الإثنين, نوفمبر 18, 2024
مقالاتالاعترافات القسرية والسياسة الأمنية الإيرانية في الأحواز

الاعترافات القسرية والسياسة الأمنية الإيرانية في الأحواز

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المقدمة

تحتل الاستراتيجية الأمنية في انتزاع الاعترافات القسرية مكانة خطيرة في النظام الاستخباري الأمني الإيراني منذ عام 1979. وتتكرر بشكل قوي في التحولات التي مرت على نظام الحكم، خاصة خلال الانتفاضات والاضطرابات التي شهدها في مختلف منعرجاته. انتزاع الاعتراف قسرًا هو نوع من الابتزاز النفسي والضغط الروحي والجسدي، الهادف إلى إجبار الأشخاص على الاعتراف بأعمال وخطوات يعتبرها النظام القانوني التابع للدولة جرائم أمنية ومدنية، مستخدماً أدوات التعذيب والضرب والحبس الانفرادي كسبيل للحصول على الاعتراف وإجبار المشتبه بهم على الاعتراف بالذنب.

وعلى الرغم من تغيير نظام الحكم في إيران من الملكية إلى الجمهورية، إلا أن تطبيق أساليب الجهاز الأمني والاستخباري في النظامين يدل على استمرار هذا النوع من المعاملة مع الأسرى ومعتقلي الرأي الأحوازيين، وتواجده بين العناصر الأمنية والأجهزة الشرطية.

إن استمرار تلك الأساليب الأمنية يظهر أن هدفها هو نشر ثقافة الخوف والرقابة الذاتية بين أفراد المجتمع وشرائحه المختلفة. فالغاية ليست فقط في القبض على المعتقلين، بل هي أيضًا تأديب لكل شرائح المجتمع المخضعة للنظام. وهذا ما يفسر إصرار الجهاز الأمني على نشر تلك الاعترافات، من خلال وسائل الإعلام الرسمية، حيث يتم توجيهها بشكل أساسي نحو الجمهور الأحوازي، خاصة الشباب الذين قد يتجنبون أفكارا يعتبرها النظام معادية ومنتهكة القيم المجتمعية الخاصة به. وبنشر تلك الاعترافات، يحاول النظام بشدة إثبات مصير المذنب الذي يتجه نحو مخالفة القوانين الدولة، وإثبات حتمية تلقي العقوبة على أفعاله.

وسيتم اختيار حبيب الأسيود، وهاشم الشعباني، وهادي الراشدي وغيرهم كحالة دراسة خاصة في هذه الدراسة، حيث ستكشف عن أبعاد هذه الظاهرة الأمنية في النظام الإيراني. كما سيتم ذكر اعترافات أخرى التي بُثت للأسرى الأحوازيين كأمثلة حية لإثراء البحث.

تم اعتقال حبيب الإسيود، قائد حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، من قبل السلطات الإيرانية في تاريخ التاسع من أكتوبر 2020 في مطار أسطنبول الجديد في تركيا. تم نقله إلى إيران ووضعه في سجن مجهول، حيث تم تعريضه لتعذيب جسدي ونفسي. فيما بعد، تم بث مقاطع فيديو لاعترافاته حيث ادعى التعامل مع الاستخبارات السعودية والإسرائيلية وضرب الأمن الإيراني والمشاركة في أعمال إرهابية داخل البلاد بما فيها من تفجير أنابيب النفط وتفجير مقار حكومية في الأحواز العاصمة. جميع هذه الاعترافات المزورة تم الحصول عليها بواسطة التعذيب في السجون الإيرانية.

إذا كانت الاعترافات القسرية تشكل جزءاً أساسياً من نظام الأمن الإيراني، فهناك بالتأكيد أسباب وراء هذه السياسة المستمرة، وهذه الإرادة التي لا تنفك تكرر هذا النمط من السلوك الأمني الساري في مختلف الأجهزة؛ ولذلك يجب التساؤل عن الأسباب التي تجبر النظام على استخدام الاعترافات القسرية.

الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن الهدف الرئيسي لهذا السلوك الأمني هو تخويف المجتمع، بدلا من مجرد معاقبة الأسرى أو المعتقلين. يهدف هذا السلوك المتكرر والمصحوب بحملات إعلامية لنشر الاعترافات إلى تأديب المجتمع ونشر الرعب بينه، ليثير أعمال قد تثير استياء السلطات وتتجاوز حدودها. وسوف يتم دراسة جوانب مختلفة لهذه الظاهرة، وكشف بعض الأسرار المتعلقة بها عبر النظر إلى السلطات والمجتمع ووسائل الإعلام التابعة للنظام.

