نشرت صحيفة شيكاغو تريبون في تاريخ العاشر من تموز يوليو1979 تقريرا تحدث عن أحداث الأحواز طيلة ثورة 79 ألقت به أضواء كاشفة على تلك الفترة يمكن الإفادة منها كثيرا هذه الأيام: «نشهد تفجير الغضب الحبيس لقرون في صدور العرب البؤساء في الأحواز». تقرير بالإضافة إلى تطرقه للأربعاء السوداء تضمن ملاحظات مهمة عن حياة الشعب الأحوازي وما يعانيه من فقر وتميز في تلك الفترة. يقول: يمكن رصد الإحباط والغضب في وجوه الشعب الأحوازي في أغنى اقليم في إيران تفيض بالنفط، منطقة تعتمد حياة الاقتصاد الإيراني عليها.
وتضیف شيکاغو تريبون نقلا عن أحد الدبلوماسيين الغربيين: «إن الشعب العربي محبطا؛ ولذلك يمكنكم توقع أي شيء منه، لأنه يعلم أن الفرصة الآتية قد تكون هي الأخيرة لنيل حقوقه». ويتطرق التقرير بعد ذلك إلى الفقر المدقع الذي يعانيه الشعب الأحوازي في مناطقه الزاخرة بالنفط فيقول عن لسان الأحوازيين «إننا مَن ينتج النفط، وبدل انعكاس عوائده لتحسين حياتنا، نسكن في عشوائيات ليس فيها مياه صالحة ولا كهرباء، ولا شوارع مبلطة ولا أطباء ولا مدارس». ويضيف كاتب التقرير، ريتشارد فالس، إن مثل هذه الحالات والروايات تتكاثر إذا ما تجولتم قليلا في العشوائيات وأزقتها. الشعب الأحوازي مفقر ولا يعمل الفرد إلا في أعمال متدنية، خاصة إذا قارناه بالمستوطنين الوافدين من أجل خيرات النفط، حتى يتكشف سوء حاله بوضوح.
إن ما يثير الانتباه في هذا التقرير هو ذلك الفصل المكاني ( spatial segregation) الذي أشارت له الصحيفة دون أن توليه اهتماما كبيرا وتشرحه كثيرا. يشير مصطلح الفصل المكاني إلى السياسات والأفعال التي تقوم بفرز الناس على أساس عرقي أو جندري أو إثني أو طبقي، وهي سياسات كان يمكن رصدها بشكل جلي، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية أيام كان لون البشرة يفرز طبيعة الأحياء والمدن. وقد كان هذا الفصل قانونيا حتى العام 1964 حيث كانت الإدارة الأمريكية ملزمة بالحفاظ على الحواجز الفاصلة بين الفضاءات المدنية في الأحياء. وبناء على هذا السند القانوني لم يكن مسموحا للسود شراء بيت في أحياء البيض. على أن هذا الأمر لا يعكس هول القضية بعد، فإذا كان هذا الفصل فقد سنده القانوني بعد العام 1964 بانتصار الثورة المدنية الأمريكية، لكنه ظل لغاية الآن متجذرا في الكثير من السياسات والعديد من العقول، حيث يمكن ملاحظة تقسيم المدن وفق ذلك الفصل لغاية الآن. وتفيد الكثير من الدراسات كيف تأتي الأيادي العنصرية المدعومة من التمييز الطبقي والقومي فتقوم بالفصل بين الناس على أساس لون البشرة. فإذا دخل ذووا البشرة المختلفة إلى حي ما يغلب على الحي أن يصبح من أحياء السود.
ولكن إذا كانت الحالة الأمريكية تعد المثال البارز في ذلك، فلئن وجود أصحاب البشرة المختلفة يعمل كمَعْلم يثبت ذلك ويجعل الحالة تظهر بشكل مشهود لا يمكن نكرانها، سواء عبر الاحصائيات أو تكابرا.
لكن هذا الفصل يجد نسخته الخاصة به في الأحواز، ويتم إعادة انتاجة في مظاهر مختلفة، وإنْ كان فصلا مجهولا لا يعرف الناس عنه الكثير. يشير تقرير شيكاغو تريبون إلى هذا الموضوع فيقول: يقوم أحد السائقين في الأحواز بالبصق على بناية المحافظية ويصرخ قائلا: الموت لمدني. أما في المحمرة فتعلو أصوات الشعب الأحوازي إلى السماء غضبا ورفضا. فهنا يمكن رصد أسوأ الظروف التي يعاني منها الشعب الأحوازي. وفي الشارع العام في المدينة، أقدم سكان العشوائيات والضواحي من العرب، إبان الثورة، على إسقاط الجدار الذي بنته قوات الشاه لتحجب آلاف من بيوت الطين التي يسكنون فيها الفقراء محاولة التستر على المنظر البشع من عيون الجميع.
