الخميس, ديسمبر 19, 2024
دراساتالظهور المتزايد للمظاهر القبلية في الأحواز: نظرية الانتشار الثقافي والمجتمع الأحوازي

الظهور المتزايد للمظاهر القبلية في الأحواز: نظرية الانتشار الثقافي والمجتمع الأحوازي

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المدخل

تشتعل النار هذه الأيام في الأحواز وتتَقِدُ بتفاقم الصراعات القبلية المَقيتة التي أصبحت حديث الساعة، بما فيها من قتل للشباب على يد شبان آخرين من قبائل أخرى، ومناحرات عادت بنا إلى قرون الظلام؛ تلكم القرون التي طغت فيها القبيلة فكانت الوحدة الاجتماعية المسيطرة التي تصطبغ المجتمع بطابعها وتجعل منه اجتماعا قبليا يمثل أولى مراحل التدرج الإنساني الحضاري.

ما سبب هذا التفاقم المستأنف لحضور القبيلة والصراعات المنبثقة عنها؟ ألا يعني تكرار هذه الصراعات الدائرة في النطاق القبلي، الجارية بين جماعة وجماعة لا بين أفراد مستقلين، ألا يعني ذلك عودة القبيلة لقوتها السابقة، وطغيان وجودها على المجتمع بما تحمله؟

إن إجابتنا في هذه الدراسة عن هذا التساؤل بنعم. نحن نعتقد أن هناك عودة حضور للقبيلة في الساحة المجتمعية الأحوازية، واستفحال للأدوار التي تؤديها، بلغت هذه العودة الذروة عند المعاركات القبلية التي باتت تحدث كل يوم، في الساحات العامة وفي مختلف الأحياء، خاصة في الأحواز العاصمة. فما من يوم إلا تناقل الجهاز الإعلامي القبلي، المتمثل بالنقل الشفهي راو عن راو، نبأ قتل شاب، أو «نهب» إمراءة، أو مصادمات بين «الحمايل» في «العشائر»، أو تنفيذ فصل من قبيلة لقبيلة، أو احضار وليمة، أو عزاء لموت شيخ يعطل الحياة العامة بتجمهر حشود القبائل للمواساة إلخ. أخبار كلها تعكس واقعا واحدا: القبيلة في طور التعافي.

وعند أخْذنا عودة الحضور القبلي في المجتمع الأحوازي أخْذَ المسلمات، أي بعد قبولنا هنا بهذه المُسَلَمَةِ التي تصرح بتعافي القبيلة، ونشاطها في تأدية الأدوار في المجتمع الأحوازي شمالا، ما يعني أننا لم نعد نريد هنا البرهنة على وجود ظاهرة في الأحواز اسمها تعاظم النشاط القبلي لأننا قدّرنا ذلك من جملة الأمور الواقعة والواضحة التي لا نقاش فيها، أجل بعد ذلك أخذنا نبحث عن أسباب تلك العودة، وصرنا نستقصي الظروف المساعدة في ذلك التعافي، ورُحنا نتحرى المرجعيات النظرية المساعدة لنا في فهم الطغيان القبلي المجتمعي هذا. وفي عملية الاستقصاء هذه عثرنا على نظرية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية اسمها الانتشار الثقافي، تعود إلى العالم ألفريد بروكر، فوجدناها نظرية تلقي أضواء كاشفة على المسألة التي نحن بصددها.

 

نظرية الانتشار الثقافي     

 ما هي أسباب استفحال الدور القبلي؟ مرة أخرى. لا شك أن في ذلك أسباب عديدة، منها ما هو مجتمعي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنه ما هو ثقافي، والكلام يطول في تعديد تلك الأسباب. ولأن الأسباب في هذه العودة عديدة، فيحق لنا التركيز على جانب من جوانبها، دون غيرها. وفي عملية الحصر هذه، نجيب عن ذلك السؤال بالشكل التالي: إن من أسباب عودة الدور القبلي في المجتمع الأحوازي، ونشوة القبيلة فيها، هو استفحال دورها في الجوار الأحوازي، في العراق بالتحديد، وما بها من دور طاغ على الحياة في كل من محافظة ميسان والبصرة المحاذيتين، انعكس على المجتمع الأحوازي فساعد في استيقاظ القبيلة فيه وتعاظم دورها.

هذه هي الفرضية التي نحاول البرهنة عليها في هذه الدراسة. ولكن قبل البدأ بشرح ما يدلل على صحتها، ومقدرتها على الإجابة عن السؤال أعلاه، لا بد من شرح النظرية هذه على عجالة.

تفيد نظرية الانتشار الثقافي بأن الظواهر الكبيرة في مجتمع ما، التي منها تتفرع العادات الجماعية والفردية، هي ليست حصيلة ابداع محض من قبل الجماعات والأفراد، أو من قبل نطاق ثقافي جغرافي ما، بل كل ظاهرة في حيز جغرافي ونطاق ثقافي مميز هي على تعاط لا غبار عليه مع ما جاور ذاك الحيز والنطاق، حتى يمكن القول إن الثقافات الإنسانية التي تصر على تمايزها عن غيرها هي وليدة سمات أكبر ميزها هو تعاطيها مع بعضها بالرغم من نكرانه. ومن أجل ذلك فإن الثقافات البشرية، سواء منها المغايرة تماما أو منها المتشابهة، هي متأثرة من بعضها ليس على حد التعاطي المشار إليه فحسب، بل وفي إقبالها على مُحْدَثٍ ما، لأنه إقبال يغتذي بعامل براني للمجتمعات المجاورة. فإذا أقبل نطاق حضاري ما، في لحظة من اللحظات، على ارتداء زي معين مثلا، فلا بد أن يكون هذا جائيا من تأثير مجاور جعل الزي هذا يميل إلى هندام معين بعينه[1].