 

الاعتراف القسري

يستخدم النظام الإيراني الاعتراف القسري الذي يُذاع عبر وسائل الإعلام الرسمية لتوجيه الأفراد والمجتمع بأكمله نحو السلوك المقبول، ولترويض المعنويات الاجتماعية لتمرير السلطة والخضوع لها. يتم في العادة اللجوء إلى التعذيب والضغوط النفسية لإجبار الأفراد على الاعتراف بسلوكهم السابق، والتبرؤ من أفكارهم السابقة قبل الاعتقال. تُبث هذه الاعترافات بشكل واسع على التلفاز الرسمي بهدف كسر إرادة المعارضين للنظام وبث الرعب والخوف على نطاق واسع، ولتفرض الرقابة والهيمنة الاجتماعية والذاتية بجانب الرقابة.

ربما يكون فرض الرقابة الذاتية وتعزيزها بين أفراد المجتمع هو وسيلة فعالة لتقليل تكاليف الحكم، وتعزيز الانضباط، وتجنب الممنوعات التي تفرضها السلطة. من خلال خلق حالة من التبجيل للنظام والالتزام به، يُمكن تجنب العقوبات والمشاكل التي قد تنجم عن التمرد. يجب أن يكون الفرد حذراً من الإساءة إلى النظام الإيراني المحتل، بما في ذلك التحدث عن “إحتلال الأحواز”، يعني الدخول في المحرمات التي لا تجلب إلا الويل والتعذيب والأسر للقائل بها.

إلى جانب الرقابة (التحكم) الفردي الذي يجبر الفرد على قمع نفسه بشكل طبيعي والعيش في حالة من الخوف المصطنع، والذي يبعده عن القضية الأحوازية، هناك شيء آخر خطير أيضاً. فهذه العملية، التي تدعمها وسائل الإعلام، تهدف في هذا السياق إلى تزوير التاريخ والوقائع الثابتة، أو لتسهيل انتهاك حقوق الإنسان وتستر عليه، بالإضافة إلى جمع أكبر قدر ممكن من الدعم لإجراءات السلطات وتصوير أفعالها كما لو كانت مطابقة للقانون وجهودها للحفاظ على أمن الدولة.

في سياق تزوير التاريخ، يعتمد رجل السلطة الإيراني على إنشاء تاريخ مزور للأحواز. هذا التاريخ الملتوي يسمح له بتجريم أي شخص يعتبر الأحواز منطقة تم احتلالها من قبل إيران إذا لم يكن هناك هذا التاريخ المزور الذي يتبناه المحتل وسلطاته وعناصر أمنه، لا يمكن تبرير الرواية القانونية والسند الحقوقي اللازم لتجريم الفعل السياسي المقاوم، وجعل المطالبات القومية تساوي الإنفصالية ومحاولة الإنقضاء على وحدة الأراضي الإيرانية. علاوة على ذلك، تلعب صياغة المناطق الأحوازية كمناطق مختلطة بين الفرس والعرب دوراً في تبرير القمع والاضطهاد ضد الأحوازيين المطالبين بالحقوق القومية.

 

نبذة عن تاريخ الاعترافات القسرية في إيران

الاعتراف القسري في إيران يعتبر سمة أساسية لنظام الحكم الحديث في البلاد، ويعود ذلك إلى تأثيرين رئيسيين: الأول هو النهج الدكتاتوري المستوحى من الاتحاد السوفيتي، والثاني هو النظام الديني الديكتاتوري للقرون الوسطى الذي يعتمده نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية كمصدر لشرعيتها الإلهية.

من خلال النظر إلى سلوك الحكم في النظام الإيراني، يمكن اعتباره مشابهًا للأنظمة الشمولية وممارساتها القمعية في سحب الاعتراف، مثل الإجراءات التي اتخذت في الصين خلال عهد ماو تسي تونغ في الفترة من عام 1949 إلى عام 1954، والتي أعقبتها ثورة ثقافية في الفترة بين عام 1965 وعام 1971. كما اتبع الاتحاد السوفيتي تحت حكم استالين، وسياسة أوروبا الشرقية في الفترة بين عام 1935 وعام 1939 والمحاكم الصورية. يتبع النظام الإيراني سياسات مشابهة، حيث لا يتردد في تفتيش المعتقدات وسحب الاعتراف من الفكريين والناشطين والمعارضين، من أجل الحفاظ على نظامه المقدس الذي يعتمد شرعيته على قوانين إلهية ويرى ذلك ضرورة لصيانة هذا النظام المقدس.

