مقدمة
ان دراسة قضية المرأة الناقدة وصاحبة الفكر الحر أمر صعب في ثقافة عربية تجسد منظومة إسلامية محافظة تحمل معاييرها الموروثة الخاصة بها والأصعب هو ان هذه المرأة العربية تحاول بشتى الطرق مكرسة كل جهودها لتظهر لهذه المنظومة المقيدة بالأعراف والعادات والتقاليد، ضرورة مواكبة تطورات حقوق المرأة. وهنا يأتي دور الفكر الحر والناقد للمرأة العربية المستقلة لتدرس مشاكلها انطلاقا من واقعها الثقافي العربي بوصفه وليد منظومة ثقافية مختلفة عن الغرب؛ إذ إنه يمنح العربي أفقا للإضافة والتجديد بدل أن يناقش الأمر من زاوية غربية. فالثقافة العربية ثقافة؛ لا تبتني على أساس مفكري الهوية القطعية بل على صعيد القراءة التي تستثمر المنجزات المعاصرة وخصوصا في مجال حقوق المرأة وما تقدمه من ممكنات تجعلنا قادرين على أن تكون لنا إضافتنا المقترنة بخصوصيتنا الثقافية.
في واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا، تمتلك شعوب الوطن العربي هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها ويجب ان تدرس مشاكله انطلاقا من واقعها الثقافي العربي. تحت سقف هذا الوطن العربي وفي إطار ثقافته العريقة لعبت المرأة دورًا محوريًا في نهضة المجتمعات العربية القديمة والحديثة وأثبتت من خلال هذا الدور قدرتها على التغيير الإيجابي في تلك المجتمعات، فحضورها اللافت في مختلف جوانب الحياة وإصرارها على الوقوف بجانب الرجل ومساندتها له، دليل على كونها عنصرًا أساسيًا في إحداث عملية التغيير في المجتمع. لا شك بأنه يجب ان تنهض المرأة العربية من تحت أنقاض الموروثات الاجتماعية وتكسر قيود الأعراف والتقاليد البالية المثقلة على كاهلها وترأس ثورة الحداثة للمطالبة بكل حقوقها لكن في إطار ثقافتها العربية وليست الثقافة المستوردة، ولا المترجمة، ولا الملفقة، ولا المنغلقة لأن ثقافتنا العربية تعد من أغنى الثقافات العالمية وأهمها.
في هذه الدراسة وبأخذ الاعتبار علاقة الثقافات العربية بعضها ببعض على مدى التاريخ سنركز على إشكاليات مواكبة الحداثة والتقليد والأصالة والمعاصرة للمرأة العربية بشكل عام والمرأة الأحوازية بشكل خاص وضرورة التجديد والإبداع بشعاراتها للتحرير ومواكبة الحداثة في إطار يخصها ويخص مجتمعها العربي وليس مستلهم ومستورد كما يقال.
المرأة العربية بين تحدّي الحداثة والتقليد؛ حركات النِسْوية أنموذجا
يخلط كثير من المهتمين بالفكر النسوي والحركة النسوية في الإعلام المحلي العربي وفي بعض وسائل التواصل الاجتماعي العربية، بين الحركة النسائية وما يندرج تحتها من حركة تحرير المرأة، وبين حقوق المرأة القانونية والاجتماعية؛ ففي حين لا يجب وضعها مع الحركة النسوية في سلة واحدة. إن الحديث عن حقوق المرأة، والعدالة في تحسين وتصحيح أوضاعها، هو حديث ثانوي وهامشي وجزئي لا معنى له في ظل أفكار الحركة النسوية. يجب أن نعرف جيدا، أن الحركة النسوية -المعتدلة منها والمتطرفة-لا تهتم إطلاقا بمشاكل المرأة على المستوى الوظيفي أو السطحي، بل هي تهتم بتفكيك العلاقة بين الرجل والمرأة، أو الذكر والأنثى، وذلك على المستوى البنيوي. فهي تسعى إلى إعادة تفسير وكتابة كل التاريخ البشري والتاريخ الاجتماعي والفكري واللغوي والأدبي وحتى الاقتصادي، واعتماد إطار مرجعي يقلب كل الموازين والمفاهيم، من خلال إدخال “منظور” جديد لرؤية العالم والكون والعلاقات والقيم. إنها تسعى إلى إعادة بناء المجتمعات بشكل جديد وجذري، يرفض كل الإطارات التي حددتها الثقافة الذكورية مسبقا، وطرح رؤية عالمية جديدة شاملة لكل البشر. قبل ان ندرس إشكاليات هذا الموضوع وتأثيره على مكانة المرأة العربية في قلب مجتمعها العربي سنقدم خلاصة للأسباب الكامنة وراء ظهور الحركات النِسْوية عبر التاريخ.
