الخميس, ديسمبر 19, 2024
دراساتالتغييرات الثقافية في المجتمع الأحوازي: جدلية القديم والحديث

التغييرات الثقافية في المجتمع الأحوازي: جدلية القديم والحديث

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المدخل

نعني بالثقافة في هذه الدراسة تلك الجوانب المادية، المتمثلة في ما خلفه السلف من مصنوعات ومنحوتات وزي ونحو ذلك، إلى جانب الجوانب المعنوية المتمثلة في العادات والتقاليد والمعتقدات والطقوس والفنون المتوارثة بين أبناء اللغة الواحدة. إنها بعبارة أخرى تلك الروح التي تسري في جميع المظاهر المادية والمعنوية الخاصة بنطاق لغوي معين.

ولأن الثقافة هي تجري في التاريخ وتسير فيه، فإنها عرضة للتغير والتحول. على أن أول ما يميز التغييرات الثقافية، بالمقارنة مع جملة التغييرات المجتمعية المختلفة، هو أنها تغييرات بطيئة غير محسوسة، لا تتبين إلا لدى طائفة من الناس، فيهم المختصين والباحثين. كما تتميز تلك التغييرات في جميع المجتمعات تقريبا، بنوع من الرفض أو التذمر لأن الوجوه الثقافية لما لها من قبول عام ومقدرة على منحها الأمان للأفراد والجماعات، لا تميل نحو التغيير ولا تنظر له من الواجبات أو الأمور العادية.

وهنا في هذه الدراسة التي نرصد فيها التغييرات الثقافية في المجتمع الأحوازي، نصدر عن زاوية نظر عامة، لتقييم التغيير في الثقافة الأحوازية العامة، من زاوية نظر تعاملها مع المحدثات في المجتمع. وفي هذا الرصد ارتأينا أن ننظر لهذه التغييرات من ثلاث مستويات: المستوى الفردي، والمستوى المجتمعي، تتويجا بالمستوى السياسي، أي الثقافة السياسية.

 

التغييرات الثقافية في الفرد الأحوازي

 تندرج التغييرات التي تجري على المستوى الفردي، في ميدان التنمية السياسية والتحديث بالمجمل. وفي هذا الحقل تجري الدراسات الخاصة بالتحديث في البلدان، سواء المتقدمة منها أو «المتخلفة»، من منظار مقارن؛ ومن أجل ذلك نمى الفرع المسمى بـ«السياسات المقارنة» في العلوم الاجتماعية والسياسية، وظهر علماء كبار فيه، نظير سموئل هنتينغتون، وباتريل ألموند، وألكس إنكْلس.

لقد انطلق العالم إنكلس من تأثير التحديث على النزعات الفردية وقيمها، مستبينا تعرض شعوب «العالم الثالث» إلى النماذج الحديثة ومدى تقبلها القيم الحديثة. وغني عن القول أن مساعيه تتموضع في إطار المقارنة بين الشعوب الحديثة والقديمة. ولذلك درس مختلف أوضاع الدول تلك، نظير أرجنتين وشيلي والهند وفلسطين وباكستان، ليتبين مستوى كل فرد فيها في تدرجه نحو التحديث وقبول القيم الحديثة.

ومن خلال دراساته عن كل تلك الدول والشعوب، يعرض إنكلس مثال للإنسان/الفرد الحديث، يحدد من خلاله صفاته، صفات يصر على أنها تصدق على كل تلك الدول، الحديثة منها والقديمة. ومن أجل توخي الدقة في مستوى توطيد هذه الصفات، يبدأ تصنيفها من الصفر إلى المئة، لتكون صفات الإنسان الحديث، بالمقارنة مع القديم، وفق الصفات الكلية التالية:

  1. الاستعداد لتلقي تجارب جديدة: يبحث الإنسان الحديث دوما عن تجارب جديدة أو يسعى في إنماء السبل الحديثة.
  2. يتمتع الإنسان الحديث بالاستقلالية عن أصحاب السلطة: لا يخضع الإنسان الحديث لمختلف وجوه السلطة، سواء كانت للوالدين، أو رؤساء القبيلة، أو المستبدين الحكام.
  3. الإيمان بالعلم: يعتقد الإنسان الحديث بسيادته على الكون والطبيعة.
  4. قابلية التغيير: يطمح الإنسان الحديث دوما نحو الأفضل وينشد التقدم باستمرار.
  5. التخطيط البعيد الأمد: يقوم الإنسان الحديث بالتخطيط القَبْلي، وهو عليم بما سيفعله خلال سنواته المقبلة أو يمتلك خطة للمستقبل.
  6. النشاط والفاعلية في الحياة المدنية: يجنح الإنسان الحديث نحو المشاركة في الأمور المحلية والعضوية في العمل الجماعي التطوعي.

وبعد تحديد هذه الصفات، بتقديرها محددات الإنسان الحديث، يعرض إنكلس سؤالا عن الأسباب التي تجعل الإنسان حديثا، والدوافع التي تجعل الإنسان في «العالم الثالث» يتقبل القيم الحديثة؟ ثم يجيب بوجود عدة عوامل تجعل الفرد يميل نحو التخلق بالقيم الحديثة، منها على سبيل المثال، الدراسة، في المدارس والجامعات، حيث تكون أولى المؤشرات الدافعة بالفرد نحو تلك القيم، وحيث أثبتت دراساته بأن كل عام من الدراسة تتقدم بالفرد درجتين أو ثلاث (بناء على ما وضعه من درجات تبتدئ من الصفر وتنتهي بالمئة) نحو القيم الحديثة[1].