لفهم خلفية هذا السلوك الأمني الإيراني تجاه المجتمع الأحوازي، يمكننا إعتبار العقد الألفين كنقطة بداية، بدءاً من انتفاضة عام 2005. فمنذ ذلك الحين، تحولت عملية الاعتراف ونزعه على العلن إلى أحد السبل الرئيسية للنيل من سمعة المعارضين الأحوازيين.

إحدى الطرق الأساسية التي تستخدمها السلطات لتنفيذ هذه العملية هي تشريع قوانين تسمح بالاحتجاز لفترات طويلة دون توجيه الاتهامات، بالإضافة إلى نزع الاعتراف في السجون بدلاً من المحاكمات وبث رسائل نيابة تتحدث عن ندمهم ونصائحهم بعدم الوقوع أو عدم الاكتراث للامور السياسة الخاصة بالأحواز. كما تقوم السلطات بتنظيم جلسات صحافية ومناقشات بإشراف الأمن تلقن فيه السجين لفرض سيطرتها على الأفكار تلزم السجين بالاعتراف بامور لم يتورط فيها اصلا. ورغم وجود عدة طرق للتأثير على سلوك النظام، يبقى نزع الاعتراف المُبث عبر وسائل الإعلام هو الأكثر شيوعا وتفضيلا لدى الامن الايراني.

وإذا كان هذا الأسلوب قابلا للرصد في النظام الإيراني الملكي السابق، حيث كان التلفاز آنذاك يخصص مساحة واسعة لبث الاعترافات، خاصة اعترافات اليساريين وقتها، بيد أن للنظام الديني الطائفي الراهن مميزات في تفنين عملية الاعتراف تجعله متقدما على النظام السابق. يقول آلكسي دوتوكفييل في معرض تناولة الثورة الفرنسية، بأن «النظام القديم هو بمثابة مدرسة للنظام الجديد» الذي خلفه. وهذا ما يصدق على الحالة الإيرانية هنا، حيث أن إرث ذلك النظام الملكي ألقى بظلاله على النظام الأسلامي الذي أطاح به، وأخذ هذا الحكم يتعامل بالأساليب ذاتها المتبعة من الحكم القديم، في مجابهة المخالفين والمعارضين، وكبتهم والتصدي لهم بأسلوب أمني عنيف، لا يترك وسيلة إلا يستخدمها لإخضاعهم، واعتبار الاعتراف القسري ذا طابع تعليمي ينقل من خلاله التأديب، والسلوك المقبول من وجهة نظر النظام، وشرح مغبات التطاول عليه والخروج منه.

وكان عقد الألفين، شاهد على عرض مسرحيات واسعة من اعترافات الأسرى الأحوازيين، وبث مسلسل طويل من اعترافاتهم، وتصريحهم بالندم، ونصحهم للشباب بتجنب الطريق الذي قطعوه، والعقائد الباطلة التي اعتنقوها، وفق ما أملى النظام عليهم للتصريح به. وهكذا أصدر التلفزيون الرسمي الاعترفات المتلفزة لمناضلين نظير الشهيد علي المطوري، وزوجته فهميه بدوي التي كانت حاملا حين ألقي القبض عليها، والشهيد مالك التميمي وراضي الزرقاني وعبدالله السليماني، وخليل الكعبي، ونبیه السلیمانی و علی النواصری و مهدی العفراوی و وهادي الراشدي وهاشم شعباني و عيسى الكعبي وحسن العبيات وماجد البوغبيش وأمير الكعبي  وعلي رضا العساكرة و خلف الخنافرة ومحمد الزغيبي وريسان الساري وقاسم سلامات و العشرات الاخرین من الشهداء والأسرى الذين تلقوا مختلف أساليب التعذيب الجسدي والروحي لانتزاع اعتراف منهم لا قيمة أخلاقيه له.

في أفلام الاعترافات التلفزيونية للأسرى، يجب الانتباه إلى نقطة هامة وهي أن بث الأفلام التي تظهر فيها الاعترافات من قبل الأسرى يعني أن النظام الأمني قد فقد الأمل تمامًا في تعاون هؤلاء الأسرى للإيقاع بباقي المناضلين، وتحويلهم إلى عناصر تعمل لصالحهم، وتتحول إلى عناصر عميلة لديهم، مقابل تقاضي السلطات عن التهم الموجهة إليهم، وإسقاط فترات السجن أو الإعدام. ولذلك فما من أسير تم بث اعترافه القسري، إلا كان ذلك بمثابة القطيعة النهائية بينه وبين النظام الإيراني، وانقطاع الأمل من تعاونه، وتحويله إلى عميل. وهذا ما يفسر مآل الأسرى الذين بُث اعترافهم، بين من تم إعدامه، ومن حكم بالمؤبد، ومن سُجن لفترات طويلة.