ظهرت النزعة النسوية في نهاية الستينيات من القرن العشرين نتيجة “الوضع الإنساني المهين الذي عانت منه المرأة” وبصفتها تيار معارض عبر العصور الماضية، حيث سادت في تلك العصور فكرة فرض الخنوع والاستسلام على المرأة، لذلك أدركت المرأة، بعد قرون طويلة من القهر والعنف، بأنه عليها أن تخوض معركتها بنفسها، وبدأت بالفعل حركات تحرير المرأة في أواخر القرن التاسع عشر. كان للمرأة في الغرب مجموعة من المواقف الصارخة التي تؤكد حجم التحديات التي عانتها المرأة في سبيل الخروج بفكر خاص بها، وقد توزعت هذه التحديات بين الاجتماعية، والسياسية، والثقافية. في سياق هذا المسار التاريخي أكدت الحركة النسائية بأنها فلسفة نقدية للحضارة، وبالأخص نقد الحضارة الغربية قبل غيرها، ولذا ارتبطت النسوية الجديدة بفلسفة ما بعد الحداثة التي هي في جوهرها موقف شكي ونقدي ومن منطلقات الحداثة الغربية. مع بداية عصر النهضة في الغرب، وظهور الآلة، ومن ثم الثورة الصناعية التي زادت الأمر وبالا، فقد تسببت في تحطيم الأسرة، وفك روابطها، فدفعت المرأة الغربية الثمن غاليا من جهدها وكرامتها وحاجتها النفسية والمادية، حيث امتنع الرجل عن إعالتها مما أجبرها على ترك المنزل والخروج للعمل؛ لكسب عيشها بكد يمينها، فقد كانت تقبل بأي عمل مهما كان مجهدا وضئيلا في المردود.
أما إشكالية مواكبة المرأة العربية بشكل عام والأحوازية بشكل خاص للحركة النسوية الغربية بعد ما ذكرنا ملخصا من أسباب ظهورها والهدف من تشكيلها تكمن في القضية التالية وهي: ان المرأة الغربية ناضلت من أجل حقوق تتمتع بها المرأة العربية منذ عصور، مثل: حق الامتلاك وحرية التصرف في أموالها وملكها، لا أعنى أنها لم تهمش، ولم تحرم من بعض حقوقها بحجة الدين أحيانا وبحجة العادات والتقاليد ثانيا ولكن المقصود هو الاختلاف في المطالبات ومسيرة التحدي من اجل تحقيقها. تكمن مشكلة المرأة العربية في تقليص نطاق حياتها؛ وذلك باستبعادها عن الحياة العامة في غالب الأحيان على الرغم من ذلك لا أحد ينفي الاختلاف في صورة المرأة وقيمتها بين العالم الغربي والعالم العربي.