وإذا ما أردنا استخدام الصفات الكلية لإنكلس، لاستبيان الحالة الأحوازية، على المستوى الفردي، ومدى تقبل كل فرد أحوازي للقيم الحديثة، استوجب علينا حينها تقسيم الأفراد على ثلاث فئات.

 

  • الفئات القديمة

إن الشعب الأحوازي، على المستوى الفردي، يشهد وجود فئات فيه تعيش في اللازمن، تعيش في القديم عيش الرقيد، وهي في نأي عن جميع ما يدور حولها من تغييرات تطال العالم بأسره. إن هؤلاء الأفراد الذين يمثلون العالم القديم بجميع حمولاته، يجعلون استخدام الفرد لتسميتهم في غير محلها، لأنهم ما زال يعيشون حياة جماعية واحدة، لا يكتسب الفرد معناه فيها إلا إذا كان واحدا من جماعة أو جزء من كُلٍ مُصْهِر.

فأولا: ليس في هؤلاء استعداد لكسب الجديد، وهم يناهضون كل محدث، ويجترّون من أجل ذلك القيم القديمة، ويتصورن أي خروج عنها بدعة وظلالة، وخيانة بالموروث والأسلاف. فعلى سبيل تقريب المعنى، إذا ما نظرنا إلى شيوخ العشائر، ومكانتهم الاجتماعية الخطيرة في الأحواز، تبين لنا أن دورهم التشريعي في فض النزاع يتقيد إلى حدود بعيدة بهدي أسلافهم، وطرق أجدادهم لفض النزاع؛ حتى أتت من هنا بالتحديد «السوالف» التي ورثوها عن الأسلاف تبين كيفية فضهم نزاع، أو اتخاذهم موقف، أو رفضهم بدعة. والطريف في مفردة السوالف تلك، هي دلالتها اللفظية المشتقة عن السالف: وهو من قبر ومات، فضلا عن دلالتها المصطلحية التي تفيد بمنزلة الماضي وتقديسه.

أما الصفة الثانية للفرد الحديث، وهي الاستقلال من أصحاب السلطة فهي محل رفض، لأن السلطة في المجتمع القديم هي قدسية، تكتنفها هالة من التأليه، تزيد حدتها تلك الخرافات التي تنسج حول مكانة أصحاب السلطة، من شيوخ وعلماء دين وأئمة مذهب وسحرة مشعوذين وآخرين متاح لهم كسب هالة من ذلك التقديس، بما توفر لديهم من سلطان وتهيمن. وإذا ما تحدثت الكثير من الدراسات الاجتماعية التاريخية[2] عن الديمقراطية القبلية في المجتمعات العربية، فإن منظورنا هنا لا يتيح سوى الإقرار بأن السلطة في مثل هذه المجتمعات، على رأسها المجتمع الأحوازي، هي غاية بحد ذاتها، وقيمة عليا لا تدانيها قيمة. فجل الصراعات التي اشتعلت في مثل هذه المجتمعات كانت لنيل السلطة، ومن هنا تحولت السلطة إلى أمر متعال له تشتد الهمم وتخاض الحروب. ثم عملت السلطة من جهتها على تشديد هذه النظرة التقديسية إليها بما تشتمل عليه من مزايا لا تطال. ولعل ذلك الفصل الخالد الذي عقده ابن خلدون لوصف إحدى مزايا السلطة كفيلا بتوضيح قدسيتها الموضوعية، في حالة مفارقة، أقصد به فصل «الجاه المفيد للمال».

ليس هذا فحسب بل يكفي لاستبيان مكانة أهل السلطة في المجتمع الأحوازي، وتفضيلهم على الكافة، وخضوع الكل ما دونهم لهم، وإنْ معنويا في كثير من الحالات، أن نذكر عادتين فقط: أولهما تتبين من خلال عادة مجتمعية تظهر في إقدام الأسر التي لم يتكلم مولودها، بعد سنتين أو ثلاث من ميلاده، إقدامهم على إحضار وليمة غذاء يقدمونها للشيخ. ثم إذا أتاهم هو وجلس عى المأدوبة، يتقرب أحدهم إليه يجلس جنبه، وما إنْ يبدأ بطعامه ويمسك لقمته الأولى، سارعوا إلى خطفها من يده قبل قذمها من جانبه، ثم الإتيان بها للطفل الذي لم يبدأ الكلام، وإطعامها له، لأن ذلك سيساعده في تعلم الكلام. وثانيهما عد الشيخ صاحب مكانة لا يقترب منها أحد من جميع الناس، لما تسري فيه من دماء كانت للآباء والأجداد الأسلاف من أهله.

وعن صفة الإيمان بالعلم بين هؤلاء الفئات فالحديث عنه هو حديث لغو، إذ أن أكثر الناس إيغالا بالماورائيات والغيوب فهم هذه الفئات. بدأ من عقيدتهم الدينية الغالية، وصولا إلى إيمانهم بمكانة الأولياء والصالحين، ووصولا بالشعوذة وما لها ما تأثير على الأرزاق والمحبة والحياة اليومية عموما.

