المدخل
تتأرجح القضية الأحوازية بين فكرتين أساسيتين تتسمان بالموضوعية والكفاءة، مما يوجه المراقب لضرورة معالجتهما والبحث في أدلتهما ومدى تأثيرهما وتمسكهما بالواقع. وهاتان الفكرتان هما الدعوة للفيدرالية، كما تصفها فئة واسعة من الأحوازيين، والفكرة التحررية. وهنا سنفصل بالحديث عن فكرة الدعوة للفيدرالية في القضية الأحوازية داخل وخارج البلاد، والتي لم تحظ بالجدارة والموضوعية من قبل نسبة كبيرة من شعب الأحوازي ، دون أن يعني ذلك انفصال مناصريها عن الواقع. إذ يمتلك هؤلاء أسباب موضوعية وتزكية تاريخية تضف لدعوتهم نوعاً من العقلانية. وفيما يتعلق بفكرة التحرر وقبولها لدى شريحة واسعة من الأحوازيين، فمن الطبيعي ان الاحتلال والاستعمار الفارسي المتمثل في أبشع صور الاضطهاد القومي والتمييز العنصري، هو من دفعهم لرفض النضال المطلبي والتوجه للتحرر والخلاص الوطني حيث يعتبرون التحرير السبيل الوحيد للتخلص من العبودية وتحقيق الطموح الوطني على مستوى الأمة والدولة والتاريخ.
وعلى العموم هذه دراسة تقوم بنقد الفيدرالية والتحررية، وتحاول استكشاف أبرز نقاط قوة كل منهما ونقاط ضعفهما.
الفدرالية في المعنى: الانطلاق من الآخر نحو الأنا
تعني الفدرالية، من وجهة نظرنا هنا، أولاً: القبول بالنظام الإيراني الراهن والإقرار بشرعيته، والاعتراف بشرعية «الدولة» التي أقامها. وهذا هو الشرط الأول للحديث عن أي فيدرالية قومية أو اقتصادية أو كونفدرالية… وهذا يعني ثانياً: وبالآن ذاته، تناسي تاريخ طويل من الظلم والقتل والنهب وكافة أشكال الإجرام التي مارسها النظام الإيراني بحق الشعب الأحوازي.
وتعني الفيدرالية في علم السياسة، حكومات متعددة داخل دولة واحدة، لها السيادة على باقي الحكومات، مع الانفراد بالسياسة الخارجية والعسكرية كلياً. ونظراً لخصوصية كل دولة وظروفها التاريخية، تصطبغ الفدراليات بأمور تختص بها دون سواها، مما يخلق حالة تنوع في الأنظمة الفدرالية، تميل نحو قوة الحكومة المركزية تارة، ونحو مزيد من الصلاحيات وحرية التصرفات للحكومات المحلية تارة أخرى.
وإلى جانب كل ذلك فإن ما يميز الدعوة الفيدرالية الأحوازية، كما سيأتي في الفقرات القادمة، تركيز هذه الدعوة في جميع أفكارها ودعوتها السياسية، بالانطلاق من الآخر: سواءً أكان الآخر ظروفاً سياسية، أو ظروفاً دولية، أو ظروفاً داخلية مجتمعية خاضعة للتأثير الخارجي. مما يجعل هذه الدعوة وكأنها دعوة منفعلة (ردة فعل)، يعتمد انطلاقها على أطور الآخر، ترتب على أطواره حركتها ونشاطها. وعليه، يصرح الفدراليون الأحوازيون بأن الشعب الأحوازي، في ظروفه الراهنة، غير مستعد للتحول إلى دولة مستقلة، نظراً لوضعه المجتمعي أولاً، وقوة النظام الإيراني واستماتته في الحفاظ على الأحواز باعتباره مصدر اقتصاده الأكبر ثانياً، إلى جانب الوضع الدولي والإقليمي ثالثاً، وهو وضع لا يسمح بنشوء دولة جديدة على أسس قومية. وكما يظهر من جميع هذه الأدلة، التي سنشرحها أدناه، فإنها أدلة تنطلق من الآخر، كما قلنا، في تقييمنا للشعب الأحوازي وطلبه التغيير لنفسه بناء على أحوال الآخر أولاً وأخيراً. ما يُشير لغياب حركة ذاتية المنشأ لدى الشعب تشكل نقطة البداية لديه.
تالياً، ينقسم الأفراد الطامحون للفدرلة بين أوساط الشعب خارج الوطن وداخله، وهم قلة، إلى قسمين. أولهما، يتمتع باتجاهات إيرانية لذا تم تسميتهم “نشطاء عرب إيران”. ويرى هؤلاء الفدرلة كهدف وغاية. وفي أحسن الأحوال، وسيلة لتحقيق الهدف المحدود. ويسعى هؤلاء للحصول على الحقوق الأساسية مثل اللغة والتعليم وما شابهها للشعب الأحوازي، ضمن إطار الدولة السيادية الإيرانية. معتبرون أنفسهم مواطنين لتلك الدولة بالدرجة الأولى. أما القسم الآخر، يرى أن الفيدرالية هي الوسيلة الأنسب لدعم حق تقرير مصير لشعب الأحوازي، وبالتالي من حق هذا الشعب أن يكتسب حريته واستقلاله. حيث يرى هؤلاء بالفدرلة سياسة تخفف مخاوف المجتمع الدولي، مع تلبيتها مطالب ورغبات الشعب الأحوازي، وتمكّنه في الحصول على حق تقرير مصير كامل مع مرور الوقت. وعليه، نستنتج وجود اتجاهين فيما يتعلق بالفدرلة، اتجاه يراها وسيلة لتحقيق الهدف، والآخر يراها مقدمة لحق تقرير مصير الشعب الأحوازي. ويغلب على القسم الأول إنكار وجود احتلال لأرض الأحواز، وبالتالي ينكر السيادة الأحوازية تماماً. فيما يقول القسم الثاني بوجود احتلال، وبالتالي يرى أصحاب هذا الرأي أن السياسة الأحوازية بحاجة إلى تبني سياسات تتفق مع المجتمع الدولي والإقليمي.
