السبت, نوفمبر 23, 2024
دراساتنقد الحراك الأحوازي في المنفى

نقد الحراك الأحوازي في المنفى

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المدخل

نقصد بالحراك هنا ذلك الحراك الثوري التحرري الذي يؤمن بحدوث الاحتلال والاستعمار في الأحواز على يد النظام الإيراني الفارسي. وبناءً على ذلك، يدعو إلى اعتماد جميع الأساليب الشرعية الشاملة لتحرير الأحواز. وهذا الحراك مرفوض من قبل النظام الإيراني في مختلف المجالات، مما جعله يصنف معاديًا للنظام الايراني. يتعرض المنخرطون في هذا الحراك لأنواع مختلفة من العنف والقتل والاعتقال. ؛ وقد كان نصيب المنتمين له القتل والسجن، ما أدى بخروج كوادر كبيرة من هؤلاء النشطاء إلى خارج الوطن الأحوازي، بغية استمرار النشاط، والحصول على ترتيب تنظيمي يسمح لهم العمل على تمهيد نقل الحراك الثوري النضالي داخل الوطن.

وتمتد حركة الثورة الأحوازية التحررية على مدى قرن من الزمان، بعيد الاحتلال، حيث نشأت ثورات شعبية رافضة للإحتلال، وتحولت بسرعة إلى حركات منظمة بتاريخها الخاص، ورغم أنها كانت خافتة في فترات كثيرة، إلا أنها كانت متصاعدة في فترات قليلة، وكلما سُنحت الفرص المؤاتية للتصاعد، سواءً بفضل الدعم الخارجي أو ضعف السلطة المركزية المحتلة، أو عبر ثورة شاملة يقودها الشعب الأحوازي ذاته، متقدمًا بذلك على تنظيمات ونخب تحررية ثورية ذاتها.

بإزاء هذا التأرجح بين الضعف المستمر، والقوة في العمل وهو استثناء، نتساءل عن أسباب هذا الضعف، الذي ينزل منزلة الأصل في الحراك الثوري الأحوازي، فنقول ما هي أسباب ضعف الحراك الثوري الأحوازي؟

وللإجابة عن هذا السؤال العام نذكر أهم أسباب ذلك الضعف، من وجهة نظرنا، الأسباب التي نعتقد أنها صاحبة التأثير الأكبر، تاركين الأسباب الأخرى إلى مناسبات أخرى. ولكن بما أن الحراك الثوري الأحوازي ينشط معظمه في الخارج والمنفى، وهذا أحد أسباب الضعف من دون شك، فإننا سنركز القول على النشاط في المهجر والمنفى، يتم فرز بين الأسباب الداخلية لضعف الحراك الثوري الأحوازي، الأسباب النابعة من المجتمع الأحوازي والشعب ذاته؛ وبين تلك الأسباب الناتجة عن تأثيرات خارجية.

 

أبرز الأسباب الداخلية لضعف الحراك الثوري الأحوازي

لا شك أننا نعتقد هنا بأن الأسباب الداخلية هي الأسباب الأقوى، والأسباب التي لها التأثير الأكبر على حال النضال الأحوازي، وحال الشعب برمته، لأن لا شيء يحصل في أرض الواقع إذا لم يكن نابعا من حال أمة من داخلها، لا يخضع، بأكبر مساحة ممكنة، إلى ما يأتيها من الخارج ويحل عليها من الآخر. وذلك أن الفاعلية القومية الشعبية لا تكتسب معناها الواقعي إلا إذا انبثقت عن ذاتها، واستندت في تحقيق تطلعاتها على قدراتها الداخلية، سيما التغيير الذي يخرج بالشعب من السبات إلى شعب صاحب وعي ذاتي قومي، في أعلى درجاته، يمهد له فهم القضية، وتبنيها.

ولذلك نصنف أهم الأسباب الداخلية لضعف الحراك الثوري التحرري الأحوازي في الأسباب التالية:

 

  • تمركز الحراك في خارج الوطن

لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لمناضل أو ناشط أن يتصوّر تحرير الأحواز من خلال القيام بنشاطه في بيئة خارج الوطن المحتل، وبعيداً عنه. وهذا يصبح أكثر صعوبة خاصةً عندما نتذكر تأخر الشعب في تحقيق المرحلة الثورية اللازمة للانخراط في صراع التحرر الشامل.