ربما يصعب عليكم أن تتصوروا وجود مناطق في إيران أقيمت على أساس عرقي، يتم بناء سياجات أطرافها على أساس القوميات. وربما تتصورن ذلك يعود إلى عهد ما قبل الثورة. ولكن هذا التصور مخطئا. ففي قلب الأحواز العاصمة ما زالت تطوق أحياء فقيرة/عربية بحواجز لفصلها عن باقي المناطق [العائدة للمستوطنين عموما]. إن الفرق الوحيد بين هذه وتلك التي كانت سابقا هو أن هذه الحواجز أصبحت حواجز خرسانية.
تعد منطقة إرفيش في العاصمة الأحواز من أقدم الأحياء الفقيرة، بينما تقابلها مباشرة منطقة «كمبلو» حيث كانت منطقة تضم الطبقات الوسطى، أقيمت بين هاتين المنطقتين حواجز خرسانية تفصلهما عن بعض. ففي الجانب الأول من هذا الحاجز يسكن العرب وهم بالمجمل فقراء، بينما الطرف الآخر من الجدار هذا يضم المستوطنين عموما وهم ينتمون للطبقة الوسطى. طرفا الجدار هذا حكاية طرفي نقيض: تروي الفصل القائم على أساس طبقي قومي، تتضافر بينها، حتى تصنع ما يطلق عليه من قبل النظام الإيراني «الثقافة العربية». وهي ثقافة التفقير التي لبست زيا عربيا هذه المرة: كما لبست من قبل في الولايات المتحدة كسوة الفقر والسود، أو الفقر والشرق الأوسطي في أوروبا. ولذلك أصبح الهاجس الأول للواقعين في الطرف الآخر من الحائط الانتقال إلى الطرف المقابل منه، ففي الجانب المقابل المدارس أرقى، والمستوصفات أفضل، والأسواق أجمل، والشوارع أنظف، والبنايات أبهى. لا يفصل بين حي إرفيش وكمبلو سوى هذا الجدار فقط. ولكن ما أطول هذا الجدار الذي يحتاج اجتيازه ركوب سيارة أو حافلة من أجل الوصول إلى ممر فيه، يذهب بكم مسافة خمسة عشر دقيقة، فيها جسر ودوار وشوارع عامة وتغيير مسير.
جدار إرفيش كمبلو هو أحد الجدران فقط. فباقي الأماكن أيضا لها جدرانها، خرساني أيضا، له اللون ذاته والطول والعرض نفسه، وقبل هذا وذاك له الوظيفة ذاتها: الفصل. أما جدار كلستان فهو الآخر يقوم بالمهمة ذاتها، ليفصل حي كلستان عن أحياء فقيرة كالملاشية والمندلي وحي الثورة وغيرها. أحياء لا يزيد من هول اختلافها إلا إذا عرفنا أنها تأسست في فترة زمنية واحدة. ففي الثمانينيات من القرن العشرين، عندما أخذت مؤسسات الدولة الإيرانية المحتلة، كجامعة الأحواز ومنظمة المياه والكهرباء بتأسيس مجمعات وبلدات للموظفين، كانت في التاريخ نفسه الأحياء الفقيرة تنشأ في جوارها، أحياء افتقرت إلى المياه والكهرباء، ناهيك عن السندات والوثائق الملكية. لم يكن يفصل بينهما سواء خط السكة الحديدية الذي كان يمر من بينها. فما إن استقر أهل الأحياء حتى أتى الجدار ليفصل بين هذه العوالم وهذه الفضاءات.
على أن الجدار هذا لم يكن خرسانيا فحسب، بل تم تصميم جدران جميلة من اللبن يستخدمونها من أجل إتمام عملية الفصل هذا. وهنا تعددت الجهات القائمة على هذا الفصل والجدران، والسبب ظل واحدا: فقد قام كل من الجيش ومنظمة المياه والكهرباء، وفي الأخير شركة قصب السكر، ببناء بلدات لموظفيهم، في كل منها مرافق عامة تختص بالبلدة حصرا، كالحدائق والمنتزهات والروضات والمدارس الخاصة والمستوصفات. وعندما تدخل هذه البلدات فأنت أمام تجربة مختلفة، إنك أمام عالم مغاير. وفي منطقة أخرى تقابل حي إرفيش بني جدار آخر أيضا يفصلها عن العالم الخارجي عالم التهميش، تعود المنطقة هذه المنفصلة تعود إلى أساتذة جماعة تشمران، وموظفيها. وفي كل منطقة هناك بوابة حراس تمنع الوافدين الغرباء من الدخول.