-
انعدام الاستعداد بين الشعب الأحوازي للتحرير
يتصور أصحاب الدعوة الفدرالية بأن الشعب الأحوازي، في ظروفه الراهنة، لم يستعد بعد لخوض صراع من أجل تحقيق حقوق «المواطنة» خاصته، ناهيك عن التحرر والسعي «المستحيل» لإنشاء دولته العربية.
وأبرز ما يعترض الأحوازيين في بناء حكم محلي أو دولة، هو واقعهم ذاته، والذي يشير إلى تشرذمهم وانحطاط مسيطر عليهم، مجتمعياً وعلمياً وحضارياً بصفة عامة. فمن حيث المجتمع تنقسم الأحواز إلى مجموعة من القبائل، النزاع صفتها اليومية، مع انتشار الثقافة العنيفة بينهم. وهذا الأمر جعل من حياة القبائل وكأنها عبارة عن أشخاص أو مجموعات تعيش في عصور قديمة لا صلة لها بالعالم الحديث، الذي يسمح لهم بتكوين شعب موحد له مصالح عليا. وأبرز ما يميز هذه النزعات القبلية العشائرية الانكفاء الناتج عنها، حيث تشكل كل قبيلة بمجموع أشخاصها عالمها الخاص بها، في تغاير تام عن باقي القبائل. حيث ترى نفسها منفصلة عن الجميع، ولا صلة لها بهم. وهذا يناقض تماماً الروح السائدة بين الشعب، التي تتطلب وجود مشتركات ترتقي بمجموعات بشرية إلى شعب موحد تجمعه غاية سياسية واحدة. لذا لا يمكن لأي مراقب مجتمعي للأحواز، في ظروفه الراهنة، إلا أن يقرر حاجة هذا الشعب للخروج من حالة المجتمع القبلي إلى حالة “شبه شعب موحد”، ما يعني أن المجموعات البشرية الأحوازية لم تشكل حتى الآن “أمة موحدة”.
ورغم إقرار دعاة الفدرالية بوجود فئات نخبوية لدى الشعب الأحوازي، فإن إقرارهم بوجود شعب أحوازي يمثلونه، لا يعني عندهم بلوغ هذا الشعب حالة النضوج، أو بلوغه حالة “الأمة الموحدة”. ويكفي لإثبات تشرذم المجتمع الأحوازي النظر إلى واقع حاله، فلم يرتق هذا الشعب حتى الآن لجعل القضية الأحوازية مداراً لحياته اليومية، والسياسية منها بالدرجة الأولى؛ فضلاً عن جهله بحقوقه في «المواطنة» وما يترتب عليها من مِنح ومواهب له، بحكم «مواطنته للدولة»، حاله حال جميع «الإيرانيين»؛ كما أنه شعب مشغول، إلى حدود بعيدة، في صراعاته اليومية داخل القبيلة الواحدة ذاتها، وبين القبائل طوراً آخر. وفي ظل وجود نظام قوي من الاستخبارات والجيش والشرطة؛ هذا حال الشعب الأحوازي، تنافر وحروب قبلية لا يمر يوم إلا ويسقط قتيل أو أكثر. فما هو الحال إذا ما تغيب هذا النظام الذي يردع القبائل المتناحرة؟ وأصبحت هذه المجموعات البشرية هي وحدها متكافئة القوى، لا تردعها سلطة قانونية متفوقة؟ والإجابة عندهم: البديل فوضى عارمة وعنف وليد روح عنيفة متصارعة شكلت صفة لهذا المجتمع بمجمله.
ويتجلى عدم الاستعداد لدى الشعب الأحوازي في أمر آخر، يتمثل هذه المرة بالمستوى العلمي للشعب. فبينما يدعو التحرريون إلى دولة أحوازية، من وجهة نظر دعاة الفدرلة، فإنهم يجهلون انعدام الاستعداد هذا، المتجلي في ضحالة عدد الأطباء الذين تحتاجهم الدولة الموعودة، وعدد المعلمين والأساتذة، والطيارين والكوادر الصناعية إلخ، حيث لا يمكن للشعب الأحوازي وحده تأمينها لتسيير شؤون الدولة، نتيجة فقدان هذه القوى العمرانية فيه أصلاً. وسواء كان هذا الفقدان العلمي حصيلة تعمد النظام الإيراني نشر التخلف في الشعب الأحوازي، أو لقصور الشعب ذاته، فإن المحصلة واحدة، وهي عدم بلوغ اللحظة التي تسمح في المطالبة بدولة أحوازية مستقلة.
