المقدمة
يقع ثلث هور الحويزة في اقليم الأحواز في القرب من مدينة الخفاجية وبشكل خاص مدينة الحويزة، بمساحة تبلغ 120 ألف هكتار مربع، يجاور محافظة ميسان في العراق. وقد كان هذا الهور ساحة معارك طاحنة بين الجيش العراقي والجيش الإيراني ؛ وعقب الحرب ذلك لم يستطع أي الطرفين، العراقي و الإيراني ، المساس بطبيعة هذه المنطقة الحدودية لملاحظات جيوسياسية إلخ. بيد أنه بعد سقوط بغداد عام 2003، تفرد النظام الإيراني، بواقع توفق قدرته، تفرد بالسيطرة والسيادة عليه، وأصبح يجري سياساته كيف يشاء فيه، دونما اكتراث بالجانب العراقي لطبيعة نظام حكمه الجديد الخاضع لإيران. بدأ النظام الإيراني رويدا رويدا ببناء السدود المائية على مصادر الهور، وبات بفعل تلك السياسات يقلص من الحصة المائية الخاصة به، حتى تحول الهور من طبيعته وصار يشبه مستنقعات لا تدركه المياه إلا أيام الشتاء وحال هطول الأمطار الغريزة.
ولكن على الرغم من هذه الحالة الناتجة عن بناء السدود ومنع الحصص المائية من الوصول إلى الهور من المصدر، ظل الهور يتعافى في الشتاء، وباتت تتوفر فيه مياه تغتذي منها المنطقة حتى أيام الصيف الحارة. قد كانت هذه الحالة على هذا المنوال حتى دخل العام 2010، عقيب اكتشاف ثالث أكبر حقول العالم، في هذه المنطقة، حيث قررت إيران إسناد عمليات التنقيب عن النفط إلى الشركات الصينية، حينها بدأت الازمات تترى على الشعب الأحوازي سلبت منه الكثير من مصادر رزقه.
ولكن على الرغم من جفاف الهور بالكامل على يد النظام الإيراني، ظل النظام يخفي هذه الحقيقة المريرة غير مكترث بما حل بالأحوازيين من جراءها، حتى أخذ جفاف الهور يترك تبعات وصلت إلى المناطق الإيرانية المجاورة الأحواز، فجعل هذا الأمر، أمر التبعات الحاصلة من جفاف هور الحويزة التي أكثر ما تجلت به على ظاهرة الكثبان الرملية إلخ، جعل الساسة في النظام الإيراني أمام تبعات قراراتهم الاستعمارية. وهكذا سُلطت الأضواء الإعلامية الإيرانية، وتبعا لها العالمية، على هذه السياسة المدمرة، وبات الجميع على علم بتجفيف الهور ومنع وصول المياه إليه. فبينما كان النظام لا يعترف بتجفيف الأهوار، محيلا ما جرى عليه إلى السدود التركية تارة، وإلى العوامل الطبيعة وقلة الأمطار تارة أخرى، أخذ هذه المرة يسند سوء سياسته التدميريه إلى فعل الحكومات المتتالية في النظام الإيراني، كلا منها يلقي باللوم على السابقة، وهكذا تنصل من مسؤليته القانونية.
وأيا يكن من السياسات التدميرية للنظام الإيراني، فإن الحقيقة الثابتة اليوم هو جفاف الهور بنسبة 90 بالمئة منه، بعد أن بات الجميع على معرفة بأسباب ذلك، المتعلقة بكشف حقل نفطي حويزة (حقل آزادكان) وتعمد الطرف الإيراني بمساندة الشركات النفطية الصينية بتجفيف الهور، بدلا عن التنقيب الذي يجري في البحور غير الملزم الجفاف، نظرا لتقلص كلفة تجفيف مياه الهور بالمقارنة مع الطريقة الأخرى. وصحيح أن البعض يعزي الجفاف هذا إلى أسباب أخرى، كثيرة ولها وزنها أحيانا، بيد أن تتبع مختلف السياسات وتوالي مختلف المشاريع التي نفذت في الأحواز، وفي الهور على وجه التحديد، تعطي ثقلا كبيرا أولا: للتأثير المباشر لاكتشاف الحقول النفطية على البدأ السريع بتجفيف الهور؛ وثانيا إلى هذه السياسة البشرية العامدة المستهترة بالطبيعة، التي جعلت من الأهوار والمياه عرضة لكسب مزيد من الثروات عبر طريقة النهب الصراح. وفيما يلي نركز الضوء على التبعات التي تركتها السياسات الإيرانية الخاصة بالطاقة على الأحواز وأهوارها.