ان (النظرية النسوية) بشكل عام لم تتمتع بالاستقرار النسبي الذي تمتعت به نظريات أدبية أخرى. ان لم نستطيع منع جريان هذه النزعة النسوية بشكلها الغربي في مجتمعاتنا العربية فلابد ان يتم التحديث والتطوير لهذه النظرية وإعطاء مسؤولية قيادتها لنساء عربيات من مفكرات، وكاتبات، وأديبات، لتكتب في إطار ثقافتنا وموروثنا العربي وتتجانس مع حقوق المرأة العربية في مجتمعها وهي مسؤولية جسيمة وثقيلة تواجه عوائق نفسية واجتماعية وسلبيات ثقافية، وحضارية، وسلوكية ترسخت عبر القرون؛ لذلك فإن مثل هذه النظرية تحتاج إلى قوة دفع عربية متجددة، وأصالة فنية، ووعي ثقافي، وحضاري، وإنساني عربي.
المرأة العربية بين الأصالة والمعاصرة في كتابات الفقهاء والأدباء والشعراء العرب
يجب ان يتم مواكبة المرأة العربية المعاصرة لنهضة التحديث ورغبة التحرير بإطار تراثها العربيّ ومستوحاة من الواقع، بعيدا عن الأحكام المسبقة التي وضعتها في مكانة هامشية، دونية تضرب بجذورها في قسم من الموروث. يجب ان لا نسمح بإطلاق الأحكام الجائرة والحاسمة على مكانة المرأة العربية تحت صيحات الفارقة للالتحاق بالحركات والنزعات النسائية الغربية. إن الفتاة العربية لم تكن لقمة سائغة، يسهل مضغها واقتحام حصونها، واستباح حماها. كانت هناك أنظمة تتشدد في نيلها، والوصول إليها. ولا أدل على ذلك من الخوض في غمار المحبين، للوقوف على مدى العذاب للوصول إلى الأحباب. وضع الشرع مهرا للفتاة العربية قبل تزويجها، إحقاقا لحقها، سموه سياقا، نظرا لما تداوله العرب من مال؛ لأن العرب كانوا إذا تزوجوا ساقوا الإبل والغنم مهرا لأنها كانت الغالب على أموالهم. وقد ينوء تحته طالب الفتاة، فيبقى الحصول عليها حسرة في نفسه، وغصة تقطع نفسه. وصونا لكرامة الأنثى، ورفعة لمقامها من الدنس، ميز الأدباء والعلماء العرب بين الحب والجنس، بين الزواج الحلال، وطلب اللهو والرجس. أفردت مصادر الأدب العربي القديم، والمجموعات الشعرية جانبا للمرأة، بجوانب مخصّصة في أدبها. فالمرأة العربية كانت عضو اجتماعي، تمثل مع المذكر أساسيات الأحياء على الأرض. تشعر بمشاعر الحياة وتعبر عما يدور في خاطرها، ويجول في فكرها. لقد رصد المؤلفون العرب سلوك المرأة المختلف، وأنشئوا مؤلفات تغطي، وتوصف حركاتها ومساعيها. وشارك الفقهاء والأدباء في مؤلفاتهم، ولم يغفلوها من أحكامهم. برزت مصنفات مختلفة في المرأة يمكن استعراض الأشهر منهما، والأكثر تداولا بينهما، كتب خالصة وأخرى جزئية في المرأة.