هناك نوع آخر من الاعتراف المسجل أيضا، حيث يمتنع النظام من بثه، بغية جعل الفلم المصور من الأسير آلة ضغط لإستفزازه أو منعه عند الخروج من العمل النضالي، وتهديده المستمر ببث الاعتراف، الذي قد يكون يحتوي على جوانب خاصة من حياة الفرد، جعله التعذيب يعترف بها، من قضايا تمس الشرف أو مما يمس بسمعته وسمعة أقاربه.

وهذا النوع من الابتزاز، نظرا لضعف الجهاز في تجميع المعلومات والتجسس على وسائط الاتصال وتقانتها المتقدمة، هذا النوع من الابتزاز الذي يحول بعض الأسرى إلى متعاونين مع الأمن، يعد من أبرز قنوات حصول المعلومات على باقي المناضلين. فالكثير من المعلومات التي يتحصل عليها الجهاز الأمني والاستخبارات الإيرانية عن عمل المناضلين، إنما يتم عبر وشاية من هذه العناصر المعتقلة سابقا المتعاونة راهنا. وعادة ما تكون هذه الوشايات التي تبني عليها الاستخبارات بطشها بالمناضلين، غير محيطة بخفايا النضال في البداية، وتأمل بأن يأتي أسلوب التعذيب لها ببعض معلومات. ومن أجل ذلك يكون التعذيب سبيلا لنزع الاعترافات، حيث يظهر المعذب اعترافه بأعمال لم يرتكبها، أملا في التخلص من العنف الجاري عليه.

 

الشرعية، الدفاع والوقاية

لا ينحصر نزع الاعترافات في النظام الإيراني، على الجهاز القضائي، بل هو يرتبط بشبكة مفاهيم وظواهر، على رأسها: شرعية الدولة القائمة، والدفاع الشرعي. شرعية تبرر الأعمال العنيفة التي تقوم بها السلطات، وتتيح التشريع المساند لها، لأنها آتية من الدولة بتفويض من الشعب، تم منحه للدولة في زمن سابق، وراهنيته تتجلى عند كل مواجهة. شرعية تتكرر في كل استعراض للاعتراف، ويعيد تذكيرهم بأن الدولة هي صاحبة الأهلية والحق الذي يسمح لها بممارسة جميع الأعمال التي تراها واجبة للحفاظ على النظام، أمام مجموعة من الأعمال التي يصنفها، النظام ذاته، بأنها أعمال إجرامية تستوجب المعاقبة؛ لأنها تستهدف النظام، وتستهدف المجتمع واستقراره وسلامته.

ويتبين أن هذه النقطة ثلاثية الأبعاد زمنيا، تمتد على شكل خط يصل الماضي بالحاضر والمستقبل. ولإيضاح هذه الثلاثية تعمد السلطات إلى استخدام استعارات وتصورات تحدد فيها الضحية، وتصور فيها جميع تصرفات رجالات الأمن وعناصر الاستخبارات كمدافعين مضحين، لهم الشرعية التامة في جميع أعمالهم، لأنها انتصارا للضحية وحماية له.

على سبيل المثال، قدم النظام الإيراني صوراً للشهيد حبيب أسيود، واحد من قادة حركة النضال، باعتباره إرهابياً ومناهضاً للنظام. ووصفوه بأنه مجرم اعتدى على أمن المجتمع وأمواله في الأحواز، وأحدث أضراراً في أنابيب النفط ومبانٍ حكومية ومرافق عامة، باستخدام الأسلحة الحربية والمتفجرات من أجل تحقيق أهدافه المعادية للمجتمع. صورت الرواية الإيرانية الكاذبة، حبيب اسيود بانه قام بقتل الإيرانيين بأوامر من جهات أجنبية معادية، وذلك بخيانة لشعبه. كما زعم القاضي أفشاري، خلال إحدى جلسات محاكمته، أن المتهم اعترف بالتعاون مع الاستخبارات السعودية واستلامه للسلاح منها لتنفيذ جرائمه داخل الأراضي الإيرانية.

إن التصور المعروض عن حبيب الإسيود في الإعلام الإيراني هو تصوير شر يتجلي في الشهيد حبيب يجب دفعه، حماية للمجتمع، وتذكيرا لباقي الضالين بأن مصيرهم سيكون هذا المصير من إعدام، وذلك في إطار ثلاثية الشرعية والدفاع والوقاية.

