المدخل
تحدثنا في الدراسة السابقة عن التغييرات السياسية التي ظهرت في المجتمع الأحوازي، ورصدنا أهمها، على ثلاث مستويات هي المستوى الفردي والمجتمعي والسياسي. ففي المستوى الفردي قلنا أن الثقافة الأحوازية تغيرت في نماذج ميزت الإنسان القديم عن الإنسان الحديث، أو شبه الحديث؛ وعددنا صفات كل منهما وسلوكهما الثقافي، نظرا لكونه إنسانا قديما أو حديثا إلخ. وعند تناول التغييرات الثقافية في المجتمع عددنا أبرز تلك التغييرات فكان منها الإنشطار بين الأجيال على مستوى المحاظفة أو طلب الحداثة، ومنها نشؤ القومية العربية، ومنها القضايا الجنسية إلخ. وعند الوصول إلى المستوى الثالث، مستوى التغييرات في الثقافة السياسية، أرجأنا الكلام إلى دراسة أخرى، طلبا للاختصار ( والتزاما بحجم معين لكل دراسة لا تثقل على القارئ).
وفي هذه الدراسة نخصص الكلام عن الثقافة السياسية في المجتمع الأحوازي، محاولين في ذلك العثور على مرجعية فكرية تساعدنا في تسيير البحث ولم شتات الواقع، كما تعودنا على ذلك في جميع الدراسات، محاولة منا للمران على استخدام النظريات واستدعائها في قراءة المجتمع الأحوازي العربي بجميع مظاهره وتغييراته.
في معنى الثقافة السياسية
إنه إذا كانت الثقافة، في معناها العام، تعني مجموع العادات والقيم والتقاليد المتوارثة، المتجلية في الفنون والنقوش الأثرية والمعالم الموروثة، وهي بذلك تكون الروح التي تسري في التجليات المادية، فإن الثقافة السياسية هي أخص من الثقافة على عمومها، حيث تعني مجموع العادات والرؤى والمواضع التي تتخذها الجماعة، تجاه النظام السياسي والنخب الحاكمة والحكم الجاري على المجتمع، أفرادا وجماعات. إنها بهذا المعنى الموقف الروحي والمادي الذي يُتخذ تجاه الدولة بصفة عامة[1].
وكما هوا الشأن بالنسبة للثقافة من أنه ليس من جماعة إلا لها ثقافة معينة، متقدمة أو بدائية إلخ، فإن الثقافة السياسية في عصرنا اليوم، عصر الدولة القومية، لا بد أن تغطي جميع الأمم والجماعات، ولا بد أن تجد تجلياتها بين جماعة معينة، تجعل منهم ممثلين لها، تصطبغ أفعالهم ورؤاهم ومواقفهم. وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد أن يكون للشعب الأحوازي ثقافة سياسية، أو لنقل هكذا ثقافات سياسية، تجعل منه الوعاء الحامل لها، ومن يمثلها، أو من يتحرك في نطاقها، لما لها من تكرار تظهر على سلوكياته وعلى أنماط تصرفه السياسي.
ومن هذا الفهم بالتحديد نريد السؤال عن نوع، أو أنواع الثقافات السياسية التي يحملها الشعب الأحوازي. وهنا لا بد من تحديد المقصود بالثقافات السياسية قبل البدء بتحديدها بين المجتمع هذا.
يعود مفهوم الثقافة السياسية إلى العالمين السياسين غابريل ألموند وبينغهام باول، حيث هما من حدد هذا المفهوم ومقاصده ودلالاته، الدلالات التي قلنا عنها أنها تتعلق بعادات وسلوكيات ومواقف شعب ما أو جماعة ما تجاه النظام السياسي القائم. وعند تحديد هذا المفهوم من قبلهما فإنهما انطلقا من أن الثقافة السياسية هي التي تحدد نوع النظم السياسية، وأن السياسة بمعنى السلطة القائمة صاحبة القوة الفائقة تتعاطى في قولبتها معها وتشتق عنها في كثير من الحالات: وإذا أردنا استبيان ذلك وجدنا أن أبرز الثقافات السياسية على ثلاث أصناف، هي الثقافة السياسية القائمة على الفاعلية السياسية، وتلك التبعية المنغلقة، والمحدودة.
وبهذا المعنى تكون الثقافة السياسية ثقافات، منقسمة بين الشعب الواحد باختلاف أفراده، لكل منها محدداتها وتأثيراتها على الأفراد والجماعات.
فبأي الثقافات السياسية يتميز الشعب الأحوازي، وماهي أبرز التمظهرات فيها؟
حول الإجابة عن هذا السؤال تتمحور أقسام هذه الدراسة، وبناء على الإقرار بوجود أنواع من الثقافات السياسية، نرصد أبرزها السائدة بين الشعب الأحوازي المعاصر، والأسس التي تشتق عنها.
الثقافات السياسية الأحوازية
نريد في هذه الفقرة التطرق إلى أبرز الثقافات السياسية الأحوازية، بناء على الأساس الذي تشتق عنه. نقصد بالأساس ذلك المنطلق العام الذي يبلورها، ويعمل على اصطباغها بشكل معين من الأشكال.