أما عن إمكانية التغيير وإتاحة المجال للتقدم، فإن الملاحظ على هذه الفئات القديمة هو انقطاعها عن العالم (الجديد) الذي يسمح بمثل ذلك التغيير. وكما يفيد إنكلس فإن الصناعة والتعليم والهجرة إلى المدن إلخ، هي من يحفز على التغيير والتحرك المجتمعي، والحال أن مكوث هؤلاء في الأنماط القديمة جعلهم في حل عن الزامات التغيير وقوته في فرض حالات مستحدثة على الفرد. وذلك أن النمط المعيشي السائد عند هذه الفئات هو الزراعة، والاستمرار في الحياة في القرى والابتعاد عن عالم المدينة، ما جعل ذلك كله الحديث عن التغيير وحافزه غير موضوعي عند الحديث عنهم.

ولأن مثل هذه الحياة هي رتيبة مكررة، فإن التخطيط بعيد الأمد من جهته غير موضوعي غير مفكر فيه ولا محل احتياج وطلب. لأن أنماط العيش هي هي تكرر نفسها منذ قرون وأحقاب.

أما عن المشاركة المدنية الجماعية، فهي الأخرى غير مرغوبة لأنها بالأساس حكرا على فئة معينة من شيوخ وعلماء دين وأعيان، هم من يرتبون الشأن العام، وهو شأن يتعلق بفض النزاع لا أكثر، أو بواجبات دينية يسيرة، أو بشعوذة عند طلب ثمر وفير أو زوج يُنكح أو الوقاية من سحر.

هل يتوفر المجتمع الأحوازي فعلا على أفراد، أو فئات بتعبير أدق، ما تزال تعيش عالما قديما لم يطاله كل ذلك التغيير الذي يحدث في جميع نقاط العالم؟ إن الإجابة عن ذلك هي بنعم، ودليل ذلك ليس في ما يقوله إنكلس هنا فحسب، بل في المعايشة اليومية لجميع الأحوازيين الذين يعيشون في المدن، ويترددون بين الحين والآخر إلى قراهم، وما يجدون فيها من فئات ينطبق عليها جميع ما يسمعونه من حكايا الجدات عن الحياة القديمة قبل قرن أو أقل.

 

  • الفئات الجديدة

وهؤلاء الأفراد المتجددون يمتلكون من الثقافة ما يداني الثقافة الحديثة بشكل متزايد، لأنهم أفراد يتمتعون بوعي بالعالم الحديث، ويميلون إلى نمط الحياة الحديث، بالتزامن مع تخليهم عن نمط الحياة القديم، إلى حدود كبيرة وواعية. وإذا لم يكن ممكنا نعتهم بالأفراد الحديثين فإن ذلك المنع ليس ناتجا عن نزوعهم الفردي فحسب، بل هو حصيلة الإلزامات المجتمعية التي تفرض عليهم رسوبات الحياة القديمة ودوائرها.

ولعل أكبر الأفراد المتخلقين بقيم الحداثة، في المجتمع الأحوازي، هم طلاب الجامعات، والموظفون، على عكس العمال والتجار الذين يتموضعون بالفئات الوسط، كما سنرى في موضعه. فطلاب الجامعات، والقليل من أساتذتها، وفئات كبيرة من الموظفين، قوام المد الحداثي في المجتمع الأحوازي، ومن يتوفرون على جنوح كبير نحو تقبل القيم الحداثية، خاصة إذا نظرنا من زاوية صدق الصفات الستة التي حددها آلكس إنكلس.

فأول ما يلاحظ على الفرد الحديث الأحوازي هو أنه مدني يعيش في المدن: المدينة الأحوازية الشاذة التي يكون فيها الفرد الأحوازي العربي يصارع المستوطنين الفرس، هوويا واقتصاديا وسياسيا وحضاريا بأتم معنى الكلمة. ولذلك فهو في توطيد حداثته وقيمه الحديثة أمام صراع مزدوج: صراع مع رسوبات القديم، والفئات القديمة التي تدعي امتلاك أنموذج الحياة الأمثل والأفضل؛ وصراع ضد الفرس المستوطنين الذين يرفضون الحداثة العربية تماما مثل رفضهم العالم الأحوازي القديم.

وبناء على ذلك فإن استعداد الفرد الأحوازي لقبول التجارب الجديدة، من منطلق تقَبُله القيم الحديثة، سرعان ما ينعكس على وقوعه أمام التفريس، ومعاناة أنماط حياتهم، ليتحول الفرد هنا في الحالة الحديثة إما إلى متفرس، أو إلى فرد يمتلك وعيا قوميا موضوعيا، ليجسد كل ذلك الصراع المزدوج ذاك.

ثم إلى جانب تلك الإشكالية المزدوجة المؤرقة، فإن الفرد الحداثي الأحوازي يرفض النشاط القديم، ويبحث دوما عن أساليب حياة جديدة، تتوافق مع العالم الحديث، بدء من ميله نحو الهجرة إلى الدول الأوربية، مرورا بالنشاط الاقتصادي الحديث من سوق عملات ونحوها، وصولا بتفضيل الجوانب الفردية على حساب الالتزامات الجماعية.

ومن هنا من تلك الفردية المطلوبة يميل الفرد الأحوازي الحديث نحو الاستقلال من أصحاب السلطة وجميع أنواع السلطة. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى تفشي «التيار الإصلاحي العربي» في الأحواز أكثر من تفشي التيار الأصولي في الحكم الإيراني، لا لشيء سوى لأن الفرد المتخلق بالقيم الحداثية الأحوازي يرى في ذلك التيار ما يساعده في الحد من التقيد بهيمنة الحكم المستبد؛ وإنْ كان هذا التيار منصهرا، عبر ذلك، بالثقافة الفارسية التي جعلته يميل إلى القضايا الفارسية على حساب القضايا العربية الأحوازية العربية.

