المقدمة
ما إنْ أخذت الدولة الحديثة الإيرانية تتشكل، على أنقاض الإمارات القومية المختلقة، سيما العربية في الأحواز على وجه الخصوص، حتى ظهرت في وجهها معوقات خطيرة. وقد كان لهذه المعوقات التي احتفظت بخطورتها في الدولة الإيرانية الحديثة، إلى عقود طويلة، حتى اليوم، الأثرات الجوهرية التي ساهمت في اصطباغ القومية الإيرانية اصطباغا متكاملا مستمرا لغاية الساعة، سواء على طابع الدولة المصطنعة، أو الهوية القومية لها وللمجتمع المنبثق عنها.
ويقف على رأس هذه المعوقات، موقف الدولة الإيرانية الحديثة هذه، من العلاقات مع العرب بوجه العموم، في دولهم وإماراتهم، أو الأحوازيين بوجه الخصوص، حتى أفضى ذلك إلى صياغة هوية قومية إيرانية محددة، جعلت من العرب ذلك الآخر الذي تمفصل الخطاب القومي الإيراني على أساس تنافره معه وضديته له. فمنذ القدم، النظام السياسي الفراسي بشقيه الملكي والجمهوري ، يعاني من تنافرات جوهرية مع العرب في ثقافتهم ودينهم وسياستهم، التنافرات التي جعلت السردية القومية الإيرانية، ومختلف إفرازاتها متأثرة إلى أبعد الحدود بهذا الآخر ومختلف تمظهراته.
ومن هنا بالتحديد تحولت هذه الغيرية العربية لدى الفرس، أصحاب الدولة الإيرانية الوليدة هذه، تحولت إلى عداوة ضد العرب وفي واجهتها الاحوازيين، وجعلت عملية إعادة تعريف الهوية الإيرانية، وقيمها وإيديولوجياتها، تغتذي على هذا الأساس وهذه المعاداة. ولقد تركت هذه العملية، بشكل مباشر أو غير مباشر، أثرات مصيرية على البنى المجتمعية والسياسية المنبثقة عن هذه الدولة.
على أن مظاهر هذه الفكرة، فكرة معاداة العرب، جعلت تظهر على جميع الأبعاد السيكولوجية والهووية الإيرانية، وباتت تصبغ بصبغتها جميع الجوانب السياسية والثقافية والإعلامية، جنبا إلى جنب الجوانب التاريخية والسياسية والاقتصادية.
لقد اجتازت الدولة الإيرانية بوابة الدخول للحداثة عبر إعادة التأريخ لماضيها، فقامت بتسوية حسابها مع خصومها التاريخيين في عملية إعادة كتابة تأريخ هذا الماضي: فكانت عملية ثنائية تبنت فيها التاريخ ما قبل الإسلامي، فشحنته بحنين للماضي، وأسطرته وإسناد جميع مظاهر الإزدهار إليه، من جهة؛ مساوقة مع تحديد العرب وإسلامهم كأبرز العوامل التاريخية التي تسببت بانحطاط إيران من جهة أخرى. إن التاريخ الإيراني الحديث، في الجانب التأريخي والهووي والحداثي، لا يمكن له أن يعدو عن هذه الحالتين، بشهادة جيمع الكتاب الإيرانيين الكبار أنفسهم[1].
تحاول هذه الدراسة البحث أريكولوجيا في الدولة الإيرانية بتصديها الثنائي، المفضي إلى تقولب العرب كأعداء، وفق الرؤية السياسية الإيرانية[2]. إلى جانب بحثها في الكيفية التي تمكنت فيها الدولة الإيرانية الحديثة في خصومتها ضد العرب وخاصة الأحوازيين، تمكنت من اختلاق سردية قومية تحكمت في السياسة الداخلية والخارجية لها.
معادة العرب
يشير مصطلح معاداة العرب إلى مشاعر وسلوك قوامها التمييز، والموقف العدائي، والحقد أو الأحكام السلبية، ضد الشعب العربي والقومية العربية معا. ويمكن لهذه المعاداة أن تظهر على أشكال مختلفة نظير التصريحات الفضفاضة، أو الآراء المبطنة، أو المواقف العامة. ويمكن لهذا الشعور الكامن، أن يظهر عن طريق الإعلام، و الأفلام، أو الأدبيات، أو من خلال الحوارات اليومية والكلام الشفهي.