يقول العالم السياسي أوستن رني في كتابه الحكم بأن الثقافات السياسية تشتق عن جانبين رئيسين[2]: الجانب المعرفي، والجانب العاطفي. فمن حيث الجانب المعرفي تكون الثقافة السياسية قائمة على أساس معرفة وعلم بالسياسة وشؤونها، وهي معرفة قد تكون متقدمة أو منقوصة، بيد أنها تظل معرفة ناتجة عن علم بهذا الشأن السياسي بالدرجة الأولى. أما من حيث الجانب العاطفي فتكون المعرفة بالشؤون السياسية خاضعة للمشاعر والعواطف، وهي معرفة يحركها شعور المرء عن السياسة الآني، شعور قد يجد مصاديق في العالم الخارجي السياسي أو قد يكون مجرد شعور لا موضوعية له.
وبناء على هذين الأساسين يمكننا الحديث عن أربعة ثقافات سياسية أحوازية، لكل منها تأثيراتها في الحياة العامة، تصطبع سلوكيات الأفراد السياسية والفاعلية السياسية للجماعات أيضا. وهذه الثقافات ترجع بالأصل إلى الأساس الذي تقف عليه، فإذا كان الأساس أساسا معرفيا كانت على نوعين: الثقافة السياسية القومية، والثقافة المنفعلة المتكسرة. أما إذا كان ذلك الأساس هو العواطف والأحاسيس كانت على نوعين أيضا هما: الثقافة السياسية الرافضة المنكفئة، والثقافة السياسية المنصهرة.
الأساس المعرفي: الثقافة السياسية القومية، والثقافة السياسية المنفعلة
لقد قلنا أن نوع الثقافات السياسية في الأحواز يتقوم على الأساس الذي تتقولب عليه، فإذا كان الأساس ذلك أساسا معرفيا، اصطبغت هي به، وبات أبرز ما يميزها هو الوعي الذاتي، والعلم بالعصر، والإنطلاق من دائرة الفاعلية والمبادرة، بعيدا عن الإنفعال والخوض في دائرة ردود الفعل.
وإذا كان هذا هو واقع الحال في تلك القائمة على المعرفة، فإن ذلك لا يعني أنها على مستوى واحد من الوعي الذاتي، وتقدير الظروف الراهنية، والتعامل السياسي مع النظام السياسي أو الأحزاب السياسية في الأحواز. وذلك بالتحديد هو ما نريد تبيينه في الفقرتين الآتيتين، حيث وجدنا أن الثقافة السياسية الأحوازية القائمة على أساس معرفي هي اثنتين: الثقافة السياسية القومية، والثقافة السياسية المنفعلة المتكسرة. وغني عن القول أن لكل هذه الثقافات من يمثلها ومن يتحرك في نطاقها، ويخضع، من جهته، سلوكه السياسي لها، فهي ليست مجرد صفات تدور في المجتمع دون ممثلين أو أحزاب أو جماعات سمتهم هي.
الثقافة السياسية القومية الفاعلة
لا شك أن الثقافة القومية في الأحواز هي في مقدمة التغييرات الثقافية العامة فيه، وهي أولى التجليات الفاعلة والواعية وعيا ذاتيا بين أوساط مجتمعه. وعند الإقرار بأن الثقافة القومية هي مقدمة الوعي الذاتي، فإن ذلك لا يعني الصدور عن موقف رومنسي، أو تمنيات حالمة، بل هي قراءة موضوعية تمكنت من تصوير القومية العربية، في الأحواز، على أنها قائمة على أساس معرفي، وهي ضروة سير التاريخ، والحل السياسي والأخلاقي الأمثل للقضية.
ولكن إلى جانب ذلك فإن الثقافة السياسية القومية الأحوازية اليوم، بما لها من تبلور حضاري في المجتمع، وتأثيرات طاغية على السلوك الفردي والجماعي معا، هي حقيقة لا بد من دراستها والتعامل النقدي معها، تعاملا يبرز سماتها ويشخص حدودها ويستبين فاعليتها، إنطلاقا من التعاطي معها وترتيب الحركات المجتمعية السياسية على ضروراتها[3].
وأبرز السلوكيات التي تتمظهر على أصحاب الثقافة السياسية هذه فهي: أولا رفض التعامل مع النظام الإيراني، وثانيا رفض أنصاف الحلول أو الحلول الظرفية وتصنيف الواضع الراهن بالاحتلال، وثالثا الحركة في نطاق الفعل والمبادرة، ورابعا النظرة الحدية المفرقة بين الأنا والآخر.
- رفض التعامل مع النظام الإيراني: يرفض أصحاب هذه الثقافة التعامل مع النظام الإيراني، والتعاطي معه، وعدم الاعتراف به كدولة شرعية تمثلهم، أو تمثل مختلف القوميات والشعوب الحاملين لجنسيتها. بل هي تتحدث بصراحة على أن الشعب الأحوازي يعيش حالة حقوقية تثبت وقوع احتلال: احتلال شعب معين لشعب مغاير عنه، وتذهب بناء على هذه الحالة إلى التنظير لذلك تاريخيا، والاستدلال عليه قانونيا.