هذا بخصوص المجتمعات القديمة التي كانت المواصلات فيها على غير ما هي عليه عندنا اليوم. ففي هذا الاتصال العالمي الراهن، يبدو في نظرية الانتشار حياة مستأنفة، حيث إن الاتصال العالمي الحثيث جعل عملية نقل الظواهر إلى جانب العادات سمة العصر، وبات الانتقال من حيز لحيز آخر الأصل في الحياة البشرية. فجميع الإفرازات الحديثة اليوم شهيدة على وجود تعاط عالمي بين مختلف الثقافات تظهر في حد التماهي بين الملبوس والتصرف وحتى القيم[2]. ولكن بالرغم من هذه الثقافة العالمية المشتركة، الغربية الهيمنة، يظل هذا التعاطي أقوى وأعمق بين نطقات معينة: فهنا لا يمكن الحديث عن تأثير الأحواز بولاية نيوجرسي مثلا، ولا يمكن القول بتأثير التعددية الغربية على الأحواز لفقدان موضوعية ذلك القول. لكن على عكس ذلك يمكن الحديث بكل موضوعية عن التأثير بين العراق والأحواز، أو الخليج والأحواز، وعلى مستويات عديدة، سواء ثقافية أو مجتمعية أو سياسية حتى[3].

وهنا يظهر عن كل ذلك أن لظاهرة الانتشار هذه شروط:

  1. أولى شروطها أن يحدث الانتشار الثقافي في نطاق طرفين مجاورين جغرافيا، يكون منهم من هو مصدر ومن هو مستورد. ويعد المستورد هو الطرف الأول لما لديه من حرية قبول العنصر الثقافي أو رفضه، بالرغم من أنه من وجهة نظر ابداعية يظل المتأثر لا المؤثر.
  2. تَوفر إمكانية الاتصال بين طرفين، إذ إن استمرار عملية الاتصال، بين مجتمع ومجتمع آخر، تعزز وقوع ظاهرة الانتشار هذه.
  3. وجود تشابه عام بين العنصرين الثقافيين، فالمجتمع لا يختار العناصر الثقافية إلا حينما تكون مناسبة له، أو يوجد نوع من التناسب فيها.
  4. عدم وجود مسافة بين المجتمعات المشتركة في الانتشار، حيث إن المجتمعات تقتبس من المجتمعات القريبة منها، ليس على سبيل الجغرافيا فحسب كما أشرنا، بل على المستوى الحضاري العام: لغة، وتركيبة اجتماعية، ومستوى تنموي إلخ.

 

الأحواز وانتعاش المظاهر القبلية فيها بانتعاشها في العراق    

وبعد هذا التطرق الوجيز لمعنى الانتشار الثقافي عموما، ولشروط الانتشار الثقافي خصوصا، بات مسوقا تماما رصد توفر شروط الانتشار بين العراق والأحواز. لقد أصبح العراق بسوء فعل الدولة الفاشلة فيه مُمهد الأرضية الخصبة لعودة البنيات القديمة ودوائرها للتأثير، وعلى رأسها القبيلة، حتى احتلت هذه البنية القديمة الساحة العامة في كل من محافظة ميسان والبصرة وذي قار، على حد ارتباطها بموضوع حديثنا هنا، وباتت المحافظات هذه تخضع خضوعا كليا لجميع حمولات القبيلة، قضاء وردعا ومحاكم وأعراف، وبكلام واحد احتلت موضع الدولة وأجهزتها وباتت المناطق هذه تشبه دويلات صُغيرة قانونها قبيلتها، وعالمها لا يسع إلا إياها[4]. فعند بحث المجتمع في المناطق المشار إليها لا يكون البحث موضوعيا إلا بعد دخوله من مدخل القبيلة، والالتزام بالمدارس التي درستها ونظّرت لمختلف تحولاتها وأطوارها.

ولأن المحافظات هذه تجاور أهم المدن الواقعة شمال الأحواز (حيث إن البصرة تحاذي المحمرة وعبادان، وميسان تتاخم الخفاجية، وذي قار تتصل بلواء بني لام في موسيان ودكة عباس) فعملية الانتشار تعثر على أولى شروطها الواجبة في اتمام التعاطي الثقافي، ما جعلت العراق مصدرا والأحواز مستوردا. وإذا تساءلنا هنا عن سبب تموضع الأحواز موضع المستورد، أجبنا حينها بأن ذلك يعود إلى موضع العراق بوصفه دولة عربية معترف بها دوليا وحضاريا، وفيها العروبة صفة قانونية من صفات المجتمع والدولة، وهي تتأكد في الدراسة بها وكونها لغة الدولة إلخ. بينما عروبة الأحواز، على الرغم من تمظهرها التاريخي والراهني الذي لا غبار عليه، هي عروبة منقوصة، منقوصة بعدم الاعتراف بها، من جهة، وبعدم تأكيدها ممارسة على خلاف الوضع العراقي، من جهة أخرى. ولقضية الاعتراف الجوهرية هذه يجلس العراق في موضع المصدر الثقافي للأحواز، على نطاق القبيلة.

