المدخل
وبَعْدُ فقد يكون تبين من التلميحات الجائية أعلاه، من أن موضوع هاته الدراسة هو الهوية، ولكن ذلك الجانب الخاص بالهوية بالتحديد الذي يريد استكشاف أبرز أنماط النيل منها، والبحث في الأنماط التي يتم فيها صهر وتذويب الهوية الأحوازية. وذلك لأننا نعيش في دولة قومية، صنفت جميع القوميات التي تغلبت عليها، قوميات معادية للقومية الفارسية صاحبة الحكم، يجب التصدي لها بشتى صنفوف التصدي، تارة عبر البطش والقوة القاهرة، وتارة عبر سلوك سياسات عنصرية غايتها تصهير المختلف، والإتيان بوحدة مجتمعية سياسية ثقافية استحالت فيها ذوت الكافة، فبدت كيانا متجانس المعالم والأجزا.
وهنا في معرض تناولي للطرائق التي فيها يتم إزاحة هوية وإحلال أخرى بديلا عنها، سأستعين بآراء العالم العالم النفسي المعاصر جوردن، واستدعاء تصنيفاته حول تلك الطرق ومختلف تغلباتها. يقول العالم النفسي جوردن أن عملية الصهر التي تتم من قبل مجتمع الأكثرية، أي ذلك المجتمع الذي يتكون من أكثرية لها لغتها وثقافتها وتاريخها المشترك إلخ، هي عملية لا تسري على طريقة واحدة، بل إنها عملية مشتبكة، لها وجوه تتم من قبل جماعة قائدة وبوعي منها وتخطيط مسبق، ووجوه تسري من دون وعي وتجري مجرى الحياة الطبيعية التي قد لا يقف خلفها أحد، بل إنها تجري على رسلها، تضافرها الصدف وجميع محدثات الحياة والتاريخ. ولذلك فعملية استحالة فرد، أو جماعة، إنما منها ما هو متعمد ومخطط سلفا، ومنها ما يأتي على سبيل صيرورة الحياة ولا مدخلية لأحد أو جماعة فيها.
وبناء على ذلك يحدد جوردن أنماط التذويب الثقافي والهووي في سبع، هي: التصهير الثقافي، والتصهير البنيوي التركيبي، والتصهير عبر التكاثر والتزواج، والتصهير عبر المعرفة الشخصية، والتصهير عبر التصالح النفسي، والتصهير عبر التصالح السلوكي، والتصهير المدني. وهنا من دون مزيد في الاسترسال أدخل مباشرة للإستدلال بهذه الأنماط السبعة من التهصير والتذويب، لإلقاء أضواء كاشفة على الحالة الأحوازية في طور كل من هذه الأحوال.
فأنا أجد هذه الطرائق التي عرضتها هنا عن جوردن خير مُعين على استكشاف بعض المظاهر التي تحدث في الأحواز، ولا يتم الوعي بها من قبل الأحوازيين، كما أخالف جوردن هنا في موضعه الذي يبدو محايدا في عرضه هذه الأنماط والأساليب من التذويب، لأصرح أن هذه الأنماط في الحالة الأحوازية كلها مدانة ومرفوضة، وتعني لا محالة النيل من الهوية العربية الأحوازية، لأنها حالات مبنية في أساسها، سواء بوعي أو من دون وعي، على نكران الهوية الأحوازية، وإنعدام خيار للعربي الأحوازي في اختيارات أخرى، بل إن الأحوازي العربي يجد نفسه، بوعي منه أو من دون وعي، سجين هذه الأنماط من المعايشة الفردية الاجتماعية، ولا خيار له، منبعثا عن ذاته، وصيرورة مجتمعه التاريخية، يختار منها ويكون بدائل على أساسها، لا على أساس ما يأتيه من المجتمع الفارسي المتغلب وصاحب الحكم، الذي بنى حكمه ومجتمعه على أساس نكران القوميات الأخرى.