إن الراسخ في هذه الثقافة السياسية والمحور الذي تدور عليه جميع السلوكيات السياسية لحملتها يتفرع عن هذا المبدأ، مبدأ احتلال الأحواز من قبل النظام الإيراني، ولذلك فإن هؤلاء يعيشون يوميا واقع احتلال، حتى يمكن القول بأن العالم الذي يقضي فيه هؤلاء حياتهم مغاير تماما لعوالم أصحاب الثقافات السياسية الأخرى، حيث ما من ظاهرة أو حادثة إلخ، في الأحواز، تمر عليهم إلا نظروا لها من هذه الزاوية، والتمسوا تأويلا لها من هذا المقام، حتى جعلهم ذلك ينقطعون تماما عما أفرزه نظام الاحتلال الإيراني، وفق قولهم، ويحاولون جاهدا استصدار أفعال سياسية تقوض وجود الاحتلال وتعدم إمكانية الاستمرار فيه.
وبناء على الأساس المعرفي القائمة عليه، فإنها تتوفر على قراءة موضوعية للتاريخ الأحوازي، والتاريخ الإيراني معا، تثبت به وقوع حالة الاحتلال، وسرد رواية عن التاريخ تبين تلك اللحظة التاريخية التي حدثت تلك النكسة، وتحول التاريخ الأحوازي إلى عهد يقع خارج التاريخ، بدخوله حالة الاستعباد وفقدان الهوية القومية العربية التاريخية له[4].
- رفض أنصاف الحلول: وبناء على هذا المبدأ القاضي بوجود احتلال قادته القومية الفارسية بمساندة بعض الفئات الخطيرة من الشعب «التركي الإيراني» ونخبه[5] (ولا نعني هنا الشعب التركي عموما) ، فلا يمكن القبول بوضع آخر، إلا ذلك الوضع الذي ينختم فيه الاحتلال، عبر مختلف الأساليب الصادرة عن الشعب، أو قبول حق تقرير المصير من جانب نظام الاحتلال الإيراني ذاته.
فإذا كان المبدأ القاضي بوجود احتلال هو المحور الذي تدور حوله الثقافة السياسية، فإن أكبر الإشكاليات والتحديات المجتمعية والسياسية التي تواجهها هي هذه الإشكالية التي تستمد قوتها من الاختلاط الكبير بين المستوطنين الفرس والعرب على طول الأحواز، وتلك التحديات المنبثقة عن استمالة الشعب الأحوازي ذاته إلى تبني رؤيتهم، وعدم انجراره بحلول وقتية ظرفية يصدرها النظام لا تتفق مع حالة الاحتلال وتبعاته ووجوب التحرر منه، وتظل مجرد أنصاف حلول تبقي على الشعب الأحوازي خاضعا للسطة الإيرانية وإن بمسميات مختلفة على أحسن الفروض.
ومن هنا تلك المهمة التي تكفل بها أصحاب هذه الثقافة القاضية برفض جميع أشكال التعاون السياسي مع الاحتلال، ومحاولة إظهار بطلان التعامل معه سياسيا بالدرجة الأولى بوصفه ضياع الحقوق التي يجب أن تستوفى كاملا، حقوق الشعب الأحوازي في بناء دولته القومية؛ وأخلاقيا من حيث يعد أي تعاطي مع هذا النظام خروجا عن الأخلاق السياسية المعيارية المستوجبة التصدي له، والصمت عن الجرائم الطويلة التي أنزلها لعقود بالشعب الأحوازي.
- النظرة الحدية: ومن أجل ذلك بالتحديد فإن أي حزب أو حركة أحوازية لا تلتزم بهذا الفهم، ولا تستلك هذه الثقافة السياسية، فإنها تصنف من جانبها على أنها خارجة من دائرة الأنا العربية الأحوازية المقاومة للاحتلال الفارسي/الإيراني وداخلة في دائرة الآخر الفارسي المحتل أو المتعاطي معه، المتخاذل عن تحمل المسؤلية القومية.
ويتبين جليا عن ذلك أن ما يحكم النظرة هذه هي الحدية، وهم على وعي بهذه الحدية، حيث ترى هذه الثقافة أن الحدية هي الميز بين التصدي للإحتلال، والتخاذل معه أو الركون إليه. ولذلك فمن أي صدرت أفعال أو تصرفات تتعاون، في إطار أي نوع من التعاون مع النظام القائم، فإنها علامة على خيانته، وخروجه من جملة المناضلين حملة القضية، وفق هذه العبارات بالتحديد.
وما دام الأمر كذلك، فإنه من غير المتوقع أن تصادر هذه الثقافة على العمل الحزبي داخل النظام الإيراني، ولا يمكن لها القبول بالحركات السياسية التي تتعامل في نطاق الوضع الراهن، كأنها تصادق عليه، وإنْ كان منطلقها المطالبة بحقوق الشعب الأحوازي، ما جعلها تحكم على جميع الأطروحات السياسية الداخلية الفاعلة بمبدأ القبول بالدولة القائمة، بقصور في الرؤية، وابتعاد عن الطرق المعيارية المتفق عليها عالميا توضح حالة الاحتلال وحقوق المحتل وواجبات المحتل معا.