إن أكبر ضعف في حركة الحراك الأحوازي هو بالتحديد تمركزه في الخارج. ينبغي أن نتذكر أن وجود الأحوازيين في الخارج يفتقر إلى النشاط الذي يتمتع به في بلد المهجر، حيث يمكنهم التفاعل مع الدول المضيفة وشرح قضية الأحواز، كما يحصلون على الدعم من هذه الدول. لذلك، يكون الضعف في هذه الحركة مزدوجًا. فهي ضعيفة أولًا لأنها تتمركز في الخارج بعيدًا عن الواقع والصراع الحقيقي في الأرض، وثانيًا لأنها لم تنجح في تعزيز وتوطيد الدعم لقضيتها من خلال وجودها في الخارج، مما يمكنها من تعزيز صفوف المقاتلين في الداخل. إن الأحوازيين في الداخل يعانون من قمع قوات الاحتلال، حيث يتعرضون للقتل والاعتقال والتشريد والفقر بينما النساء الأحوازيات يعانين من انقطاع الدعم المعيشي والاعتداءات والتهديدات.

ومن أجل ذلك يتجلى الضعف في جميع ذلك النشاط الخارجي، فهو عمليا يظهر في نأي المناضل الأحوازي عن صاحب القرار الأوروبي والأمريكي، لا يتحصل على مواعيد، مثلا، روتينية يشرح فيها لصانع القرار الأوروبي، ويوضح الوضع الداخلي الأحوازي، على المستوى الشعبي والتحولات الجارية عليه، من زاوية تعاطيه مع سلطة الاحتلال القائمة، من جهة، ويشرح من جهة أخرى الممارسات العنصرية المجرمة الفارسية بحق الشعب، سواء تعلق الأمر بالعبث بالأرواح، أو نهب الثروات، أو العبث بالبيئة، أو قتل الرموز الأثرية والهووية، والقائمة تطول. وهذا يعني بصريح العبارة أن المناضل الأحوازي ذاته، في الخارج، لا يمتلك تصورا وصفيا شاملا وموضوعيا عن الداخل الأحوازي، وهو لا يلامس الهواجس الأحوازية في الداخل، بل ظلت المعلومات عن الأوضاع الداخلية للشعب على حالها عند خروج المناضل، ولم يواكب التحولات الجديدة، نتيجة بعده، وغياب مراكز دراسات داخلية، بكل تأكيد، ترصد أبرز تطورات الشعب الأحوازي ومجتمعه.

ثم إن ذلك الإخفاق في التعاطي مع صانع القرار الأوروبي الأمريكي، من قبل الأحوازيين، الذي هو حصيلة عدم مواكبة التطورات الداخلية، والتخلف عن وصفها وصفا دقيقا، جعل صانع القرار ذلك لم يصل بعد إلى المعرفة على هذه القضية، ناهيك عن تبنيها وإدراجها ضمن جدول السياسات البديلة، أو الخيارات الممكنة، عند تحول الأنظمة وتبدل أحوال الدول في الشرق الأوسط. المنقطة الحبلى بتغييرات كبيرة في كل ساعة، من إطاحة نظم وتغيير حكام وميلاد شعوب إلخ. إن الواجب في الوقت الراهن تكثيف العمل الخارجي لأجل الارتقاء بالقضية الأحوازية، على مستوى التعريف بها ووصفها، وجعلها على قائمة التداول الدولي، خاصة في الدول التي فيها أكبر جالية عربية أحوازية، على رأسها إنجلترا التي يحدث بعض النشطاء الأحوازيين عن وجود 5 ألف أحوازي، فيهم عدد من أصحاب شهادات عليا.

ليس هذا فحسب، بل إن ذلك التواجد النضالي الأحوازي في الخارج، الذي هو بحد ذاته ضعف، تراكم ضعفا معرفيا. وذلك عند تخلف النضال الأحوازي الخارجي عن إخراج مؤلفات وكتب تتناول القضية الأحوازية بالتأصيل والتأليف، إلى جانب ضعف مراكز الدراسات القليلة الفاعلة (شبه معطلة)، سواء الضعف المعرفي وركاكة الدراسات وقلة الباحثين، أو ضعفها المالي وتخلفها في العثور على جهات داعمة تقنعهم بجدية عملها وموثوقيتها. وهذا كما لا يخفى تقاعس بين، لأن المعرفة والكتابة هي شؤون فردية، لا تحتاج كالعمل التنظيمي إلى تعاط ولعبة مصالح بين قوى كبيرة ومناضلين يصبحون أدوات ضغط بأيادي الدول الكبرى.