-
التصهير الثقافي
يعني هذا الطور من التذويب، وفق صياغة جوردن التي أُطبقها هنا على الحالة الأحوازية هنا، تبني الأنماط الثقافية للفرس، والإيمان بمعتقداتهم الدينية الإلحادية، فضلا عن التقيد بسلوكيات الحكم الفارسي التي تحكم منطقة إيران. فكثير ما حدث ويحدث في الحالة الأحوازية التباس النمط الثقافي الفارسي لدى الأحوازيين، من ملبوس وعادات وتقاليد. فأولى سمات هذه الحالة هو الابتعاد عن الزي العربي، فيما يتعلق بالملبوس، وارتداء الزي الفارسي الإفرنجي لدى الرجال، وجنوح الأكثرية الساحقة من النساء الأحوازيات إلى إرتداء الـ«مانتو» بديلا عن الزي النسائي الأحوازي العربي؛ وإذا استحضرنا فرض الحكومة الفارسية الإيرانية أنواع معينة من الملبوس أدركنا حينها أن هذا النوع من التذويب يبدو هادفا وواعيا تنفيذه السلطات الفارسية. ففي العهد البهلوي كانت السلطة الإيرانية تفرض اللباس البهلوي على جميع القوميات بفرض القوة العسكرية، وفي عهد الملك البهلوي الثاني كان التشبه بالغرب يأتي بشكل ناعم عبر الاستهزاء بالزي التقليدي، والترويج للزي الغربي وتصويره حالة من التطور الحضاري ومواكبة العصر المتقدم. أما عهد الجمهورية الإسلامية، فمن جهته، تأثر كثيرا بموجات العولمة وبات الزي الرسمي حالة وسط بين الخمار الإسلامي وبين المانتو الذي روجت له السلطات بإعلامها ومؤسساتها فباتت الفتيات الأحوازيات، ممن يدرسن ويعملن ويحضرن في الساحة المجتمعية العامة، مضطرات على ارتداء مثل هذا الزي، وتحول هذا الزي إلى الأكثر رواجا بينهن.
أما على مستوى التقاليد فبات الأحوازي بصفة عامة يبتعد عن السلوكيات العربية، التي نحصرها في ثلاث، كأبرز الأمثلة واختصارا على تعديد باقي الأمثلة، وهي الابتعاد عن الفخر بالكرم، وشطب بعض التقاليد الخاصة بمراسم التدفين نظير الهوسات، والابتعاد عن المخالطة مع غير الأسرة والأقارب الأدنى. ففي العادة الأولى تأثر الأحوازي بالفرس وبات يرى في الكرم، الذي هو صفة ممجدة في التاريخ العربي وحاضره، خلة غير محبذة تجلب خسائر مادية لا تدر بمقابل للفرد؛ فبينما كان الأحوازي إلى قبل عقود يدأب على إقامة المؤدبات والجد في «العزائم» إلخ، بات اليوم يرى في ذلك أمر غير ضرور بل حالة عبثية، بتأثير من الفرس الذين تندر عندهم هذه الحالة. وإذا عزونا ذلك إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة، فإن سريان الابتعاد عن الكرم وعدم المرور فيه قد سبق هذه الأزمة وليس من صنعها، بل إنها زادته وعززته. ثم إلى جانب ذلك أصحبت مراسم التدفين للرجال، التي كانت تتم بأهازيج معروفة وببعض العادات الأخرى، باتت هذه المراسم خالية عن كثير من المظاهر العربية، وأصبح المتوفى يُدفن على طريقة تشبه الطريقة الفارسية. وبالإضافة إلى كل ذلك تأثر الأحوازي بعادة في الفرس موطدة، وهي اختصار علاقتهم الاجتماعية على الحلقة الأقرب من ذويهم، وترك المخالطات الطويلة العريضة التي يمتاز بها الأحوازي على طول تاريخه، حيث تبقت شذرات من هذه الخلال، بالرغم من تأثرها السلبي هذا، يعمد فيها الأحوازي على «البدوة» ويتعرف من خلالها على مختلف أبناء المناطق الأحوازية، وتمتد بينهم الزيارات والتواصل؛ ويتجلى هذا الجانب في حالات أخرى هي ترك الأحوازيين عادة السلام على كل غريب أو قريب يمر منهم، والتعرف على الجيران وتتبع الصلة بينهم جميعا على طول المنطقة السكنية، على عكس الفرس الذين قد لا يعرفون جارا لهم يسكن في شقة من عمارة الفاصل بين شققها مترا واحدا.