كتاب أدب النساء الموسوم بكتاب الغاية والنهاية لعبد الملك بن حبيب (ت238ه/ 852م)
كتاب بلاغات النساء للإمام أبي الفضل أحمد بن ظاهر طيفور (ت280ه/ 852م)
أشعار النساء لمحمد بن عمران المزرباني (ت384ه/ 994م)
أخبار النساء لابن قيم الجوزية (ت751ه/ 1350م)
نزهة الجلساء في أشعار النساء للسيوطي (ت911ه/ 1505م)
المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي (ت852ه/ 1448م)
المحاسن والأضداد للجاحظ (ت255ه/ 868م)
كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه (ت28ه/ 940م)
لطائف اللطف لأبي منصور الثعالبي (ت429ه/ 1038م)
كتاب الأذكياء لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوري (ت597ه/ 1201م)
لدينا كتاب وأدباء عرب لم يكتفوا بالدفاع عن المرأة وتجميل صورتها، بل كانوا يستغربون هذا الهجوم على المرأة. في هذا المجال لا ننسى كبار رجال الفكر والأدب في الوطن العربي كطه حسين والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وميخائيل نعيمة وأحمد رامي والمنفلوطي وغيرهم وعندما نتحدث عن الكتّاب العرب الذين قدموا صور ايجابية عن المرأة، علينا أن نتلمس نوعية هذه الكتابات وأهدافها، فهي ليست مجرد كلمات رنانة أو مرصوفة بشكل معبر ومؤثر، بل تحمل فكر وبعد نظر، لا أقول ذلك على اعتبار أن هذه الكتابات أنصفت المرأة وحسب، وإنما لأنها تقدم ما فيه الخير للرجل والمرأة على السواء. وحتى أكون واضحة في مقصدي ، سأقدم مقتطفات من بعض تلك الكتابات المنصفة للمرأة ، مع تعقيبي عليها .هذه الكلمات نضيفها لقافلة الكتابات التي أنصفت المرأة العربية ورغبت أن تلعب أدوارا أوسع في مجتمعها، كما يريدها أن تكون وليس كما يريد الرجعيين ، ولا أولئك الذين لا يتوقفون عن نعتها بالغموض والنقص والذين يرد عليهم الأديب ميخائيل نعيمة (1889- 1988) قائلا : (ليس من الغرابة في شيء أن نرى في المرأة لغزا يصعب علينا حله ، ولكن الغرابة أن تتكلم عن المرأة كما لو كانت اللغز الوحيد الذي أشكل علينا حلّه ، فكأنما شقيقها الرجل : كتاب مفتوح ، لا يعوزنا لفهمه إلا معرفة القراءة البسيطة.. غاية المرأة من وجودها هي غاية الرجل عين بعين، ولكنها غاية يتعذر على المرأة إدراكها بغير الرجل، وعلى الرجل بغير المرأة، وفي ذلك كُنه اللغز الذي هو الإنسان. وما هو الإنسان؟ أيجوز أن ندعو الرجل إنسانا، وهو لولا المرأة لما كان رجلا؟ أو ندعو المرأة إنسانا، وهي لولا الرجل لما كانت امرأة؟ إنما المرأة نصف إنسان، وإنما الرجل نصف إنسان، أما الإنسان الكامل فلا يكون إلا بالاثنين متحدين. وإذن، كان من العبث أن نتكلم عن لغز هو المرأة من غير أن نتكلم في الوقت عينه عن لغز هو الرجل، وكان من الجهل المطبق ن نحاول حل اللغز الذي هو الإنسان بحل نصفه الواحد دون الآخر…)
ويقول د. رشاد رشدي (1912-1983) في مقالة بعنوان المرأة تمنحني القوة والقدرة: (…فالرجل لا يكتمل إلا بالمرأة، والمرأة لا تكتمل إلا بالرجل، ولذلك فصورة كل منهما لا تتضح حقيقتها إلا في ضوء الحب، وفي كل ما كتبت كنت دائما أحاول أن أكشف للمجتمع عن صورته كما أراها، حتى يراها المجتمع، ويدرك نفسه. والعملية في أغلبها تعرية بهدف التعرف على الذات، وفي اعتقادي أن المرأة هي نصف المجتمع. والمرأة العربية أنضج عاطفيا من الرجل، هكذا كنت دائما أراها، وهكذا ما زلت أراها، فالرجل ما زال إلى حد كبير يعيش عصر الحريم، أما المرأة، فقد تعدت هذه المرحلة … المرأة باختصار تمنحني القوة على العمل، والقدرة على اكتشاف الذات، إنها مخلوق نبيل. هذه المرأة في اعتقادي، ولم أصدق يوماً أنها يمكن أن تكون غير ذلك).