وقد ساهم هذا الشعور في خلق صورة مكروهة عن العرب، تشوه واقع حالهم، وتنافي الحقائق الخاصة بهم وبثقافتهم، ما أفضي إلى توطيد الشعور بالعداء تجاهم، واشتداد التمييز عليهم، وبناء موقف سلبي عام بكل ما يختص بهم. كما يقف هذا الشعور حجر عثرة أمام أية محاولات لتجسير الهوة بين الشعب العربي الأحوازي، وبين الفرس، أهل الدولة الإيرانية.
اللفياثان/الدولة الإيرانية وقضية العرب
لقد اتجهت النخبة الإيرانية في طريق تأسيس دولتها الفارسية، وتحديد هويتها، وصناعة مفهوم للدولة الأمة، ومنحها معنى معيشا، اتجهت في كل ذلك نحو اختلاق بديل تعاديه، وتحقق ذاتها من خلال معاداته، وتعين هويتها بغيرته، بدلا عن تكوين مفهوم تتلاقى فيه الحقيقة والواقع، وتشتق عنه سردية لها معنى معيش، في صناعة تاريخ غير سالب. والواقع يشير إلى أن هذه المعاداة والغيرية، هي الرحم الذي انولدت منه الهوية الإيرانية، والتاريخ الإيراني: إنها مخاصمة انولدت عن رحم الاختلاف، بعبارة جاك دريدا[3].
لقد منح هذا الغير للهوية الإيرانية أرضية من التقابل والتنافر مكنها من إعادة التقولب، غير أنه تحول إلى حقيقة واقعة في بوتقة مصادر الدولة الإيرانية الحديثة، والقومية الإيرانية؛ سواء كان ذلك الغير هو العربي بوصفه مفهوما نظريا بحتا، أو قومية لها مصاديق. وهكذا مكنت الغيرية هذه تحديد الخير والشر وفق أحكام السردية القومية الإيرانية.
وبينما كان آباء القومية الإيرانية، ميرزا فتحعلي آخوندوف، وجلال الدين ميرزاي القاجاري، وميرزا آقاخان كرماني، يبحثون عن إجابة تساعدهم في استيعاب الهوية الإيرانية، والتخفيف من حدة الهزائم الإيرانية وانحطاطها الأمة لمدى قرون، وجدوا في العرب ذلك السبب الرئيس؛ ليتوطد هكذا إسناد الانحطاط بمختلف وجوهه إليهم، وتموضع العربي موضع الآخر. وبعد ذلك التموضع انبثقت بيئة فكرية جديدة، تستند إلى نوع من المجابهة ضد الآخر، وإن كانت المجابهة تلك تتطلب تشويه الحقيقة والواقع، وفارغة المضمون. وبعد كل ذلك فقد بات هذا الغير مفهوما محل إجماع ساحة الفكر السياسي الإيراني.
ومع ظهور رضا خان البهلوي، في ساحة السياسة الإيرانية في نهايات العهد القاجاري، واتجاهه نحو صناعة نظام قائم على الدولة الأمة، النظام السياسي المتوطد في أوروبا الحداثية، بعد كل ذلك توجب تكوين صورة موحدة[4] للمجتمع الإيراني المطلوب، وزج جميع الشعوب المنهزمة على يديه، في لفياثانه[5] الذي صنعه، بوصفه وحدة قومية وطنية. ومنذ ذلك الحين أخذ النظام البهلوي الجديد استدعاء صورة توافق صور آباء القومية الإيرانية عن إيران، بغية بث منظومة عقلية تآزر الدولة الأمة الإيرانية الوليدة، باتت هي الدال الرئيس في قلب خطاب الدولة الأمة هذه، بوصفه الخطاب المهيمن.
وفي هذا السياق خاض الملك الجديد، رضا خان، حملة عسكرية عنيفة، بطشت بالشعب الأحوازي، وباقي الشعوب، أعدم فيها الكثير من الأمراء والشيوخ، واقتاد أمير البلاد الشيخ خزعل لطهران أسيرا، وفرض سياسات قومية فارسية، من فرض اللغة الفارسية ومنع العربية، والزي العربي إلخ، محاولة للقضاء على القومية العربية بكامل تمظهراتها. وقد كانت السياسة البهلوية الأولى، تتمحور حول دمج قومي، غايته اصطناع صورة جديدة لإيران، بمركزية تهران، قوميا وثقافيا واقتصاديا.