أما في جانب التقيد في السلوكيات الدينية، فأكثر ما يظهر ذلك في أمرين مناقضين: الغلو في المعتقدات الشيعية، والنيل من المعتقدات الشيعية. ولا يخفى أن هذا الأمر المناقض هو حصيلة الأجواء الدينية الفارسية في المجتمع الإيراني الفارسي الذي يصطف فيه من يناصر الدين بشكل غال، ومن ينفر منه بشكل يتهجم فيها على أسس المذهب. على أن هذا الجانب الديني في الوضع الراهن من حياة الجمهورية الإسلامية التي تشهد أزمات عديدة، منها أزمة الشرعية الدينية، انعكس بقوة على الأحواز، حتى باتت فئات من الأحوازيين تتصف بمواصفات المذهب الشيعي بنسخته الإيرانية، فيسيرون حالات بدعة نظير زيارة الأربعين، وظاهرة المواكب، وغيرها من التصرفات المذهبية الغالية، وبين فئات أخرى ترى في الدين مطية استغلها رجال الدين من أجل نزواتهم الشخصية ومصالحهم الفردية.
أما من حيث التقيد بسلوكيات الحكم المقام فإن ذلك لا يختصر على الجانب الثقافي فحسب، بل إنه يتسرب إلى كافة مناحي الحياة الفردية والاجتماعية معا، سواء تعلق الأمر بالمراسيم الحكومية التي تصدر فتحدد السلوكيات المقبولة من حيث القومية أولا، أو بتلك الجوانب التي تفرض الحكومة فيها معايير ثقافية هي التي يجب أن تنفذ، على رأسها ضرورة التحدث باللغة الفارسية، أو التعلم بها دون اللغة الأم، أو صدور المحادثات الرسمية بلغة الدولة دون باقي اللغات إلخ.
-
التصهير البنيوي التركيبي
ويجري هذا النوع من التذويب والتصهير على المستوى البنيوي، حيث يكون الفرد جزءا من بنية مقامة في بنيات المجتمع والدولة الفارسيتين، سياسية واقتصادية وثقافية إلخ، هي التي تستحيل الفرد بما فيه، وتصوغه بقوالب محددة، ومن ثم تفرض عليه أشكال معينة هوويا. ففي البنية المجتمعية أصاغ الفارسي الإيراني صياغة معينة من الظهور المجتمعي، جعلت الزي العربي علامة على التخلف، كما جاء أعلاه، وباتت اللغة العربية لغة دخيلة ليست من لغات الأرض المسماة بإيران، ومن ثم فإن الأحوازي الذي ينطق العربية، إنما حدث ذلك له نتيجة القرب من العراق وشبه الجزيرة العربية، ولذلك دخلت عليه هذه اللغة، وجعلته بعيدا عن أصله الفارسي. إن البنية المجتمعية التي كونها النظام الإيراني الفارسي أرادت، بوعي تام منها، مسخ الهوية العربية الأحوازية، عبر عملية طويلة من الإزدراء، إزدراء كل ما هو عربي، وإحلال الهوية الفارسية بدلا عنها، وتصويرها هي الهوية المعيارية الصحية لكل سكنة إيران. وبناء على هذه العملية صور النظام الإيراني الشعب الأحوازي مجموعة من العشائر التقليدية التي لم تصل إلى مستوى الأمة، وبات يصنف نمط الحياة الأحوازي نمط حياة قديم غير مدني، ليس له إلا الدخول في الفارسية، لغة وثقافة ومستقبلا، إذا ما أراد التقدم ومسايرة التطور الراهن إيرانيا وعالميا.
أما من حيث البنية الثقافية فإن عملية الإزدراء الممنهج تلك سرعان ما صورت الثقافية الفارسية هي الثقافة المدنية، وهي الثقافة صاحبة التاريخ واللغة، على عكس الثقافة الأحوازية التي لا لغة لها، بل كل ما لديها «لهجة هجينة ممتزجة من الفارسية والعربية»، خالية عن أي تاريخ أوكُتاب كبار أو شعراء أو تاريخ معرفي إلخ، مما يجعلها أمام قدر محتوم هو الاستحالة بالفارسية. وفي معاينة كيفية تكوين البنية السياسية الإيرانية فإن ذلك قد تم عبر عملية بناء الأمة الدولة التي نفذها النظام الإيراني، وهو ما يزال يتتبع تنفيذها، على محور واحد تتفرع عنه باقي الأمور: وهو محورية اللغة الفارسية، وما يتفرع عنها من أمة ومجتمع وتاريخ ومستقبل. إن إمضاء عملية صناعة الأمة، تطلبت محو كافة الأمم التي قطنت في هذه المنطقة ومن أجل ذلك كانت تعني صناعة الأمة بناء أمة إيرانية فارسية وإماتة أمم أخرى غير فارسية، هي بالذات العربية والكوردية والتركية.