ويؤكد الكاتب مصطفى أمين على الدور الذي تلعبه المرأة في حياة الرجل بقوله: “كل الذين نجحوا في الحياة مدينون لامرأة ما. قد تكون هي الوحي، وقد تكون هي القلعة، وقد تكون هي الإكسير، وقد تكون هي العذاب. فبعض الرجال مدينون بما وصلوا إليه لامرأة عذبتهم، أو جرحتهم، أو حاولت أن تحطمهم، فأخرجت أحسن ما فيهم”.
وللأديب الكبير يوسف إدريس (1927-1991) بصمة في الكتابة عن المرأة إذ يقول: (…وأنا بادئ ذي بدء. مع المرأة لأني مع الحياة. وأن ما أكتبه عن المرأة هو مزيج مما أحب أن تكون عليه، أو أتمناه لها، ومما هي فيه فعلا، بمعنى أن أكتب عنها. بتفاؤل).
بينما يقدم د. محمد خفاجي تصوره عن دور المرأة في صنع الرجل في منحه القوة كي يكون رجلا عظيما: (المرأة سر العبقرية عند الأدباء، إنها الملهمة والموحية لأروع الآثار الأدبية الخالدة …لازمت المرأة الرجل في مسيرة الحياة، فآدم كانت حواء معه في كل مكان، وظلت المرأة شريكة بيته على طول عصور التاريخ، ومسار الإنسانية. إن وراء كل أديب كبير امرأة تلهمه.
ويرى الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح أن (الحضارة في رأيي هي أنثى، وكل ما هو حضاري هو أنثوي).
الإمام محمد عبده والمعروف عنه في كتاباته إبرازه لمدى تكريم الإسلام للمرأة ورفعه من شأنها، إذ يقول: (هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها، لم يرفعهن إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع. بل لم تصل إليها أمّة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده. وهذه الأمم الأوروبية – التي كان من آثار تقدمها في الحضارة والمدنية – أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن ، وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم والفنون ، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها ، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها ، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرنا ونصف ، وقد كانت النساء في أوروبا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كل شيء، كما كن في عهد الجاهلية – عند العرب- أسوأ حالا …وكان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي ، وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن النساء يفخرون علينا بل ويرمون بالهمجية في معاملة النساء ، ويزعم الجاهلون منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا).
نلحظ هنا التركيز على تعلم المرأة، ونجد في أغلب كتابات أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هذه السمة من تأكيد الأحقية في العلم والذي يعتبر تمهيدا لحصول المرأة العربية على حقوقها والمساواة بينها وبين الرجل.
كما أن هذه الكتابات تعتبر ردا على كتابات أخرى مناهضة لأي دور مجتمعي يجب أن تلعبه المرأة، ونلمس في الكتابات التي وقفت ضد المرأة أنها ليست قائمة على أسس شرعية ولا واقعية تمليها طبيعة المجتمع، بل هي مجرد ادعاءات حول شخصية المرأة وطبائعها تم تقديمها كطبيعة سيكولوجية في المرأة رغم تساوي الجنسين في طبائع الخير والشر.
كل ما ذكرته من أبرز كتابات مفكرين وفلاسفة العرب حول المرأة العربية كان موجزا صغيرا من بحر الكتابات ومواصفات شعراءنا وأدباءنا في عصر القديم والحديث، تصور المرأة العربية وأحسنوا في دعمها وإبراز مكانتها العالية في ثقافتنا العربية. من اجل فهم اختلاف مكانة المرأة الغربية مع المرأة العربية في مجتمعهم لابد ان اذكر ملخصا من آراء ونظرات فلاسفة الغرب حول المرأة وأترك للقارئ – مجال الإطلاع والتأمل والاستفادة. وربما الرؤية لقضية المرأة العربية بزاوية مختلفة تؤكد على ضرورة التجديد والإبداع بشعاراتها للتحرير ومواكبة الحداثة في إطار ما لديها من الثقافة والأصالة العربية التي لا تقاس لا من قريب ولا من بعيد مع مكانة المرأة في وسط مجتمعها الغربي.