والجدير بالذكر هو أن الدولة التي حرص رضا خان على إقامتها، والنظام المركزي المميز لها، هي ذاتها الدولة المتصورة ( بحسب مفهوم بندكت اندرسون في كتابه الشهير “الجماعات المُتَخَيَّلَة”) في الخطاب القومي الفارسي الذي تمفصل على أساس غيرية العرب، حيث بات النظام هذا ترجمة لتلك الأفكار المسطورة في آراء الكتاب والنخب الفكرية القومية، وجد في النظام القائم تجسد عمليا له. ومن منطلق هذه المعاداة، جاءت التغييرات في بنية الدولة الجديدة، على رأسها تغيير التاريخ من القمري إلى الشمسي الإيراني، وقضية فرض الزي البهلوي بدلا عن العربي، ونحو ذلك من السياسات الكلية التي كانت تروي سريان تنمية مصطنعة إيرانية.
لقد كانت اللغة الفارسية في هذا التكتل الجديد للسلطة هي اللغة الرسمية، ومركز الإيديولوجيا القومية، حيث اعتبرت أيقونة الحداثة الإيرانية، بدعمها عبر مختلف الوسائل: من فرضها لغة التدريس بدل العربية، وجعلها لغة الوثائق الهووية، والنظام البيروغراطي، واللغة المقبولة الوحيدة. لقد كانت اللغة هذه هي السبيل الوحيد لحيازة البشرية، والمصادقة على حيازة الفرد العربي الأحوازي الصفات الإنسانية، كما أنها تحولت إلى نظام من الحقيقة فيه تتحدد الأشياء بمسمياتها.
الأحوازيين في النصوص الإيرانية الحداثوية
بعد توطيد دعائم القومية الإيرانية بمحورية اللغة الفارسية، وتمأسس المنظومة الخطابية لها، على يد رضا خان والأجهزة الحكومية التابعة لأوامره، ظهرت طريقة في إلإنتاج الفكري بين النخب الإيرانية، لم تتبنى السردية الرسمية للقومية الإيرانية التي تبناها النظام الجديد فحسب، بل إنها أخذت تكون مؤلفات عديدة، يمكن وصفها بداية التراث القومي الإيراني الحديث، تدور حول استخدام استعارات كان العرب فيها تجسد الشر، وسبب انحطاط إيران، والتشدد في معاداة كل ما هو عربي، حتى بلغ الأمر الذروة عند تبنيهم ضرورة شطب المفردات العربية المستخدمة في اللغة الفارسية منذ قرون. وقد كانت ضرورة تنقية اللغة الفارسية من المصطلحات العربية أولى ( بالرغم من ان العربية تشكل نسبة تزيد على ستين بالمئة من اللغة الفارسية) الخطوات التي قامت بها هذه النخب في كتاباتهم وصحفهم ومختلف نشاطهم الفكري والمكتوب؛ توجه ما زال قائما بقوته لغاية الآن، سيما في الحكم الإسلاموي الراهن، ومقتنعا بمبرر هذا التوجه في تنقية اللغة الفارسية من المصطلحات العربية.
وفيما يلي نشير إلى نبذة يسيرة من كبار القوميين الإيرانيين الممثلين لهذا التوجه:
ميرزا آقا خان كرماني
يعد ميرزا آقا خان كرماني من اوائل المؤلفين الذين تأطرت في نصوصه، بشكل نظري، قضية معاداة العرب. يصف كرماني في إحدى كتبه، سه مكتوب، العرب هكذا: لم يسلم أي جانب من جوانب آداب الإيرانيين وأخلاقهم المدنية من رسوم العرب. إن طريقة الجلوس هذه، وألقاء الرأس كالحيوانات إلى الأرض، والأكل، مغايرة للطبيعة. لقد تغيرت تلك الملابس الخفيفة والجميلة، التي نجد أشكالها في النقوش الحجرية في تخت جمشيد، واحتلت مكانها تلك العباءات الواسعة، أقصد بها السراويل المفتوحة من الجانبين، المترهلة الأطراف، قبيحة المنظر، أقصد بها الأكياس المخيطة والأحذية الصفراء، الشبيهة لقشور البطيخ. ومهما هتفت بأن سبب ارتداء العرب لهذا الزي إنما لغياب فن الخياطة وصنع الأحذية بينهم، وأنْ لا مواءمة لها والطقس الإيراني، يجيبونك بهذا الحديث: (من يلبس العباءة فله أجر الشهداء). والأمر من كل ذلك هو حجاب النساء الخالي عن المروءة، حيث كانت النساء في إيران القديم تشارك الرجال، بينهم اختلاط، يواكبون بعضهم في الحل والترحال، متمتعات بجيمع الحقوق، ما عدى أمر الحكم والقيادة. ولكن منذ ألف عام تشبهت النساء الإيرانيات بالموؤدات العربيات، مختفيات وراء الحجاب والجلباب والكفن، هجرن في بيوتهن.