-
التصهير عبر التزاوج
لعل من أخطر أوجه الذوبان الهووي الجاري في الأحواز يعود إلى هذه الظاهرة التي باتت تتعاظم في وقتنا اليوم، وهي تلك الظاهرة الشؤمة التي يقدم عليها أحوازي بالتزاوج مع فارسية من غير العرب. ولربما يبدو هذا الأمر قضية إنسانية وخيار فردي من صلب الحريات الفردية التي يسلم الكل بها، بيد أن ذلك بالرغم من التصريح بأحقيته يبقى ذا دلالات عظيمة لا بد من وضعها في سياقها الصحيح.
ويرجع تعاظم هذه الظاهرة إلى الحالة الاجتماعية السائدة التي يتغلب فيها حضور العنصر النسوي الفارسي على الأحوازي، في الجامعات والدوائر والأسواق وجميع الساحات العامة. وفي ظل هذا الحضور المتفوق قد يصدف لشاب أحوازي التعرف على فتاة فارسية، تدوم علاقته بها، فينتهي ذلك بالزواج بينهما. ولعل لذلك التشدد الأحوازي بالعلاقات بين الجنسين دور في تجنب الشاب الأحوازي إقامة علاقات مع شابة أحوازية، لما له من تبعات كبيرة عليه وعلى أسرته، وقد يعود لتمتع الفارسية بتقدم في شتى جوانب الحياة على الأحوازية، لتجذر الأبوية عند عرب الأحواز أكثر من الفرس.
وأيا يكن السبب الكامن وراء تفاقم هذه الظاهرة فإن لها تبعات لا بد من التحذير منها: أولا تشير جميع الانطباعات، في ظل غياب مراكز تقدم احصاءات بهذا الشأن وباقي الشؤون الأحوازية، تشير إلى عدم نجاح الزواج من هذا النوع: وذلك إثر تباين الثقافتين الفارسية الإيرانية والعربية الأحوازية. ويسوق هنا أن تذكر بعض تلك جوانب الاختلاف بين تلك الثقافتين على المستوى الأسري: فبينما تكون البنت العربية الأحوازية قنوعة اقتصاديا، نتيجة الظروف الاقتصادية البائسة التي يعيشها معظم الأحوازيين، تطير البنت الفارسية بطلباتها الاقتصادية، وتشتط في التلذذ بمظاهر الحياة الجمالية الاقتصادية. وبينما تكون العربية مطواعة لزوجها، تضحي بطلباتها وأمنياتها من أجل دوام الحياة الزوجية ورعاية الأطفال، تتمتع الفارسية باستقلال ملفت، وجراءة على رفض الحياة الأسرية إذا ما عجزت عن تلبية أهدافها التي كانت تنشدها، وعلى الإقدام على طلب الطلاق على العكس من العربية التي يكون الطلاق لها بمثابة مسبة وعار عليها وعلى أسرتها.
ولا نبالغ إن صرحنا بأن أبرز تبعة على هذا النوع من الزواج، بناء على انطباعات متناقلة ومشاهدة، هي غلبة الشريك الفارسي على العربي: في جعل الفارسية هي لغة الأبناء. وتلك حالة تكثر في الأحواز حيث تصبح لغات الأبناء في الزواج الفارسي العربي هي الفارسية، وذلك لأنها هي لغة التعليم، ولغة الدولة بكلام واحد. ثم إن الملاحظ على من يقدم على هذا الزواج والمضي به هو أنه من صنف أولئك المنغلبين أمام الفرس، وهم من الذين يصادقون بأن الفارسية هي الأفضل من العربية، ولذلك تراهم هم أنفسهم يخجلون من التحدث بالعربية، وينسلخون من العروبة تماما، لسد عقدة الحقارة تلك التي يعانون منها، بنبذ لغتم العربية وثقافتها، والتباس الفارسية بدلا عنها.
على أن الأحوازي، إلى قبيل عقدين أو أدنى كان يرى في الزواج من الفرس عارا وطعنا بالإصالة والسمو، ولم يكن يداني هذا العمل من العرب إلا قلة نزرة ممن كان يسكن المناطق الفارسية. ومناصفة للشعب الأحوازي لا بد من القول أن هناك فئات كبيرة من المجتمع الأحوازي لا زالت ترى في الزواج بين العربي والفارسي مقبحة يجب التجنب منها، وتفضيل الزواج من العربيات.