أما بلدة النفط فهي عالم آخر تماما. وإن كان المشترك بينها هو هذا الفصل بين المستوطنين والأحوازيين.
على أن باقي المدن الأحوازية تشهد الفصل هذا ذاته. ففي مدینة عسلویه في محافظة بوشهر جنوب الأحواز بينما يعاني اهالي هذه المنطقة، وهم من سنة الأحواز، من عدم توفر المياه الصالحة للشرب، ويتم نقل مياه لهم عبر الخزانات المتنقلة، تم تخطيط شبكة أنابيب للمياه في المخيمات والبلدات المنعزلة هناك، حتى لا ينقص من رقاد مهندسي شركة النفط الفرس في تلك المدينة العربية.
يروي هذا الفيديو المختصر مفعول أحد الجدران الفاصلة، الهادفة إلى عزل مناطق مثيل جلستان (مناطق المستوطنين الوسطى) عن المناطق المفقرة. جدار بُني على أساس طبقي عنصري. ففي هذه الجدران تمتزج الطبقية بالعنصرية. وكما يظهر على مقطع الفيديو لم تخلو أماكن من هذا الجدار إلا ثقبت… ثقبها المفقرين المحرومين خلف الجدار عن نِعم ما وراء الجدار وترفهه وجماله. وبدل أن يضع النظام الإيراني وبلديته حدا لهذا الفصل العنصري عبر إزالة الجدران والحواجز، فإنه يسعى جاهدا برأب تلك الصدوع وتسديد الثقوب ليستمر عالم الحرمان والمنبوذين بالوجود، ولينعزل المستوطن أبدا عن الأحوازيين. ولعل هذا الجدار هو مختصر ما يجري في الحياة الأحوازية، حياة قوامها فصل صارم بين دائرة الأنا الفارسية ودائرة الآخر العربية. فهنا كل شيء ممنوع للآخر، وكل شيء مخصص للأنا. الطرد هو من نصيب الآخر الأحوازي والاحتفاء بالمستوطن الفارسي ثروة ومناصب وقومية وثقافة.
ثم تجد هذه السياسة القائمة على الفصل الصارم هذا سندها مجتمعيا أيضا، وتتحول هكذا من مجرد سياسة تأتي بها دولة الاحتلال وأجهزتها التنفيذية من الجيش والشركات الاقتصادية والنظام البيروغراطي، إلى سياسات متجذرة مجتمعيا في نفوس المستوطنين، أولئك الذين أعتادوا حياة التمييز لصالحهم، فبدى لهم أنهم مميزون لمجرد وجودهم وعرقهم، عن الأحوازيين أصحاب الأرض، فصار في نظرهم هذا الفصل حقا من حقوقهم يجري طبيعيا يصنف الناس إلى أدنى وأعلى إلى سيد وعبد. لمَ لا والمستوطن في كل يوم عند خروجه من بيته المسور بجدار سميك خرساني، يرى كيف يتميز هو ببنايات عصرية وعمارات جميلة، والآخر مطوق بالحرمان والضواحي الفقيرة الخالية من مياه صالحة حتى. إنه إذا كانت الحكومة هي آلة التنفيذ الصلب في عملية جدار الفصل العنصري فإن المستوطنين الذين جلبتهم قد أدوا ويؤدون الجانب الناعم من سياسة الفصل هذه.
وظلت على الدوام هذه الجدران مرفوضة بل هي كانت مثار عصيان مستمر، فالمعذبون على الطرف الآخر من هذه الجدران يرفضونها بشدة، سالكين في ذلك شتى الوسائل، تارة عبر استغلال علاقاتهم مع مسؤلين لتسجيل أبنائهم في تلك المدارس الراقية الواقعة في الجانب المميز من الجدار، وتارة عبر ثقب جوانب من الحاجز هذا لتسهيل المرور، إضافة إلى جهود مضنية لاستيجار شقة صغيرة على الجانب الآخر. ولكن مع ذلك كله، وعلى الرغم من إحداث ثقوب في هذه الجدران، تجري هذه المرة عملية أخرى لمن استطاع تجاوزها من المفقرين، غايتها إعادة إنتاج العلاقات التي من أجلها بنيت تلك الحواجز.
المصدر: موقع المجلة على التلغرام
تمت ترجمة هذا المقال من قبل كادر معهد الحوار للأبحاث والدراسات، وتم الاعتماد على اسم الأحواز (بدل من العرب).