ومن أجل ذلك فلا يعني في إطار هذه الثقافة السياسية التغيير في اتجهات الحكم الإيراني، من إصلاحي أو أصولي أو نظام حكم ملكي أو جمهوري إسلامي، أو نظام حكم جديد أي نظام حكم مستقبلي سيأتي بعد إطاحة هذا النظام أو اصلاحه داخليا إلخ، لا يعني تغيير الحالة القائمة، لأن الوضع القانوني الحضاري بناء عليها، هو هو لم يتصدع ولم يحدث فيه تغيير، لأنه ظل يحافظ على حدود الدولة هذه المبنية على أساس يخترق القانون الأممي المتفق عليه عالميا في بناء الدول.
- الحركة في نطاق الفعل: وهذا الوضوح في الرؤية، وضوح رؤية الثقافة السياسية القومية، جعلها غير مترددة في أخذ زمام المبادرة وتنفيذ سياسات أو اتخاذ مواقف إلخ، تتناسب مع موقفها، سواء كانت المبادرات حركة ثقافية تريد صيانة اللغة العربية بين الشعب الأحوازي ضد حملة التفريس، أو رفض الانتخابات البرلمانية والرئاسية وعد المرشحين العرب من جملة «الخونة الانتهازیين»، أو القيام بحركات مسلحة تستهدف العناصر الأمنية وأبرز أجهزة نهب الثروات الطبيعية إلخ.
إن تتبع السلوك السياسي الصادر عن هذه الرؤية لا يدع مجالا للشك بأن فاعلية هذه الثقافة السياسية إنما تنبع من هذه النقطة بالذات، نقطة القيام بزمام المبادرة، أو التوفر على حلول يتطلب تنفيذها البدأ بالفعل، بدلا من انتظار ردود الفعل والصدور عنها. فعلى سبيل المثال إذا كانت باقي الثقافات السياسية، خاصة منها القائمة على أساس التعامل مع النظام الإيراني، ترتب خطواتها على أساس تغيير النخب الحاكمة، أو وضع المجتمع الإيراني إلخ، ومن ثم تنظيم الفعل السياسي على هذا الأساس، أساس رد الفعل، فإن الحركة هنا تنطلق، أولا وأخيرا، من المعتقد والقناعات الداخلية المعدة سلفا، القائمة على ذلك الأساس والرؤية الرافضة تلك، ما يجعلها في غنى عن الخضوع لمنطق التحولات الجارية في حدود النظام الإيراني ونخبه وحال الطبقة الحاكمة فيه.
الثقافة السياسية المنفعلة المتكسرة
وتأتي هذه الثقافة السياسية كثاني الثقافتين المبنيتين على أساس معرفي، لأن الصدور عن هذه الثقافة مسبوقا بشبه رؤية متكسرة، لكنها تمتلك قوة إقناعية، وتلائم مع أرض الواقع، ما يجعل عدها في الأساس المعرفي سليما، لا يخرم التصنيف المتخذ في هذه الدراسة.
وكما لا يعني امتلاك أساس معرفي الصواب والصدور عن مسؤلية أخلاقية، فإن عدها في الجانب المعرفي لا يعني تبرير وجودها، ولا نجاعة رؤيتها، ولا امتلاكها القوة في الانتشار بين الشعب الأحوازي؛ وإنْ كانت ثقافة سياسية خطيرة لها ثقلها في المجتمع.
وأبرز ما تتميز به هذه الثقافة السياسية هي السلوكيات التالية:
- الصدور عن أساس معرفي «عالمي» لا تاريخي كلياني: إن أول ما يميز هذه الثقافة السياسية ومن يتحرك في نطاقها هو الصدور عن قناعة، تظهر على جميع كراساتهم وخطابهم ومحاوراتهم السياسية إلخ، قوامها القول بمواطنة عالمية، تشمل كل أبناء البشر، ليس فيها فضل لعجمي على عربي.
وإذا كانت هذه القناعة تبدو في النظرة الأولى قناعة يقبلها أو يتوهمها «العقل»، لكنها في صميمها لا تصدر عن واقع، وليس لها مصداقا في العالم المتقدم، ناهيك عن الوضع السائد في الدول النامية، وعلى رأسها «الدولة الإيرانية»؛ ما يجعل الصدور عن مثل هذه القناعات هروبا من الواقع إلى عالم موهوم يجد الأحوازي/العربي نفسه متساويا مع الآخر الفارسي.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن هذه القناعة المحركة للثقافة السياسية لا تصدر عن فراغ مطلق هكذا، بل يزكيها الواقع الأحوازي ذاته: شهد الأحواز منذ أولى سنوات الاحتلال استراتيجية شاملة نفذها النظام الإيراني بعد الاحتلال مباشرة بجميع أجهزة الدولة التي بناها ومختلف القدرات التي لديها، قوامها أمرين: الاستيطان والتفريس.