ولذلك يتصور الأحوازي القبلي أن الأصل هو العراق قبليا، ومنه يتفرع ما في الأحواز قبليا أيضا. ومن هنا جاء هذا الحكم غير الموضوعي القائل بأن ما من فرع قبلي في الأحواز إلا يجد أصلا له في العراق، جاعلا الكلام هذا هكذا يوحي بجعل الأحواز فرعا لتلك. ويصر الواقع التاريخي والمجتمعي بقوة على أن شمال الأحواز يشكل حيزا جغرافيا واحدا مع كل من محافظة ميسان والبصرة وذي قار، من حيث المد القبلي ووحدة القبائل واللهجات والعادات ونحل المعاش وأنماط الحياة، فضلا عن طبيعة الطقس ووحدة الجغرافيا. فلا يمكن بسهولة العثور على اختلاف بين هذه المناطق سوى الحدود المصطنعة. ولذلك يسوق تماما أن نقول إنها منطقة واحدة تختلف عن باقي المناطق العراقية، اختلافها عن الجنوب الأحوازي الذي يجد مده الطبيعي في المناطق الخليجية التي تحاذيه.

أما بخصوص الشرط الثاني من شروط اتمام الانتشار، وهو وجود اتصال بين منطقتين، فالكلام فيه سيكون تأكيدا للفقرة الأولى: حيث إن الاتصال بين هذه المناطق لم يكد ينقطع في جميع التاريخ، وقد تعزز بعد فتح الحدود بين الطرفين، وباتت الاتصالات يومية بينهما؛ اتصالات حثيثة يومية جعلتنا نشهد وصول العراقيين، من أبناء القبيلة التي تمتد بين العراق والأحواز، وصولهم إلى مجلس عزاء أو حفل زواج أقيم في الخفاجية أو المحمرة أو دكة عباس، قبل وصول الأحوازيين أنفسهم لها، والعكس صحيح. على أن الملاحظ على جميع هذه الاتصالات بين أبناء القبيلة الواحدة من العراق والأحواز هو تفوق الجانب العراقي على الأحوازي: ثقافة قبلية وتشعبا بعاداتها، وقوة نطق في العربية، ورسوخ زي عربي، وفوق هذا وذاك سلامة شخصية. أقصد بسلامة شخصية هو تصالح العراقي مع واقع وجوده، ومع كونه فردا عربيا قبليا عاداته هي هذه التي تظهر منه دون روية (الكلام بصوت عال، والحب للنساء واستصغار لها بالوقت ذاته، وخلوه من عقدة الحداثة والظهور بمظهر المدني إلخ) على عكس العربي الأحوازي القبلي القلق الشخصية (المتكلم بهدوء مخافة إثارة ازدراء الفرس من المستوطنين، الظاهر على هيأة مدنية «باكلاس» بعيد عن «المعدنة» وباقي المقيدات التي تطوق التصرف الأحوازي على المستوى الفردي).

ومن هنا يكون المرور إلى الشرط الثالث مرورا سلسا: وهو الشرط الدال على وجود تناسب بين المصدر والمستورد. فالتشابهات هنا هي الأصل والاختلاف، كما تبين، هو الاستثناء. فالوحدة بين قبائل جنوب العراق وشمال الأحواز تظهر في جميع ما يتصل بالحياة اليومية: مأكولا، وعملا ومصادر رزق، وطقوسا قبلية وعادات، ونسبا مشتركا موهوما أو حقيقا إلخ. وبالإضافة إلى ذلك تستمد الوحدة هذه قوتها من الرؤية المشتركة للجانبين تجاه الحياة وغايتها: فغاية القبلي لا تسمو به عما هو فوق قبيلته، بل العالم بالنسبة للإنسان القبلي هو عالم القبيلة وما دونها هو عالم الخارج المسالم طورا المعادي طورا آخرا، العالم النكرة الذي لا معنا لوجوده أو عدمه إلا بما اتصل بها.

ولكن تناول الشرط الرابع لاتمام عملية الانتشار، الخاص بالمستوى التنموي والبنى الاجتماعية بين العراق وبين الأحواز، فهو يحتاج لمزيد شرح نظرا لخطورته.

 

غياب الدولة القومية وجعل القبيلة والقبلية بديلا لها

 يستوجب الشرط الرابع في اتمام عملية الانتشار بين نطاقين، تشابه التركيبة الاجتماعية بينهما، وهي القبلية التي أصبحت الوحدة الاجتماعية المهيمنة في كل من جنوب العراق وشمال الأحواز. وإذا ألقينا نظرة على أسباب استفحال هذه الوحدة في العراق، وتبعا لذلك في الأحواز، وجدنا نقطة مشتركة في ذلك هي دور التدخلات الخارجية.

