من هرّبَ هذي القرية من وطني !؟
من ركب اقنعة لوجوه الناس
وألسنة ايرانية !!!
من هرّب ذاك النهر المتجوسق بالنخل على الأحواز ؟
اجيبوا !!
فالنخلة ارضٌ عربية
اجيبوا فالنخلة ارض عربية ..! مظفر_النواب
صور الشاعر العراقي مظفر النواب النخلة بانها رمز لعروبة الأحواز، كما ربط الشاعر الأحوازي فاضل السكراني النخلة بالذاكرة التاريخية للشعب الأحوازي من خلال صورة رمزية انعكست في اشعاره.
احبج يا فلاحيتی
احبج من نمت بفياي نخلات الشتلهن خالنا سبيتي
احبج من بنا البنّاي من معدن ذهب طينج كَسُر بيتي
هكذا هي النخلة!!!
النخلة معين العطاء، ونبراس الوفاء، ومهيع التسامي… هي ظلال وريفة في شموس الغفاري، وهي شراب يترع النفوس المجد الممجد… ملهمة أنت يا نخلة أوطاني، يا أيها الحضن المغدق دفء في مهجري وغربتي…
النخلة كؤوس طلا يقطر من عيون نازحين نأت عنهم الأوطان التي فيها تتعالين… بالله ميلي علي يا حبيبة مظعونة في راسيات هودجها، ميلي علي يا نخلة الأحواز فمن هنا: في ملكوت القلب تتجذرين.
إذا سئلت في الأحواز عامة الناس فيهم أو خواصهم، أغمارهم أو عِليتهم … عن النخلة ماذا لهم تعني؟ تكومت أمامك ألفاظ جزيلة لا تسعف فائض المعنى عن النخلة، لتموت الكلمات عن وصفها بعد أن تُقال.
النخلة فينا تجسد لتراث إنساني نابت في الوطن الأحوازي السليب، وسيماها الثقافي، ورمزا من رموز عروبة الأرض، وما يرتبط بها من عادات وتقاليد وحرف تراثية وكل شيء… أجل كل شيء. فعندنا كل الطرق تؤدي إلى النخلة.
يتفق الشعب الأحوازي على أن النخلة أنها إحدى مواريثه الحضارية الطبيعية التي تميز مجتمعه الأحوازي بها. فهي ترمز بعيون جميع الأحوازيين إلى علو الهمم وخطورة الشأن وباذخ الحسب… فهي باب العطاء وسماحة جود الوطن، وهي منارة السلام، وصفاء السريرة، وأمارة الصبر والتحدي… فشموخها يجسد الثبات في خضم تغلب الأزمان على الوطن السليب.
النخلة هي الخصب والنماء والاخضرار والثمر، فتقاس بها وتستقي المعاني عنها.. لا تعني النخلة مجرد شجرة في أرضٍ الأحواز بل هي أينما أينعت أينع وجودها السخاء والثراء، والعطاء والبهاء… هي نقش عيلامي ووُشم على يد أم أحوازية أورثت نقوش الحضارة جيل بعد جيل… هي نخلة خضراء تنبت في ارض الأحواز بترابه وبماءه وسماءه… هي عروبة الأحواز وميسم هويته.
النخلة كالانسان الحر شاهقة شامخة فاردة أجنحتها بتناغم بديع تداني أطراف السماء… هي كالعرش تتهاوي غصونها بجلال ووقار نحو جذوعها لتدلل على مكوثها متحدية من يفتري ذهابها جفاء…
سعفها الميال عقال عربي يميل فوق الهامات فيستريح ويرقد. وكأنها يد رئوفة يلتف غصونا باسقات ترتفع عالياً في الفضاء، لا يزيدها ميلانها مع هبوب الريح إلا رغصة قدسية تُسكر الناظرين، لكأنها تلوّح لمحب مقبل من بعيد يبرح الشوق به.. ومن أعجب ما فيها تحوّل ألوانها وتلاعب اتجاه الظل مع انحناءات سعفاتها…
تارة تراها خضراء نضرة، وتارة أخرى تسفر لك عن عتمة تتخللها ظلال حمراء غير محددة… كأنها انعكاس لون الجذوع البني… وعطر إناء رطب لذيذ تحمر وجناته كلما دنى موعد القطف.
النخلة والانسان بينهما علاقة لا متناهية! فهما يتقاسمان صفات مشتركة كثيرة، فالنخلة ذات جذعٍ منتصب، ومنها الذكر والأنثى، ولا تُثمر إلا إذا لُقّحت، وإذا قـُطع رأسها ماتت، ولاتموت الا وهي واقفة وإذا قُطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محله، كأنها الإنسان لا يمكن تعويض مفاصله… أما دلالها وتطلّبها فيبلغ حدا مزاجياً… في علاقتها بأخواتها النخيل.