فبموحب الاستيطان بات العرب في أرضهم الأحواز يجاورون خيول الوافدين المستوطنين، حتى توالد هؤلاء في الأحواز وبات وضعهم فيها كأنه طبيعي كوضع العرب أصحاب الأرض، حتى ما فتئ العربي يدخل منطقة أو مدينة أو حيا إلا وجد فيه فارسي، وإنْ لم يجده فإنه سيلتقي به في مدرسة أو مشفى أو إدارة أو مسجد إلخ. وهذا لوحده كفيل بأن يصور الوضع لمن تنقصه المعرفة من عموم الناس، وضعا طبيعيا يشهد تعدد قوميات، وهؤلاء هم أكبر ضحايا هذه الثقافة السياسية، خاصة ضحايا نخبها المروجين لها.
أما من حيث التفريس، فإن العربي الأحوازي بفرض اللغة الفارسية عليه، ودراسته بها والتحدث عبرها في أماكن الدولة العامة، أصبح يجيدها أكثر من إجادته اللغة العربية الأصعب من حيث الإتقان من اللغة الفارسية الممارسة السهلة. وهذا بالتحديد هو ما جعله غير غريب عن الثقافة الفارسية بل هو يجدها تنشأ معه منذ نعومة الأضفار في المدارس الابتدائية.
وإذا كان الوضع كذلك، فإن الطريق لتبني الثقافة السياسية الكلية هذه، الشاملة العرب والفرس، أي المحتل (اسم مفعول) والمحتل (اسم فاعل) معا، طريقا معبدة، تجد طريقها للجماهيرة عبر النخب المستلبة بأسهل الأحوال.
- القبول بالوضع الراهن والصدور بمنطق نفعي انتهازي: إن ما يجعل السلوك المنبثق عن هذه الثقافة السياسية سلوكا انتهازيا، هو أساسها المعرفي بالأساس. فنظرا لأن هذه السياسة قائمة على أساس معرفي، فذلك يعني أن أصحابها على علم بالثقافة السياسية القومية، عارفين بأطروحاتها التاريخية والقانونية والمجتمعية إلخ، لكنهم متنصلين عن قبول الزاماتها السياسية لا لشيء سوى لأن تكاليفها باهضة قد تودي بالفتك الأمني الإيراني.
إلى جانب ذلك فإن الملاحظ على أصحاب هذه الثقافة هو قبولهم الوضع الراهن، وانتماءهم للدولة الإيرانية، والتعاطي معها بوصفها دولتهم التي تمثلهم، ما يجعل سلوكهم السياسي تشعبا عن السلوك السياسي الإيراني وطبيعة تجاذبات الحكم والنخب فيه. ومن هنا تلك التيارات العربية/الأحوازية الإصلاحية والأصولية والاعتدال، ومن هنا تلك المشاركة الحثيثة في الانتخابات والعضوية في أحزاب مختلفة إيرانية إلخ.
وقد اصطلح أصحاب هذه الثقافة، التي تتعاطى مع النظام الإيراني أكبر تعاط، مصطلح «عرب إيراني»، وأخذوا يعملون على نشر الزامات هذا الاصطلاح، بما تتوفر لهم من إمكانيات النظام الإيراني الذي يتيح إمكانية النشاط لهم. وهذا الاصطلاح بالدرجة الأولى هو اصطلاح سياسي يبلور مفهوم «مواطنة إيران»، ويصنف عرب الأحواز مواطنين إيرانيين، وقد اكتسب هذا المصطلح السياسي تعبيرا في جوانب كثيرة من الحياة الأحوازية حتى رأينا فنانين وكتاب يتبنون هذا المفهوم ويصنفون أنفسهم إيرانين.
- وجود استعداد مستمر للتخلي عن المبادئ: وهذا السلوك السياسي هو تجل آخر من تجليات هذه الثقافة السياسية المنفعلة، لكنه يسمى عندهم بالبراغماتية والمنطق السياسي المصلحي. وبموجب هذا السلوك يعمد أصحابه، في إطار التعاطي السياسي مع الحركات والأحزاب السياسية الإيرانية المركزية، إلى التخلي عن كثير من المبادئ، على رأسها المطالبات القومية، نظير التعليم باللغة الأم المنصوص عليه بالدستور الإيراني الراهن، والمطالبة بالمحاكم العلنية للأسرى، ويصفونهم بـ«المعتقلين السياسين»، وباقي المطالبات، التي تصبح عندهم فارغة عن المضمون لأنها لا تعبر عن الواقع الذي انبثقت عنه، وتتطابق معه.
فهذه الألفاظ، «العرب إيراني» و«سجناء الرأي» و«إيران لكل الإيرانيين»، وغيرها كثير، هي محاولة صارخة لطريقة السلوك السياسي الذي استطاع استمالة فئات كبيرة من الشعب الأحوازي، جلهم من الموظفين وطالبي العيش المسالم، تحكي تلك المحاولات الواعية وغير الواعية معا، للرقي بها إلى ثقافة سياسية تزاحم الثقافة القومية المناهضة، تمهيدا لإزاحتها، عبر ما يتيحه التعاطي مع النظام الإيراني ومنحه بعض الامتيازات الإدارية لفئات من نخب هذه الثقافة. وهذا يعد جانبا آخر من جوانب ذلك التعامل القائم على أساس التعاطي المصلحي بعيدا عن التقيد بقييم قبلية، تعمل كمعالم في طريق التعامل السياسي.
