مقدمة
بسبب الألغام والمتفجرات التي خلّفتها الحرب الايرانية – العراقية لم تنج عائلة واحدة أحوازیه في القرى الحدودية من مأساة فقدان أبناء أو أقارب وإعاقة آخرين من سكانها الذين يعتاشون على الزراعة وتربية الماشية.
تداولت وسائل التواصل الاجتماعي، قبل بضعة أيام، خبر مقتل فردين، في مدينة الشلمجة، قرية المصلاوية، الأحوازية إثر اصطدامهما بالألغام المتبقية من الحرب الإيرانية ضد العراق، في الثمانينيات. والقتيلان هما طفل لا يتجاوز عمره 15 عاما، وشاب لا يتجاوز عمره 30 عاما. وقد أفادت المصادر المحلية بأن الطفل الضحية هو محسن فرحان العتقي، والشاب هو حمود امخيلف السليماني التميمي. وقد كانا يجمعان القمامة طلبا لتوفير تكلفة الحياة، على أطراف مدينتهم الحدودية، حتى انفجر أحد الألغام بهما ليقتلا على الفور.
ورغم مرور ثلاث عقود على تلك الحرب، بيد أن آثارها ما تزال تحصد أرواح الأحوازيين الذين وقعوا ضحايا مخلفاتها، وتقاعس النظام الإيراني عن تنظيف المناطق التي عصفت بها الحرب، تنظيفها من آثار الحرب، خاصة الألغام والرصاص والعبوات غير المتفجرة، التي يمكن لها أن تنفجر في أية لحظة من اللحظات. وقضية الألغام هذه، هي قضية مأساوية ممتدة منذ انتهاء الحرب لغاية اليوم، وما تزال تحصد أرواح العشرات، وتقطف أطراف المئات من الأطفال والشباب، في الأحواز. فما من فترة تمر إلا وتتعالي الأخبار فيها عن مثل هذه الأخبار، وعن انفجار لغم، عادة ما، يقطف أرواح الأطفال الأبرياء في المدن الحدودية، وهم يلعبون في أطراف حقول الزراعة أو بيوتهم.
تفيد تصريحات الأمم المتحدة بانتشار 16 مليون لغم على مساحة 4.2 مليون هكتار من الأراضي الواقعة في «الحدود الإيرانية»، ثلث الألغام هذه هي من نصيب الأحواز، وفي مناطقها الحدودية نظير: البيستين والحويزة والسوس ودكة عباس والمحمرة وعبادان، وغيرها من المناطق الحدودية الأخرى. وبينما يعني الثلث من هذا الحجم انتشار ألغام على مساحة تبلغ 1.5 مليون، لكن حجم الأراضي التي تم تنظيفها من الألغام لم يبلغ سوى 226 ألف هكتار، بشهادة أحد مسؤلي النظام الإيراني.
أما عدد الوفيات من الألغام فهي متضاربة يتكتم النظام عليها، ولا يتيح أية أرقام واقعية وشفافة تكشف حجم الكارثة وأبعادها، وتبيين الأضرار البشرية الواقعية من هذه الظاهرة المستمرة لعقود. وتفيد إحدى الاحصائيات للنظام الإيراني ببلوغ عدد الضحايا، في أعوام 2009 لغاية 2019 بلوغهم 73 قتيلا، و399 جريحا ومصابا بحالة شلل دائم. أما المصدر الآخر من النظام الإيراني فيفيد بوقوع أكثر من 75 قتيلا إثر انفجار الألغام في الأحواز في العقد الأخير. على النقطة الأساسية في جيمع الاحصائيات التي تخرج من النظام الإيراني، كما أشرنا، هي عدم شفافيتها وصحتها التامة، وتضاربها وتناقض جزئياتها بين جهاز حكومي واحد عن الآخر. فبينما تعلن وزارة الصحة عددا معينا من الضحايا، تأتي منظمة الاحصاء الإيراني بأرقام مغايرة، تكون مغايرة بأعداد كبيرة في بعض الحالات، تشوه صورة الواقع، وتبعد التحليل من الاستناد على أرقام واقعية.