ولعل أسمى آيات هذه القيم الحديثة التي يمكن عدها الفيصل بين الشخص الحداثي والقديم، هو الاعتقاد بالعلم والإيمان به. فهذا المعتقد يمثل ذروة الفرق بين القديم والحديث والانعتاق من العقبة الماورائية التي تعيق حركة العقل الفردي، وتجعل الموروث ينوب عنه. إن الاعتقاد بالعلم هنا يعني تحول إيمان الفرد من التكلان وتفويض الأمر إلى جهات مجهولة، إلى الاعتماد على الذات في تحسين الحياة ونشدان التقدم. فعلى عكس الفئات القديمة التي كانت تحيل، على الدوام، تغيير ظروف حياتها إلى الدعاء أو الشعوذة أو ما دون ذلك، ينبع التقدم لدى الفرد الحداثي عن إيمانه بقدراته، وارتهان تطوره بحجم عمله وسعة علمه، لأن الطبيعة لها قوانينها، وهي قوانين مكشوفة عامة، المعرفة بها هي الكفيلة بإصابة النجاح، والجهل بها هو مسبب الإخفاق الأول، حيث لا مجال لغير العلم للبت النهائي بالتقدم أو التخلف.

أما فيما يتعلق بإمكانية التغيير والتحرك المجتمعي، فإن الظروف التي ارتمى بها الأحوازي في المدن الأحوازية جعلته يعي بعمق ذلك الصراع المزدوج: فهو في نشدانه التطور والتقدم يواجه النظام التراتبي القديم، وهو عربي، ومن جهة أخرى يواجه ذلك التمييز العنصري الذي يطاله من النظام وجهازه البيروغراطي ما جعله لا يتمتع بحيز يتحرك فيه من منطلق قدراته الفردية وجدارته. ومن أجل ذلك بالتحديد، من أجل وجود معوقات توضع أمام تقدم الفرد الأحوازي، فإن التحرك المجتمعي لديه استوجب عليه النظر في قضية النظام القائم والموقف منها، وهو نظام يمانع العرب من التقدم لكونهم عربا حصرا.

ومن هنا بالتحديد نشأت فئات أحوازية أدركت الواقع التمييزي هذا، فجنحت نحو نشاط مجتمعي اقتصادي لا تطاله يد النظام، على رأسه الفئات العاملة في السوق والتجار. وهؤلاء الأفراد (شبه) الحداثيون تحت تأثير نشاطهم هذا، باتوا على عقلانية تخطط بعيد الأمد، وهي تستشرف المستقبل، وترتب خطواتها على أساس روح طويلة المدى، خطية السير. وعلى عكس العقلية العربية الفارغة عن روح طويلة الأمد، بات المجتمع الأحوازي يحظى بأفراد حداثيين لا يمتلكون العقلانية والعدة اللازمة للبناء الحضاري المستوجب التخطيط الطويل فحسب، بل أخذ يصطنع قيادات مؤهلة لإدارة المجتمع، والتمهيد لبناء مؤسسات ودوائر حديثة، هي الكفيلة بخروجه من القديم نحو الحديث. ولعل أكبر تجليات تلك العقلانية هي تلك الجالية الأحوازية في المهجر، التي سيكون لعودتها للوطن التأثير الكبير في تجذر الروح الحديثة، واتصاف أكبر فئات المجتمع بالثقافة الحديثة العقلانية.

ولكن على عكس ما يشير له الواقع من بسط الثقافة الحديثة بين أفراد في المجتمع الأحوازي، هم في تزايد، فإن إمكانية المشاركة في الحياة المدنية اكتسبت طابعا مميزا، مرة أخرى، باستقلالها عن النظام الإيراني القائم. إن أكبر مميزات المشاركة المدنية المجتمعية في الأحواز هو خلقها ساحة مجتمعية عربية، قوامها التميز عن النظام من جهة، وتكوين مجتمع عربي ناشئ من جهة أخرى، صفته امتلاكه قضايا عربية صرفة، نابعة عن الحالة الأحوازية.

فإذا كنا هنا قد تحدثنا عن التفريس، وعن تقسيم الأفراد في الأحواز بالنظر إلى ثقافتهم، وباقي الموضوعات، فإن ذلك لم يكن متاحا بخصوصيته الأحوازية، لو لم تكن القضايا الأحوازية قد درست من قبل هذه الفئات وتلكم الأفراد، الذين أهلتهم ثقافتهم الحديثة من وعي المرحلة التاريخية، وجميع قضاياها وإشكالياتها.

 

  • الفئة الوسط

إنه إذا كان يصعب، شيئا ما، المصادقة على فئات قديمة في المجتمع الأحوازي تعيش كما كان الأسلاف يعيشون، في ذهول عن كل تلك التغييرات العالمية التي لم تترك مجالا إلا طالته، مثل صعوبة المصادقة على وجود أفراد حداثيين في الأحواز تنطبق عليهم الثقافة الحديثة كما حددها إنكلس، فإن الحديث هنا عن وجود أفراد وسط سيقترب من حديث البديهة، لأن الجميع في هذا المجتمع يتراوح بين قبوله بعض القيم القديمة التي ما تزال محل قبول لها قوة تأثير، وبين الجوانب الثقافية الحديثة التي تفرض نفسها بما لها من نفوذ وانتشار.