فبعد إسقاط النظام العراقي السابق وغياب الدولة والحكم القوميين فيه، أصبح المجتمع العراقي جنوبا أمام حالة من الفراغ، تجلى على مختلف الأصعدة أمنيا واجتماعيا وسياسيا إلخ، فراغ سرعان ما تسبب في انتعاش البنى القديمة من قبيلة ودين، بعد أن كانت مبعدة في الحكم القومي العلماني السابق. وبما أن نظام الحكم الذي أعقب النظام المركزي الرئاسي كان نظام حكم تعددي إلى حدود تفوق الاستيعاب العراقي دولة ومجتمعا وأقليات، ما خلق تعدد في مراكز القوى التي لم تكن متمأسسة بعد لأنها حديثة ومتوزعة متبعثرة، أخذت القبيلة (والحكم يصدق على الدين أيضا) إثر ذلك تطغى على المشهد؛ لأن هذه البنية طاعنة في القدم، ملتصقة بالواقع العراقي خاصة في جنوبه. ومن هنا بالتحديد اصطبغ نظام الحكم بصبغتها وأخذت المناصب السياسية أيضا تدار من قبل شخصيات قبلية زادت من نفوذها من جهة، وعملت هي من جهة أخرى على توطيد وتعزيز الدور القبلي والبنية القبلية بجميع حمولاتها. وهكذا أصحبت العملية السياسية العراقية بعد الاحتلال عملية إعادة إنتاج للدور القبلي (الديني) على الساحة السياسية والاقتصادية والمجتمعية، أي على ساحة الدولة، حتى يصح القول إن الدولة العراقية هي مثال ممط من القبيلة المصغرة.

وبتبديل الحكم العراقي من قومي إلى قبلي متمذهب تحولت ظاهرة الانتشار من تلقي الشعب الأحوازي الشعارات القومية والغايات الوحدوية والتوكيد على مكانة العروبة إلخ، أيام النظام القومي، إلى دخول الشعارات المذهبية والتوجه الميليشياوي، واستفحال النظرة الطائفية والابتعاد عن الروح القومية، والاقتراب إلى التحالفات الطائفية التي تقودها الدولة الإيرانية في المنطقة العربية، حتى بات التماهي بين القبلية والتمذهب يجري على قدم وساق، وقد وجد بعض تجلياته في مصادرة بعض الطقوس القبلية لصالح المذهبية. وفي كل ذلك فقد كان قوام العملية هذه ومددها هي القبيلة، سواء من حيث العداد والأفراد، أو من حيث الثقافة والسلوكيات والروح القبلي بما كل ما يحمله من الموروث والعادات القديمة.

ثم إذا كان العامل الخارجي في الجانب العراقي قد فعل فعلته بإسقاط نظام الحكم القومي واحلال القبلي المذهبي بدلا عنه، فإن العامل الخارجي في الأحواز قد نجح في الفعلة ذاتها، وجعل يحول الأحواز، بالتساوق مع ما كان يجري في العراق بعد الاحتلال، من مجتمع معزز بفكرة القومية إلى مجتمع قبلي متمذهب. وهكذا تحولت القبائل العربية التي كانت تنجب آلاف الشبان القوميين، وتخرج هي في انتفاضات وتمردات ضد نظام الحكم غير العربي المحتل رافضة وجوده، تحولت إلى مظان لتفريخ القبليين والمتمذهبين معا، وباتت القيمة المجتمعية تنبع من الانتماء القبلي لا الانتماء العربي. وهكذا أبعدت الفكرة القومية الجامعة من القبائل شيئا فشيئا، وتوطد الانتماء الضيق للقبيلة ونطاقها وتاريخها، كأنها هي الحضارة والدولة بحد ذاتها. ثم قد عزز استهداف عروبة القبيلة في الأحواز، تحول عملية استهداف العروبة من نطاقها المختصر على الموظفين العرب والمحتكين في الفرس، في بدايات عملية استهداف العروبة، إلى ساحة المجتمع العامة حتى بات يستهدف جميع الشرايح المجتمعية المتمثلة بالقبائل الأحوازية.

ولعل انتماء كل من النظام الإيراني الراهن، والتركيبة المجتمعية القديمة في العراق والأحواز، إلى التقليدية البطريركية الدينية، جعلهما ينتميان إلى منبت واحد، هو هذا المنبت التقليدي الذي يقدس التسلسل الهرمي المجتمعي، وينتمي إلى العقل الأسطوري الذي يجد ترجمته على شكل الخرافات القبلية والدينية معا. ولذلك أصبح موضوعيا القول بأن القبيلة (والدين) هما من الفصيلة ذاتها التي تنتمي لها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأنها مبنية على النسب والدين معا.

وهكذا يستوسق الشرط الرابع أمرا، وتتم عملية الانتشار بين مجتمعات قريبة من حيث التركيبة المجتمعية، التركيبة التي قوامها القبيلة المهيمنة على الساحة والثقافة والرؤية الكونية للأفراد والجماعات، تتعاطى جدليا مع الدين بنسخته القبلية، ويكون التبادل هو تبادل طقوس وعادات وسلوكيات بين حيزين متشابهين ضريعين.

هذا فيما يتعلق بالشق الفرعي لعنوان هذه الدراسة، وهو: الانتشار الثقافي بين الجنوب العراقي والشمال الأحوازي، أما فيما يتعلق بالشق الأول الذي أخرناه هنا، وهو الطقوس التي تحيى بها البنيات، فنقصد به الإجابة عن السؤال التالي: إنه إذا كانت عملية الانتشار صادقة بالترتيب الذي شرحناه أعلاه، وهي عملية تدل على استفحال قبلي، فما هي أبرز التمظهرات الدالة على ذلك الاستفحال؟

 

الطقوس القبلية التي بها تحيى القبيلة

إن هذا الاستحفال القبلي لا بد أن يجد تجليا له في المجتمع الأحوازي، وانعكاسا له على أرض الواقع؛ تجليا ينعكس في الطقوس القبلية التي تهب القبيلة الروح، وتمنحها الدوام. إن الطقوس القبلية هنا هي مضمون القبيلة المترجم على أرض الواقع: فإذا تحدثنا هكذا عن مفهوم اسمه قبيلة من دون تعيّن، كأننا تحدثنا عن لا شيء. لأن الاسم سيكون مجردا عن الصفات المحددة وجوده. فإذا قلنا قبيلة هكذا مجردة لم يستفد السامع شيَا، فلا بد أن نستدرك فنقول القبيلة هي وحدة اجتماعية يتعصب لها المنتمين إليها، متباهين بجد مشترك نابذين كل من لم يخرج من صلبه، تسري فيها أنا جماعية تنمسخ فيها ذوات الأفراد، المرأة عندهم سلعة تباع وتشترى قيمتها جمالها إلخ. وهكذا يكون السامع قد حصل على تصور واقعي عن القبيلة يستطيع به ميزها عن غيرها من البنيات والمظاهر المتعلقة بها.