-
التصهير عبر تحقيق المعرفة الشخصية
وتدل هذه الحالة من الاستحالة والتهصير على تحقيق معرفة شخصية، قوامها بلورة مبادئ إنسانوية عامة، تقدر جميع الأمم والملل إخوة، ونظراء في الخلق. ومرة أخرى نصادق على هذا المبدأ الإنساني النبيل، بيد أن المسالمة عليه في بعض الحالات، نظير الحالة الأحوازية بالضبط، يكون تعبيرا عن سذاجة عمياء، لا تفرق بين الهر والبر. إن القول بالإخوة الإنسانية، وترتيب الأفعال والمعتقدات عليها، في الحالة الأحوازية التي بُنيت على باطل، وعلى أساس تفضيل القومية الفارسية على العربية، وما ترتب عن ذلك من ظلم تاريخي وجرائم طويلة ضد الشعب الأحوازي، هو ضرب من السذاجة، ونوع من التخاذل المصحلي عن خوض الكفاح، والتكفل بالنضال ضديد هذه السلطة الفارسية التي أنزلت بالشعب العربي الويلات.
ولعل أكثر الحالات هذه التي يكون الفرد الأحوازي فيها صاحب دعواة عالمية إنسانية، تحدث بين المتعلمين، حيث يأتي هؤلاء بدعوات غير موضوعية، تريد التوحيد بين بني البشر، والخروج بعالمية القيم، والمساواة بين جميع القوميات. ولا يسعنا في الحالة الأحوازية إلا القول بأن هذه شكاة ظاهر عنك عارها. لا يمكن في مجتمع وحكم بني على أساس تفضيل قومية على أخرى، وعلى أساس نكران ثقافة وإزدرائها والتمجيد بأخرى، الحديث عن المساواة والإخاء؛ وذلك لإنعدام أولى شروط مثل تلكم القيم، وهي الحرية، الحرية القومية، وما يتبعها.
إن هذه الحالة من التصهير التي يكون الفرد والجماعة فيها مماثلين باعتقادهم في قيم عليا، نظير اتفاق بعض الأحوازيين مع الفرس بمبدأ الحريات الفردية، وحرية الضمير، كما حدث ذلك في فترة الإصلاحات من الحكومة الإيرانية، ونظير ما يحدث الآن بين بعض الجهات الناشطة اجتماعيا، هي حالة متناقضة، لأن قوامها إزدواجية في القيم، التي لا تكون ماضية ومحترمة إلا إذا ما خدمت فئة هي صاحبة الهيمنة، على حساب فئات أخرى. فإذا سلمنا مثلا في هذه الحالة من التصالح المعرفي بضرورة المساواة بين جميع من يقطنون إيران، نكون هكذا قد ضيعنا جميع الحقوق التي سلبت بموجب تاريخ طويل من الاحتلال، ونكون قد ساوينا أنفسنا بالمستوطنين الذين نهبوا الأحواز وسكنوا فيها وأصبحوا أسيادا، لنأتي نحن ونضع أنفسنا في موضع متساو وهمي معهم، لا يأتي إلا بمزيد سلطة لهم وهيمنة.
ثم إن القول بالإخاء الأممي الكلي سيعني الابتعاد عن المطالبات القومية الجزئية التي يجب أن ينطلق الأحوازي منها، للمطالبة بأي مطالبات تتعلق بالحرية والمساواة والعيش الكريم والهوية المصانة. ثم إن تتبع التصرفات المجتمعية في المجتمع الإيراني الفارسي تثبت لجميع الذين عايشو أفراد هذا المجتمع وجماعاته تجذر النظرة الاستعلائية للفرس على حساب القوميات الأخرى، وتبنيهم جميعا نكران وجود ثقافات غير فارسية لها الحق في تقرير المصير، أو التميز الثقافي الخاص بها، أو تعلمها بلغتها وموادها الدراسية الخاصة بتاريخها، وما في معنى ذلك، من أولى أساسيات التعددية التي تنطلق من عالمية مبنية على أساس تعددي.