وهذه النقطة بالتحديد تثير مسألة خطيرة، لطالما اتخذ الفدراليون تجاهها موقفاً ضبابياً، فهل دعاة الفدرلة دعوا إليها كحل نهائي، أم إنهم رأوا فيها حلاً ظرفياً، ومرحلة انتقالية لحصول الاستعداد اللازم للتحرير؟ وعند الإجابة عن هذا السؤال تكتسي فكرة الفدرالية قوة إقناعها وموضوعيتها. فإن كان الجواب عن ذلك بالنفي، تصبح الفدرلة تنكراً صريحاً لحق الشعب الأحوازي بالاستقلال وتحقيق الذات وحق تقرير المصير، وهذا القول يعني سلب هذا الشعب حقاً طبيعياً، ويشكل عدواناً عليه لا يقل عن عدوان الشعب الفارسي ونظامه عليهم. أما إن كان الجواب بالإيجاب، فكما أشرنا سابقاً، سيعني ذلك أن الفدرلة دعوة معقولة، تستطيع استمالة الكثير من النخب، فضلاً عن الشعب، إلى جانب إمكانية قبول النظام الإيراني ذاته مثل هذه الحلول، إن أصابه الضعف، يميل حينها لحلول شبيهة بالفدرلة للحفاظ على حدوده وكليته.
إضافة إلى ذلك، مما لا شك فيه أن الدعوة الفدرالية تبدو، بهذا المعنى، مكسباً للشعب الأحوازي: فهي من جهة تساعده في تهيئة الاستعداد اللازم لإدارة الدولة بأجهزتها الحكومية. ومن جهة أخرى، تحفظ له أمنه، وتروض القبائل الجامحة. ومن جهة ثالثة، تُجبر النظام الإيراني على منح حقوق الفدرلة للشعب دون اللجوء للصراع والحروب المريرة معه.
-
النظام الإيراني واستماتته في حفظ الأحواز
يعزز دعاة الفدرالية أدلتهم على نجاعة فكرتهم بأن النظام الإيراني والدولة التي أقامها، تقوم اقتصادياً على الأحواز وثرواته. وبما أن القوام والصلاح في أية دولة لا يتم إلا بوفرة اقتصادها، فإن فقدان الأحواز سيعني للنظام الإيراني خلل جسيم في موارده الاقتصادية، ومن ثم ارتباك الوضع العام في هذا النظام بمجمله. وبما أن أي حدث في الأحواز، يعود نقصاناً، بل طامة كبرى على هذا النظام، فإن ذلك يعني استعداد الفرس للحفاظ على الأحواز، مصدرهم الوحيد للثروات، وإنْ تطلب ذلك دفع أثمان باهظة، حفاظاً على موردهم الأكبر ومصدر رزقهم الثري.
وعلى ذلك، فإن الدعوة إلى تحرير الأحواز، يتم تفسيرها من قبل النظام الإيراني والشعب الفارسي معاً، على أنها دعوة لمنع إمداد «الدولة» بأهم روافد اقتصادها، وثرواتها النفطية ومشتقاته، التي حولت النظام الإيراني إلى دولة مهمة في العالم والمنطقة؛ المصادر التي يعني انعدامها تحول النظام إلى لاعب إقليمي ودولي ضعيف؛ وتحول إيران والشعب الفارسي إلى «دولة» فقيرة تقاسي لأجل توفير احتياجاتها الأساسية، ومن أجل ذلك، لا يبدي هذا النظام أي هوادة تجاه هذه الدعوات. ومن هنا يمكن تفسير البطش الهائل من قبل هذا النظام بحق كافة المحاولات اليسيرة والكبيرة للأحوازيين من أجل الإضرار بأنابيب النفط، مصدر الثروات، ومن هنا جاء الطابع الثقافي والروحي الدال على «تقديس وحدة التراب الإيراني»، وهو في واقع الأمر منبعثاً في جوانب كبيرة منه من الاعتماد الكلي على ثروات الأحواز، منذ ليل الاحتلال الإيراني لهذا الوطن.
وما دام النظام الإيراني القائم، بكل ما لديه من ثروات نهبها من الأحواز، وجيش كبير وجرار، وأدوات قمع متعددة، واستخبارات مهيمنة …، ينظر لدعوة الأحوازيين لتحرير الأحواز على أنها عدوان على وجوده يتصدى له بكل قوته. وفي المقابل، ما دام الشعب الأحوازي بهذا المستوى المتشرذم من القبلية والطائفية، وانعدام الكفاءات العلمية في شتى المجالات، والانحطاط الحضاري المتجلي في صراعات قبلية يومية لا مؤشر على نهاية قريبة لها، فإن دعوة التحرير تعني طلب المستحيل والمراوحة في المكان أو المزيد من الدمار. وبذلك تكتسب الفدرالية موضوعية أكبر ومكسب لا يمكن التقليل من قيمته السياسية للشعب الأحوازي. ليس هذا فحسب، بل إن دعاة الفدرلة، ولانطلاقهم الدائم من زاوية النظر إلى الآخر وأطروحته وظروفه…، فإنهم عندما يناظرون دعاة التحرير من المناضلين الأحوازيين يطرحون عليهم سؤالاً بمزيد من التكهن: تفضلوا يا دعاة التحرير وقوموا بتحرير الأحواز لمعرفة كيف تقومون بذلك؟ «هذا الميدان يا حميدان». ويدل ذلك على نظرتهم للأمر مستحيلاً في الظروف الراهنة، سواء من حيث حال الدولة الإيرانية وتماسكها، أو من حيث النظام الإقليمي والدولي وحاله.