عن صورة المرأة عند فلاسفة الغرب، ابتداء من سقراط الذي كان يقول: “للرجال السياسة، وللنساء البيت”، وديمقريطس الذي حاربها واعتبر أن المرأة “معطلة للفلسفة والتفلسف مما أدى إلى عدم الزواج والتحذير منه، فممارسة الشهوة تغيب عقل المرء، وتعطل الفلسفة في رأيه”
أما “أفلاطون” Platon ” الذي يعد من الأوائل الذين شغلتهم قضية المرأة، فـكان يتأسف لأنه ابن امرأة، وظل يزدري أمه لأنها أنثى.
وكان يصنف المرأة في عدد من كتبه ومحاوراته مع العبيد والأشرار والمخبولين والمرضى فيقول: ينبغي “أي: لطبقة الحراس ألا يحاكوا العبيد ذكورا أو إناثا في أحوال عبوديتهم. محال ان يحاكوا أشرار الناس وجبنائهم والمجانين، لا في أفعالهم ولا في أقوالهم فهو يرى أن الرجل هو الحارس المثالي للمدينة الفاضلة، فيقو ل: “عنى فلن ندع أولئك الذين نعتني بهم، ونعمل على غرس الفضيلة في نفوسهم والذين هم قبل كل شيء رجال، لن ندعهم يحاكون امرأة شابة كانت أو مسنة، تعانق زوجها، أو تستسلم للعويل والنحيب”. أما أرسطو” Aristot” فقد قسم الموجودات في المجتمع إلى قسمين: القسم الأول يتكون من الأشخاص، هم الأسياد الرجال المالك الذين خلقوا لأنشطة النبيلة والمعرفة، خلقوا لأعمال الجسدية الفكرية، والقسم الثاني الأشياء، وهم: العبيد، والنساء، الحيوانات الذين حسب طبيعتهم، وخلقت المرأة من أجل الوالدة؛ لحفظ النوع. وتأثر فلاسفة العصور المتأخرة بفكر سابقيهم، فـ”ديكارت Descartes من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على: العقل والمادة، يربط العقل بالذكر فقد ربط العقل بالذكورة، والمادة بالأنوثة، ووضع تمييزا صارما بين ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني، وجعل العقل والتفكير العقلاني من نصيب الرجل وكذلك “كانط Kant الذي رسخ هذا المعنى، وذهب إلى أن المرأة بطبيعتها تابعة للرجل الحق في قهرها وهذا لحمايتها فيقول إن هناك صفات منسوجة في طبيعة المرأة كـ: الخوف على الجنين مثالا، والخوف من الأضرار المادية التي يمكن أن تقع عليها، ولهذا كانت هذه الطبيعة الضعيفة تتطلب حماية الذكر و فيلسوف الثورة الفرنسية “جون جاك روسو” Jean-Jacques Rousseau” الذي يرى أن المرأة وجدت من أجل الجنس فقط وهذا ما نجده في كتابه إميل حيث جعل التربية الخلقية والنفسية والعقلية والجسدية من نصيب الذكر فقط، بينما تتلقى صوفي الأنثى تربية متناقضة لهذا تهدف إلى تحجيمها وقصر وجودها على متعة وخدمة الرجل.. و”فرويد” Freud رائد مدرسة التحليل النفسي الذي يرجع كل مشاكل المرأة إلى معاناتها من عقدة النقص تجاه العضو المذكر. أما سبنسر فقد أكد أن النساء مخدوعات، ويضيعن أوقاتهن بالمطالبة بالحقوق السياسية التي يجب ألا يحصلن عليها إضافة إلى نيتشه الذي كان حاقدا على المرأة فقال: المساواة بين الرجل والمرأة مستحيلة لان بينهم حربا أبدية وهيجل الذي أكد على الفرق بين الرجل والمرأة كالفرق بين الحيوان والنبات، وإذا المرأة على رأس السلطة تصبح الدولة في خطر، والمرأة غير قادرة على التفكير.