ولكن هذه الصفات التي عددنها أعلاه بشكل وجيز وانتقائي، من تعصب والانتماء إلى جد مشترك وأبوية صريحة إلخ، هي صفات تدل على تفرد قَبَلي: على أنا قبلية لكل واحدة؛ وهذا ما لا نريده هنا، لأن المقصود ليس تناول القبيلة كل على حدة، بل القبيلة بمفاهيمها العامة المشتركة التي تجعل من مفهوم «قبيلة» مفهوما يدل على ظاهرة مشتركة في المجتمع عامة. وعند الحديث عن المفهوم العام، لا عن قبيلة خاصة، منها بني كعب والخزرج وطي إلخ وهي من ضمن القبائل المعروفة في الأحواز، فإن الحديث العام ذلك يستوجب شرح الطقوس القبلية التي هي بمثابة الروح التي نُفخت في القبيلة؛ لأن من دون طقوس قبلية لا وجود لقبيلة من الأساس.

وتعني الطقوس القبلية العادات والأفعال والروحيات التي يتميز القبلي بها، وهي مشتركة بين جميع القبائل باشتراك ظروف حياتهم، يصح الحديث عنها مجتمعة أنها تدل على فتور في البنية القبلية هذه أو استفحال. وبما أننا أبدينا الدراسة بمسلمة قلنا فيها عن تفاقم للقبيلة في الأحواز، فسيكون الحديث المخصص أدناه عن أبرز هذه الطقوس التي تمنح القبيلة والقبلية معا روحا وزخما ماديا ومعنويا. وهنا أيضا بتنا نرى، في إطار الانتشار الثقافي، تأثير العراق والجو القبلي فيه على اشتداد تنفيذ الطقوس أحوازيا؛ اشتداد جاء بعد فتور.

فخلافا للوضع العراقي بعد سقوط النظام السابق، شهدت الأحواز شمالا، فترة ضعفت فيها القبيلة، بالتزامن مع عملية جنوح مطردة نحو نمط الحياة المدني، الظاهر على شكل تعزيز الفردانية، والاحتكام بالمحاكم المدنية، وتقلص نسبة الاشتباك القبلي، وزيادة التمدين ونحوها. بيد أن هذا الجنوح أخذ في الفترة الأخيرة يضعف بالتزامن تماما مع تعزيز الاستفحال القبلي الظاهر على شكل زيادة المعاركات و«الدكات» وتضافر قبلي، وعودة مكانة الشيوخ والصراعات التي يشعلونها لتوطيد مكانتهم، حتى باتت المظاهر الحديثة خاضعة لقولبة قديمة تخدم البنية القبلية نظير اخضاع وسائل الإعلام للشأن القبلي. وفيما يأتي من القول اخترنا أبرز الطقوس القبلية التي استفحلت هذه الأيام في شمال الأحواز، لندلل على تأثرها بالوضع العراقي الذي يشهد حضورا قبليا طاغيا منفلتا.

 

  • الصراع القبلي و دكاته: تضافر القبيلة والتحام عشائرها

تعالت هذه الأيام ظاهرة شؤمة، كل أحوازي، في العاصمة على وجه الخصوص، شهدها أو استشعر مخاطرها المحدقة به وبأسرته، دون جريرة ولا ذنب. ولأن الكلام هنا موجه للأحوازيين فلا نحتاج إلى شرح الظاهرة الإجرامية هذه بتفاصيلها سوى اختلاف تسميتها حيث تسمى في بعض المناطق «طبر» أو نحوها. إن ما نريد التدليل عليه في ظاهرة الدكات، ليس وجودها من عدمه في المجتمع الأحوازي، لأنها متواجدة فيه منذ القدم، كانت قديما تظهر على شكل فزعة ومجابهات مباشرة بالعصي والجِني والسيوف[5]، وأصحبت الآن عبر السلاح الحربي؛ بل ما نريد استبيانه هو أنها لم تكن بهذه القوة، ولا بهذه الطريقة الكثيفة والعشوائية.

ولبيان ذلك نلقي نظرة عليها في العراق، في إطار نظرية الإنتشار الثقافي دائما: تجري الدكات العشائرية في العراق على شكل نزغي، تأتي القبيلة بشبانها تدججهم بالسلاح، ثم تهرع بهم إلى ربوع القبيلة المخاصمة، وبعدها تتم رشاقات الرصاص على البيوت والسماء والأشخاص وكل مكان، برصاص مذنب يترك شعلة حمراء خلفه؛ ثم يأتي الجهاز الإعلامي في القبيلة من الشبان يسجلون هذه الوقعة محددين اسم القبيلة بتفاخر: دكة كذا حمولة أو عشيرة ضد العشيرة الأخرى في منطقة كذا.