-
الظروف الدولية والإقليمية
وإذا ما كانت الظروف المجتمعية الداخلية للشعب الأحوازي، كلها تشير بوضوح إلى تشرذم هذا المجتمع وعدم استعداده على كافة الأصعدة للاستقلال وبناء الأمم والدول، مقابل عزيمة النظام الإيراني في الدفاع عن الأحواز والذب عنه، لدرجة يمكن فيها القول: إن الأحواز أعز على النظام الإيراني من شعبه وأهله، وتبعاً لذلك، يجب العناية بالأوضاع الدولية والإقليمية التي هي بحد ذاتها لا تصب في صالح تحرير الأحواز والعمل على جعلها دولة قومية عربية مستقلة، منفصلة عن النظام الإيراني ومتحررة من احتلاله.
وهنا تتسلسل أدلة دعاة الفدرالية، تارة بين التبرير البرهاني السياسي، وتارة بين انتقاء أمثلة تاريخية معاصرة وقريبة كلها تصب لصالح استدلال استحالة التحرير أو صعوبته. فالوضع الدولي الراهن تجاوز عصر الإيديولوجيات، لاسيما القومية منها، وبات لا يتبنى إلا الحركات والإنتفاضات التعددية الديمقراطية التي يفهمها هو بالدرجة الأولى، تلك الحركات والانتفاضات التي تدعو إلى تحسين الحياة البشرية، ومجموع الناس، مبتعدة عن الكراهية التي تغلف الدعوات القومية كما عهدها التاريخ الحضاري البشري.
فطابع العالم المهيمن اليوم، العالم الغربي عموماً، طابع داعم للحركات القائمة على الأساس التعددي. وعليه، لن تجد الحركة التي تتجاوز أو تتجاهل التعددية التجاوب اللازم معها من جانبه، فضلاً عن أنه سيتم تجاهلها من قبل الإعلام العالمي إلى جانب صناع القرار والقوى الكبرى.
هذا فيما يخص التدليل والبرهنة، أما ما يخص الوقائع التاريخية ذات الدلالة الصريحة على رفض الحركات القومية، واجتياز العصر الراهن لها، هو ما جرى في نقاط عدة في العالم وفي المنطقة المجاورة للأحواز. فهذه اقليم كاتالونيا الإسباني، حيث وقف العالم الأوروبي المتحضر ضد اتجاهها نحو التحرر من الدولة الإسبانية، رافضاً رفضاً باتاً إرادتها الهادفة إلى تشكيل دولة كتلانية مستقلة على أساس قومي، ما أدى لقتل هذه الدولة قبل ميلادها حتى. إذ إن عدم الاعتراف الأوروبي بها يعني إنعدام إمكانية الحياة لها.
وإذا ما أراد الشعب الأحوازي استقاء العبر من الجوار القريب، يمكنه النظر إلى الشعب الكردي في العراق، حيث لاقى التصويت القانوني الشرعي للشعب الكردي، المبني على دستور الدولة العراقية، لصالح استقلال إقليم كوردستان، مخالفة كبيرة من الدولة العراقية، ومن النظامين الإيراني والتركي، اللذان رفضا الاعتراف بهذا الاستقلال القانوني الشرعي، وسط صمت النظام الدولي، وامتناعه عن الاعتراف بالدولة الكردية المنفصلة عن العراق. وعليه، عاد الشعب الكردي، بعد وصوله قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال، إلى سابق انقياده للدول التي احتلته. لذا، حري بالشعب الأحوازي، الذي لا يمتلك شيئاً من مكاسب الشعب الكردي، عدم تكرار المحاولات الرامية للاستقلال لأنها ستتعثر وتخيب كما خابت مساعي الأقوى منه. وكل تلك الحقائق، الإقليمية والدولية، تؤكد أن الدعوة إلى تشكيل دولة قومية، حتى إذا تمخضت عن قوة شعب ما داخلياً، وبالاستناد على مقدراته ووعيه القومي وإرادته الجلية…، فإنها سرعان ما ستصطدم بأحجار النظام الإقليمي والدولي، وتقف عند هذان النظامان، لأن أي دولة وليدة إن لم يكن لها ظهير دولي أو إقليمي مجمع عليه، فإنها مصيرها الفشل.
-
الدعوة الفدرالية فكريا والتبعات العملية
لا شك أن كل دعوة على المستوى الفكري تكتسب شرعيتها وقوتها عن مستوى تماسكها النظري، بالتزامن مع تبعاتها العملية على أرض الواقع، الذي يعزز من حظوظ الدعوة/الفكرة أو ينال منها. وبناء على ذلك، إذا نظرنا إلى الدعوة الفدرالية، من جانب دعاتها الأحوازيين، ومن زاوية تبعاتها العملية، لرأينا آلية حركتها الفكرية قياسا على التفصيل الذي ورد أعلاه، ولوجدنا هذه الفكرة سجلت طوام عديدة من الناحية العملية، يسوقنا للوقوف على أضرارها التي فاقت منافعها بدرجات ومراحل كبيرة وكثيرة.