إنها كائن اجتماعي، تفضّل أن تنشأ في مجموعات. بيد أنها لا تفرط بفرديتها فهي لن تنمو جيداً حين تتقلص المسافة بينها وبين النخلة الأخرى عن خمسة أمتار، لأن ظلها يأبى الانعكاس على ظل نخلة أخرى..!
من المؤكد أن زراعة نخيل كانت معروفة منذ سبعة آلاف سنة عند كل الحضارات التي قامت في الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين والأحواز وما جاورها. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم كانت النخلة حاضرة دوما ليس في البساتين والواحات الأحوازية فحسب، بل في ثقافة الشعب الأحوازي واقتصاده وحضارته بصفة عامة.
لم يتمكن الباحثون حتى اليوم من تحديد مسقط رأس النخلة؛ فبينما نسب بعض الباحثين نشأتها الأولى إلى بلاد ما بين النهرين وحضارة بابل، بيد أن ما وصلنا عن حضارة عيلام من آثار المعابد والقصور، يدل على وجود نقوش عن النخيل، بالإضافة إلى التيجان الملكية التي حملت نقش النخلة. وأهم ما وصلنا من الحضارة العيلامية، في هذا المجال، هو مجموعة القوانين التي تضمنت ثلاث مواد تتعلق بشراء النخيل وبيعه وتلقيحه، إضافة إلى مادة عقابية خاصة بالاعتداء على النخيل، تحدد غرامة فضية على كل من تغترف نفسه موبقة اقتلاع نخلة. وقد حدد عمر مجموعة القوانين هذه بنحو 3800 سنة قبل عصرنا. على امتداد آلاف السنين، حافظت النخلة على موقعها في حياة الشعب الأحوازي، الذي تعرف على أساليب زراعتها وسبل ازدهارها. وبسبب تعدد أوجه الانتفاع بها، حافظ عليها حفاظ أعز ما يُمْلَك، وعمل على إكثارها من دون انقطاع.
ومن هنا احتل النخيل مكانة كبيرة رفيعة في حياة الأحوازيين القدماء، والعيلامين منهم على وجه التحديد، حيث قدروها شجرة مقدسة، وآلهة الولادة في حضارة عيلام، عظيمة النفع، لا يوجد شيء منها إلا ينتفع به. وعُرفت النخلة في العالم القديم وفي حضارة عيلام بـ “الشجرة الطيبة” و”شجرة الحياة”، و”الشجرة العذراء”. وعكست صفاتها المتعددة التقاء الشعوب والأديان والحضارات في احترامها، على نحو لم يتكرر مع أية من نباتات الأرض. لا تطالع شجرة إنساناً كما تطالعه النخلة.
إلى جانب ذلك شغلت النخلة حيزا كبيرا في الذاكرة الشعرية الأحوازية ، وربطها الشاعر الأحوازي بأحداث عصره وقضاياه، وتسايره مع ثقافة العصر لتوصيف حبيبته الغالية ليتغزل بها ويستأنسها ويرتمي بأحضانها. وللشاعر الأحوازي حكايات مع النخيل، فهو شديد الصلة ب”عمته” النخلة، كما ينعتها هو بهذا النعت، ويراها في حياته رفيقة العمر التي نشأ في أحضانها، وترعرع في كنفها.
كما كانت النخلة تستخدم في البناء بجذوعها وسعفها في حياة المواطن الأحوازي ، فإنها تمتعت بحضور جمالي من خلال الزخارف المستوحية عنها ليزين هذا البناء. فللنخلة شكل فريد في أناقته يقوم على بساطة التكوين.
خارف السعفة الذهبيّة
وثّقت حضارة عيلام لسكان الاحواز القديم تزويد النخلة إياهم بجميع حاجاتهم و جميع حاجاتهم يعني أن النخلة كانت مادة حياة دخلت في العديد من خطوط الإنتاج في المجتمع الاحوازي. وهناك تعبير آخر انطبق على علاقة الإنسان الأحوازي بالنخلة، هو أنها كانت رفيقته “من المهد إلى اللحد”، حيث أمّنت احتياجاته من المأكول والملبوس والمسكن، وشاركته حتى في قبره بعد موته..!
لعل هذا التشابك بين الفرد الأحوازي والنخلة هو وليد طول العشرة بينهما: فهنا الطفل الذي يلعب في ظلال النخلة، يعاقب إذا أتى بمنكر بسعفها، ثم يعود عشية ليسد رمقه بتمرها الذي خبأته أمه له.
ليس هذا فحسب فهو يبتدي صباحه على مائدة فطور حيكت “السفرة” فيها من “خوص” النخيل. هذه السفرة هي جزءٌ من “مفروشات” المنزل المصنوعة كلها من النخيل: فهناك الحُصُر، والخصاف، وهناك الزنابيل و “السلال” لحفظ الأطعمة والأواني والملابس.