وهؤلاء الأفراد هم الأكثرية في المجتمع، وهم يمثلون الثقافة السائدة، ولهم من المواقف والأفكار ما جعلتهم أصحاب أفكار انتقائية، تصدر أحكام قيمة، ترفض بها القديم في بعض جوانبه من جهة، وتدعو إلى بعض جوانب الحديث، في محاولة متعثرة للتوفيق والدمج، من جهة أخرى.

وفيما يخص الاستعداد لكسب تجارب جديدة تطغى هنا تلك العقلية التوفيقية الفجة، فتصرح بقبول التجارب الجديدة شريطة عدم تخالفها الصارخ للموروث والقديم، حيث تكون خروجا عنه ودعوة إلى نبذه، سواء كان ذلك القديم عادات قبلية أو تشريع ديني أو دوائر مجتمعية[3]. وصحيح أن الجديد هو ضرورة من ضرورات الحياة وشرط لاستمرارها، وفق هذه الثقافة، بيد أن التخلي عن كل ما هو موروث يعني فقدان الأصالة، والتيه في عالم جديد يجعل الفرد كائنا من دون جذور. ولعل أكبر الأفراد تمثيلا لهذه الثقافة هم التجار، والعمال، وطلاب المدارس من المراهقين، والنساء، وفئات قليلة منفتحة من رجال الدين.

ثم تتسلسل هذه الروح التوفيقية إلى باقي الصفات المميزة الثقافة الفردية الحديثة، فتظهر في صفة العلاقة بالسلطة، حيث إن الاستقلال عن السلطة في ثقافة هؤلاء الأفراد أمر محايد، فإن كانت السلطة عادلة فالخضوع لها والطاعة منها أمرا حسنا وواجبا، وإن كانت ظالمة فيمكن النصح لها. وبالمثل إذا كانت طاعة الوالدين من فرائض الدين وحُسْن الخلق فإن الواجب عليهم أن يتركا مجالا للحيز الفردي للشخص، وأن لا يتدخلا في جوانب من حياته الخاصة. إن الفرد، وفق هذه الثقافة، يتأرجح دوما بين حد وسط، بمعنى انتقالي، يميل إلى ما يفرضه مزاجه أو حالته الظرفية، تقترب جدا من منطق المصلحية أو التيه المعرفي.

وأكبر ما يلفت النظر في ثقافة هؤلاء الأفراد علاقتهم بالعلم. فبينما يرون هؤلاء الوجه التقني للعلم أكبر الانجازات البشرية، ويسارعون في اقتناء التقانة الحديثة المتاحة في المجتمع، يتقبلونها دون أي اشتراط، ينقلب هذا الإعجاب إلى ريبة وتوجس عند ما يتعلق بالقيم الحديثة، ليجري ذلك الإنشطار المصطنع والمعروف بين الوجوه التقنية للعلم، والوجوه القيمية له. ثم بخصوص الدين يتخذون الموقف ذاته، فيرون في الدين الكثير ما يطابق العصر الحديث والعلم، ولا يرون في التشريع الفقهي منحصرا في الزمان. كما أن نظرتهم تجاه القبيلة أيضا تفرغ بين القبلية والقبيلة في نظرة ابتسارية لا تنظر للمفاهيم المرتبطة أصلا في إطار ترابطها وعلاقتها ببعضها. ومن هؤلاء الأفراد تغتذي النذور الدينية، والولائم القبلية، وهم وحدهم من له القوة على الدفاع عن الموروث، لما لهم من أكثرية وقوة اقتصادية.

أما بخصوص التحرك المجتمعي فثقافتهم تقترب من النظرة الحديثة شكليا، بينما أساليب نشاطهم لا تعير وزنا للجدارة بقدر المحسوبية وشرف الأنساب؛ لتنشطر هكذا إلى ثقافة معيارية يصادقون عليها؛ وعادات يومية تناقضها، ولا تعمل بمنطقها. وذلك ينبع، كما رأينا، من حال التأرجح ذلك، ومحاولات التوفيق تلك، التي تجعل كل شيء، وكل ظاهرة، وأي مفهوم، تجعله ثنائي منشطر، يعيش بين حيز متفارق.

والأمر ذاته ينعكس على التخطيط البعيد الأمد الذي يترواح هنا بين قرارات آنية لا مصدر لها سوى المشاعر والانفعال، وتخطيط مصلحي منطقه الربح، في كثير من الحالات خاصة بين حالات التجارة والنشاط في السوق.

أما فيما يتعلق بالمشاركة المدنية فهم هنا إما على حياد، أو على انفعال مبتعد عن الساحة العامة. على أنهم في الأعم الغالب منكفئين في محافل وجماعات خاصة بهم، يغلب عليها الطابع القديم، مع بعض الشذرات الحديثة التي تصطبغ بأساليب قديمة خلقت ظاهرة جديدة لا هي بقديمة تامة ولا هي بجديدة حديثة، بل تتطابق مع موضعهم الوسط هذا، الذي هو تعبيرا عن ثقافتهم وعقلانيتهم بصفة عامة. فكأن الساحة العامة لديهم، ليست الساحة المجتمعية التي قوامها الأحوازيين والمستوطنين والنظام القائم، كما يشير له الواقع، بل هم يحيون في عالم خلقوه هم، قوامه الابتعاد عن عالم الاختلاط إلا عند الضرورات، مع محافظة على تجنب الاحتكاك مع السلطة القائمة.