-
قطع مياه الكرخة مصدر هور الحويزة
لقد آثر النظام الإيراني تدشين سد على مصادر نهر الكرخة التي منها يغتذي هور الحويزة، ولقد حدد النظام الإيراني العبث في المياه الواصلة إلى الكرخة بحجج قال فيها أن الكرخة هي من «الأنهر الوحشية» التي تأتي بالسيول في عام وتتسبب في الجفاف في عام آخر، مما جعل الحل الأمثل لهذه الطبيعة بناء سدود تكون بمثابة المتحكم بسيولها وجفافها. بيد أن هذه الطريقة في التبرير سرعان ما تبين كذبها بسبب التبعات التي جلبتها السدود هذه، وعلى رأسها سد الكرخة، الذي أول ما أتى به هو جفاف هور الحويزة الحاصل من منع المياه بالتدفق نحوه. ولعل هذا التعمد في التجفيف هو الذي سير تلك المظاهرات الشهيرة من الأحوازيين ضدا على هذه السياسات الفاشلة. ويعني هذا الجفاف في الكرخة انعكاسا على حياة مدن رئيسة في الأحواز التي منها يمر هذا النهر، وهي الحميدية والعين والخفاجية والبسيتين وخسرج وغيرها من المدن والقرى الكبيرة التي يتحصل أهلها أرزاقهم عن طريقها بالزراعة والصيد وتربية المواشي وغير ذلك، حيث يترزق عدد سكاني قد يفوق 500 ألف نسمة من الكرخة وفق تقدير أولي ومئات الآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية. ثم إلى جانب ذلك فقد تبين أن هذا التخزين للمياه ومنعها من الوصول إلى الكرخة لم يكن يقصد إيصال المنفعة إلى المعنين بها بالدرجة الأولى، عبر منح حصص معنية لحقولهم الزراعية، أو ترك أيام للصيد لهم، وما شابه ذلك، بل المشاهد هو تخصيص مياه الكرخة إلى الحافظات الإيرانية الأخرى، أو تمتع بها بالتزامن مع منع الأحوازيين عنها، أو أنها مياه ذهبت للتبخير بفعل الإدارة الإيرانية الفاشلة.
-
الكثبان الرملية
لقد بات عيانا للجميع أن ظاهرة الكثبان والعواصف الرملية التي لم تعهدها الأحواز إلا خلال السنوات الأخيرة ليست كما يدعي النظام الإيراني صنيعة الطبيعة والتغيرات المناخية كما يدعي ذلك صباح مساء أو حصيلة الكثبان الآتية من العراق بل يمكن الجزم بأن المسبب الرئيس في ذلك هو سياسة التجفيف هذه بحد ذاتها: سياسة تجفيف هور الحويزة الذي، حول الهور، بفعل منع المياه عليه، إلى أرض قاحلة صحراوية تتطاير منها الكثبان والأتربة الرملية. (راجع المقالة التالية: منشايابي ريزكردها با استفاده از تصاوير سنجنده AVHRR ماهواره NOAA: مطالعه موردي جنوب غرب ايران، محمد حسين رضايي مقدم مجتبى مهديان بروجني، مجلة جغرافياي وبايداري محيط، العدد 4، اسفند 99). على أن ظاهرة الكثبان لا تقتصر على الجفاف وانعكاسا له فحسب، بل فيها من التبعات الكبيرة: منها انتشار واسع للأمراض الرئوية، وارتباك عمل الجهاز التنفسي للأفراد وما ينتج عن ذلك من ارتباك الجهاز المناعي فقد خرج تقرير في الإعلام الرسمي الإيرني، الإذاعة رقم3، أن الأحواز العاصمة سجلت رقما قياسيا في إحدى أيامها المتربة بمراجعة أكثر من 13 ألف شخص إلى مشافي الأحواز يعانون من ضيق تنفس. كما أن الظاهرة هذه لها تأثيرات هدامة على النباتات، فضلا عن الزراعة وتربية المواشي وكذلك على تكرار انقطاع التيار الكهربائي ونحو ذلك وهنا تجدر الإشارة إلى هذه القضية قليلا لما لها من تبديل الحياة اليومية الأحوازية إلى حياة لا تطاق: كلنا نعرف أن ظاهرة الكثبان تحدث، أكثر ما تحدث، أيام الصيف الذي تبلغ درجة الحرارة في الأحواز فيه إلى ما فوق الخمسين، وفيها تأتي سحب من الكثبان تغطي كامل السماء الأحوازية، وبالتزامن مع هذه الظاهرة التي يهرع الناس إلى بيوتهم هربا منها، يتم قطع التيار الكهربائي، ومن ثم انقطاع أجهزة التكييف، مما يعني وقوف الأحوازي أمام خيارين: المكوث في بيته الذي تبلغ درجة حرارته أكثر من 50 واحتمال إصابته بإغماء، أو الخروج إلى الساحة العامة خارج بيته أو الشارع واحتمال إصابته باختناق من الكثبان.