أجل هذا الترتيب من الدك لم يكن ظاهرا في الأحواز، لأن الدكة فيها سريعة مغتضبة وبرصاصتين أو ثلاث خشية من الجهاز الأمني المحتل الضارب. لكن هذه الطريقة في العراق أثرت على الأحواز في جزئية الدكة على عدة نقاط: أولا زيادة القائمين بها من شباب القبيلة: فبعد أن كان العدد قليلا لتنفيذ عملية خاطفة بات يضم أسرابا من السيارات والشباب المتحمسين على شكل جنوني. ثانيا لم يكن العتاد المستخدم عتادا مذنبا مشتعلا يضيء من مسافة طويلة مظهرا اتجاه الرصاص لخلق أكبر زخم من الذعر والإرهاب، فضلا عن أنه لم يكن ذا كثافة تشترك فيه عدة بنادق ومسلحين يخلقون حالة من الاشتباك الحقيقي في ساحة حرب. ثالثا لم تكن مصحوبة بعمليات تسجيل مرئي يصرح باسم القبيلتين المخاصمتين.

هذا من حيث الشكل، أما من حيث الجوهر فإن هذا الإشهار في الجريمة يهب القبيلة تلاحما مستأنفا، ويُفهِم كل فرد فيها أنْ لا أمن له دون جموع قبيلته، ولا منعة إلا فيها، فضلا عن ضياع مهابته بضياع دعم قبيلته. إنه بكلام واحد عمل مليء بدلالات معنوية كلها تصب في صالح التلاحم القبلي واستشعار موضوعية التضافر القبلي الحربي على أرض الواقع، في ظل غياب بنية أو كيان مماثل يمنح الفرد هذه المنح. فما دامت القبيلة قادرة على فعل كل شيء عبر هذا الهجوم الذي يظهر قوتها الحربية، فلم لا يشترك الفرد بهذه القوة متوقعا منها حماية وردعا. ومن النافل القول بأن هذا الفهم لموضع القبيلة في نفوس القبليين، لا يحتاج إلى إثبات في الواقع المعيش أو نفي، بل المهم هو أنه فهم متجذر في فؤاد من يحمله، وهو مقتنع به لا يحتاج نفي أحد أو إثباته.

 

  • الاحتماء بالشيوخ وتعزيز مكانتهم

إن أكبر آيات ذلك الاستفحال الرجعي للقبيلة إنما يظهر في هذه الجزئية الأسيفة، أعني بها عودة الشيوخ إلى واجهة المشهد الاجتماعي الأحوازي. إن أكبر المنتفعين من تلك العودة العاثرة فهم هذه الفئة التي اكتسبت بريقها بعد أن كانت آيلة للزوال بكل نزواتها وتاريخها الشهيد علي موبقاتها قوميا. وعادة ما تُترجم هذه المكانة في المجتمع الأحوازي على شكل طقوس أبرزها، أولا: عودة التنافس على الرياسة في البيت صاحب النصاب حسب عبارة صاحب المقدمة العلامة ابن خلدون. فإذا كانت مكانة الشيوخ هي القطب من الرحى في القبيلة، فمن البدهي أن يسجل التاريخ الأحوازي تصارع أبناء العمومة عليها لنيلها حسدا ضد صاحبها، وقناعة بأحقيتهم فيها وهم أهل منتب واحد[6].

ولا مراء في أن مكانة الشيوخ في العراق أوطد منها في الأحواز، لمساعدة الظروف العراقية على تعزيزها، من احتلال الشيخ موضع القضاء والفتيا، ومكانته في الدولة ونفوذه السياسي، ونافذية أوامره لدى أبناء عشيرته إلخ، على خلاف الأحواز التي يكون الشيخ فيها فردا عاديا نظرا لظروف الاحتلال التي أجبرت كثيرا منهم على البحث عن وظيفة في الجهاز البيروغراطي المحتل قد تكون غسل صحون أو ري مزرعة أو رعاية عاجز إلخ. ونظرا لهذه المكانة الإدارية المُهينة في الدولة الإيرانية لهم، وفقدانهم أي دور سياسي وإداري، فضلا عن فقرهم في حالات كثيرة، كان الدور هذا آخذا في الأفول، وكان لم يتبق منه إلا عنوانه الرمزي الفارغ عن المضمون، حتى أتى ذلك الاتصال العراقي الأحوازي، فانتعش الشيخ الأحوازي وراح يقلد ضريعه العراقي من تكبر وانتفاخ وأمر ونهي.

ومن هنا بات الإنسان القبلي يحتفي بشيخه في الأحواز، ويذبح لمقدمه القرابين، جاعلا له في نفسه من المكانة والخطر ما به يضاهي جميع القبائل. ولعل أبرز ترجمة لهذه المكانة الرفيعة هو عادة «الزيان» التي هي من الشيخ بمثابة احتياج الجدباء لقطرات السماء. ففي الزيان يمتاز الشيخ عن أقرانه، ويتم الاعتراف ثم الإعلان بأنه هو صاحب الرياسة، ومن هنا أيضا ذلك الصراع والمخاصمات الأبدية بين البيت صاحب الرياسة والمطالبين عموما، على الزيان أيهم يصيبه. وبالمثل هي عادة «الراية» أو طقسها، تُمنح للشيخ يعقدها ضمانا منه لنافذية اتفاق. وهاتان العادتان هما أبرز الطقوس التي يمتاز بهما الشيخ عمن سواه، وهما أبرز مكامن اندلاع الصراع هذه الأيام في شمال الأحواز.