 

 منهج الاستخبارات الإيرانية في صناعة الأعداء

عندما نتفقد ضحايا الاعترافات القسرية، نرى أن غالبية هؤلاء السجناء السياسيين الأحوازيين كانوا معلمين، أو شعراء،  أو طلاب جامعات، ذوي مكانة أكاديمية عالية. بالتالي، يستهدف نظام الحكم الإيراني هذه الشخصيات الأحوازية على وجه التحديد بغية عدم ارتقائهم في سلك العمل حتى يبقى الانسان الأحوازي تحت المجهر ومتهم ومهمش، وبذلك تمنع هذه الشريحة من مواصلة كفاحها إلى رفع مستوى الوعي بين الشعب الأحوازي حول حقوقه الوطنية والإنسانية المشروعة. كما يهدف هذا القمع إلى إعاقة نمو تعبئة شعبية جماعية مستنيرة ومتمكنة ضد الاستعمار الإيراني في الأحواز. بذلك، تهدف إيران إلى إضعاف الحراك التعبوي للحركة الأحوازية لمقاومة سياسات النظام والتنظيم بشكل فعال.

من خلال استخدام الاعترافات القسرية وأساليب التلاعب المختلفة، تسعى إيران إلى تصوير النخبة الأحوازية على أنهم مجرمون و مهددين للمجتمع، وبالتالي يتم تبرير سجنهم أو اقصاءهم أو إعدامهم. تُستخدم هذه السياسة عادة في الأنظمة الاستبدادية لتشويه سمعة الأصوات المعارضة وشيطنتها وإسكات أصواتها.

التفسير المحتمل لهذا الاسلوب قد يكون منهج الاستخبارات الإيرانية في “صناعة العدو” حيث يتم تحديد مجموعات أو أفراد معينين على أنهم أعداء للنظام. وبالتالي من خلال استهداف الأكاديميين الأحوازيين وتصنيفهم كأعداء للدولة، تستطيع إيران إضفاء الشرعية على حملتها القمعية على هولاء النشطاء وحشد الدعم الشعبي لتصرفاتها من الجمهور.

استخدمت إيران هذه السياسة كوسيلة للحفاظ على السلطة والسيطرة من خلال تجريم الناشط الأحوازي وتكميم أي صوت معارض، بغض النظر عن سلميته. كما استخدمت الدولة الإيرانية مفهوم  “الأعداء” في التعامل مع السجناء الأحوازيين من خلال تصنيفهم زورا على أنهم إرهابيون أو انفصاليون، وبالتالي تصويرهم على أنهم يشكلون تهديدا للأمن القومي.

وتؤكد الدولة الإيرانية على عدم اعتبار المعتقلين الأحوازيين سجناء سياسيين، بل تضعهم في القسم الأمني، وهذا التصوير الذي لا أساس له يسمح للحكومة بتبرير معاملتها القاسية وقمع أي تعبئة وطنية معارضة داخل المجتمع الأحوازي. على سبيل المثال، تم الاعتداء على المعلم والشاعر الأحوازي هاشم شعباني، إلى جانب زميله هادي الراشدي، وتعرضا للاعترافات القسرية التي فرضتها إيران. وبالرغم من الاعترافات الأولية تحت وطأة التعذيب الوحشي في السجون الإيرانية على يد الاستخبارات، إلا أن شعباني تراجع لاحقًا عنها، مؤكدًا على نشاطاته الثقافية السلمية وإنكاره للاتهامات الزائفة التي وجهت له تحت ضغط التعذيب الوحشي. وقد تم استغلال دفاعه عن حقوق الشعب الأحوازي وانتقاده للجرائم التي ارتكبتها الحكومات الإيرانية ضد الأحوازيين لتجريمه كعضو في منظمة إرهابية غير موجودة في الواقع.

وعلى الرغم من إصراره على براءته ومطالبته بإعادة محاكمته أمام محكمة محايدة، انسحب شعباني عن اعترافاته التي تم الحصول عليها بعد التعذيب، وأعلن رفضه للعنف مراراً وتكراراً. وفي رسالة تسربت من السجن، كتب الشعباني أنه كتب مقالات ومدونات تنتقد معاملة إيران للشعوب غير الفارسية المستعمرة، بما في ذلك شعب الأحواز في إيران، واستنكر “الجرائم البشعة التي ترتكبها السلطات الإيرانية ضد الأحوازيين، وخاصة عمليات الإعدام التعسفية وغير العادلة”. وختم رسالته بالقول: “كنت أدافع عن الحق المشروع لكل الشعوب في الحصول على حياة حرة وكاملة الحقوق المدنية والقومية. وعلى الرغم من كل الألم والمعاناة، فإنني لم أستخدم سوى القلم كسلاح في مواجهة هذه الجرائم البشعة”.