فأول ما آتت به الدعوة الفدرالية على القضية الأحوازية برمتها، “نكرانها لوقوع الأحواز تحت الاحتلال”. حيث تؤمن الفدرالية، كما أسلفنا، بوجود النظام الإيراني ونظام حكمه الذي أقامه، وبالتالي، فإن القول بوقوع الاحتلال من جانب هذه الدعوة يعني نقضها من أساسها. على أن التصريح بعدم وقوع الاحتلال من جانب دعاة فكرة الفدرلة، يترافق بإبعاد حق تقرير المصير والصمت عنه، ما يعني شرعنة الاحتلال وإدامته وبقاء الشعب الأحوازي تحت النظام الإيراني إلى ما شاء الله. ولعل هذا النكران مهد الطريق لمجالسة الفدراليين رؤوس المعارضة الإيرانية في الخارج، من كبار العنصريين المعارضين الذين لا تقتصر معارضتهم للشعب الأحوازي وفكرة وجود شعوب داخل إيران غير الشعب الفارسي، بل إن عدوانهم طال كل عربي على الإطلاق، ديناً وحضارةً وبشراً ووجوداً…. وهو ما أجلس دعاة الفدرلة على هامش المعارضة الإيرانية التي تدعو إلى ديمقراطية بديلة عن النظام القائم، لكنها مفصلة على مقاسهم، خالية من أي حقوق قومية أو ثقافية أو إقرار بتعددية الأعراق والشعوب، بل هي ديمقراطية تضمن تداولاً سلمياً للسلطة بين النخب الفارسية فقط (أي فيما بينهم). وهذا ما يفسر ذلك الدور الخافت للفدراليين العرب، نتيجة لانحصار تواجدهم على هامش المعارضة الإيرانية.
وإذا ما كان دعاة الفدرالية للأحواز قد نكروا وقوع احتلال على وطنهم، وهو نكران بحد ذاته يعكس هول المصاب على الأحوازيين، فإن هذا النكران عَمِلَ “كخط أحمر” مهّد استباحتَهُ لاغتراف جميع الموبقات الأدنى منه، وعلى رأسها “نكران جغرافي للوطن الأحوازي السليب”، والبلوغ به إلى أدنى حدوده الجغرافية. فلكي يتسق هؤلاء الدعاة مع فكرتهم الفدرالية، قلصوا مساحة الأحواز إلى أضيق الحدود، أضيق من المساحة التي رسمها الفرس أنفسهم، حاصرين الوطن الأحوازي ب “الأحواز” العاصمة وأطرافها في أحسن الأحوال، أو أضيق من ذلك. وتبعاً لذلك، من البديهي جداً أن ينتج عن تقلص تراب الوطن الأحوازي تحجيم العدد السكاني لشعب الأحواز، وتدنيه إلى مجموعة بشرية لا تتجاوز مليونين من البشر، وفق تصريحات إعلامية مضمرة وعلانية لبعض دعاة الفدرالية. ليس هذا فحسب، بل إن منطق تعاملهم مع الفرس، استوجب عليهم أمراً في غاية المفارقة، تمثل باصطفافهم مع بعض الأطراف الفارسية التي لا تخالف الفدرالية ظرفياً، ضد مناضلي الأحوازي. وهو ما يمكن وصفه ب “مزاح القدر”، حيث اضطر هؤلاء في دعتهم للحفاظ على وحدة التراب، أن يشنّعوا على التحرريين، وأن يقبّحوا تبعاً لذلك جميع الأنشطة التحررية، بدأ من تسمية الأحواز ومخالفتها، وصولاً إلى تسمية “النضال المسلح بالإرهاب”، مروراً بتسمية البعض منهم لأنفسهم بعرب إيران.
في معنى التحرير: الانطلاق من الأنا للتعاطي مع الآخر
أول ما يميز الفكرة التحررية هو راديكاليتها، أي أصوليتها، بالمعنى الأخلاقي والفلسفي. فإن هذه الفكرة القائمة على أساس القول بوقوع حالة قانونية وأخلاقية شاذة هي الاحتلال، تصرّح بوجوب التعامل مع هذا الواقع من هذا المنطلق، بحقيقته وواقعه، دون التنصل من كليته، والأخذ ببعض جوانبه وطرح البعض الآخر، تارة بمسوقات براغماتية ذرائعية، وتارة بدعوى مراعاة النظام الدولي، وتارة بمبرر العناية بتوازن القوى…، وما إلى ذلك من هذه المبررات الوقتية الظرفية.
إن الاحتلال منطقيا وتاريخيا وحقوقيا يفرض، بناء على ما تتيحه الشرائع والأخلاق والنظام الدولي الراهن، معادلة قوامها محتل ومحتل، أحدهم يدافع طلباً للتحرر، وآخر يعدو طلباً للاستعباد. وقد جاءت هذه الحالة المختلقة من هذه المعادلة في كتاب هيغل. حيث قال: التاريخ صنيعة صراع إرادتين، تخضع فيهما إرادة لإرادة مخاصمة في نهاية الصراع، وهي الإرادة التي خافت فخضعت للإرادة المخاصمة، ما يفضي إلى حالة جديدة يكون الخاضع الخائف فيها عبداً، ويكون المنتصر سيداً. وبهذه الحالة لا يكون نصيب العبد إلا المسح والخروج من دائرة الأنا والإنسانية رأساً، ولذلك لا سبيل إلى زعزعة هذه الحالة إلا بالثورة عليها، ونبذ ذلك الخوف لبناء حالة أخرى من المعادلة.