 فلهذه المظاهر يتم تجييش البيت صاحب النصاب ضدا على كافة الحمايل وبيوتات أخرى مطالبة بالرياسة من المنبت ذاته، من جهة، ووقوف البيت صاحب الرياسة ذاته ضدا على نفسه، في خضم منافسات أبناء العمومة لنيل هذه المكرمة والمسارعة لإصاباتها، من جهة أخرى. وهكذا يكون شباب القبيلة وقود هذه المعاركات الدالة على سلم حضاري ابتدائي يعود للعصور القديمة. معاركات تجعل أبعد أفق الإنسان القبلي لا يتجاوز نطاق قبيلته، لتحجب عنه هكذا العالم بأسره، وتخفي عليه واقعه، هذا الواقع الذي فرض على الشيخ، شيخ الشاب القبلي، أن يعمل فراشا في إدارة أو يعيل عاجز، كما قلنا قبل قليل.

 

  • اشتداد المظاهر العامة بالقبيلة: الهوسات والصيتاوي والولائم

إنه إذا كان استفحال القبيلة قد اختص بالدرجة الأولى بالشيوخ بوصفهم أكبر المنتفعين، لكنه عمَّ بالتساوي باقي أفراد القبيلة أيضا وبات يحثهم على تصرفات هم وحدهم مؤدوها والمسارعين إليها، في إطار الديمقراطية القبلية التي تجعل كل فرد فيها متساو مع جميع أقرانه[7]. فهنا يمارس الطقوس القبلية الأفراد والجماعات لأنها تقف على كواهلهم.

 ومن أبرز هذه الطقوس التي اشتدت بفعل ذلك التأثير العراقي هي الهوسات. فإذا ضربا جانبا الحديث عن الإرث الأنثروبولوجي الذي تحمله هذه الطقوس وقِدمها ومن كونها ميزة حضارية من مميزات المجتمع الأحوازي في الشمال، والجنوب العراقي أيضا، قلنا حينها أن الهوسات تغيرت شكلا ومضمونا: فمن حيث الشكل فقدت الخفاجية وما جاورها، خاصة أهل الهور منها، فقدوا إيقاعهم الخاص بهم في الهوسات، وباتوا يجرونها على غير الإيقاع الذي ورثوه عن آبائهم: فعلى سبيل المثال ليس هناك إيقاعا في الأحواز يسمى «الحجيماوي»، بينما بات بعد التأثير العراقي مُستخدما عندنا على حساب إيقاعنا الخاص. ثم إلى جانب ذلك فإن إيقاع أهل الأهوار في كلا الطرفين الأحوازي والعراقي هو إيقاع خاص يختلف عن المزارعين في الخفاجية والحميدية والكرنة والمجر في ميسان، فضلا عن المحمرة والفلاحية والسوس، وهو بات اليوم منسيا يكاد يندثر في الأحواز على وجه الخصوص. (ولا تكتمل الإشارة إلى الهوسات هنا إلا إذا نددنا بتلك الدعوات التي رفعها الشيوخ لممانعة الهوسات، خاصة في الأحواز العاصمة، وتأكيدهم على رفضها في مجالس العزاء، ذلك أننا نقدر الهوسات ظاهرة متوارثة تميز الأحواز عن غيره من الشعوب، وهي إرث حضاري لا بد من المحافظة عليه، فضلا عما كانت تعنيه لنا في طفولتنا من جمال وذكريات اصطبغت شخصيتنا العربية الأحوازية المميزة إلخ).

وإلى جانب الهوسات التي أخذت تفقد أحوازيتها وباتت تميل إلى الرسل العراقي، تميز الاستفحال القبلي هنا في ظاهرة الشاب الصيتاوي، وذلك هو الشاب الذي يأخذ على عاتقة تأدية دور البطل والمقدام في خوض المنازعات والذب عن القبيله، وبشطط متوحش في كثير من الحالات، لنيل لقب فتى القبيلة أو «الزين». ولا حاجة للتصريح بأن هذه الظاهرة تنافي تماما الروح العصري، وهي أبعد ما تكون عن القيم العالمية الراهنة، من التسامح والعطف إلخ، وهي انعكاس لخشونة القبيلة وعنفها، وما كان لها أن تتوالد اليوم لو لا ذلك الغطاء القبلي الذي جعل من كثير المعاركات والاشتباكات، جعل منه شابا «زين» «مرجلانی»، يجب التفاخر به من أجل ذلك لا من أجل أي شيء. هذه ظاهرة فرختها القبيلة، وهي المواظبة على استمرارها واستفحالها بين الأجيال الضحية لها، الذاهبة بفعل الصيت إلى السجون والمشانق والحياة الشاذة.

وهكذا يذهب بعيدا الحث القبلي غير المحسوس في التأثير، حتى يأتي على ظاهرة تبدو حسنة، خالية من تبعات سيئة، وهي ظاهرة كثرة الولائم و«العزائم» تارة في القبيلة داخليا وتارة في النطاق القبلي المجاور. ولا ريب أنها متبادلة التأثير عراقيا وأحوازيا، بيد أنها في الأحواز تغذي الجنوح نحو القبيلة والروح القبلية، وتصنع عالما جميلا مزيفا قوامه الكرم: وذلك كرما إلى التبذير أقرب، لأنه استثمار على صحراء قاحلة، كان الجدير به الذهاب إلى حالة إنسانية من إعانة عليل أو مساعدة طالب جامعي، أو إعالة فقير، فضلا عن المشاريع العمرانية. وهذه الظاهرة كثرت عندنا اليوم، في الوقت الراهن، بالتزامن من الاستفحال القبلي، لأنها لازمة من لوازم بروز الرجال واشتهارهم في قبيلتهم وبين باقي القبايل.

