي يسمح اطلاق هذه الاسماء عليه[6].

  • الصلة بالقضايا القومية: كتابة ونشاطا: وإذا كان المثقف الأحوازي على اتصال حثيث بالقضايا القومية الأحوازية كتابة، مثلما رأينا، فإنه تبعا لذلك يكون أكثر الفئات نشاطا في هذه القضايا. ولذلك فإن معظم المجلات التي نشأت في الأحواز، سواء منها الداخلية أو الخارجية، وهي قليلة بمجملها، ومعظم المعاهد ومراكز الدراسات التي أقيمت إلخ، فهي من صنع هذه الفئة ونتيجة نشاطها. ومن البدهي أن ينتج عن هذا النشاط احتكاكا مع مختلف فئات الشعب، بنفس ذلك الاحتاك المتحصل مع القوى الأمنية، ولذلك فإن هذا الموضع النشط له توابع سلبية وايجابية:
  • الضعف الاقتصادي وفساد الأخلاق: من أبرزها (التبعات السلبية والايجابية تلك) الضعف الاقتصادي الذي تعاني منه هذه الفئات. فإن الغالب على أمر المثقف الأحوازي، هو الفقر المتعمد. وذلك أن تأدية دور المثقف من جانب هذه الفئات، وقيامهم بالكتابة في الشأن الأحوازي القومي العربي بالضرورة، والقيام بالنشاط الحركي الذي يدشن مجلات ويقيم مراكز بحثية ودراسات إلخ، ما كان ليمر دون عقاب تنفذه حكومة الاحتلال فيهم، يجري جنبا إلى جنب المقاربة الأمنية التي تفتك بهم. ولكنه إذا كان هذا هو حال الجماعة الأحوازية المثقفة في علاقتها مع السلطات الإيرانية، فإنها من جهتها لم تعدم في نفسها سلوكيات تتجلى في: ألف) استغلال القضية الأحوازية من أجل الوصول إلى مغانم اقتصادية أو سياسية، خاصة أيام الانتخابات البرلمانية. ب) استغلال الناشطين وجعلهم مطية للمصالح الفردية. ج) منافسة أصحاب المكانة التقليدية العليا في المجتمع الأحوازي، نظير الشيوخ وعلماء الدين، منافستهم على مكانتهم المجتمعية، في نطاق حب الجاه الذي يعصف ببعض المثقفين هؤلاء.

النشطاء

وتتموضع فئة النشطاء في أسفل القائمة في تعديد فئات النخبة الأحوازية، حيث أنها تنتمي إلى فئات دنيا في المجتمع، ولكن وعيها القومي الذي استيقظ فيها هو الذي مكنها من الاعتلى إلى مصاف النخبة، وهو الذي قدر لها الشعور بذلك التصادم الظاهر بين أهل الدولة المفروضة الفارسية، وبين الشعب العربي الأحوازي الذي لا يرى في نفسه انتماء لها.

  • ضعف البنية العلمية: ولعل ما وضع هذه الفئة في مصاف النخبة هو ذلك الوعي القومي الذي تحصل لهم نتيجة فطانتهم للواقع واستشعارهم الحدوسي لما يدور حولهم. ولذلك فلا اشتراط في النشطاء توفر مستوى من التعليم عال، بل قد يكون الناشط متحصلا على شهادة جامعية أو لا يكون. على أن الظاهر على معظمهم هو أنهم ممن تحصل على شهادة في فروع غير الفروع الانسانية الاجتماعية. وعلى العموم فلا يوجد انتاج معرفي خاص بهم، بل يعمل الناشط في معظم الأحوال في الجوانب العملية، من تسيير مظاهرات، أو تكثيف دعوة للاحتجاج إعلاميا وميدانيا، وهكذا.
  • التهميش والضعف الاقتصادي: وتعود مواضع معظم النشطاء الأحوازيين إلى أطراف مدينة الأحواز العاصمة، وهي مناطق فقيرة ومهمشة. على رأسها حي الملاشية، وحي الثورة، وحي سيد خلف، وكوت عبدالله إلخ. ولا يخفى على الأحوازيين أن هذه الأحياء المفقرة هي قوام الحركة الأحوازية ومددها. إن الناشط الأحوازي لا يتوفر على عمل حكومي، ولا يتوفر على دخل شهري مضمون، يمتهن عادة مهن يدوية أو مهنية يسيرة، لا تأتي له إلا بلغة العيش. وفضلا عن هذا الضعف الاقتصادي فهو يعاني سيكولوجيا من هذا الوضع الذي لا تتوفر فيه المساواة، وهو عادة ما يعزو جميع المشاكل التي يعاني منها إلى كونه عربيا، ويرى في التضارب بينه وبين النظام الإيراني تضاربا قوميا، أي تضاربا وجوديا يستهدف كيانه ككل.
  • الميل نحو العنف: ومن هذه النقطة بالتحديد، المذكورة أعلاه، يميل النشطاء إلى التصادم المباشر، والكفاح المسلح ضديد القوى الأمنية، وهم أكثر الفئات غضبا من الوضع القائم، وتلهفا للتخلص منه بالوسيلة المثلى وهي العنف المشروع. ونتيجة لهذه القناعة، تضم السجون الإيرانية عددا كبيرا من النشاطين الذين حكمت عليهم بالمؤبد والسجن لفترات طويلة، تجريما على اعتداء بسيط على مغفر أو شرطي أو نحو ذلك من هذه الجنح اليسيرة. لكن هذا الميل نحو العنف فهو كالسيف له حدين: فهو من جهة حافز للتصدي للقوى الأمنية، ومن جهة أخرى يظهر بنفس الحدة عند التعامل مع النشطاء العرب الآخرين، عند ظهور أدنى اختلاف. فهنا في حالة نشوء خلاف داخلي يعمد الناشط إلى تخوين وتعنيف الناشط الآخر الذي كان يعمل معه قبيل وقت قصير، بالحدة ذاتها التي يتعامل بها مع الآخرين من غير بني قومه.
  • الاستغلال من جانب المتعلمون المثقفون وأسطرتهم: وختاما يتعرض الناشط إلى ظلم مزدوج: فهو من جهة يتعرض إلى أعتى صور العنف من القوى الأمنية، ومن جهة أخرى يتعرض إلى استغلال من جانب المثقفين، على شكل استغلال مادي أو معنوي. فمن حيث الاستغلال المادي فالناشط هو سخرية بيد المثقفين، يقوم بتنفيذ خططهم التي يدونونها، سواء تصب في المصحلة العامة كانت أو الفردية، كما حدث في قضية الفيضانات الأخيرة في الأحواز، ومن حيث الاستغلال المعنوي فإنه يعمل على أسطرة المثقف، وبث أعماله، والعمل على توفير منصات إعلامية له: من تسيير محاضرات، أو طباعة تأليفاته مجانا، أو التسويق لها إلخ.