ومن هنا تأتي راديكالية التحرر من أنها حركة وقناعة وإيمان غير متأرجح بتأثير من مبررات وقتية تأتي من نظام دولي منافق يكيل بمكيالين تارة، وللخضوع لسطوة النظام الإيراني تارة أخرى، وما إلى ذلك. هنا، نحن أمام قواعد أخلاقية حدية، تكتسب قوتها من ثباتها. وعليه، فإذا كان هناك احتلال فلا ريب ولا تردد بوجوب مقاومة تناضل للتحرر منه، وإنْ برجل مقاومة واحد.
-
القوام الفلسفي والأخلاقي لفكرة التحرير
إن أول ما يفرزه واقع الاحتلال هو تناقضه مع طبيعة الحياة البشرية من الأساس: فبينما يفيد المبدأ الكوني بحرية جميع البشر، من مختلف الأعراق والأجناس، يأتي المحتل ليثبت عكس ذلك عبر قيامه بفرض إرادته على المغلوب، ومسح جميع مظاهر حياته الهوياتية والثقافية والمجتمعية والدينية…. بما يمثل فعل بشري يناقض حياة الأحرار، وتالياً، مجتمع منشطر إلى أحرار وعبيد. هذا من حيث المبدأ البشري، أما من حيث واقع الاحتلال، القائم على أساس خرق الطبيعة البشرية، بفرض واقع التغلب والاحتلال. وهذه الطبيعة تفرض بحد ذاتها حلاً وحيداً لا ثان له. ولفهم هذه الحالة يمكن استخدام لغة التمثيل، لمواجهة شخص قام بالتصرف ببيت شخص آخر عنوة عنه، وهي حالة غير قانونية شبه بدائية الطبيعية، الحل الوحيد هنا أن يسعى مالك البيت الأصلي لاستعادة بيته، فإن اتجهت إرادته لمناصفة بيته مع المتسلط عليه خشية أو اتقاء لشره أو محبة أو تقاعسا إلخ، فإن تصرفه هذا سيشجع متسلطين آخرين، ويحفز على توطيد فكرة النهب لامتلاك البيوت، وذلك ما لا تقوم عليه حالة المدنية، فضلاً عن تناقضها مع العقل السليم وطبيعة الفرد والجماعة من حيث وجود قواعد كونية متفق عليها.
وبناء على ذلك، يُظهر التاريخ الأحوازي بوضوح تام حالة شبيهة للمثل المذكور أعلاه، حين أتى الجيش الإيراني فتغلب على أرض الأحواز وفرض عليها مباشرة أنماط من السلوك والعادات والثقافة، فضلا عن استحواذه على حق التصرف في خيراتها، وغير ذلك من التصرفات الناجمة عن منطق التغلب وحده، نافياً حق الشعب، آحاداً وجماعات، في مقدراته وممتلكاته، ليكون بذلك الشعب منقوصاً من حيث حقوقه الطبيعية، وبالتالي طبيعته الإنسانية.
وبالتالي، فإن أي دعوة للتوصل إلى تسوية مع المحتل، أياً كانت، ستعني دعوة إلى نفي الصفة الإنسانية عن الإنسان الأحوازي، لأنها دعوة إلى تخليه عن حقه الإنساني بحريته في التصرف بأرضه وماله وحرية إرادته…، ما يمكن تعميمها على أنا جماعية، تشكل مدخلاً إلى الدعوة لانتقاص الإنسانية العربية الأحوازية. وبالتالي، فإن تشخيص حالة الشعب الأحوازي والفرد الأحوازي معاً، لا يمكن أن تتحقق عبر مساومات مع المتغلب الذي فرض إرادته على الشعب، وجرده بذلك من إنسانيته محولاً إياه إلى عبد يطيع سيده. وعليه، لا يمكن إتمام التشخيص المطلوب إلا عبر نبذ حالة الخوف والخشية، التي خلقت علاقة فيها طرفين، سيد وعبد. لذا، فإن أي دعوة للوصول إلى اتفاق مع المتغلب/المحتل، دون الالتزام بانتزاع اعتراف منه بحق الشعب الأحوازي في تقرير مصيره، تعني التخلي عن إنسانية الفرد والشعب الأحوازي، وقوام وجوده الطبيعي.
إلى جوار ذلك، فإن الأخلاق العربية، القائمة على أساس المروءة، لا تتقبل هي الأخرى المساومة مع سارق معتد أتى على البيت فنهبه ومكث فيه ولا يرضى الخروج منه؛ وهذه الأخلاق لا ترتضي مواجهة هذا الفعل، إلا بالرفض والدفع، من أجل إخراجه من البيت وتلقينه درساً يردعه عن إعادة إثمه مرة أخرى. فالمفاوضة والتعاطي مع المحتل الإيراني تعني منطقياً القبول بعدوانه، ومحاولة لاستجداء حقوق طبيعية سلبها من الشعب، لن يمنحها إلا بالمنطق ذاته الذي به استولى عليها، وهو منطق التغلب، تغلب إرادة على إرادة أخرى.