نماذج يسيرة عن ضحايا مخلفات الحرب
وعلى العموم هذه نماذج يسيرة عن ضحايا مخلفات الحرب، من انفجار الألغام، يتم ذكرها هنا انعكاسا لواقع الحال:
- قتيل وجرحى: وقبل الحادث المشار إليه، كانت حادثة مماثلة قد وقعت في مدينة البسيتين، في قرية نبعة، كانت الضحية هذه المرة إمراة تبلغ من العمر 57 عاما، وطفلين، الأول يبلغ من العمر 12 عاما، والثاني 10 أعوام فقط. كان نصيب المرأة هذه والطفلين الشلل وبتر الأعضاء، ليعيشا باقي حياتهما في هذه الحالة المأساوية من النقص والشلل. ولكن القتيل لم يكن إلا شابا يبلغ من العمر 19 عاما، راحت أشلاؤه تتطاير من شظايا اللغم، ولم يتبق سوى أطرف جسمه الأعلى .
- مأساة الطفل حسين اللطيفي: لعل قضية الطفل حسين اللطيفي هي من أكثر الأحداث إيلاما، لأنها تعكس الواقع الخطير في المناطق الحدودية الأحوازية. فقضية حسين لا تختلف كثيرا في جزئياتها عن باقي الأحداث المتعلقة بانفجار الألغام، بيد أن رواية أهله هي التي تجعل هذه القصة من أشد الأحداث مأساوية. فبينما كان الطفل يلهو على أطراف الحقول الزراعية، طلبا للكلأ ومساعدة الأهل، وإذا بصوت انفجار مهيب، يهز جميع قرية الصالح داود في مدينة السوس. وحين هرع الأهل لتفقد مكان الانفجار، وجدوا جثة طفلهم قد انقسمت إلى نصفين، لم يعثروا على الجزء السفلي منها، وراح الطفل محترقا وجثة هامدة لا يدري ماذا حصل. وقد تداولت وسائل الإعلام الفيديو الذي يظهر جثة الطفل وقد تبقى نصفها الأعلى على شكل متفحم، ما زاد من هول هذه الحادثة.
- قتيل وجريحان: وكان موضع هذا الحادث هو مدينة البسيتين، مرة أخرى، المدينة الحدودية التي شهدت معارك طاحنة بين الجيشين الفارسي والعربي في الحرب الإيرانية العراقية. ففي هذه الحادثة التي وقعت في غابة الإمقر بالقرب من المدينة هذه، انفجر لغم بثلاثة شبان من أهالي المنطقة بينما كانوا في نزهة، حين تسببت الرياح العاتية بتحرك اللغم، ووقوعه على مسيرهم، إلى أن وقع الانفجار ومات أحدهم، وجرحا اثنين. وكما متوقع فإن الجراح في مثل هذه الأحداث تعني بتر الأعضاء، أو فقدان البصر، أو باقي الجراحات الشديدة التي تؤدي إلى نقص في الأعضاء البشرية بشكل متفاقم.
- ثلاثة قتلى: إن الملاحظ في كل هذه الأحداث التي تتم محاولة ذكر بعضها هنا، هي أن ضحاياها معظمهم من الفقراء، ممن تضطرهم ظروف الحياة إلى البحث عن أعمال محفوفة بالمخاطر، قليلة الدخل. فمثلا في هذه الحادثة التي راح ضحيتها ثلاثة شبان، كان سبب دخولهم إلى أرض ملغمة، هو البحث عن الحديد والصلب الملقى في أطراف مدينة السوس، وتحديدا في قرية الزعن والصرخة، لتجميعه ثم بيعه مقابل أموال يسيرة. على أن أولى الأسباب التي دفعت بهؤلاء الشباب إلى سلوك هذه الأعمال، هو الجفاف الذي جعل حقولهم الزراعية غير صالحة للزراعة. وهو موضوع تم التطرق له ولتبعاته في تقارير سابقة في المعهد.
- أب قتيل وأبناء جرحى: ونختم فقرة النماذج المأساوية من ضحايا الألغام، بهذه الحادثة الأليمة التي تؤثر على المشاعر. لقد نشرت وسائل الإعلام المحلية في مدينة السوس، في شمال نهر الكرخة، نشرت خبر مقتل أب وجرح أبناءه الثلاث، بعد أن وطأ لغم على طريقه، فطارت جثته قتيلا، والتهمت الشظايا أطفاله الذين كانوا بصحبته، فأخذت منهم أرجلهم وأياديهم وعيونهم. ويبلغ عمر الأطفال سنتين، وكان يحمله أخوه الأكبر، و6 سنوات و11. وهي قصة من كثير من القصص التي لا أبطال فيها سوى الفقراء والأبرياء من أهل الحدود النائية.