 

  • انعدام قيادة موحدة

ثم إذا أمعنا النظر في الحراك الثوري الأحوازي، سرعان ما وجدناه حراكا نضاليا متعدد الأوجه واليافطات والزعامات والرؤى إلخ. إنه بهذا المعنى نضالا متنافرا فيه أوجه عديدة: ليس على مستوى التنظيمات والمسميات والشخصيات، بل على مستوى الأفكار والأطروحات، والموقف الغائي من القضية ذاتها.

وهذا ما يتجسد كثيرا على الشخصيات نفسها، فبينما تشترك الشخصيات النضالية على القضية الأحوازية، لا نجد اشتراكا فيهم يجمعهم على تعريف القضية الأحوازية ذاتها: هل هي قضية تحررية تستوجب الدعوة إلى تحرير الأحواز من الاحتلال أو الاستعمار؟ أم هي قضية سياسية تستوجب القول بفدرالية داخل إطار الدولة الإيرانية، أم هي مجرد قضية حقوقية مدنية تتطلب القول بوجود عرب في إيران لهم الحق في المطالبة بحقوقهم الوطنية، وليست القومية، الوطنية باعتبارها انتماء لـ«الوطن الإيراني» متعدد القوميات.

ومن البديهي في ظل مثل هذه الظروف أن لا تكون هناك ظروفا مؤاتية من أجل بلورة شخصية كاريزمية أحوازية، إليها يستند الكافة، تكون بمثابة المحور الذي عليه يطوف الكل، ويستند الكل عند احتدام الخلافات، أو عند التباس الأمور والحاجة إلى استبانة الطريق والتعصب له والاحتماء حوله. إن التاريخ كما يقول المفكر الإيطالي النخبوي ويلفردو بارتو، هو مقبرة النخب، يقصد بذلك أن التاريخ هو صنيعة النخب، النخب التي هي من تصوغ رؤى الشعوب وتقدمهم إلى الغايات القومية.

أجل إن التاريخ الأحوازي بالفعل، وخاصة في راهنيته، بأمس الحاجة إلى زعامة موحدة كاريزمية توحد الشعب وتلملم شتاته. أقول في راهنيته، لأن النخب التاريخية ذاتها، التي عليها شبه إجماع اليوم، نظير الشهيد محي الدين آل ناصر وحتة، وغير هؤلاء من المناضلين، لم يكونوا في وقتهم قد لاقوا هذا التبجيل بين الشعب كما نالوه بعد استشهادهم. كما تشهد الساحة اليوم من المخلصين من لم ينل قبول الكل ولا الدعم الإعلامي إلخ، اللازم للارتقاء به إلى مستوى الزعامة المطلوبة، على الرغم من صحة معتقده بالقضية الأحوازية، وعلى الرغم من جميع ما قدمه من تضحيات بين سجن وتعذيب وقتل أقارب وفقر إلخ. إن الساحة الأحوازية اليوم تتعمد، إثر عوامل سيكولوجية، من التصريح والتنويه، ومن تقديم شخصية أو شخصيات تكون مرشحة للزعامة الموحدة، وعن خوض العمل الإعلامي على التنويه بها والتعريف بمكانتها، من أجل الارتقاء بها إلى الشخصية الزعيمة الموحدة للكافة، لتلبية هذه الحاجة الاستراتيجية الخطيرة في بناء زعامة تاريخية تعلو على الكل تضم الكل وتوحده.

 

  • العجز في تحشيد الشعب الأحوازي

إننا إذا ما أردنا الإشارة البينة إلى ضعف الحراك الثوري الأحوازي، في جميع ساحاته الداخلية والخارجية، العملية والنظرية، الحزبية والشعبوية إلخ، فإننا لن نجد أفضل من عجز النضال هذا من تحشيد الشعب الأحوازي، وإقناعه بالوقوف وراءه سندا له. فالكثير من الحراك الثوري والإنتفاضات التي خيضت لغاية الآن، من قبل الشعب الأحوازي، طيلة تاريخ الطويل من الاحتلال الفارسي الممتد لقرن، كان حراكا يفجره الشعب، ويخوضه بضراوة، ثم يتهافت المناضلون خلف الشعب يدركون الفوات أو محاولين ذلك، فضلا عن الكثير من الحراك الذي لم يكن أصلا مقبولا من قبل بعض الحركات والشخصيات، أو مقبحا من قبلهم.