- القبول بإيران والدفاع عن وحدته: ولعل نقطة الذروة في هذا التوجه، وهو بمثابة التتويج لجميع الصفات المميزة له، القبول بكيان الدولة الإيرانية، وعدها شرعية بشرعية قيامها على أساس المواطنة والرضا المجتمعي من جميع المكونات. ولكن إذا كان هذا التوجه لا يقر بوجود حالة من الاحتلال في جميع تياراته، فإنه في التيار الإصلاحي يفيد بأن النظام السياسي الراهن لم يكن مبنيا على أساس ديمقراطي، ولذلك إذا ما أراد الاستمرار في البقاء فلا بد له أن يترك حيزا للتمثيل السياسي حصرا، حتى تتوطد دعائمه، ويستمر في الوجود. وهذه الذروة المقصودة فيه: وهي التحول من ثقافة سياسية تتعاطي مع النظام وتقبل بشرعيته، إلى مدافعة عنه، وشد الهمم، وتأليف الكتب والرسايل من أجله ومن أجل سلامة وجوده. إن هذه الثقافة بذلك التوجه، بوعي منها أو من دون وعي، تتخلف عن المعارضة الإيرانية التي تريد الإطاحة بالنظام أصلا، وتصبح أكثر منه حرصا على بقاء نظام لا يستطيع الصمود أمام الواقع التاريخي الموضوعي الذي يثبت بأنه نظام احتلال.
ليس هذا فحسب بل إن ذلك الصراع المتجلي بين التيار الأصولي والتيار الإصلاحي في نظام الحكم الإيراني، الصراع الذي بات اليوم لا يمثل واقعا سياسيا، ينعكس على يد هذه الثقافة السياسية بقوة على الواقع الأحوازي، ويتم التعامل معه من قبل النخب صاحبة هذه الأفكار، كأنه صراع من صميم الواقع العربي؛ بينما هي تيارات لا يفهمها جل الشعب في الأحواز ولا يجد أنها تمثله، وتعكس قضاياه. هكذا يتم بهذه الطريقة مصادرة الواقع، وقولبته بصراعات مزيفة فرضت عليه، تزيد من استغرابه وتجعله يردد كلمات ويتبنى أطروحات لا يفهم منها سوى أسمائها وشبه النخبة الانتهازية التي جعلتها مطية للوصول إلى مأربها الخاصة الضيقة.
الأساس العاطفي: الثقافة السياسية المنكفئة، والثقافة السياسية المستعجمة
إن هذا الصنف من السياسات الثقافية هو على مغايرة مع تلك الثقافات التي تحدثنا عنها أعلاه، من حيث صدورها عن أساس من المشاعر والعواطف والإنفعالات الغريزية، ليس لها مكنة من الوعي الذاتي، ولا تنبثق عن معرفة قبلية قوامها المعرفة والعلم.
إنها جملة من السلوكيات التي تتفجر هكذا، وليدة الساعة، لكنها وليدة الصدمات أيضا. أقصد بذلك أن الحوادث التي مرت على أصحاب هذا الصنف من الثقافة السياسية، ارتدت بقوة على عواطفهم ومشاعرهم، الأمر الذي تطلب منهم رد فعل عاطفي، أخذ يستجيب لتلك الصدمة، فطغى هذا التجاذب بين الصدمة وردود الفعل الغريزية على فاعلية كل من هاتين الثقافتين، وبات السلوك يصدر عن مجرد ارتياح تخفف من وطأة تلك الصدمة.
وعلى العموم تكون الثقافة السياسية الرافضة، لكن المنكفئة، والثقافة السياسية المستعجمة هي أبرز الثقافات المنبثقة عن هذا الأساس بناء على ما تفيد به معطيات المجتمع الأحوازي الراهن.
الثقافة السياسية المنكفئة
إنه إذا كانت الثقافة السياسية هذه تشترك مع الثقافة القومية بأنها رافضة لوجود النظام الإيراني بيد أن اختلافها كما سنرى في أساس تحصل تلك المخالفة وذلك الرفض، إنه الأساس العاطفي الذي لا يعي سوى المشاعر والعواطف الجياشة الآنية التي تشتد وتترهل.
وأبرز صفات هذه الثقافة فهي الإنكفاء، واجترار القديم من أنماط السلطة.
- فبموجب الإنكفاء يعمد أصحاب هذه الثقافة السياسية ليس على الرفض بالمعنى الذي شهدناه عند الثقافة القومية، بل يكتسي الرفض هنا شكل النسيان والتجاهل، كأن كيانا إيرانيا ونظاما سياسيا محتلا غير موجود في أرض الواقع، وكأن حياتهم اليومية لا تخضع أكبر الخضوع لتصرفاته وسلطاته.