-
تدمير الحياة المائية
ومما لا شك فيه أن هذه النسبة من الجفاف التي عصفت بهور الحويزة، وهي نسبة تصل في الصيف إلى ما يفوق 95 بالمئة، هي أكبر تحد أمام الحياة المائية الخاصة به، تتجلى في نفوق الأسماك، كظاهرة يشاهدها الجميع، بينما الأمّر في ذلك هو نفوق عدد كبير من الحيوانات المائية التي آلت إلى الانقراض، أو أنها أصبحت مهددة به. ولعل ما جلب انتباه الرأي العام إلى واقع موت الحياة المائية في الأهوار الأحوازية هو بث مقطع مرئي أظهر نفوقا جماعيا للأسماك في الهور مما استجلب تعاطفا كبيرا، بينما الذي خفي عن هذا النفوق هو أكبر من ذلك، فبالإضافة إلى الحيوانات المائية هناك أنواع من الحيوانات البرمائية التي عاشت في هذه المنطقة من أقدم العصور، وباتت اليوم في عداد الحيوانات المنقرضة أو المهددة به، وسط تجاهل تام من المنظمات الإيرانية المعنية، فضلا عن المنظمات العالمية. ولم يكن هذا النفوق محصورا بالأنواع المائية التي قد لا يعرفها إلى المختصين في هذا الشأن، بل انعكس ذلك على أنواع الأسماك التي اعتاد الأحوازي تحضيرها في طبقه اليومي؛ لأن الملاحظ هذه الأيام ندرة الكثير من السمك، كالبني والصبور والكطان وغيره من الأنواع السمكية التي انعدمت بفعل تغير حال المياه في هذه الأهوار.
-
تدمير الحياة الزراعية وتربية المواشي
ثم إلى جانب ذلك الدمار الذي حل بالحياة المائية، لعل النصيب الأكبر من المصائب المشهودة نزل بالمواشي، خاصة منها الجاموس الذي ينشأ على القرب من المياه، ويتطلب استمرار حياته الدوام على العوم في الأنهر. وتمتاز منطقة الأهوار، منذ أقدم العصور، بتربية الجاموس، حيث أن معظم أهالي الأهوار، وحتى المناطق القريبة من الأحواز العاصمة، تعيش على تربيتها، وتحصيل أرزاق حياتها عما تدر به الجواميس من ألبان ولحوم ونحو ذلك. ولعل الخطير في كل ذلك هو العدد الكبير من الجاموس في جميع مناطق الأحواز، وما يقابله من الأسر التي تعيش على مصدر الرزق هذا: فحياة الجاموس تمتد من أقصى شمال الأحواز العاصمة من مدينة السوس وصولا إلى الأحياء الواقعة على ضفاف كارون، مرورا بالأهوار ووصولا إلى المحمرة وعبادان ما يعني مثابة هذا النمط من الحياة المعتمد على هذه الطريقة في كسب المعاش. ففي احصاء قام به النظام الإيراني، تبين أن أكثر من 40 بالمئة من إجمالي الجاموس في إيران تعيش في الأراضي الأحوازية. ثم إذا أخذنا بعين الاهتمام تربية الجاموس كنمط في الحياة أو أسلوب في الوجود، للعاملين به والقائمين عليه،سمات سلوكية معنية وأنماط تصرف ممتاز، تعكس بكل ما فيها جانب من التاريخ والحياة والحضارة الأحوازية، عرفنا حينها أن هذا العبث بهذا الجانب الطبيعي من الحياة الأحوازية هو مس بطابعها العام، وما تحمله من سمات بها تتميز عن الآخرين.
-
زيادة نسبة الأملاح في المياه العذبة
فی ظل توالي المصائب جراء تجفيف الأهوار، فإن منع المياه من الوصول إلى مصبها الطبيعي جعل من المياه الجوفية إلى جانب مياه الأنهر مرتفعة المنسوب من حيث نسبة الأملاح: ففي تقرير لجامعة أمير كبير الإيرانية عزى أحد المختصين بهذا الشأن هذه الظاهرة إلى سد كتوند، حيث قال أن الموضع الذي دشن فيه السد لم يستند على دراسات كافية، جعل التبعات المحتملة منه غير مدروسة؛ ومن أول هذه التبعات هو زيادة نسبة الأملاح. وبالإضافة إلى ذلك فإن القباب الملحية التي تكومت في هذا السد استطاعت التسربل إلى نهر كارون، حتى جعلت مياه الشرب منه غير صالحة، ومن ثم زادت احتمال تسبب ذلك بتبعات على الصحة العامة لم تظهر معالمها بعد. ليس هذا فحسب، بل إن منع المياه من التدفق نحو الخليج العربي، هو الآخر، تسبب بانخفاض منسوب مياه كارون، وتسرب مياه الخليج المالحة إليه، مما زاد في حدة نسبة الملوحة في المياه في الأحواز، والمياه في المحمرة وعبادان. وهذه الزيادة لا تعني فقط تلوث المياه العذبة الصالحة للشرب، بل تعني أيضا موت الحياة المائية، ونفوق الكثير من الأسماك، وانعدام إمكانية استخدام هذه المياه إلى الري، لتتشابك هكذا جميع الأمور بالمياه.