 

التغييرات الثقافية المجتمعية

يشهد المجتمع الأحوازي تغييرات ثقافية متسارعة، خاصة خلال العقود الأخيرة، تنوعت مصادرها بين تغييرات خارجية، وتطورات داخلية، خلقت فيه جملة تشققات جديدة، هي صنيعة العالم الجديد، وإن كان الكثير من هذه التشققات ناجما عن الاختلاف بين القديم ومواقفه من المحدثات.

وكما رأينا في الجوانب الثقافية الفردية، فإن الجوانب المجتمعية شهدت اصطفاف مختلف الثقافات الفردية إلى جانب كل تشقق يتناسب معها ثقافيا، حيث ساندت الفئات القديمة الثقافة، الفئات المجتمعية المحافظة، بينما اصطف أفراد الثقافة الحديثة لمؤازرة التجديد والزاماته المختلفة، كما سنرى.

ومن منطلق تلك الثقافات الفردية يمكن الحديث عن أبرز التغييرات المجتمعية في الأحواز ضمن الظواهر التالية: الاختلاف بين المحافظة والتجديد، وإشكالية العلمانية والدين، وصراع التفريس والقومية العربية، وتشرذم الثقافة الجنسية.

 

الاختلاف بين الثقافة المحافظة والتجديد

ولعل هذا الاختلاف هو صورة كلية وعامة عن التغيير الثقافي الذي يطال الأحواز بمجمله، لأنه أشمل صورة عنه. ويعني التباين بين النزعة المحافظة والميول نحو التجديد ذلك التباين بين الموروث، مع الزمن الراهن بكل ما فيه من تبادل بين الأمم، وتعاطي الثقافات، وكثرة التواصل بين العالم، حتى صح نعته بالقرية العالمية.

وأكثر ما يظهر ذلك الاختلاف بين الأجيال المباشرة؛ فبينما كان التغيير في المجتمع الأحوازي قبل اصطدامه بالعالم الحديث، يجري بوتيرة متباطئة، أصبح يحدث اليوم بين الأجيال المباشرة، بين الأب وابنه، ليتوالد من هنا هذا التفاوت الملحوظ في أنماط حياة الآباء عن الأبناء في البيت الواحد، بله المجتمع الواحد[4].

وأكثر ما يتميز به هذا الاختلاف هو النزوع نحو المحافظة أو التجديد: فبينما يمثل الجيل المنصرم من الأحوازيين، جيل الستينيات والسبعينيات، المحافظة والاهتمام بالحفاظ على الموروث، نتيجة الصدور عن ثقافة فردية قديمة وفق أنماط إنكلس، يجنح الجيل ما بعد الألفين، وهم جيل الزد، إلى سلوكيات جديدة، غريبة عن عالم الأجيال الماضية، ومجهولة لديه رأسا. فهذا الجيل يتأثر بشكل يومي من ذلك المد الثقافي والقيمي الكبير الذي تنقله وسائل التواصل الاجتماعي، وتكرره كل يوم في مختلف المنصات المتاحة، حتى خلق قيما باتت حديث الساعة لهذه الاجيال تقترب، شيئا فشئيا، من التبني والتوطيد، ومن ثم التحول إلى قيم تختص بهم، وينتمون لها، أي يحيون وفقها.

ولعل أكبر الملاحظات على التباين بين هذين الاتجاهين، هو أن النزوع نحو التجديد يشهد في الأجيال الأحوازية الناشئة، خاصة الأجيال المتربية على أساس ثقافة حديثة، ووسط، وفق صفات إنكلس المذكورة أعلاه، يشهد تخليا شبه تام عن الثقافة الموروثة، بالتزامن مع رغبة في الدخول إلى عالم متكاثر حديث، بطابع فردي منفلت عن أية توجهات جماعية تهتم بشؤون الجماعة أو الشعب.

ونظرا لتموضع المجتمع الأحوازي موضع الضعف في تعاطيه مع الفرس أولا، ومن ثم تعاطيه مع الثقافة العالمية، فيبدو أن هذا الانفتاح على القيم العالمية أصاب فئات كثيرة من هذا المجتمع بالاغتراب[5]، وجعل الثقافة الحديثة الأحوازية تميل تارة نحو طرح العربية واحتضان الفارسية، أي التفريس، والميل تارة أخرى نحو نزعات قومية موضوعية، يجدونها تلتئم مع ثقافتهم العامة، وتاريخهم، وواقع حالهم ومن ثم مستقبلهم.

على أن هذه القومية الأحوازية الناشئة ضمن هذا التجاذب بين المحافظة والتحديث، تتقولب بصور إشكالية القديم والحديث من جهتها، حينما تتحول الثقافة القديمة إلى صورة من صور الاعتداد بالقبيلة والنسب، وتصبح دعوة إلى عنصرية قبلية، إذا صح القول. وذلك أن الجيل المحافظ ما زال يورث الأبناء تلك العادات المتفاخرة بالأنساب، حتى يمكن عد ذلك السبب الرئيس في تحول القومية، في لحظة من اللاحظات عند خبو الآخر غير العربي عن التعاطي اليومي، تحولها إلى قبلية في نطاق ضيق.

 

إشكالية العلمانية والدين

وبناء على ما أفادته الفقرات السابقة من تعاط ثقافي أحوازي مع التحولات العالمية والتحولات الجارية في النظام الإيراني، أصبحت نتيجة لذلك التحولات الجارية في هذا النظام تنعكس بقوة عليه.