-
التصهير عبر التصالح النفسي
ويعني العالم جوردن في هذا الطور من الذوبان، غياب التعصب الظاهر في انتماء الفرد والجماعة، إلى قومية أو معتقد أو أمة إلخ معينة. ويظهر الفرد هنا، عندنا في الحالة الأحوازية في هذه الحالة من التذويب، خاليا عن التعصب العروبي، ومنزوعا عن الانتماء القومي، يعيش في حالة من التصالح مع الفرس الذين أتوا الأحواز غزاة، يصاحبهم في حياته اليومية، ويقضى جل أوقاته بالتسكع معهم، ومعاشرتهم، لا يشعر بأي تنافر معهم، لا على المستوى الهووي، ولا السياسي ولا المجتمعي. إن هذه الحالة من الانفعال السلبي هذا، التي تظهر في طور التذويب الحاصل من التصالح النفسي الزائف، كثيرا ما تظهر في الأحياء التي يقطنها الفرس والعرب بالمناصفة. وهنا نرى أن الأطفال العرب ينشأون بصحبة أطفال المستوطنين، وذلك بمزاولة المواصلة بين ذويهم، وتنشأ بمصاحبة ذلك علاقات وطيدة بين الضارب والمضروب، حتى يتصور المضروب عبر هذا التصالح النفسي يحيى حياة طبيعية لا خلل فيها.
ويبدو على هذا التصالح النفسي أنه على النقيظ من الأطوار الأخرى من التصهير، إذ يظهر عليه أنه منبعثا من ذات الفرد، ومشتقا عن إرداته، وكامل وعيه؛ لأن الفرد هنا يتصور هذا التصالح الذي أبعده عن الانتماء، أو الالتزام بانتماء هو المهيمن، أنه هو قد اختار هذه الحالة من الحياة، وأنه هو بمعزل عن جميع المؤثرات الخارجية قرر بنفسه ما قرره. ومن أجل هذا الأمر بالتحديد يظل هذا التصالح أكثر تجذرا في نفس الفرد، ويبتعد كثيرا عن التناقضات التي تظهر على الأنماط الأخرى. إنها حالة من الثبات النفساني تقترب من حالة الإرجاء، إرجاء التساؤلات أو الاستفهامات التي قد تعكر صفو هذا التصالح، ومن شأنها أن تضعه أمام حالات مستحدثة تقض مضجع السلم النفسي هذا.
ثم إلى جانب ذلك يظهر الفرد الخالي من الانتماء العربي في الأحواز، في هذا الطور من الذوبان، على هيأة انفعال نسبي، وذلك بابتعاده عن تبني القضايا العربية التي قد تخصه، والمطالبات القومية التي ستحسن ظروف حياته العامة، من جهة، وتقدير الحركات القومية والتضحيات الفردية عملا عبثيا قد يندرج في سياقات أمور شاذة تربك الوضع المجتمعي، من جهة أخرى. ويظهر عن كل ذلك أن هذا الطور من التذويب، على العكس من تسميته، فإنه حالة من الاستلاب التي تجعل الفرد يعادي، بموقفه المحايد التصالحي هذا، القومية الأصلية التي ينتمي إليها، ومختلف مظاهر الحياة القومية التي تمثله.
-
التصهير الناتج من التصالح السلوكي
وكما ظهر على التصالح النفسي غياب الانتماء القومي لدى من يمر بالإنصهار الناتج عن التصالح النفسي، فإن التصالح السلوكي يشمل حالة من غياب الشعور بالتفرقة العنصرية، وتحليل ذلك حالة من المساواة. وعادة ما يجري بث هذا الشعور من قبل سلطات النظام الإيراني، والإعلام الإسلامي التابع للنظام أو للمعارضة على سواء، لإيهام ابتعاد النظام الإيراني عن العنصرية، واستناده على مبدأ مساواة بين المكونات الإيرانية على حد وصفهم. ولكن التصالح السلوكي يغتذي بالدرجة الأولى من غياب حالة من الصراع الاجتماعي بين مختلف القوميات والفئات المجتمعية.
إن غياب ذلك الصراع الذي يجب أن يشتعل بين العرب مناهضة للفرس، ينعكس على توهم مضمونه غياب حالة من الصراع بينهما، وبالتالي توطيد حالة من التصالح السلوكي المجتمعي، تقترب إلى صناعة أمة من أصل متنافر غير قابل للتوفيق. على أنه يجب الوعي بأن السبب الأول في حدوث هذا التصالح السلوكي هو غياب أنماط من السلوكيات المقاومة التي تحدد المعايير المطلوبة للفرد والجماعة، وتتيح لهم مستندا مجتمعيا أخلاقيا، مقبولا من لدن الكافة، يكون هو المسبار في الميز بين السلوك المقبول والسلوك التصالحي الناتج عن غياب منافس، الرامي إلى التذويب والتصهير الثقافي والهووي.