مقارنة موجزة بين إنجازات المرأة العربية والغربية تحت ظل الشعارات التحررية
هل حقق مشروع الحداثة السعادة للمرأة الغربية أم زادت معاناتها وشقاؤها بهذا النمط من الحياة؟ هل حققت الرفاهية المادية أم ظلت تعيش في ظل منظومة تأنيث الفقر وتأنيث المعاناة؟ (ويمكن الإشارة هنا إلى جذور ما يُسمى ظاهرة “تأنيث الفقر” (feminization of poverty) التي أصبحت ظاهرة اجتماعية معروفة في الولايات المتحدة؛ إذ يبدو أنه في إطار حرية المرأة وحرية الرجل، يعيش رجل مع امرأة تنجب منه طفلا أو طفلين عادة دون أن يرتبطا بعقد زواج. وبعد فترة قصيرة أو طويلة يتملك الرجل الملل؛ وتنشب المعارك بين الطرفين؛ فيقرر الرجل أن يحقق ذاته خارج إطار الأسرة فيحمل متاعه ويذهب، تاركا الأم المهجورة وحدها، ترعى الطفلين فتزيد أعباؤها النفسية والاجتماعية والاقتصادية (مهما دفع الرجل من نفقة) وازداد الرجال متعة وحركية استهلاكية أي أنه تم تأنيث الفقر، ويمكن أن نضيف أنه تم كذلك تأنيث الجهد النفسي والإرهاق البدني، ولعل هذا من أهم الأسباب السيسيولوجيا لزيادة معدلات السحاق في المجتمعات الغربية، فهو يحل في نظرها مشكلة ضرورة تفريغ الطاقة الجنسية للأنثى دون أن يدخلها في دوامة العلاقة مع الرجل التي توردها موارد التهلكة والفقر والألم والهجران).
أما بالنسبة للوضع الاجتماعي للمرأة العربية فقط تغير تغيرا كبيرا عما كان عليه من قبل. فقد كانت المرأة العربية في الماضي لا تخرج من منزلها إلا للضرورة، فكان لها المنزل مكانا للولادة والعيش والعمل وحتى مكانا للموت فيه، أما الرجل، فقد كان عكس المرأة تماما، فهو يمارس حقوقه كافة من خلال تبوّئه المناصب السياسية والاقتصادية وغيرها من المناصب المختلفة. لكن هذا الوضع لم يدم طويلا، فقد تغير وضع المرأة العربية، كما تغيرت نظرة المجتمع العربي للمرأة والعمل، وأصبحت العادات والتقاليد لا تعد حاجزا على المرأة، فبعد ان كانت لا تخرج من منزلها ولا تعرف سوى أمور المنزل، أصبحت الآن تخرج وتعمل في الوظائف كافة، وذلك بفضل التربية والتعليم وفرص العمل. ففي كل عام تتزايد العاملات في قطاع الدولة ونري تثبيت وضع المرأة العربية اجتماعيا واقتصاديا و سياسيا في مجتمعها وهذا الفضل كله يرجع لمكانة المرأة العربية العريق في أصالتها العربية، .إذن نرى أن الاختلاف وفي ظل الشعارات التحررية والحركات النسوية في الجانبين الغربي والعربي للمرأة يبقي في بعده الثقافي وأصالته التاريخية ويؤكد ضرورة تكوين شعاراتنا التحررية وركوبنا لقطار الحداثة علي أسس ومقومات نمتلكها في داخل مجتمعنا العربي ونطالب بها و ليكون لنا شعارنا الخاص يختلف مع الشعارات الأخرى يجسد معاناة المرأة العربية وليست الغربية.