على العموم لم يكن الهدف من نقل هذه النماذج المأساوية المذكورة التوثيق للأحداث، فذلك يتطلب مساحة واسعة، وتحريا أكبر، بل الهدف هو إبراز عينة صغيرة لضحايا هذه الحوادث رغم مرور عقود ثلاث على تلك الحرب، ورغم تمتع منطقة الأحواز بثروات هائلة توفر التكاليف اللازمة لتنظيف المنطقة برمتها من مخلفات الحرب من ألغام وغيرها. ولكن على العكس من ذلك أهمل النظام الإيراني إقليم الاحواز كليا، من حيث التخفيف من وطأة تبعات الحرب، وجعل المنطقة هذه تعاني من الألغام غير المتفجرة، وتشهد مآسي متتالية، كالتي تم ذكره أعلاه.
العوامل الموضوعية وراء الكارثة
ويمكن عد العوامل التالية كأهم الأسباب التي ساهمت في استمرار حصد الألغام أرواح الأبرياء. ومنها الأسباب الموضوعية التي هي نتاج إرادة غير بشيرية، ومنها الأسباب التي فاقمها النظام الإيراني مباشرة:
- تحرك الألغام: تتحرك الالغام عن مواضعها التي زرعت فيها. فعلى الرغم من كون الألغام تُغرس في القرب من سطح الأرض، وتثبت في أماكن تحت التربة، بيد أن الأمطار ومن ثم تحول التربة إلى وحل، تتسبب في حركتها، وتغير مكانها من موضع إلى آخر، دون أن يفضي ذلك التحرك البطيئ إلى انفجارها. وصحيح أن بعض الألغام تنفجر إثر هذا التحرك أو بتأثير من مضي الوقت، لكن بالرغم من هذه الحركة الا ان بعض الالغام تترك على حالها، وتتدحرج نتيجة الامطار أو السيول حيث تنتقل إلى أماكن قريبة من مواضع نشاط البشر أو القرى المجاورة. على أن هذه الحركة هي خطيرة جدا على الأهالي والأخصائيين العاملين في العثور على الألغام معا. فتأثيرها على الأهالي هو أنها قد تتحرك نحو مناطق معروفة بأمنها، ومعبدة حسب تجربة الأهالي، مما يجعلهم يترددون عليها بأمان؛ ثم يجعل تحركها المنطقة الآمنة سابقا غير آمنة تتسبب بوقوع مثل تلك الأحداث. ونفس الأمر يحدث للأخصائين حيث التحرك هذا قد يطال منطقة نُظفت من الألغام سابقا، فيجعلها منطقة صالحة للتردد، سرعان ما تساهم في وقوع قتلى.
- عدم الالتزام العسكري للنظام الإيراني: من الأمور الأخرى هي عدم التزام العسكري للنظام الإيراني بتنظيف المواضع الملغمة. وإذا ما كان السبب الطبيعي هو نتاج غير بشري، ولكن قضية الألغام وحصدها الأرواح هي قضية من صنع البشر تماما، ومن صنع النظام الإيراني بالتحديد. فبينما تحديد المواضع الملغمة هو من اختصاص الجيش الإيراني، فإن الملاحظ هو تقاعس تام بين الأجهزة العكسرية الإيرانية، جعلت مسؤلية الأمر تخضع للتجاذبات بين الحرس الثوري والجيش الإيراني. فبينما كانت حماية الحدود ومراقبتها من مهام الجيش الإيراني، إلى قبل عقد، كان إسناد تلك الحماية إلى الحرس الثوري، وإبعاد الجيش من الحدود، من أكبر الأسباب التي جعلت مسؤلية هذه الأرواح البريئة التي تحصدها الألغام، مسؤلية متداولة يلقيها الجيش على عاتق الحرس، والحرس يلقيها على كاهل الجيش .