وإذا ما كان النظام الإيراني في عهد الجمهورية الإسلامية يمر بطور الحكم الإسلامي- الشيعي، الذي أوصل الشعوب كلها إلى حالة من التأزم الشاملة، وما نتج عن ذلك من نفور عن الدين بعدَّه داعم هذا النوع من الحكم، فإن المجتمع الأحوازي تأثر بهذه النزعة النافرة عن الدين، وبات بتأثير من النظام هذا في حالة امتعاض عن المذهب بكليته.

إن هذا التحول الملحوظ في علاقة الدين بالنظام القائم، وعلاقتهما بالشعوب ومستوى عيشها وحرياتها العامة وصيانة كرامتها إلخ، بات يعني التوحيد بين الدين وبين النظام، والتماهي بينهما، والنظر إلى مخرجات النظام بوصفه عصارة الدين ومنتهى رؤيته السياسية. لقد بات الابتعاد عن الدين هو القاسم المشترك الذي يوحد بين جميع الشعوب غير الفارسية وبين الشعب الفارسي صاحب الدولة، حتى أصبح موضوعيا الحديث عن إنقسام ثنائي في النظام الإيراني، على المستوى الثقافي المجتمعي، بين الأقلية ممن تدور في فلك طبقة رجال الدين الحاكمة، وبين أكثرية الشعوب الرازخة تحت هذا الحكم[6].

وقبل ذلك لم تكن إشكالية الدين والدنيا واضحة بهذا السفور لدى المجتمع الأحوازي، ولم تكن ثقافة العلمانية، بمعناها الأوسع العام الذي يعني تجنيب الدين عن الدخول في السياسة وتشيير الشؤون المجتمعية، هي المطلوبة من قبل الجماهير، خاصة تلك الفئات والأفراد المنتمين إلى المد الحداثي. لقد بات الفرد الأحوازي يصور النظام المجتمعي السياسي المطلوب، الكفيل بمنحه حياة كريمة حرة متساوية، ذلك النظام الذي لا يصدر عن الدين، ذلك النظام العرفي الدنيائي الأنسب لخدمة الحياة البشرية.

وغني عن القول إن تلك القناعة العامة لم تكن لتكون لو لا ذلك الفشل الذي مني به النظام الإيراني الراهن في جميع جوانبه، ولو لم تكن تلك الدعوات والتأليفات الفارسية المترجمة والمؤلفة عن محاسن النظام الدنيائي الديمقراطي، ومساوئ النظام الديني المؤدي إلى الاستبداد واستعباد الشعوب بمختلف قوميتها وثقافتها[7].

 

صراع التفريس والقومية العربية

وإذا استذكرنا هنا ما قدمناه في الفقرات أعلاه من أن معظم أصحاب الثقافة الحديثة الأحوازية هم المتعلمون والموظفون والكُتّاب، وحاضنة عيشهم هي المدن على عكس الثقافة القديمة التي تحتضنهم القرى والأرياف، المدن التي تتفوق فيها الثقافة الفارسية بحكم امتلاكها الدولة والسلطة، تبين لنا حينها أن صراع التفريس والقومية العربية نتيجة منطقية لذلك التجاور، وأحدث صور التغييرات الثقافية في المجتمع الأحوازي حديث العهد بالمدينة وعالم الاختلاط بغير العرب.

لم يمر من تمدين الشعب الأحوازي بصورة شاملة إلا بضعة عقود، لأسباب مختلفة أبرزها زيادة التعداد السكاني، والحرب الإيرانية ضد العراق إلخ. إن الشعب الأحوازي كان يعيش في ذهول عن النظام الإيراني الذي مر على احتلاله الأحواز أكثر من قرن، حيث كان يسكن في مناطقه العربية، دونما مزاحم من جانب الفرس ونظامهم، إلا بعد العقود الاخيرة القريبة.

وبعد هذا المد الإستيطاني الفارسي، والميل نحو التحديث بزيادة المدن، وتوسيع الاقتصاد الصناعي بدل الاقتصاد القديم الزراعي إلخ، باتت أعظم التغييرات الثقافية هي تلك الناتجة عن التعامل مع الفرس والتعاطي مع دولتهم. وبعد ذلك توالدت الإشكاليات العربية بين مثقفي المجتمع الأحوازي، وعامتهم من أصحاب الوعي المدني الحديث، حتى استفحلت ثقافة المقاومة، وقد كانت تعني التمسك بالقومية العربية، ثقافة قوامها الحفاظ على العروبة من جهة، والتصدي للتفريس الذي يقوده النظام الإيراني من جهة أخرى.

إننا لن نبالغ في الرصد إن صرحنا بأن أي مراقب مجتمعي يلاحظ بقوة وجود ثقافة قومية في الأحواز، تسري بين أكبر قدر من أبناءها، تفيد بوجود شعب عربي أحوازي، لا بد من نزع الاعتراف له بحقه في تقرير المصير: فهذه موجة من الأسماء العربية باتت توضع على الأبناء والأماكن والمحلات، وهذا توجس رافض للاحتكاك بالمستوطنين والابتعاد عن العشرة معهم، وتلك تأليفات رصينة تؤرخ للتاريخ القومي الأحوازي وتخطط لآفاق مستقبله، وهذا تاريخ عربي لم تخلو عهوده من انتفاضة عارمة تطالب بالتحرير ودحض الاحتلال. وكل تلك ظواهر من هذه الثقافة المتعاظمة تعكس صورة ثقافية جديدة عن تغييرات الثقافة الأحوازية الراهنة.