-
التخلص من ثقل القضايا الفارسية
لا شك أن دعاة التحرير إلى جانب ما يناضلون به فكرياً مع الاحتلال الإيراني وقوة نخبه في تزييف الأفكار والتاريخ، وانحراف العقول الضعيفة عن صواب القضية الأحوازية، فإنهم يخوضون سجالات فكرية مضنية مع باقي المناضلين من الدرجة الثالثة والرابعة، يناضلون أيضاً لمواجهة دعاة الفدرالية المعوقة، التي تتغنى بالحفاظ على تراب إيران أكثر مما تطمح إلى دعم حق تقرير المصير لشعب الأحواز، وباقي الأصوات والحركات الشاذة الداعية تارة إلى ما يسمى ب «عرب إيراني» إلى حقوق مواطنة إيرانية وغيرها من الأفكار الخائبة تارة أخرى.
إذ يحتل الجدل مع دعاة الفدرالية أخطر السجالات، ليس لأن الفدراليين هم مناضلون لهم رصيدهم النضالي، بل لأن دعوتهم تمتلك من القوة ما يحتم السجال الفكري معها. فإذا كان دعاة الفدرالية يصرون على عدم استعداد المجتمع الأحوازي والشعب الأحوازي على التحرير، فإن ذلك من وجهة نظر دعاة التحرير، بعد التسليم به جدلا، هو حصيلة الثقل الاحتلالي المفروض من الفرس. ونقصد بذلك التاريخ الطويل من الاحتلال الذي أفرز إشكاليات وقضايا في الأحواز وشعبها حال دون تطور هذا الشعب، لا لصيرورة تاريخية فيه، بل هو بالدرجة الأولى صنيعة التواجد الفارسي الاحتلالي أولاً وأخيراً، فالاحتلال هو من جعل قضاياه وإشكاليته أيضاً تتقولب بذات قالبه لتأتي هكذا مفروضة عليه من الأعلى بقوة التغلب والسلطان.
وإذا ما أردنا استبيان الإشكاليات والقضايا الفارسية المزيفة التي فرضت على الشعب الأحوازي، أتينا على أمثلة صبغت التاريخ الأحوازي معها، على رأسها قضية رجال الدين ودورهم في الحكم، أو ولاية الفقيه، حسب صياغة اليوم. إذ إن التاريخ الأحوازي لا يزكي مثل هذه الإشكالية، فالتاريخ الأحوازي لم يشتمل على ظروف تنهض فيها مثل هذه الإشكالية، ولا على فئات مجتمعية تعزز ديناميكيتها. ونتيجة لذلك، هو في غنى عنها تماماً. فهذه الإشكالية التي آلت اليوم إلى حكومة دينية استبدادية، ما كانت لتترك على الأحواز تبعاتها الجسام، لولا فرضها من قبل الاحتلال الإيراني على شعب الأحواز. وإذا ما أردنا مرة أخرى استجلاء بعض تبعات هذه الإشكالية، سنذكر حينها الحرب الإيرانية المذهبية-القومية على العراق، وتبعات ذلك على المجتمع الأحوازي، فهنا بإزاء هذا الحرب انقسم الشعب الأحوازي بشكل خطير جداً، بين مشارك في الحرب إلى جانب الجيش الإيراني المذهبي، وبين مشارك في الحرب مع الجيش العراقي العربي القومي. ويكفينا خطورة هذه الإشكالية للوقوف على محاربة مختلف فئات الشعب الأحوازي لبعضهم البعض في حرب ما كان لهم فيها ناقة ولا جمل، إلا إذا نظرنا لها من زاوية نظرة قومية موسعة. ليس هذا فحسب، بل إن توالد الإشكاليات الإيرانية-الفارسية كبلت حركة الشعب الأحوازي ذاته، وأثقلته بهموم غير نابعة من صلب مجتمعه وتاريخه وواقعه. وهذا أمر جعل الحركة الحضارية الأحوازية، في القرن الأخير، حركة مرجأة، تنتظر على الدوام إتيان إشكاليات لها من الخارج، لتتبناها زيف، دون ملامستها لواقعها حقيقة. وهذا ما يحصل اليوم من مناهضة للدين والإسلام بين مختلف أوساط الشعب الإيراني، إثر تدهور الحكم الديني بينهم، وارتداد هذا التدهور في الحكم إلى نفور من الدين، نتيجة لإنكار وبغض الرموز الدينية والأحكام المذهبية. وبينما هذا هو حال المزاج الإيراني العام، بات الشعب الأحوازي في حيرة من أمر الدين والأحكام المذهبية، لا يدري أيسير مع الهوى العام الإيراني، أم يرجع إلى فطرته وسليقته التي تستسيغ الدين ولا تراه مثقلاً للحياة. وهذا ما حصل في ثورة جينا أميني، حيث أثبت الشعب الأحوازي أن التطاول على الحجاب مساس بإحدى قيمه، ولذلك لم يتجاوب معها، على الأقل من زاوية دينية، إلى جانب زوايا أخرى لها قيمتها، لكننا نتجنب مناقشتها التزاماً بطبيعة المقام.