-
البطالة
إن هذا الكم من العبث بالطبيعة في الأحواز، والقضاء على الهواء النقي، وتجفيف الأنهر والأهوار، وانعدام مصادر رزق نظير الصيد وتربية المواشي والزراعة إلخ، كل ذلك يعني، أولا وقبل كل شيء، البطالة بالنسبة لجميع أولئك الذين يعيشون زراعة أو صيدا أو رعيا إلخ، ولا شك بأن انعدام مصادر الرزق يعني ميلاد تبعات إجتماعية ومعيشية مهولة تبتدي بانعدام الأمل بالحياة والجنوح نحو الانتحار ولا تنتهي بزيادة نسبة الجرائم، بل تتتوج بالميل نحو الهجرة من الأحواز، وهذا مبتغى النظام الإيراني وغايته. وتشير الاحصاءات الرسمية الإيرانية إلى زيادة نسبة البطالة بين المزارعين الأحوازيين بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، بسبب رئيس هو الجفاف المصطنع. وهذا ما جعل «خوزستان»، وفق تسميتهم لجانب من الأراضي الأحوازية، تحتل الصدارة في المناطق الأكثر بطالة. ثم إننا إن علمنا اختصاص الأحوازيين أهل الأرض دون غيرهم بالزراعة ورعي وصيد، عرفنا حينها أن معظم تلك التبعات فهي ذاهبة ضد الأحوازيين دون غيرهم من المستوطنين.
في هذا الصدد، أكد الناشط البيئي الأحوازي ناصر عبيات ، في مقابلة مع مراسل ” باشكاه خبرنكاران جوان” في الأحواز: “إن تصرفات هيئة المياه والكهرباء ووزارة الطاقة في خوزستان (محافظة شمال الأحواز) في تجفيف مستنقعات هور الحويزة غير مسبوقة في التاريخ وذلك تسبب في بطالة 20 ألف شخص.”
وأضاف: “إن العديد من الأحوازيين من سكان القرى المجاورة لهور الحويزة ، الذين اعتادوا كسب عيشهم من خلال صيد الأسماك والزراعة وبناء القوارب وحصاد النباتات الطبية ، هاجروا الآن إلى محيط كارون ومدينة الأحواز جراء انعدام فرص الحياة وفقدان الماشية ، وخاصة الجواميس”. أكد عبيات كان من الممكن منع مثل هذه الحوادث من خلال اتخاذ سياسات مختلفة للموارد المائية من قبل الدولة والمسؤولين القائمين على ادارة المياه.
يتبين عن كل ذلك أن سياسة تجفيف المياه لم تكن سياسة خاصة جزئية، تتعلق بالحصول على مزيد من النفط المتوفر في الأحواز فحسب، بل إن سياسة التجفيف هذه هي الضارة النافعة بالنسبة للنظام الإيراني، حيث تحصل بها، من دون أن يقصد، أكبر قدر من النهب الممنهج للإنسان الأحوازي وخيرات أرضه: فهذا هور الحويزة الممتد عمرا إلى الاف السنين وقد جففه النظام خلال أعوام يسيرة فقط، وحوّله إلى أرض قاحلة تتطاير منها الكثبان الرملية، ومقبرة للحياة البرية والمائية الممتدة فيه، ومنعدم لأنواع نادرة من الحيوانات المائية التي تتفرد بها الأحواز بعيشها فيها.
اخيرا
وهكذا تموت، بل يَقتل النظام الايراني، الحياة الأحوازية حيث يجفف المياه ويمانع تدفقها، لينتهب الخيرات التي في جوفها، فيقتل الحيوانات التي ارتضت بالأحواز موطنا طبيعيا لها، ويرمي الإنسان العامل بشتى صنوف الملوثات في الأجواء ليحاربه في صحته، ثم يردفه بأخرى: بفاقة الفقر، فيجعل منه إنسانا منهمكا لا يتدرج في أدنى مراتب الحياة التي يجب أن يتحصل عليها البشر.