وتدأب الدوائر الاجتماعية التي أتى بها النظام الإيراني أو عززها، على خلق نماذج في السلوك القومي، هي أبعد ما يكون عن منح أدنى اعتراف بها، ولا بمختلف مظاهرها أو وجودها، ولذلك فهي تعد الأرضية المثلى التي يتم فيها تنفيذ ذلك الذوبان السلوكي، المغتذي بفعل دوائر اجتماعية جعلت مهمتها المواظبه على مضيه. ولعل في تضاعيف عملية خلق نماذج سلوكية معيارية هو التطرق إلى جعل الفعل البشري مشترطا، يترتب على أساس تخصيص المنح، أو تحديد عقوبات، وهذا هو الأسلوب الذي يتبعه الكيان الإيراني الفارسي برمته من أجل تأثيل السلوكيات المقولبة هذه، إلى أن تنتهي إلى تصالح سلوكي، عار عن أية صراعات باعثها هو التضارب القومي يكثر في الحالة الإيرانية جدا.
-
التصهير المدني
إنه إذا كان التصالح السلوكي يعني في الفقرة السابقة انعدام صراع على المستوى القيم الباعثة على السلوك المناقض، فإن التصهير المدني هنا يعني انعدام الصراع على القوى، السياسية والاجتماعية والتشريعية، في المجتمع المدني، إذا تسالمنا بوجود مثل هذا الحيز في النظام السياسي الإيراني الاستبدادي. إن الصراع المدني الذي يجري في ساحة المجتمع بصفة عامة، ينوب عن تشققات مجتمعية بالدرجة الأولى، قد تكون قومية أو دينية أو طبقية، ولذلك فأينما توجد هذه التشققات التي لا يخلو منها مجتمع، وجدت الصراعات التي تجسدها، والجماعات التي تقوم بها.
ولعل أبرز الفترات التي ظهر فيها هذا النوع من التصهير الآتي من انعدام الصراعات المجتمعية هو فترة الإصلاحات، فبالرغم من عد الكثيرين هذه الفترة من الفترات الخصبة التي نشط بها الأحواز، جماعات سياسية وأحزاب قومية إلخ، بيد أنها كانت فترة ملغمة، حيث خلقت ساحة مشتركات بين فئات من الشعب الأحوازي والفرس، أطلق عليها جبهة الإصلاحات، هي التي سارعت عملية الإنصهار عبر الساحة المشتركة المزيقة هذه. ثم إلى جانب ذلك برزت في الآونة الأخيرة تكتلات شعبية جامعها أمور بيئية أو ما في معنى ذلك، همشت القضايا الهووية، وأبعدتها إلى فترة معينة من صدارة التعاملات المجتمعية السياسية في الأحواز، بالمساوقة مع خلق رؤى مشتركة عارية عن السند القومي الهووي، جعلت هذه الجموع لا هوية لها وغير واضحة المطالب ولا المنزع السياسي الاجتماعي. ولكن على الرغم من انقضاء هذا الوفاق المقطعي الذي سرعان ما عصفت به الاختلافات القومية المتجذرة، فإنه سيظل اتفاقا قابلا للتكرار ما دام جمع تحت يافطته فئات اقتنعت الامتثال لأفعال آتية من غير الصراع على القوى القومية.
وإذا كان انعدام الصراع على القوى يعني تسريع وتيرة التصهير الهووي على المستوى المدني، فإن إذكاء الصراعات، القومية والهووية على وجه التحديد، سيعني قلب الموازين على عملية التصهير برمتها، وخلق حالة من المصادمات التي من شأنها الحد من وطأة الإنصهار. ولذلك فإن جميع أشكال المقاومة الأحوازية، حتى تلك منها المنادية بأنصاف الحلول، ستظل ممانعة التذويب الهووي، وتصب في مصب إبطاء عمليته، ما دامت تأخذ ذلك بوعي منها، وتقدره رسالة قومية، من أهدافها الحفاظ على أسس الهوية العربية الأحوازية، وخوض صراعات مدنية أو غير مدنية في سبيلها.