من خلال تشويه سمعة النشطاء والسجناء السياسيين الأحوازيين واعتبارهم أعداء، تقوم الدولة الإيرانية بحرمانهم من حقوقهم وتبرير استمرار القمع والانتهاكات ضدهم، مما يزرع الخوف والصمت بين سكان الأحواز ويثبت مناخ الترهيب والقمع. علاوة على ذلك، من خلال صياغة سرد للتهديدات و الخصوم الخارجية وربط الأحوازيين بالخصوم الإقليميين والدوليين، فإن الحكومات الإيرانية تصرف الانتباه عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان وإجراءاتها القمعية ضد السجناء الأحوازيين و كل الشعب الأحوازي. وهذا التحويل يمكّن الحكومة من السيطرة على تبرير سلوكها الأمني إتجاه قضيه الأحواز ودعم هيمنتها الاستعمارية على الإقليم  الأحواز.

 بالتالي، إن نهج صناعة العدو الوهمي هو أداة قوية تستغلها الحكومات الإيرانية لتبرير تكتيكاتها الأمنية القمعية بحق النشطاء الأحوازيين وإخضاع الشعب الأحوازي بأكمله حيث وصل القمع وانتهاكات الاحتلال الإيراني ضد الأحوازيين، حتى تصف الحكومات الإيرانية أي حراك شعبي  لمجرد مطالبه بحق العيش، و حق الناس بالحصول على المياه الصالحة للشرب، أو وقف التهميش والتمييز العنصري في التوظيف،  تصفه بعمل يشكل تهديدا للأمن القومي الإيراني.

 

سياسة القمع الإيرانية ضد النشطاء الأحوازيين في المنفى    

 لدى النظام الإيراني هدفان رئيسيان في الحصول على اعترافات قسرية من السجناء الأحوازيين. الهدف الأول هو استخدام هذه الاعترافات كدليل لتجريم السجناء وإعدامهم. ومن خلال بث هذه الاعترافات على القنوات التلفزيونية التي تديرها الدولة، يهدف النظام إلى حشد الدعم من المجتمع الإيراني الفارسي، الذي قد يتأثر بسهولة بدعاية النظام بسبب العنصرية العميقة المعادية للعرب السائدة في ذلك المجتمع. الهدف الثاني هو بث هذه الاعترافات القسرية على القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة الإنجليزية، مثل قناة برس تي في، من أجل تشويه سمعة الحراك الأحوازي دوليا. ومن خلال تصويرهم على أنهم تهديدات يجب القضاء عليها، سواء كانوا في الأحواز أو يعيشون في أوروبا، يسعى النظام إلى تبرير أعماله القمعية واغتيالات و خطف الشخصيات السياسية العربية الأحوازية في أوروبا، مثل حبيب الإسيود و احمد مولي الذي تم اغتياله أمام بيته في هولندا في أواخر 2017.

 

مسرحية الرعب

تلاحظ في تصميم الغرفة التي احتجز فيها الشهيد حبيب الإسيود وباقي الضحايا، أنهم يظهرون فيها وحدهم، بينما لا توجد عناصر أمن أو قضاء أو إعلاميين أو أي شخص آخر من موظفي المحكمة. إنه مشهد يشبه مسرحية مشهد أحادي من مسرحية لا بطل فيها سوى “المجرم”. ولكن الصورة الكاملة لهذا المشهد، هي مجموعة متكاملة من سلوكيات التعذيب التي تطال الجسد والروح معا، أعدت المشهد ليكون الضحية فيه مستعدا للإدلاء بما يدينه ويجرمه، ووراءه سلطة مغيبة، أو أريد لها أن تكون غائية لا مرئية، ولكنها طاغية على كل المشهد، لا تراها العيون. على سبيل المثال، إن الكرسي الذي وضع عليه الشهيد حبيب يحمل معه هيبة الخوف والسطوة، تصوير يحكي مآل جميع المناهضين والثوار، ويروي سطوة الحاكم القادر على جلب كل مناهض ومناضل في ذلك المكان. لأن لا بد أن يأتي يوما ويضظر فيه المخالف أن يجلس على كرسي كهذا، يعترف بذنبه، وينال العقوبة المعدة سلفا، تعدمه من الحياة. إنها بتعبير ميشيل فوكو عقوبة تطال من يريد استصغار الحاكم عبر الدنو من الجريمة واجتراحها.

ولقد تكررت هذه المسرحية في العقد الثاني من الألفية الثانية، بناء على تقارير منظمات حقوق الإنسان، والجمعيات العامة للمجاميع الحقوقية، التي تطالب كلها إيران بالكف عن هذه الأعمال، تكررت لأكثر من 355 مرة بث فيها النظام الإيراني الاعترافات القسرية للمخالفين، إلى جانب 505 حالة وجه بها التلفزيون الرسمي اتهامات لمعارضين في الداخل والخارج، تمهيدا للوقوع بهم في دائرة التجريم والملاحقة المستقبلية، والوعيد بنيلهم عقوبتهم المستحقة.