المرأة الاحوازية وأزمة التحدّي ما بين الحداثة والتقليد
وأما في حديثي الخاص عن المرأة الاحوازية وتعريفها في إطار أصالتها التاريخية والثقافية يمكن القول بأننا نحتاج لدراسة مسهبة أخرى، لتبين مكانتها الاجتماعية في مجتمعها الأحوازي منذ عصر القديم والي عصر الحديث مرورا بكل التحديات والصعوبات التي واجهتها بعصرنا هذا ويكفي الشهادة بمكانتها الرفيعة في جذورها التاريخية التي ترجع إلي أقدم وأعرق الحضارات وهي حضارة عيلام. حضارة يقارب تاريخها تاريخ الفراعنة القدامى. تأسست حضارة الأحواز قديما، حيث يعود تاريخ الأحواز إلى سبعة آلاف عام قامت على أرضه الحضارة العيلامية وهي على غرار الحضارات البابلية والآشورية والسومرية في بلاد ما بين النهرين. ارتقت المرأة الاحوازية في حضارتها منذ القدم بمكان متميز، منذ ومضات الوعي الأولي، ارتبطت بالأرض فهي الأم وهي المانحة للحياة وهي الملكة الراعية وهي الربة الحامية ولذلك أعطاها المجتمع حقها ومكانتها بتميز وتقدير، لم تألفه الحضارات المجاورة. المرأة العربية الاحوازية لابد ان تعالج مشاكلها داخل الإطار الاجتماعي والتاريخي لمجتمعها الاحوازي وتهيئ الطريق للالتحاق بالحداثة العصرية والتحرر على أساس هذا المنطلق. إننا نستطيع أن نقدر للتراث الاحوازي قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا الاحوازية لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور. أجل إن ثقافتنا الاحوازية إذ راجعنا جذورها التاريخية والتي تحدثت عنها، هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة ونابذة لكل ما يشوه صورة المرأة وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد.
آخر الكلام
التقليد والتجديد، المحافظة والتحديث، الجمود والتحرر، الرجعية والتقدمية هي ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد: لكنها وَجْهَانِ لِعُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أي شكلان مختلفان لحقيقة واحدة لا يمكن فصلهما، فلا يختلفان عن بعضهما كثيرا والقصد إنها ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل، وهي ثنائية التكامل، لا ثنائية التضاد والتقابل، وقد أحسن الدكتور عبد المعطي الدالاتي صياغتها بقوله: “لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث”. لا أعنى هنا التمسك بموقف الجمود والرفض والتمسك بالقديم؛ بل أريد ان أقول إن عملية التحديث أتت داخل تاريخ طويل من الصراع والاستقطاب المجتمعي وغياب التوافق، وهو أمر ظل يُميز التاريخ العربي بشكل عام والأحوازي بشكل خاص منذ تلك الفترة وحتى وقتنا هذا. وفي استدراك سريع أشار الشاعر المصري أمل دنقل إلى “أن الشيء الجوهري في الحداثة أنها رغم كل ثوريتها وتمردها إلا أنها لا بد أن تأتي على جناحين؛ جناحي الأصالة والمعاصرة، فكما أن المعاصرة مهمة لارتباطها بصُلب عملية التحديث نفسها؛ إلا أن جناح الأصالة يظل على نفس القدر من الأهمية؛ لأننا لا نستحدث شيئًا من الفراغ، فحين نتجاهل تاريخ الأمة وماضيها، تتحول عملية التحديث إلى فوضى، وتفقد حركة التحديث -أيًا كان مجالها- صلتها بالحياة” فالحرّية الّتي لا تتبع احترام القوانين الاجتماعيّة تودّي إلي الأسر في قيود الفساد و الظلم و الاستبداد في النّهاية. لذا يجب ان تكون الحداثة ويتبعها التحرير من بطن المجتمع الذي تعيش فيه. المحافظة والتحديث تياران يتفقان في الهدف ويفترقان في الأسلوب وهو ان تتم الحداثة مقرونة بالأصالة وبالمحافظة على الموروث.
ليلى حسن، باحثة في معهد الحوار للأبحاث والدراسات. يمكنك متابعة الكاتبة على حسابها على تويتر Layaliahwaz@
احسنتم مقاله رائعه جدا و خاصه اظهار نظره العربية و الغربیه تجاه دور الانسا
و شکرا أستاذة لیلی 🌺🌺🌺