- عدم تخصيص ميزانية للتنظيف: على الرغم من تمتع الأحواز بثروات هائلة، كما هو معروف، ومع اعتماد 85 بالمئة من الاقتصاد الإيراني عليها، بيد أن السياسة الاستعمارية الإيرانية لا تخصص موارد كافية للأحواز لتنظيف المناطق التي جعلتها الحرب ملغمة. ويتجلى انعدام الميزانية لهذا الشأن الخطير في أمرين هامين: أولهما هو تدني مرتبات الأخصائيين العاملين في كشف الألغام، وعدم تخصيص تأمين لهما، مما يجعل العاملين في هذا المجال قلة قليلة، لا يرغب أحد في الاشتغال بها، وثانيا عدم استيراد المعدات اللازمة. وصحيح أن بعض أسباب انعدام المعدات يرجع للعقوبات المفروضة على النظام الإيراني، ولكن السبب الرئيسي هو أن النظام هذا لا يكترث كثيرا بهذه القضية، ولا تعد من أولوياته، لأن المدن والمناطق الحدودية التي تعاني من الألغام هي مناطق بعيدة عن المركز الإيراني – طهران، وهي مناطق الشعوب غير الفارسية، وعلى رأسها الأحواز، المنبوذين من قبل النظام الإيراني المحتل أصلا. ولكن أمر الميزانيات لا ينحصر في هذه الجوانب فحسب، بل إن عدم وجود مشافي مستعدة للتعامل مع مثل هذه الحالات، حالات البتر والاحتراق والجراح الشديدة الناتجة عن انفجار الألغام، عادة ما تساهم مساهمة كبيرة في جعل الضحايا الجرحى يعانون من إهمال طبي يضاعف تبعات الانفجار. فالكثير من حالات الشلل وبتر الأعضاء ما كانت لتكون من نصيب الضحايا، لو تم التعامل معها بسرعة مناسبة ومن قبل كادر طبي خبير بالتعامل مع الحالات المماثلة.
- عدم انضمام إيران لمعاهدة أوتاوا: من العوامل التي ساهمت في استمرار حصد الألغام أرواح الأبرياء هو عدم انضمام ايران لمعاهدة أوتاوا والتي تحظر إنتاج الألغام واستخدامها، وتفرض على الدول المنضوية فيها عدم الاتجار بهذا السلاح الفتاك والخفي. وعلى الرغم من المطالبات الدولية لإيران بالانضمام إلى هذه المعاهدة، وعلى الرغم من حقيقة احتلال إيران الموضع الثاني عالميا من حيث التلوث بالإلغام، لكنها تتهرب من الانضمام بمبررات واهية. ويتيح الانضمام إلى هذه المعاهدة للنظام الإيراني الاستفادة من الخبرات العالمية في تنظيف الألغام، فضلا عن توفر الأدوات اللازمة لذلك. فإذا استذكرنا العامل الأول الطبيعي في تحرك الألغام، ونزولها إثر ذلك التحرك إلى داخل الأرض، فإن ذلك يجعل الألغام المتحركة غير قابلة للكشف من الأجهزة المتوفرة في إيران، ويبعدها عن أجهزة استشعار اللغم المتوفرة وهي متخلفة قديمة. ولذلك يعني الانضمام لمثل هذه المعاهدات القضاء على التخلف التقني الإيراني في ملف الألغام وتعطيها.
الختام
يسلط المقال الضوء على المأساة المستمرة لضحايا الحرب الإيرانية العراقية من الأحوازيين، والتي خلفت آلاف الجرحى أو القتلى بسبب الذخائر غير المنفجرة في إقليم الأحواز. يعاني الاقليم من مخلفات الحرب، بما في ذلك الألغام الأرضية ومخلفات الحرب القابلة للانفجار والذخائر غير المنفجرة، التي خلفها الجيشان الإيراني والعراقي. كما يركز على عدم قيام الحكومة الإيرانية بجهود إزالة الذخائر غير المنفجرة من المناطق المتضررة، على الرغم من أن العديد من المدنيين قد أصيبوا أو قتلوا بسبب هذه المخلفات. وقد أدى فشل الحكومة في توفير التمويل الكافي لإزالة الذخائر غير المنفجرة وعدم توفر الرعاية الطبية للمصابين بالذخائر غير المنفجرة إلى تفاقم المشكلة ويخلص المقال إلى أن الافتقار إلى التعاون الدولي ورفض إيران التوقيع على معاهدة أوتاوا، التي تحظر إنتاج واستخدام الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب، هي عوامل رئيسية تساهم في المأساة المستمرة. بشكل عام، يتناول المقال العواقب المدمرة للحرب على المدنيين في الاقليم، حيث ترك الصراع إرثًا دائمًا من المعاناة والدمار.