المستفرسون

إنه إذا كانت الفئات الثلاث التي أحصيتها تروي حال النخبة العربية المتحصلة على وعي قومي، فإن الكلام عن المستفرسين من الأحوازيين هنا يأتي في سياق الكلام عن أولئك الذين لا ينتمون إلى المجتمع العربي الأحوازي بملء خيارهم، وبوع شقي منهم. نحن هنا أمام أولئك العرب الذين رجحوا تبديل الفارسية بقوميتهم العربية واستنكفوا من عروبتهم بكامل تمظهراتها وكامل تاريخ كيانها وصيرورتها. والأشقى في هذه الظاهرة هو أن معظم أمثال هؤلاء فهم ممن تحصل على شهادات جامعية عالية، ويتمتع بوضع اقتصادي جيد، ويحتل مواضع وسيطة أو عالية في بعض الأحيان في الجهاز البيروغراطي الإيراني، ويتمتع بثقافة مدنية جيدة. ومن أبرز صفات هؤلاء فهي:

  • العقد النفسية والانفصام في الشخصية: إن من حدى بهؤلاء العدة القليلة إيثار الفارسية على العربية هو معطى نفسي، من دون شك، هو من ضَغَطَ عليهم وجعلهم يرون في أصلهم العربي منقصة لا يتحررون منها إلا إذا تركوا العربية والتبسوا الفارسية بدلا عنها. ولهذه الظاهرة ما يغذيها من سياسات فارسية نفذتها الدولة منذ مطالع الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كان قوامها زرع الشعور بالدونية في عرب الأحواز، لمجرد عروبتهم، بالتزامن مع الترويج للفارسية كعرق متفوق على العربي[7]. كما ساهم النظام التعليمي في فرض اللغة الفارسية على هذه الأسر، وإذواء العربية فيهم، لغة وثقافة وكيانا، إلى جانب تحفيز النظام الإداري الذي يتحصلون منه رزقهم على ذلك، وبالتالي تخشب العنصر العربي فيهم فموته.
  • الانصهار في المجتمع الفارسي سياسيا وثقافيا ومجتمعيا: ثم إذا كانت اللغة العربية بين هؤلاء منبوذة لا يحييون في نطاقها، لا على سبيل النطق ولا التفكير ولا النشاط البشري بصفته العامة، فإن الطريق معبد بعد كل ذلك للتحول إلى عنصر غير عربي، والانصهار التام في المجتمع الفارسي، وتبني كامل قضاياه، وبل رؤاه ومختلف مظاهر رؤيته الكونية: سواء من حيث الاحتفال بعيد النورووز مثلا، أو بالتستربالزي الفارسي، أو بتبني القضايا الفارسية المختلفة مجتمعيا عن القضايا العربية في المجتمع الأحوازي. على أن هذا الانصهار يتوج أكثر في جانبه السياسي، حيث نرى هذه الفئات تضارع الفئات الإيرانية الفارسية الأخرى بالذود عن الوحدة الإيرانية الراهنة المصطنعة، الجائية بفعل القمع والعنف الضارب، والتغني بأمجاد السلف الإيراني وغيره. وتلك أبرز وجوه هذا الانصهار الذي بدأ من اللغة حتى بلغ أعلى أنواع النشاط البشري المتثمل في الدفاع عن الدولة القومية.
  • النجاح العلمي والاقتصادي والمجتمعي: وهنا نعود إلى ما كنا قد ذكرناه أعلاه بأن هذه الفئة بالرغم من انفصام شخصيتها، وبالرغم من وقوعها ضحية للعنف القومي، إذا صح القول، الذي حدى بها انتزاع قوميتها الأصيلة والأصلية والباس قومية أخرى معادية، فإنها، بالرغم من ذلك، تتمتع بنجاح دراسي بين أفرادها أولا، ربما يعود إلى التصاقهم مع لغة التدريس الفارسية التي باتوا من أهلها، تمتعهم بمردود اقتصادي جيد. أما من حيث الجانب المجتمعي فهنا لا بد من أن نشير إلى أن هذا التغيير في القومية، وجميع ما يأتي منه من الزامات وتوابع، فهو يلاقى من جانب الفئات المجتمعية الفارسية، فضلا عن الدولة بترحيب بالغ، ويستقبل الفارسي، شعبا ودولة، هذا المنتزع عن قوميته المتستر بعورة القومية الأخرى المعادية بكل حفاوة وقبول، ويعده بصدق وعمق من بني قومه ويتعامل معه تعامل النظير، على عكس التعامل مع العربي.