وبينما كان التخلف عن تفجير انتفاضة أو ثورة أو حراك إلخ، سمة الحراك النضالي المنظم والمؤسساتي، فقد كانت مواقف التنظيمات الأحوازية مواقف متباينة تجاه أية انتفاضة أو أي حراك يندلع بين مؤيد وبين مساند وداع إلى اشتداد الحراك؛ مما أدى إلى تفتت العزيمة، وحيرة الشعب بين المضي إلى حدود بعيدة والاستمرار، وبين التوجس من خطأ ما قد ينتج عن هذا الحراك. على أننا يجب أن لا نهمل حقيقة خطيرة في كل ذلك، وهي أن قنوات التواصل بين الحركات والنشاط التنظيمي التحرري هي قنوات ضعيفة، عادة ما تتم عبر القنوات التقليدية، بعد أن ظل الإعلام الحديث غير مطروق من قبل النضال الأحوازي.

 

  • ضعف الحراك الإعلامي

وفي صدارة أسباب ضعف قنوات التواصل بين الشعب الأحوازي، والحراك الثوري النضالي المنبثق عنه، من دون شك، هو ضعف الحراك هذا في استخدام ما يستخدمه العالم بأسره من شتى منصات الإعلام والتواصل المتاح جدا وبأرخص التكلفة. من المحتمل إن المتابع من العرب من غير أحوازيين اذا قراء هذه السطور سيتفاجأ إن صرحنا بأن نضال عمره قرن قد تخلف لغاية الان عن تكوين قناة واحدة مستمرة مهنية.

وهذا بالتحديد هو ما جعل الحراك بشتى نشاطه وقياداته مجهولا رأسا بالنسبة لمعظم الشعب الأحوازي، ومعظم الدارسين الحاملين الفكرة على حد سواء، وهو أمر جعل من جهته الطرفين على ضفتين لا يعلمان بأحدهما. فما يتبناه الشعب ليس بالضرورة هو المتبنى من قبل التنظيمات معظمها أو كلها. وخير مثال على ذلك هو الانتفاضة الأخيرة، انتفاضة جينا الشاملة، التي ظل الشعب في حيرة من الموقف منها، بين من دعى لمساندتها وبين من رفضها، وهكذا كان حال الحراك بين مساند ورافض، حتى كانت الكلمة الأخيرة للشعب، وهو قد قرر أن لا يدعمها، لأسباب موضوعية منها أن الشعب الأحوازي لم ينل على طول انتفاضاته أية مساندة لا من الشعوب غير الفارسية، ولا المعارضة الفارسية، على حد سواء، وظل وحيدا يواجه بطش النظام الإيراني، كما أن الحرمان الكبير والقمع الشديد جعل العشب الأحوازي يمر بطور من الصمت والانكفاء. بالإضافة إلى أن رأي الكثير من المناضلين في الداخل كان قد استقر على عدم مساندة هذه الانتفاضة، لأن تعامل النظام مع الخروج والمظاهرات في باقي المدن الإيرانية، كان سيكون مختلفا تماما عن تعامله مع انتفاضة الشعب الأحوازي من بطش وقتل وأسر وفتك شامل. ولكن على الرغم من كل تلك العوامل المؤثرة والموضوعية، فقد كان جانبا من عدم مساندة هذه الانتفاضة يرجع إلى عوامل أخرى منبثقة عن المجتمع الأحوازي، على رأسها سيادة الثقافة الأبوية في هذا المجتمع، وأخذ الحجاب قيمة من جهة، وفتور الدور النسوي الذي لم يرتقي بعد لاحتلال مكانة القيادة في الانتفاضات.

إنه لمن الممكن والمتاح، بل الضروري جدا، أن تتجسر الهوة، أجل الهوة، بين الحراك التحرري الأحوازي، وعموم الشعب، عبر الإعلام المتاح اليوم، وذلك أقصر الطرق التي تحقق هدفين: التعرف على أحوال الشعب الأحوازي وأبرز التطورات فيه، والنبض العام للأجيال المتقاربة والقيم التي باتت تؤمن بها، وطرق العيش التي أصبحت تطمح لها، وفهمها من القضية الأحوازية والعلاقة مع الفرس، من جهة؛ وتقريب الحراك النضالي إلى هذا الشعب، وجعله يقترب من الحياة اليومية له، غايات ومتبينات ونشاط، وقيادات وشخصيات ومؤلفات وتضحيات. فعلى الرغم من التضحيات التي يقدمها المناضل الأحوازي، ونحن نقر بها ونبجلها، ظلت هذه التضحيات مغمورة في سجل الأمن الإيراني وأجهزة استخباراته، بعيدة عن تداول الشعب الأحوازي ومعرفته بها، والمعرفة بنساء ورجال ضخوا بالأنفس والغالي وأعز ما يُطلب، من أجل هذا الشعب دون أن يعرف عنهم، وعن قصصهم.