إن منظمة التلفزيون والإذاعة الإيرانية تحولت إلى أسلحة للقمع والكبت، عرضت خلال العقد الأخير وثائقيات استغرقت أكثر من 1500 ساعة، تبحث في أعمال المعارضين وتشهر بها وتثبت جرائمهم، وذلك خلال 150 برنامج أسبوعي أو شهري، استعرضت بتفصيل 13 حالة كنماذج لاستخلاص العبر، استمرارا لتاريخ طويل من الاعترافات القسرية وتوثيقها صوتا وتصويرا.

 

الهوية واستراتيجية تزوير الحقائق

يصور جورج أورول في روايته 1984 شخصية فينسن التي تقترب جدا من ضحايا نزع الاعتراف في النظام الإيراني. ففي جانب من هذه الرواية يقوم المحقق باستجواب فينسن سائلا إياه عن العدد الذي الظاهر على يده، فيجيبه بأربع. ولكن المحقق يعيد السؤال عليه بالقول: إذا ما قال الحزب بأنه خمس فماذا سيكون قولك؟ فيجيبه أقول خمس. ثم ينهال عليه الضرب والتعذيب، فيقول له المحقق إنك تكذب، ثم يعيد سؤاله عن عدد اصابع يده. فيجيب خمسة، أو هو العدد الذي تفضله أنت. ولكن التعذيب يستمر، والسؤال يتكرر. إلى أن يقول وينسن إنني أحاول أن أرى العدد بأنه خمسة. فيسأله المحقق هل ترغب فعلا في أن ترى العدد خمسة، أو إنك تقول ذلك إرضاء لي. فيقول إنني صدقا أرغب في أن لا أرى سوى خمس. ولكن التعذيب لم ينقطع عنه، والسؤال أيضا يتكرر، إلى أن يقر وينسن بأنني لا أعلم العدد، فيرتضي المحقق الجواب هذا، ويقول له بأنك الآن أصبت، لأنك بدأت تدخل عالما جديدا، وتتحصل على رؤية جديدة. وفي موضع آخر من الرواية يقول المحقق بأننا لا نعذب الكافر لمجرد كفره، بل نفعل ذلك حتى نحوله قبل قتله إلى أحد منا، ونقوم بذلك لتطهيره من ذنبه.

ولعل مثال الطبيب النفسي الفرنسي الشهير، دكتور لوره، في كتاب ميشيل فوكو، مثال آخر عن ذلك، يقرب لنا قضية الهوية وتزوير الحقيقة. ففي إحدى الأيام صباحا يقوم لوره بأخذ مريضة السيد ألف إلى الاستحمام، ويجبره على شرح هجره بالتفصيل. يقول الطبيب بأن كل ما قلته لم يكن سوى الجنون. ويجب عليك أن تعدني بأن لا تقوله مرة أخرى. وبينما الريبة اكتنفت المريض قطع الوعد المطلوب منه للطبيب. ولكن الطبيب رفض وعده، وقال له بأنك قد قطعت ماضيا مثل هذه الوعود، ولم تفي بها. ثم فتح المياه الباردة عليه، حتى صرخ المريض عاليا بأني مجنون، ومباشرة توقفت المياه الباردة، وجرى السؤال والجواب. وأخذ المريض يقول بأنني أقبل بجنوني، ولأنكم أنتم تفرضون علي قبول الجنون. هنا تعود المياه الباردة تنصب عليه من جديد، ويعود نزع الاعتراف، إلى أن يصرح المريض بأني اطمأنكم بسماعي أصواتا، ورؤيتي لأعداء يحيطون بي. والمياه الباردة تعود، إلى أن يصرخ المريض بأني أتقبل هذا كله على أنه جنون، وهكذا يشفى المريض.

إن القصد من هذه الأمثلة الإشارة إلى أن ما جرى على الشهيد حبيب الإسيود، هو ذاته المذكور في المثالين أعلاه، حيث لم تحاول الحكومة البحث عن حقيقة مغيبة في الضحية، بل غايتها كانت حقن حقيقة فيه، وتذكيره بها، حقيقة مفادها مجموعة من المبادئ والقواعد التي وضعتها الجمهورية الإسلامية، وما يجب على هؤلاء استذكارهم لها، وتحولهم إلى شخصيات مماثلة للمحققين.