ثم في مطبخ المنزل الأحوازي تستخدم مخلفات النخيل وقوداً للطهي والشواء، ويصلح الليف والسعف، أيضاً، للتدفئة في مشهد شتائي تجلس فيه الأسرة حول “سجْرة ضوْ” يتطاير منها الدخان..!
فهنا كل الطرق تؤدي إلى النخلة، وكل الخير يفيض من النخلة، وكل المعاني تشتق عن النخلة.
على أن العمر كله يمضي إلى جانب النخلة.. فهناك نخيل، وهناك أعمال، وهناك احتياجات. وحين يُصاب المرء بجرح ما، العلاج الشعبي ينثر رماد “الخوص” على الجرح من النخلة لإيقاف النزيف وتعجيل الشفاء. وقد يُلزم بنثر نشارة تُستخرج من عصا منخورة..! أما إذا أصيب الواحد بتكسر أو رضٍّ؛ فإن التمر المعجون بالزبدة الساخنة سيكون مرهماً مسكّناً لآلامه، وهو دواء يستخدم لمن يعاني من آلام المفاصل..!
ودعوني أبالغ فأقول: إن الكسير فلا يقدر مشيا إلا إذا توكأ على عصاء مصنوعة من نخلة… نخلة تعكزه أيام مشيبه حين يشيخ… وإذا كان خشب النخلة غير جدير بصنع مسند لعكازة الشيوخ فإنه لا شك خير بردة يلتف بها الأحوازي بعد أن يتوفّاه الله. ففي بعض مناطق الأحواز قديما، كان الميت يُلفّ في حصيرٍ بعد تكفينه، أثناء حمله على النعش إلى قبره. وبعد أن يُسجّى الميت في القبر يُسقف بفلقٍ من جذوع النخل، ثم يُفرش عليها الحصير الذي لُفّ فيه، ثم يُهال عليه التراب، ويوضع عند رأسه وقدميه جذوع تقوم مقام الشاهد على قبره.
فهنا في لحظة الممات، ممات الأحوازي، أيضا كل الطرق تؤدي إلى النخلة.
نشأتِ بأرض الشعر
وليس غريباً أن تملاً النخلة نصوص الشاعر الأحوازي وبشكل عام العربي بعد أن ملأت حياته، ودخلت في ثقافته اليومية، وتغلغلت في وعيه. وإلى جانب الوصفيات التي اعتنى بها الشعراء الأحوازيين والعرب في شأن النخلة والحديث عنها، فإن قيمتها في الشعر القديم تميزت بالتفرد والخصوصية. لقد كان الشاعر الأحوازي، والعربي بشكل عام لأننا نحن هنا لسنا بدعا عن العرب ولا خارجين عنهم، أجل الشاعر الأحوازي العربي كان دوما يستعير من ثقافته الخاصة بالنخل صورة أو مشهدا أو حالة، يشبه بها ما يريد ومن يريد.
وإذا كان امرؤ القيس، وهو أهم الشعراء الجاهليين، قد شبه شعر حبيبته بفرع النخلة المتداخل، فإن غيره ذهب إلى ما هو أبعد.. يقول امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكلِ
كانت النخلة صنو الإنسان الاحوازي العربيّ والصورة المقابلة له في الطبيعة، وهذا ما نلمسه في شعر عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) الذي وجد في نخلة غريبة في بلاد الأندلس شبيهاً له في الغربة والنأي عن الأهل، حيث قال:
تبدّت لنا بين الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلـي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبةٌ
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وفي ختام هذا القول عن حبيبة برح بي الشوق لها علي الاعتراف بأن حديثي كان ليطول عنها إلى انقطاع العمر لو لا لزوم القصر وإنهاء الكلام… لقد كانت النخلة في موطني قبل آلاف السنين وعلى طول الحقب، حتى جعل حضورها يستقر في ملكوت الضمير الأحوازي، وجعلته يرى فيها مسعفا في كل شيء: في الحياة وتأمين احتياجاتها، في بناء البيوت وستر العورات، وفي التأديب والجلد، وفي التغزل والهوية كأعلى مراتب التجسد الحضاري. وكل ذلك، وهو القليل القليل بحقها، استوجب القول بكل ثقة ورسوخ الإيمان بأن النخلة هي رمز الشخصية الأحوازية، ومعقد هويته الطبيعية العربية، وصوان تاريخه و موروثه الثقافي، لذلك يعني الحفاظ عليها هو حفاظ على مورث انساني تتميز به الأحواز العظيمة.
ليلى حسن، باحثة في معهد الحوار للأبحاث والدراسات. يمكنك متابعة الكاتبة على حسابها على تويتر LayaliHamede@