وهنا تظهر أولى المواضع المؤلفة من النخب الإيرانيين، التي يتم فيها اختلاق ثنائية الإيراني العربي، في حرب ثنائية ليس فيها سلام، لأنها وليدة تقابل حضاري يمتد لأكثر من اثني عشر قرنا من تاريخ كتابة هذه المؤلفات. وإذا كان هذا النص يعود لأكثر من قرن، بيد أن الفكرة التي فيه، والنبرة العدائية التي تميزه، تجد الكثير من الأصداء، بل التبني والتكرار في مؤلفات المعاصرين: فهذه أشعار من الشاعر شمس لنكرودي، رثى بها في العام 2010 ندا آقا سلطان. وهو شاعر يدعي تبنيه الأفكار اليسارية، لكنه يعيد صيغة الأفكار ذاتها التي سطرها آخوند كرماني، على نفس الطريقة من معاداة العرب وعدهم الغير سبب انحطاط إيران. يقول: “ابنتي، إنها من سننهم، وأد البنات، لقد قتلت، ووؤدت أمة بأسرها.”
لقد كان تصور آقا خان كرماني حول انحطاط إيران، والعداء للعرب ، قائما على أساس نظرة تصنف العرب الأغيار، حيث ما من سبب لهذا الإخفاق التاريخي سوى الأخلاق العربية، والجذور الثقافة العربية الدخلية والمترسخة في الخلق الإيرانية، ولا مفر من هذا الدنس سوى العودة إلى إيران القديمة، ما قبل الإسلام، الذي كان خاليا من التدخلات الإسلامية العربية.
ميرزا فتحعلي آخوندوف
لقد كان المستفرس ميرزا فتحعلي آخوندوف أو آخوند زاده، وفق الضبط الفارسي، من الذين نظر للقومية الإيرانية في أخذها الغيرية العربية، المعادي لها، وأدى دورا كبيرا في توطيد النظرة هذه، حيث كانت الفكرة الرئيسة في أفكاره، التي ما انفكك يرددها في جميع مؤلفاته، عن سبب التدهور الحضاري الإيراني وانحطاطها، هي دخول العرب قبل ما يفوق ألف عام. يقول في ذلك:
لقد دمر العرب العراة والجياع الحضارة الإيرانية. لقد سلب سعادة إيران قطاع الطرق هؤلاء، وجلبوا معهم حفنة من الموهومات والعقائد الشاذة الفارغة المضمون[6]… لقد دمر العرب سباع الخصال ومتوحشي الجبلة… آثار الملوك الملائك الفرس، ومحوا كليا من الأرض والوجود قوانينهم القائمة على المعدلة، واستبدلوا بكل ذلك دينهم القائم على اليهودية في إيران وغرسوه. ولكننا نحن الغفلة نعد هؤلاء الأعداء، أعداء أسلافنا، وأعداء العلم والفن، نعدهم أولياء علينا، أملا واهيا بنيل شفاعة السفاكين منهم، يهبنا بها الله الجنة والمياه الباردة. إذا ما كانت في الآخرة مياه باردة، فليشرب منها هؤلاء السفاكين، لأنها منيتهم التي يتحسرون على إصابتها. لم يمنحهم رب العالمين في هذه الدنيا رحمته، فجعل مساكنهم شبيهة بالبرزخ واللهيب، وجعل أطعمتهم من الخنافس والعقارب، حتى استكثر عليهم جرعة ماء باردة[7].