إذا ما أردنا الاسترسال بتوافد الإشكاليات تباعاً من نظام الاحتلال وسريانها من فوق، وعدم تبلورها من واقع الشعب الأحوازي، سنصل حينها إلى إشكالية أخرى، إشكالية اليسارية، وهي إشكالية ظهرت على أسماء أبرز الحركات التحررية الأحوازية. فبينما الشعب الأحوازي نتيجة لخضوعه للاحتلال كان مبعداً كلياً عن صناعة النفط الإيرانية وغيرها من المصانع التي أقيمت على أرض الأحواز، ما جعل الحديث عن طبقة عمالية أحوازية عربية ضرباً من الوهم الموغل، لكن على الرغم من هذا الواقع، احتلال يستعبد ويستغل المحتل المغلوب، تكّون تيار يساري عربي أحوازي رأى في تركيبة النظام الإيراني القائمة على احتلال فارسي لأرض وشعب الأحواز بأنها مسألة طبقية، قوامها علاقة استغلال سرعان ما توقظ الطبقة الكادحة فتفضي إلى ثورة يقضى بموجبها على نظام الاستغلال الطبقي. وهذه إشكالية ظاهرة، عدا عن عارها، لأنها فضل عن تزييف الواقع، وإبعاده عن التركيز على القضية الجوهرية المتمثلة بالاحتلال، هي مجرد أوهام فرضتها النخب اليسارية الإيرانية، دون أدنى مراعاة لواقع الأحواز وما تعرض له عبر التاريخ.
-
المستقبل الواعد
ثم يأتي بريق الفكرة التحررية في هذا الجانب من إيمانها وفكرتها، وهو الجانب الذي يلتصق مع حياة الناس العاديين، ويفهم همومهم ويتعاطى معها. إنه الجانب المتمثل في منح الأمل في الحياة، والاستدلال على مراعاة الفكرة التحررية في الحياة اليومية، ومفهوم السعادة بوصفه أهم ما تسعى له هذه الفكرة. فهذه الفكرة إلى جانب عنايتها الفلسفية بمبادئ النضال والأسس الأخلاقية، تستبين في استشرافها المستقبلي بأن بناء الدولة الأحوازية لا يعني أمراً أخلاقياً خالياً من العوائد، وأنه مجرد نضال لا بد من خوضه لصحته أخلاقياً وفلسفياً، بل إنه، إلى جانب ذلك، هو صراع على خيرات وفيرة، تمتلكها الأحواز، ما يعني بتر أيادي النهب الفارسي عنها وتخصيصها إلى الأحواز، وتحويل الوطن إلى بلد قد يتوافق مع البلدان الخليجية المجاورة، نظراً لحسن جوه وطبيعته وثرواته الزراعية، إلى جانب ثرواته المعدنية والنفطية. وفي هذه النقطة تحديداً، تبين أن الصراع الأحوازي الفارسي، إلى جانب أبعاده المعنوية، لا يخلو أبداً من الجوانب المادية المتمثلة في تاريخ طويل من التفقير والتجويع والإذلال على يد نظام الاحتلال، مما يجعل العناية بالبعد المادي ضرورة لاستنهاض الشعب الأحوازي، مع الإشارة الصريحة على قوام هذا الاحتلال وتصرفاته اللاإنسانية، المتمثلة في استغلال ثروات شعب بطريقة لم تترك لهذا الشعب معشار ما نهب وسرق منه.
الاستنتاج
ناقشت هذه الدراسة الدعوة الفدرالية والفكرة التحرير كسبيلين لمعالجة القضية الأحوازية، حددت خلالها ثلاث صفات كل من هاتين الدعوتين، كما جاء أعلاه. وبعد تحديد هذه الصفات، نورد في الاستنتاج جوانب الضعف والنقد لكل منهما.
– تتنكر الدعوة الفدرالية للبعد التاريخي للقضية الأحوازية، متجاهلة بذلك تاريخ طويل من الظلم والاستعباد والاستغلال مورس بحق استغلال الشعب الأحوازي على يد النظام والشعب الإيراني معاً.
– لا تعير الفدرالية أهمية كبيرة للشعب الأحواز، وهي دائمة التصغير من شأنه، وتؤكد على تخلفه، لتجعل من ذلك مسوغاً لدعوتها.
– تعول هذه الدعوة كثيراً على الشكل الفيدرالي، وحين الغوص في تفاصيل هذه الدعوة يظهر وجود جزئيات قد تعوق الفكرة من الأساس، فضلاً عن التسويف بها، والالتفاف عليها، نظير الفيدرالية الاقتصادية، أو الفيدرالية الإدارية متعددة القوميات.
– القضية الأحوازية لدى دعاة الفيدرالية فرعاً لقضايا أخرى، سواء فرع للنظام الدولي، أو للقيم العالمية، أو لأي قضية أخرى تشكل أصل يجب قولبة القضية الأحوازية بناء عليها.
أما أبرز الملاحظات على فكرة التحرير فهي النقاط التالية:
– التأكيد المبالغ فيه على الجانب الأخلاقي للقضية الأحوازية. وذلك أن الشعب الأحوازي، شأنه شأن جميع الشعوب في العالم، ليس شعب المدينة الفاضلة لتحركه القضايا الأخلاقية الصرفة.
– التأكيد على الصراع يجعل القضية مخيفة، ومؤشر على توقع دفع ثمن باهض منذ اللحظة الاولى.
– يعول دعاة التحررية كثيراً على حال الشعب الأحوازي داخلياً، دون مراعاة للأمور الخارجية، نظير المستوى الحضاري للشعب، أو طبيعة القوى الدولية والإقليمية.
عدنان التميمي