 

أبرز الأسباب الخارجية لضعف الحراك الثوري الأحوازي

إنه إذا كانت الأسباب السابقة تشير إلى أبرز ما أدى إلى ضعف الحراك من زاوية العوامل الداخلية، فهناك من دون شك ظواهر خارجية لا تقل أهمية عن تلك العوامل، لها تأثيراتها العظيمة؛ وإنْ كنا، في نهاية الأمر، من أولئك الذين يعيرون الاهتمام الأول والأخير إلى المسببات الداخلية، التزاما بالناموس القائل: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ومن أبرز المسببات الخارجية المثبطة للحراك التحرري الأحوازي فهي:

 

  • القمع لنظام الاحتلال

يفتك النظام الإيراني بأعتى صور العنف والبطش والقتل بالأحوازيين، شعبا ونشطاء، منذ أقدم العصور بل منذ ليل الاحتلال الشؤم. فبأدنى ريبة تتولد لدى النظام بأحد أو بجماعة، في أي منصب أو منزلة اجتماعية أو عملية، حتى يصول عليهم، ويبيتهم في السجون بين مؤبد وشهيد تحت التعذيب وأجساد مجهولة القبور إلخ.

وهذا بالتحديد هو ما وأد جل الحركات التنظيمية، الثقافية على وجه الخصوص، ناهيك عن الحركات المسلحة صاحبة البطش الأكبر من قبل النظام، جعل كل استيقاظ للشعب ونخبه أمام بطش لا مبرر له، إرادة جعل الشعب في سبات مستمر مستديم. إن النظام الإيراني نجح كثيرا في التصدي للحراك الأحوازي، بشتى صنوفه، عبر وسيلة مستعدة على الدوام هي التصدي الأمني العسكري، ما جعل القوى المحركة للشعب من نخب، مقتولة مجهضة، ما من شأنه الانعكاس على الواقع بمزيد من التردي الحضاري الشامل.

إن النظام الإيراني في طيلة تعامله مع الشعب الأحوازي، لم يقدم مقاربة للتعامل سوى الفتك والقتل، سواء كان ذلك التعامل، بل التصدي، يختص بحركة ثقافية ومؤسسات قائمة على الفكر والمعرفة، أو تعلق بمطالبات فئوية تطالب بشؤون قانونية وفق تصنيفه، حتى جعل أي حراك يعني في عيون الأحوازيين خروجا على النظام وتحد له. فإذا ما أردنا أخذ الأمثلة على ذلك، قلنا عن تصنيف المطالبات بحماية البئية، أو حق التعليم باللغة الأم، أو المطالبة بتوظيف الشعب في الأجهزة الحكومية والشركات الكبيرة الصناعية النفطية إلخ، تصنيفها كلها بمفهوم واحد: تحد النظام السياسي الفارسي وبداية اشتداد المطالبة الإنفصالية.

ولا يمكن لشعب أعزل، ولا أنظمة تحررية بدائية يخرمها الضعف من كل جانب، أن تصمد أمام دولة كبيرة العدد، كثيرة الموارد المنهوبة من ثروات الأحواز، ذات جيش جرار وجهاز استخباري فتاك إلخ، أن يصمد، وأن يكون لنفسه حركات ثقافية وقانونية وسياسية واجتماعية إلخ، تطالب بمطالبات تمهد للشعب التعرف على ذاته، والتقدم شيئا فشيئا نحو التقدم والخلاص من الانحطاط الراهن الذي يمر بطوره.

 

  • هجرة العقول

وإذا ما أردنا استبيان هول هذا البطش الفتاك، الظاهر على شكل قتل وتفقير وازدراء، أتينا على أبرز تبعاته الهدامة، لنجد ظاهرة تجلت في هجرة العقول. وقد أتينا في تعديد هجرة العقول في العوامل الخارجية عن قصد، دون العوامل الداخلية، لنبرهن على أن ظاهرة هجرة العقول التي تعاني منها الأحواز، حيث تشهد، منذ عقود، هجرة جل المثقفين والمتعلمين والمبدعين إلخ، هي ظاهرة خارجية أكثر منها داخلية. وذلك أن العقول الأحوازية دُفعت للهجرة عن الأحواز، لأن معظمها كانت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء في الوطن وتحمل الإعدام أو السجن أو الفقر، بعد دراسة وكد علمي استغرق كل سنوات الشباب، وإما الهجرة إلى الخارج والحصول على أدنى متطلبات الحياة وممارسة الحراك في الخارج. وهذا هو الإنصاف للنخب الأحوازية في الخارج، حيث لا نجد بين هذه النخب النضالية إلا السجين أو المهدد بالسجن والقتل من قبل النظام، مما أضطره إلى الهجرة هربا من موت وطلبا لأيسر حاجات الحياة.