ومن جهة أخرى فلا بد من التذكير بأن غياب الصراع المدني، في الحالة الأحوازية، لا يعني قط سريان عملية التصهير مباشرة إثر ذلك، كلا بل قد يكون السبب الرئيس وراء هذا التغيب هو السطوة التي تعود إلى النظام الإيراني، والبطش والكبت الممارسين من قبله بشكل ممنهج، الأمر الذي غيب إلى حدود كبيرة أية صراعات مدنية، من شأنها إضعاف التناحر القومي الهووي، وتصهير المختلفين في وحدة متجانسة تستحيل فيها الجزئيات. ولذلك قد يكون غياب حالة الصراعات هذه بمثابة النار التي تتوقد تحت الهشيم التي قد تضطرم بفعل أي مستحدث أو طارئ، وهذا هو الوضع الفعلي في حياة القوميات القابعة تحت سلطان النظام الإيراني، وهي تعاني من كبت مفرط، جعلها غير قديرة ألبتة على فعل أي سياسة أو إقدام فضلا عن خوض صراع، أو إرباك لموازين القوى.
الإستنتاج
لقد تبين أن العملية الهادفة إلى مسخ الهوية الأحوازية، هي على مستويين واع وغير واع، وقد تبين أن هذه المستويات الاثنين تسير في أطوار سبعة كما حددها العلامة جوردن، أطور لكل منها سماتها وتجلياتها. ففي الطور الأول وهو التهصير الثقافي تكون الركيزة في التذويب الهووي هي تبني الأنماط الثقافية للفرس وتقليد سلوكياتهم العامة؛ إن هذا التقليد الذي يعمل كمرهم لحالة من العقد النفسية التي يعاني منها الأدني، وهنا هو العربي الأحوازي مقابل الفارسي المتفوق، أجل يعمل هذا التقليد على التستر على العقد النفسية للفرد والجماعات، وهو بالوقت ذاته يكون تعبيرا عن الميل نحو الخروج من حالة الوقوع في الهامش والاقتراب من المركز، المركز الثقافي أو الهووي أو السياسي إلخ. وأما في الطور الثاني وهو البنيوي، تكون البنى التي بنيت في المجتمع والحكم هي البوتقة التي فيها تتم عملية التصهير، بالرغم من تصويرها بنى طبيعية لا مدخلية لها بالمسخ الهووي الثقافي. وفي الطور الثالث، وهو طور التزاوج، فإن هذه الظاهرة هي الأخطر لأنها تتم بإختيار يبدو فرديا وإرادة مطلقة، بالإضافة إلى تبعاته على الأبناء الذين عادة ما يتفرسون نتيجة انتماء الشريك الفارسي بمؤازرات تجعل هويته هي الراجحة على غيرها. وفي التصهير الناتج عن تحقيق المعرفة الفردية، وهو الطور الرابع، تتكون مبادئ عامة لدى الفرد الأحوازي تجعله يسارع إلى احتضان هويات أخرى، من مبدأ الإخوة والإنسانية الفائقة. أما التصالح النفسي، بوصفه خامس الأطوار، فإنه يتجلى في غياب التعصب والانتماء القومي، وتجربة حياة من الانفتاح التام، يصور الفرد عالمي الانتماء. إلى جانب ذلك يعني التصهير الناتج عن التصالح السلوكي غياب التميز بين الأفراد والجماعات، بينما يعني التصهير الآتي من انعدام الصراع على القوى، التذويب جماعيا في ساحة المجتمع المدني.
ويعني وجود كل هذه الأنماط المخلتفة من التذويب الهووي والتصهير الثقافي الوجودي، غياب وعي قومي جماعي بين الأحوازيين، هو الذي جعلهم لقمة سائغة لمختلف أنماط التصهير والتذويب. فإذا كانت الأحواز تتمتع ببنى اجتماعية سليمة مشتقة عن واقعها، ومكونة عبر تاريخ صيرورتها، لما أتى النظام الإيراني الراهن بأساليبه المختلفة هذه من لتذويب الهووي، وصفع بذلك مختلف الفئات الأحوازية. إن الوعي التام بمختلف أنماط الإنصهار الهووي هو البداية الصحيحة للتصدي له، والتعرف على أساليبه الخفية والجلية، وتحذير الجماعات العربية بأفرادها منه. وقد تبين أن سريان تلك العمليات الهادفة إلى مسخ الهوية العربية الأحوازية يتم عبر حالات عديدة، قد تبدو في بعضها نتاج الفرد وحصيلة عقله وإرداته، ومن هنا يتبين خطورتها، وضرورة الوعي بها ومعرفة مختلف أطوارها.
حميد سهر
شکرا علی مقاله رائعه