فهنا يفر أصحاب الثقافة السياسية هذه، بثقافتهم المنهزمة هذه، من الواقع، ويظلون يحيون على شكل جماعات ما قبل تاريخية، يصنعون عالما موهما على المستوى المعنوي يلبي حوائجهم المعنوية، ويخضعون على المستوى المادي إلى حالات متردية من انعدام أنظمة جماعية، ودوائر حضارية، يمكنها الخروج بهم من جماعات تعيش في جزر متباعدة معنويا، إلى جماعات تمتلك روابط مجتمعية سياسية قومية. إنها حالة غريبة معطوبة لا يمكن وصفها إلا إنكفاء سلبيا يحول الفرد إلى كائن منتزع عن القيم الاجتماعية، لا يعي سوى ذويه في النسب، وما يقترب منه عبر الرابط الحيواني/الطبيعي.
على أن ذلك يجب أن لا يُفهم على أنه حصيلة أمر ما ورائي أو صفة بيولوجية محضة، كلا لأن هذه الحالة من الإنكفاء بالذات، وكما قلنا، هي نتيجة تعاط مع الواقع أتى على شكل صدمة، فأحجبت الصدمة تلك الواقع برمته، وجعلت الأمر مشوه في نظرهم، لا يمكن التعاطي معه سوى عبر تجاهله، بوصفه واقع يفوق الإدراك.
وغني عن القول أن النظام الإيراني يحبذ سيادة هذا النوع من الثقافة في الأحواز، لأنه الممهد الأول لتنفيذ السياسات العامة، من تفريس واستيطان ونهب ثروات إلخ، فضلا عن أنه يخرج الثقل السكاني العربي من حيز التأثير، ومزاحمة القوى البشرية المستوطنة التي تشهد منذ تنفيذ توافدها ضعفا سكانيا أمام العرب وكثافتهم السكانية وزيادة تكاثرهم.
وإذا ما أردنا من عد فئات في المجتمع الأحوازي تنطبق عليهم هذه الثقافة السياسية المنكفئة، استطعنا حينها عد القبايل العربية، ومن ينتمي لها قبليا، في مقدمة صفوف الثقافة هذه، لأن معاينة النظام القبلي الأحوازي يثبت أنه نظاما لا يمتلك ثقافة سياسية عالمة، من شأنها أن تبادر وتؤسس نظاما معرفيا منه تنبثق طرائق التعامل مع النظام السياسي، بل إنه يصدر عن محركات ودوافع عاطفية منفعلة، تخرج على الفطرة، دون تأمل مسبق.
- على أن هذه الثقافة فعلت الأمر ذاته في عالمها المنكفئ الذي لجئت إليه إثر صدمتها بالواقع الذي تعيشه، فأصحبت بعالمها هذا أيضا منفعلة تنطلق من تصورات إلى المشاعر والغريزة أقرب، فهكذا اجترت القديم الذي توارثته من سلطات بدائية، ودوائر قديمة بالية.
وهكذا بدل فهمها السلطة مسؤلية اجتماعية خاضعة للمساءلة معرضة للاستغلال وظلم العامة، قدست أصحاب السلطة بينها، وبات صاحب السلطة، الشيخ أو المرجع مثلا، مقدسا يكاد يكون معصوما، له الفضل على كافة الناس. بالمثل فعلت في تلقيها المجتمعي فأقتصرت العام على النطاق القبلي الذي تحيي به، والقبيلة التي تنتمي إليها، والطائقة المذهبية التي تسدد لها المغارم والضرائب الدينية إلخ.
ولعل هذه الثقافة هي التي تمنح بين فترة وفترة الروح إلى الدوائر القديمة وهي التي تقف وراء استفحالها الدوري، واعادة إنتاجها على هيأتها الأشد تخلفا عن السابق، حتى بات المجتمع الأحوازي بفئاته الكثيرة هذه يعيش اللازمن، يتحرك بشكل دوري من نقطة فيعود إليها مرة أخرى. إنها ثقافة جهل الواقع، والقاءه وراء الظهر، والحياة مع قديم مستأنف، لا يسمح لأي جديد أن يفرض الزاماته ورؤواه، بل يظل يتقبل الجديد المتسرب عليه، بصورة مشوهة، تجعله ضعيف التأثير، حتى إذا جد مستجد نبذ هذا الجديد، وعادت الأمور إلى سابقها: ولتقريب هذه الصورة يمكننا هنا أخذ مثالا على وسائل التواصل المجتمعي التي كان يمكن جعلها، من زاوية الثقافة السياسية، محملة بمضامين قومية ومحتوى متقدم، لكنها تحولت بيد أصحاب هذه السلوكيات مطية إلى التفاخر النسبي، ونصرة النعرات الطائفية، وخدمة القديم بما يحمل.
الثقافة السياسية المنصهرة: المستعجمين
وهنا في هذه الثقافة يتحول فعل الصدمة تلك إلى أشكال متشددة، هي أخطر على المجتمع الأحوازي من تلك الثقافة المنكفئة التي تظل تحافظ على عروبتها، على الأقل، لأنها تتحول بأصحابها إلى انتزاع العربية بما تحمل، والإستحالة في التفريس، والعد من ضمن الشعب الفارسي بمرور جيل واحد فقط، في الكثير من الحالات[6].
ومن أبرز صفات هذه الثقافة السياسية فهي اللهث وراء إخفاء العروبة أي التقليد، وفرض الرقابة الذاتية على التصرفات السياسية.