ومهما يكن من شأن النخبة وأسباب هجرتها، فإن النتيجة تظل واحدة: مزيد من تدهور الحالة الأحوازية، ثقافة وحضارة ونضالا. وهذا هو سبب الضعف فيها، وسبب تخلفها داخليا وخارجيا. وذلك بعد أن وجدت النخبة في المنفى ظروفا على خلاف تصوراتها، على صعد ثلاث. أولا: ضعف الحراك الخارجي ما أدى إلى ابتعادهم عنه، حيث لدى الكثير من المهجرين تجارب ممضة مع التعامل مع الأحزاب والحركات في الخارج، سواء تعلق الأمر بعد الالتزام بالأمور الأخلاقية الثورية أو عدم التحلي بأدني متطلبات العلم والوعي والتقانة اللازمة لخوض صراع نضالي تحرري، ضد دولة احتلال لها عقول ومؤسسات وموارد هائلة هي موارد الدولة. وثانيا: صعوبة الحياة في الخارج: حيث إن اضطرار النخب إلى الهجرة، دون الاستعداد لها، جعلهم يقضون سنوات طويلة من أجل التكيف مع الوضع الجديد، سواء على مستوى اللغة التي أخذت من جلهم سنتين أو أكثر من أجل اتقانها، أو على مستوى البت بملفات اللجوء التي تستغرق سنوات، قد تتجاوز خمس، يظل فيها الفرد في حالات تعليق صعبة لا يدري من شأن مستقبله شيئا، أو من حيث الاستعداد الاقتصادي والدراسي الذي يتطلب سنين طويلة لاستقرارها وترويضها حقا. وثالثا: الارتماء في حالات نفسية نتيجة الابتعاد عن الوطن وخوض ظروف الهجرة المفروضة غير المختارة، بين من انتكص إلى الدين وصار سلفيا، وبين من تقدم أبناءه في العمر ولم يقبل لهم العيش في قيم الغرب، وبين من مات والداه وصار في حالة نفسية متدهورة لم يرى فيها ذويه من أب وأم وأخت إلخ اعتاد التعلق بهم جميعا في حياة الأحواز التقليدية العربية.

 

  • مصلحة القوى الدولية

ورب من سوء الصدف للأحواز أن التقت مصالح القوى الدولية منذ الاحتلال لصالح الإبقاء عليها تحت احتلال النظام الإيراني. فمنذ بداية الاحتلال وكانت مصالح القوى العظمي حينها تقتضي صناعة كيان و«دولة» مركزية إيرانية فارسية على حساب الشعب الأحوازي والمساهمة في المؤامرة على الإمارات الأحوازية وأمراءها؛ إلى يوم الناس هذا الذي تحاول القوى الدولية الراهنة على عدم زعزعة استقرار النظام هذا، وعدم الإقرار بحق الشعوب المحتلة في تقرير مصيرها.

وما كان من هذا الوضع الدولي المؤيد للنظام أن يدفع بالشعب الأحوازي إلى خوض صراع التحرر، وإعادة بناء الدولة الأحوازية، وحصوله المساندة من القوى الكبرى، ما يعني الحفاظ على تفوق القوة الإيرانية دوما على الشعوب المقهورة، ومن ضمنها الشعب الأحوازي، ومن ثم استمرار الحالة القانونية الموصوفة بالاحتلال. على أن النظام الإيراني، الملكي منه والشيعي الراهن، أدرك بوعي مدى تأثير الوضع الدولي على استمرار نظامه، ومن أجل ذلك التزم التزاما صارما بقواعد اللعبة الدولية، وعدم المساس بالخطوط الحمراء للقوى العظمى، بغية الحفاظ على سلامة حدود نظامه، وهذا ذكاء منه لا غبار عليه.