الاستنتاج

لقد أشترطنا هنا لتحقيق مفهوم النخبة في الفئات المتعلمة الأحوازية، أولا تحصل الوعي القومي، بمعنى إدراك التنافر القومي بين الحكومة القائمة والشعب الأحوازي، وثانيا التحصل على مستوى من التعليم قد يكون عاليا أو وسيطا. وعند النظر إلى الفئة التي تتكون على هذين الشرطين وجدنها فئات تنقسم إلى أربع أقسام: ثلاثة يمكن عدها عربية أحوازية، وواحدة هي فارسية باختيارها وواقعها المعيش.

أما النخبة الأحوازية فهي تتدرج من أساتذة الجامعات، والمتعلمون المثقفون، إلى النشطاء، لكل منها صفاتها. والمستفرسون الذين هم على الطرف النقيض من العروبة. وتتميز أساتذة الجامعات بالصفات التالية: الخشية على المكانة المجتمعية والاقتصادية، والركاكة العلمية، والابتعاد عن القضايا العلمية. أما المثقفون فمائزهم في أنهم رأس الحربة في المواجهة مع السلطات الإيرانية، وغزارة الإنتاج، والضعف النظري، والصلة بالقضايا القومية، والضعف الاقتصادي. أما النشطاء فصفاتهم هي ضعف البنية الاقتصادية، والتهميش الاقتصادي، والميل نحو العنف، والاستغلال من جانب المثقفين. وبينما تكون هذه هي أبرز صفات النخب العربية، فإن النخبة المستفرسة فهي تتميز بالعقد النفسية والإنفصام في الشخصية، والانصهار في قضايا المجتمع الفارسي، والتمتع بنجاح نسبي اقتصاديا ودراسيا ومجتمعيا.

 

 

وائل محمد

 

 

المصادر:

[1] . المواطن العربي والوعي القومي، حميد قهوى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2004.

[2] . المحددات الحضارية للهوية العربية الأحوازية، أحمد فرادي الأحوازي، مجلة النوابت، العدد رقم 8و9، الأحواز العاصمة 2022.

[3] . ولا أقول الطبقات العربية الأحوازية، لأن المجتمع الأحوازي هو بالأصل مجتمع مرتبك البنى، ليس فيه طبقات بالمعني المحدد للكلمة، بل أكثر ما فيه فئات يمكن العثور على بعض السمات المشتركة بينها. وعلى العموم هذا موضوع آخر نغض الطرف عنه هنا، للتجنب من تشتت الحديث.

[4] . تحولات الطبقة الوسطى في الوطن العربي، أحمد موسى بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2013.

[5] . ملاحظات درباره دانشكاه، سيد جواد طباطبايي، انتشارات مينوي خرد، تهران1398.

[6] . أنظر مثالا على ذلك كتاب: مشعشعيان و دولت هاي متقارن: از آغاز تا بايان حكومت مستقل، محمد رضا سلماني عبيات و سوسن فخرائي، انتشارات بزوهندكان راه دانش، جاب اول، تهران 1401. وقد قدم معهد الحوار للبحوث والدراسات ملخصا عن هذا الكتاب، مع ملاحظات نقدية عليه.

[7] . عرب خائن نيست مدعي مفتري است، علي الطائي، نشر شادكان، اهواز 1377.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!