 

تشرذم الثقافة الجنسية 

ولعل أحدث التغييرات التي عصفت بالثقافة الأحوازية، على حد سواء بين الثقافة القديمة والحديثة، هو تغييرالثقافة الجنسية، وحدود العفة والارتباط بين الجنسين. إن الثقافة الجنسية الأحوازية اليوم على غير حالها بالأمس القريب، في شتى صور تمظهرها، سواء تعلق الأمر بالزي، وهنا زي النساء بالدرجة الأولى، أو بمعنى العفة، أو بحقيقة العلاقات بين الجنسين. وهذه الثقافة الجنسية باتت متشرذمة تائهة بين قبول متخف، مسكوت عنه، لبعض صور الحياة المدنية من الاحتكاك والعلاقات العاطفية بين الجنسين وتعددها، وبين حنين للماضي المتعفف الذي لم يكن الفرد فيه عرضة للإغواء الجنسي لكثرة الاختيار ووفرة في وجود أشخاص يرغب الواحد في العلاقة بهم جنسيا وعاطفيا.

أما من حيث الزي النسائي والرجالي معا، بات الملحوظ هو تلقيد الزي العربي للزي الفارسي وومماثلته له، وأصبح العربي لا يفترق كثيرا عن هندام الفارسي في مختلف المدن الأحوازية، حيث باتت النسوة ترتدي زي الفارسيات، وكذلك التحرر من الجلباب العربي الفضفاض الذي بات مختصرا على بعض النساء المتحفظات ليس أكثر.

أما من حيث مفهوم العفة فلم يعد يعني، بالنسبة للجنسين خاصة بين الأفراد الحداثيين، الاختصار على حياة البيت للبنت والمرأة، بالدرجة الأولى. كما لم تعد تعني براءة الرجل والمرأة عن علاقات سابقة قبل الزواج. كما خرج مفهوم الزواج عن طريقته القديمة التقليدية وجنح نحو الاختيار الناتج عن معرفة قبلية تحدث في الساحات العامة المجتمعية من جامعات ودوائر عمل ومنتزهات ونحوها. ومن هنا بالتحديد حدث تغيير خطير في الثقافة الأحوازية يتجلى في قبول الزواج بالفرس، من بنات وأولاد، ما كان في العهود السابقة ممكنا، لما كان يعني التجاوز على صريح النسب، والتطاول على أصالة العروبة، وقبول العار، بالزواج بالفرس ممن يراهم العرب أقل شرفا من أن يتزوجوا بالعرب ومنهم.

أما العلاقات الجنسية المثلية ففي الأحواز كانت مغايرة مع العالم تقريبا: حيث أن العلاقة بين الجنس المماثل، وبالدرجة الأولى بين الرجال، كانت قديما أكثر من الوقت الراهن، وذلك بتأثير من انعدام الاحتكاك بين الجنسين سابقا، مما كان يضطر بالرجال والشباب إلى الميل نحو بعضهم؛ ولكن مع إتاحة العلاقات بين الجنسين اليوم، قلت هذه العلاقات والميول كثيرا، وأصبحت ظاهرة المعشوقين قليلة جدا بالمقارنة مع الأجيال السابقة.

 

الاستنتاج

لقد بينا في هذه الدراسة أبرز التغييرات الثقافية التي حدثت في المجتمع الأحوازي في العقود الأخيرة، فقسمناها إلى التغييرات الثقافية الفردية، المتمثلة في ثلاث ثقافات هي الثقافة القديمة والحديثة والوسط. فيها كلها فئات وأفراد يمثلونها ويعملون وفقها في الساحة المجتمعية والفردية على السواء.

ثم أتينا على التغييرات الثقافية في المجتمع، فرأينا منها تلك التغييرات الخاصة باختلاف النزعات المحافظة مع الجديدة، والتغييرات الخاصة بالعلمانية والدين، وهي تغييرات مصدرها النظام الإيراني. ثم رصدنا التغييرات الخاصة بالتفريس ونشوء القومية العربية، حيث إن القومية باتت من أكبر التغييرات في هذا المجتمع، لما لها من قوة حضور، وما تتمتع به من فئات مجتمعية كبيرة تصدر عنها وترى ضرورتها، ختاما بالتغييرات الجنسية التي حولت الأمر الجنسي من التشدد إلى مسحة من التساهل والتسامح فيه. أما عن التغييرات الثقافية الخاصة بالجوانب السياسية التي تحدثنا عنها ضمن هذه الدراسة، فهي ستكون موضوع الدراسة المقبلة.

 

 

عدنان تميمي

 

 

 

المصادر:

[1] . Alex Inkeless, Making Men Modern: On The Causes and Consequences of Individual Change in Six Developing Countries in Amitai Etzioni and EvaEtzion (eds.), Social Change, New York: Books, 1964.

[2] . عبدالله الغذامي، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء2009.

[3] . محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010.

[4] . أرمان ماتلار، التنوع الثقافي والعولمة، ترجمة حليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت2008.

[5] . حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت2006.

[6] رسول افضلي، دو نظام سياسي جغرافياي در إيران، نشر دانشكاه تهران، تهران1388

[7] . عبدالكريم سروش، ومصطفى ملكيان وإلخ، سنت وسكولاريسم، نشر صراط، تهران1392.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!