وهذه قضية يجب العناية بها كل العناية، وهي ذكاء النظام الإيراني في اتقان قواعد اللعبة الدولية، خدمة لغايته القصوى: الحفاظ على الدولة التي أقامها وفق قاعدة الاحتلال. والعناية بهذا الأمر يعني أن فهم، ومن ثم اتقان، قواعد اللعبة الدولية والتعامل الأمثل مع القوى العالمية المهيمنة، إنْ لم يحفظ المصالح القريبة الأمد لنظام ما، فإنه سيكفل ويكافئ الملتزم بتلك القواعد بعدم المساس بمصالحه العليا البعيدة الأمد والوجودية. ولذلك ظلت الحركات الأحوازية على هامش اللعبة الدولية لأنها تخلفت عن استمزاج النظام الدولي المهيمن، وبالتالي لم تقدم نفسها بديلا موثوقا وكفوء للنظام الراهن، ما جلعها على هامش أية محاسبات دولية، أو على حيز المبعد وعدم المفكر فيه.

إلى جانب ذلك كون النظام الإيراني، ضمن قواعد النظام الدولي الأحادي القطب، هوامش من الفضاء الاستراتيجي، عبر القوى الموالية له في الدول العربية في كل من العراق ولبنان وحديثا اليمن، فضاء أبعد به نقاط التماس الساخنة بينه وبين القوى الكبرى المناهضة له، وبالتالي إبعاد احتمال التصادم معه، وجَعْله تصادما يمر بسلسلة من القوى النيابية، واكتاسب مساحة من المناورة والتفاوض، كلها تجعل الوضع الإيراني على الحدود الراهنة آخر النقاط التي من الممكن وصول التصادم إليها، ومن ثم زعزعة أو ارباك سلامة النظام وحدوده.

كل تلك السياسات الإيرانية الموفقة كانت في انفعال تام من الحركات الأحوازية والمنظمات النضالية، حتى يمكن القول هنا أن القيام بمقارنة بين سياسة النظام الإيراني الدولية، وبين الحركات الأحوازية ضرب من الموهومات، إذ أين ذلك النظام قوي السياسة الخارجية، وأين منظمات تخلفت عن بناء شبكة إخبارية واحدة منذ قرن من الزمن.

ولكن على الرغم من ذلك فإن المكان الأنسب للحركات الأحوازية في الوضع الدولي، هو هذا الموضع بالذات، والسعي في النيل من التخطيط الإستراتيجي الإيراني في الساحة الدولية، والتقبيح من صورته، وكشف احتلاله، من أجل نزع الشرعية عنه بوصفه دولة لها حدود معترف بها دوليا، لها الحق في مساع دولية للحفاظ على فضاء استراتيجي، بل يجب إثباتها على أنها دولة احتلال تقوم على أساس غير شرعي، قوامه كبت شعوب مختلفة كبرى.

 

  • دور دول العربية والإقليمية

لا شك أن الدول العربية تخلت كليا عن الشعب الأحوازي انذاك، فبينما كان للأمير خزعل علاقات وطيدة مع حكام الكويت والسعودية والخليج العربي كله، تخلت هذه الإمارات عنه، ولم تقدم السند اللازم للشعب وأميرها من أجل الحفاظ على كيانه ووجوده. وإذا ما كان هذا الأمر طبيعيا، إلى حد ما، نظرا لحجم هذه الإمارات والدول إبان الاحتلال مقارنة بإيران، ومن أنها كانت مجرد إمارات في طور التأسيس منشغلة بقضاياها وحدودها، بيد أن هذا الأمر لا يبرر تخليهم الكلي عن الإمارة العربية هذه، من وجهة نظر استراتيجية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يجري اليوم عليهم من عبث النظام الإيراني بأمنهم القومي والفتك به حيث شاء.

على أن لهذا الإهمال للقضية الأحوازية يرجع الى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني حيث انشغل كليا الوطن العربي بهذه المعضلة الخطيرة، وتحولت القضية الفلسطينية بقدسيتها الدينية، إلى القضية الأولى وتكاد الأخيرة للأنظمة العربية، وبات الدعم والتطلعات القومية كلها مركزة عليها، دون سواها.

وعلى الرغم من ذلك كله أثبت دور النظام الإيراني بالعبث في الأمن القومي العربي، بأن القضية الأحوازية محورية، وتمتلك من الخطورة السياسية والتاريخية ما جعلت الدول العربية أمام إيران وجه لوجه، إذا لو كان الأحواز دولة ، لتحولت إيران إلى دولة ثانوية في المنطقة من جهة، ولكانت الأحواز منطقة حائلة بينها وبين العرب. وهذا من شأنه أن يوضح للجهات العربية وخاصة الخليجية موضوعية العمل على دعم إقامة الدولة الأحوازية، وإدراجها ضمن الأمن القومي الخليجي والعربي.