إن هذا التعامل القاسي مع المتهم، هو بمثابة محاولة لإعادة قولبة روحه ووجوده، وذلك عبر ما يجري في عملية التحقيق، وحث المتهم على البحث في ثناياه عن جرم ارتكبه، وعندما لا يعثر على ذنب في نفسه، فإنه يضطر، تحت ضغوط المحقق، اختراع تلك الجرائم المطلوبة، والتصريح بها. إن السلطة الايرانية هنا هي من تصنع الجريمة، عبر تزويرها للحقائق، محاولة لبث هذه الحقيقة بين المجتمع، وإطلاع الجميع بها. وذلك يتوخى غايتين: أولهما صناعة التوبة وبث ثقافة الندم، لرأب الصدع في أوساط المجتمع الأحوازي، وفي الضمير الجمعي له، وثانيهما تتبع ذنوب المواطنين ليس في هذه الدنيا فحسب وفي العالم الآخر أيضا، لأن ذلك مهمة نظام أراد لنفسه أن يكون إسلاميا بمقاسه يتولى شوؤن العالمين والحياتين الدنيا والأخرى.

 

استراتيجية المجتمع المعترف

إن عملية نزع الاعترافات القسرية تشابه نمط تعذيب العالم القديم الظاهر في قطع الرؤس في ساحات المدن العامة. يقول أحد أكبر الجلادين في السجون الإيرانية في فترة الثمانينات، سيد أسد الله لاجوردي، إن العقوبة يجب أن تكون كمدرسة يُجلب لها الأطفال والبالغين معا، وزيارتها أهم من زيارة المسلمين لمكة.

بالتالي، يتم تحويل أفواه المناضلين في طقوس نزع الاعتراف إلى أدوات تعكس قوة النظام الحاكم، وتصبح وسيلة لنشر رسائل النظام للمجتمع. تريد السلطات من خلال رسالة القتل والإعدام، استهداف المخيلة الجماعية، وشحنها بالخوف والإرهاب من قرب الموت، حيث يتخيل المجتمع إمكانية وقوعه مكان حبيب الإسيود وهاشم شعباني، كلما أراد أن يسلك طريقهم، ويعتنق عقائدهم، وذلك يفتح الباب واسعا أمام فرض الرقابة الذاتية على جميع المجتمع.

وبالطبع، هذا هو ما يفسر المحاولات المتكررة والحثيثة للحرس الثوري وأجهزته الإعلامية، محاولتهم التي لا تنقطع لجلب المخالفين إلى كرسي الاعتراف، وبثه، عبر محكمة متلفزة أريد لها تكون مسرحية يشاهدها المجتمع، ويستلهم من العبر والدروس. إن مسلمة النظام الإيراني على طول عقودة الأربع، في تعامله مع المطالبات القومية، هي النظرة إلى الأحواز كمستعمرة يجب الحفاظ عليها عبر الرعب، وإظهار مشاهد المحاكم والاعترافات والإعدامات، ليس الاعتراف بالجريمة فحسب، بل الاعتراف بأحقية النظام وصدق قيمه وقواعده، ووجوب التقيد بها، والابتعاد عن جحدها. وهذا هو المجتمع المعترف سلفا، بكل ما قاله النظام، ويقوله وسيقوله، في خط ممتد يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.

 

الإستنتاج

إن عملية نزع الاعتراف تحت الحكم النظام الجمهورية الإسلامية، لا يعد قضية قضائية فحسب، بل إنها عملية معقدة جدا، تستخدمها الدولة الايرانية في جميع الأجهزتها، ومن أجل الحفاظ على إيديولوجية الدولة ونهجها القمعي. وبالتالي إنها عملية تتوخى تعزيز السلطة على المجتمع، والهمينة على الأفراد والجماعات. فأسلوب نزع الاعتراف القسري يهدف إلى جعل الحقيقة إلى جانب النظام القائم، وبيده وحسب سرديته، في عملية يتم من خلالها مأسسة الخوف، ووأد أي صوت مناهض. إنه أسلوب وجدَ في الاعترافات المنتهية بالموت معينا على قولبة الهوية المطلوبة من جانب النظام، كمثال أعلى للعيش المعياري، وتجنبيا للكافة من لعبة الحياة والموت.

هذه العملية تجعل الروح الجماعية مشدودة بالاستنطاق الإيديولوجي المستمر، دون أي إمكانية للانحراف عن المعتاد ولا تحتمل أية خروج عن المألوف. إنها نظام يعتمد على الطاعة والخوف، حيث يتعين على الأفراد الالتزام بالقواعد التي تحددها السلطة، وهم معرضون للعقاب القاسي في حال تجاوزوا هذه الحدود. الاعترافات هنا تعد وسيلة لتحقيق الطاعة الجماعية، وأداة لتمرير سلطة ورقابة تستهدف الجميع.

 

 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!