- التقليد: ويحول هنا العربي الأحوازي المستعجم قواه المدركة إلى وعاء قاطف يرصد بدقة، وربما بذكاء، حالات وأساليب الفرس في جميع الحالات، ويأخذ يرددها في خاطره ويجول بها في عقليته، ليصل بعد ذلك إلى التدريب عليها في بيته وتصرفاته اليومية، يبذل جهدا كبيرا في سبيل إحكامها وجعلها ملكة تصدر عنه. فهنا يعمد العربي إلى تبني القضايا الفارسية السياسية، على شكل عاطفي احساسي، ويذهب بعيدا في ذلك. فعلى سبيل المثال إنْ صدر عن الفرس أصحاب الثقافة السياسية المتدنية منهم، تمجيدا لرضا خان مؤسس الدولة البهلوية وعد ابنه رضا شاه ملكا متنورا عدم الإطاحة به كان كفيلا بتحويل إيران إلى بلد متقدم، إذا كان ذلك يصدر من عامة الفرس، تراه عندها يسارع إلى تبني هذه القناعة، والصدرو عنها، لا لقناعته بها، وهو يفتقد إلى العدة الفكرية والعلمية لتبني مثل ذلك شأنه شأن الفرس المقتنعين بذلك، بل لأنه يجد ذلك عند عامة الناس، فيقلدهم هكذا ليصبح مثلهم؛ وإنْ كان معظم المؤرخين الفرس تقريبا يقرون بتردي الحكم البهلوي بعهديه، وينددون بالنظام الملكي السابق ويوثقون تأريخيا مستوى المصائب التي جلبوها للبلاد الإيرانية، على حد وصفهم.
- فرض الرقابة الذاتية: ولذلك يظل هذا العربي المستعجم يستمر في فرض الرقابة الذاتية هذه على نفسه، حتى إذا أراد أن يصدر من موقف جماعي، راح ينطلق من مشاعره بالنقص تجاه الآخرالفارسي، وحاول مباشرة بعدها أكثر الأفراد تبنيا للمواقف العامة، نظير ما ذكرنا، لا لشيء سوى للتستر على عروبته.
إن الرقابة هنا تنعكس على ذاته أيضا، فعندما يجد هذا المستفرس العربي من الفرس من يقدح بالعرب وتصرفاتهم السياسية، راح يؤيد الكلام، أو يحاول جعل نفسه مميزا عنهم، بالصمت، وهكذا يعيش حالة من الوجع الذاتي المنشطر الذي يجعله من جهة راغبا عاطفيا بالتشبة بالفرس مبتغاه، ويستشعر هو بأنه قد لم يتخلص من العربية التي تسري في خلاياه أو هيكله البيولوجي مما يجعله يجر «اللعنة» هذه في وجوده وجسمه وكامل حياته؛ ومن هنا يحاول جاهدا أن يجعل أبناءه متخلصين من هذا الوجع بإبعادهم النهائي عن العرب وعن ذويه، حتى لا تتبين عروبتهم في لحظة غفلة في كلام أو لهجة أو انتماء، جراء المعاشرة مع العرب. إنها ثقافة سياسية شقية بالفعل تكره ذاتها بذاتها بدوافع موهومة ألقاها المجتمع الفارسي بمستوطنيه ونظامه السياسي.
الاستنتاج
هذه محاولة أخرى يسيرة لاستدعاء المرجعيات الفكرية، المتوفرة لدينا، لقراءة جانب من جوانب المجتمع الأحوازي، في الوقت الراهن، تتعلق بالثقافات السياسية السائدة فيه.
وكان الأساس الذي أقمنا عليه هذا التقسيم هو ما أتاحة لنا عالم السياسة آستين رني، من انبثاق الثقافة عن الأساس المعرفي أو العاطفي، فأصبحت الثقافات السياسية القائمة على المعرفة هي الثقافة القومية، والثقافة المتكسرة المنفعلة التي لها من الأسس المعرفية ما حتم علينا عدها في هذا الموضع على الرغم من معاناتنا منها، وتبنينا الثقافة القومية بجميع حمولاتها.
أما في الجانب العاطفي فرصدنا الثقافة السياسية المنكفئة والمتفرسة، وأبرزنا جانبين كل منهما، على عكس إبرازنا جوانب أربعة من الثقافات القائمة على أساس معرفي، وذلك مراعاة منا لخطورة هذه على تلك.
عدنان التميمي
المصادر:
[1] . غابرييل آلموند وديكران، جهارجوبي نظري براي بررسي سياست تطبيقي، ترجمه عليرضا طيب، مركز آموزش مديريت دولتي، تهران1381.
[2] . آستين رني، حكومت: آشنايي با علم سياست، ترجمه لي لا سازكار، مركز نشر دانشكاهي، تهران1374.
[3] . عبدالإله بلقزيز، نقد الخطاب القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت2010.
[4] . أنظر مثلا: محمود عبدالله، تاريخ الأحواز الممزق بفعل أربع جهات وضرورة التحرر منها، دار دجلة، الأردن 2018.
[5] . نيكي آر كدي، ايران دوران قاجار وبرآمدن رضاخان، ترجمه مهدي حقيقت خواه، ققنوس، تهران1385
[6] . هومي بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2004.