 

  • الدور الإقليمي المخرب للقضية الأحوازية

أضف إلى ذلك الإشارة إلى التشارك المصيري الوجودي بين النظام الإيراني والنظام التركي، على قضية الشعب الكوردي، وأيضا التشارك المصيري الوجودي بين النظام الإيراني والنظام الباكستاني على قضية الشعب البلوشي، ما جعل هذه الدول أمام وحدة غائية وجودية لا يمكن أن تنخرم، عنوانها الحفاظ على سلامة حدود الانظمة، واختلافات فرعية في المصالح القريبة الأمد سرعان ما تتبخر أمام الوحدة المصيرية في الهيمنة على الشعوب الراضخة. وكل ذلك من دون شك يعد رصيدا إضافيا للنظام الإيراني، ومكنته الإقليمية، على حساب كافة المناهضين له في الداخل وعلى المستوى الإقليمي، ما يجعله نظاما يمتلك من الأوراق ومن مساحات المناورة، يحتم التعامل معه امتلاك مساحات مناورة أكثر منه، أو على قده.

 

الاستنتاج

وفي الختام يحق لنا التساؤل عن الضعف في الحراك الأحوازي التحرري أليس هو صنيعة الشعب الأحوازي ذاته ومنه ينبثق؟ أليس الحركات الأحوازية التحررية من رحم هذا الشعب تولدت ولم تنزل عليه من السماء؟

إننا لم ننفك ندعو إلى تبني الرؤية التي تقول بأن أية مصائب تحل بشعب أو أمة إنما هي حصيلة واقعه بالدرجة الأولى وبالأصل، وما العوامل الخارجية إلا فرعا عن أصل، وجدت أرضية من قبل عليها عملت وفيها نجحت بالتأثير.

إن هذه الهشاشة في القضية الأحوازية، والضعف المستشري بين تركيبة المناضلين والنشطاء وحركاتهم ما هو إلا إعادة إنتاج للعلاقات والبناء الحضاري الأحوازي السائد بين الشعب، ذلك الشعب الذي لم يستطع بعد التعرف على قضيته وتبنيها، فما بالك بتعرف العالمين بها، ونزع الاعتراف من المحتل بأحقيتها، واخضاعه أمام إرادتها.

إننا في الوضع الراهن نجتر فشلا أو بالأحرى ضعفا مجتمعيا قوميا يرقد في أبدان وعقول الأحوازيين، حتى إذا تحول هذا الفرد إلى عمل جماعي، خيم عليه ذلك الفشل الراسب، وصبغ جميع نشاطه بتجلياته من تقليدية ومذهبية وقبلية ومناطقية والمنزلة وحب الظهور إلخ.

فإذا كنا فشلنا في تقديم زعيم أحوازي يوحد الجميع إنما ذلك لصفة فينا لا تجعلنا نرضى بتقديم فرد يكون زعيما علينا، على حساب أنفسنا، لأن كل منا يريدها لنفسه، يريد أن يكون هو الزعيم دون أن ينظر حاله، بوعي ذاتي، هل تتوفر فيه صفات الزعيم، أم هو مجرد جنون العظمة. وإذا كنا قد فشلنا في التواصل مع المجتمع الدولي وصناع القرار في بلاد المنفى، فإن ذلك لاجترارنا نمط حياتنا التقليدي الأحوازي، وتخلفنا، بالآن ذاته، عن مواكبة التطور العالمي وقيم العالم الحديث. وإذا ما هاجرت بعض من النخب، على الرغم من جميع ما ارتمت به من احتمالات القتل والأسر ومرارة التفقير، فإن ذلك يعود لانعدام استعدادنا للتضحية من أجل القضية وهكذا دواليك.

إن النقد الذاتي من دون شك، رغم قساوته، ووخزه للكثيرين منا، لهو البداية الصحيحة نحو التعرف على القضية الأحوازية من قبلنا نحن الشعب الأحوازي، ومنطلقا لتعرف الآخرين بها وبأحقيتها، وبما عانت منه من نظام ظلامي لا يراعي للإنسانية لا دما ولا كرامة ولا عرضا ولا مالا.

إن المسؤلية جسيمة، ولا يكون التعامل معها وتبنيها إلا عبر توفير قدر كبير من العقلانية وسعة الصدر مما يمهد للنقد والنقد الذاتي أولا، انطلاقا للخلاص من التردي الشامل الراهن، والبدء بتصحيح المسار النضالي التحرري المتعثر.

 

 

عدنان التميمي

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!