 

  • إخضاع وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالعالم الحديث إلى خدمة القبيلة من العالم القديم

  وختاما ننتهي من القول بالإشارة إلى مفارقة غريبة هي خاصة من خواص المجتمع القبلي في الأحواز والعراق: وهي تتعلق بذلك الاستخدام الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي، الخاصة بالعالم الجديد الحديث، في خدمة عالم القبيلة متجليا فيها. فهذه صفحة على تطبيق إينستاغرام لشيخ من القبائل فيها أكثر من ثمانين ألف مشارك كلهم من قبيلته، حتى باتت القبيلة كلها تفاخر بهذا العدد من الرجال المنتمين لقبيلة واحدة المثبت في الصفحة هذه. وهذا تطبيق يوتيوب وهو مفعم بفيديوهات الدكات التي بثها من ارتكبها مفاخرة منه بقبيلته وجريرتها، بث ينتمي إلى المناطق العراقية بالمطلق، إلى أن أخذ الأحوازي، في هذه الفترة الأخيرة، يقلده، فصار يسجل الدكات ويستخدم العتاد المذنب، محاولا مماثلة الطريقة العراقية بشكل يثير الدهشة والاستغراب، ولا يجد إجابة شافية تشرح هذا النزوع وذلك التقليد.

وهكذا باتت هذه الوسائل التي هي بالفعل وسائل تواصل اجتماعي حديث، الوعاء الذي تستخدمه القبيلة من أجل كافة قضاياها، متناسية هكذا دورها في تحديث المجتمع والمساعدة في الفردية، إلى جانب تأثيرها السلبي المتمثل بانطواء الأشخاص والابتعاد عن التماس المادي، الذي لم يفعل فعلته هنا في الأحواز على عكس ما صنعه في الغرب. ولعل هذه المصادرة عن المطلوب، الجارية على وسائل التواصل الاجتماعي، تروي مصادرة عامة من جانب العالم القديم، لكل إفرازات العالم الجديد، ما يدل على مقدرتها ومرونتها في التعامل مع محدثات البنى والدوائر، تجعل منها كأنها غير قابلة للاجتياز والاندثار.

 

الاستنتاج

حاولنا في هذه الدراسة التنبية إلى الآثار القبلية الجائية من الجوار العراقي على الأحواز، ودورها في استفحال القبيلة هنا، واحتدام طقوسها السلبية بالمجمل، دور بات غير مشعور به من جانب الأحوازيين نشطاء، ومنصهرين في القبيلة. فإذا كان لهذه الدراسة مهمة فهي التأكيد حصرا على هذا التأثير الأحادي، الذي لا بد من التحذير منه، والتفطن إليه. وما كان من استدعاءنا لنظرية الانتشار الثقافي إلا محاولة لتعزيز فرضيتنا هذه بمفهوم قديم وموثوق في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعیة يلقي أضواء كاشفة على هذه الظاهرة من جهة، ويمنحنا موثوقية علمية من جهة أخرى، من أن القول هذا لم يأتي من فراغ بل هو معزز بمرجعية فكرية لها وزنها.

وقد انقسم هذا المقال إلى فقرتين رئيستين: أولهما خاصة بإثبات الانتشار الثقافي من العراق إلى الأحواز، حيث أثبتنا أنهما يمثلان مصدر(العراق) ومستورد (الأحواز) شرحنا أسبابها في موضعها، بالإضافة إلى استيفاء الأحواز دور المستورد نظرا لتوفر شروط الانتشار الثقافي فيها؛ وثانيهما قلنا أن الانتشار هذا يجد أكبر تجليات له في الطقوس القبلية التي هي ترجمة لتأثير القبيلة ودورها في أرض الواقع. وعندما أخذنا نشير لهذه الطقوس اخترنا منها أهمها هي ظاهرة المعاركات القبلية الأثيمة، والاحتماء بالشيوخ، والهوسات والشاب الصيتاوي الضحية، وإخضاع الإعلام الحديث لخدمة العالم القديم وقضاياه.

 

 

ميثاق محمد

 

 

المصادر

 

[1] . توماس هايلاند إيركسون وفين سيفرت نيلسون، تاريخ النظرية الأنثروبولوجية، ترجمة لاهاي عبدالحسين، منشورات؟ الجزائر؟ 2013.

[2] . معن الطائي، السرديات المضادة: بحث في طبيعة التحولات الثقافية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2014.

[3] . ناصر فكوهي، تاريخ انديشه و نظريه هاي انسان شناسي، نشرني، تهران1390.

[4] . ياسين سعد البكري، القبيلة في العراق: ديناميتها ودورها السياسي، المستقبل العربي، مج32 العام 2009.

[5] . السيد علي الموسوي المشعشع، الرحلة المكية، نسخة مخطوطة في مكتبة سبهسالار تحت الرقم1513.

[6] . علي نعمة الحلو، الأحواز قبائلها وأسرها: مسح ديموغرافي للإنسان العربي على أرض عربستان، الجزء الرابع، النجف1970.

[7] . إحسان النص، العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي، دار الفكر، د.م1973.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!