لقد كان تجذير العرب بوصفهم بدو رحل، وباقي الأوصاف الذميمة، على يد آخوند زاده، والتأكيد على قومية عرقية، وخلق ثنائية الآري العربي، كان من التجذر بمكان حتى جعل الأجيال المتعاقبة الكثيرة، تردد نفس الأفكار والأطروحات والأوصاف في الجيل الراهن: فهذه شعارات المتظاهرين في مقبرة كورش، الملك الإيراني، تعلو فتقول: نحن آرين لا نعبد العرب.
ولقد وجدت أفكار آخوند زاده المتجذرة في الوعي الشقي الإيراني، عقدها النظام في فكرتي الحب لإيران القديمة، وعداء العرب. وكان نصيب العرب هو إسناد انحطاط إيران لهم بعد احتلال إيران بإسلامهم، وتلك فكرة ساذجة اكتسب شهرتها من سذاجتها. فهذا مؤرخ الأفكار، ديميتري غوتاس، يصرح في كتابه الفكر اليوناني والثقافة العربية، بأن أولى النوافذ التي جلبت منها الأفكار اليونانية إلى إيران، كانت في العصر العباسي الأول، وبناء بغداد. ففي هذه الفترة التي بدأت فيها حملة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربية، واستمرت لقرنين، تعرف الإيرانيون على الأفكار الفلسفية التي كانوا يجهلونها، واضعة أمامهم مختلف العلوم اليونانية من طب ونجوم وكيمياء وفيزيا ورياضيات إلخ، ومختلف العلوم القديمة المتوفرة في تلك الحقب[8].
صادق هدايت
يعد الفرس صادق هدايت أكبر روائي في التاريخ الإيراني كله، قديمه وحديثه، ويعد هنا بأنه وريث الأفكار التي سطرها آخوندوف وكرماني القومية. وبما أن صادق هدايت يعترف بلسانه بتأثره الكبير بالأفكار الشوفينية لألكونت دوبوغينو[9]، الداعي إلى التسوية العرقية، فإن هدايت من جهته كان يتبنى فكرة تنقية الدم[10]. يقول هدايت عن الإيرانيين والعرب: إن هذا الجيل نصف الإيراني نصف العربي، الذي محى الطهارة الإيرانية، وتسبب بهيمنة العرب والإسلام… إن أي فرد ينم عن أحد الوالدين إلى نسب عربي، فإنه باء بدنس العرب[11]. وفي الطرف الآخر من تأثير هدايت بالأفكار العنصرية، يتواجد تأثير آقاخان كرماني[12]، كما سبق الذكر، لذلك تجده يعيد أفكار كرماني بصياغته هو لها، متبنيا إياها فيقول: إن العربي لئيم حافي القدمين[13]، رغم كل مراواغته، هو بليد الطبع أحمق[14]. ويقول حسن كامشاد، من المترجمين الإيرانيين وكتابهم، اعتبر هدايت الرسوم الإسلامية أجنبية، وهيمنتها تعني انتصار الشيطان على الأفكار الإيرانية النبيلة[15].
وعلى العموم عدت الأدبيات والقومية الإيرانية، السائدة في عهد المشروطة، العرب والإسلام السبب الرئيس في الانحطاط الذي مرت به إيران، وإنْ كان هدايت يضيف إلى العرب والإسلام، اليهود إلى تلك الأسباب. وذلك أن هدايت لا يفرق بين العرب والإسلام واليهود، وينسبهم كلهم إلى العرق السامي، في نظرته العرقية هذه. ولا يمكن نكران التأثير الذي كان للنازية الألمانية في أفكار هدايت هذه، لأن عدد اليهود في إيران لم يتجاوز بضعة ألف، ولأنهم لم يكونوا أصحاب تأثير ولا نفوذ في التاريخ الإيراني، بيد أن تقليده الفج للأفكار الغربية النازية جعلته يزج هذا العامل، دونما وجود مصاديق من تأثيره على التاريخ الإيراني، قديما وحديثا[16].
ولكن الخطير في تأثير هدايت على الأجيال القادمة من الأدباء الإيرانيين، هو أن الكثير منهم تبنوا روايته، وكرروا ما جاء في أفكاره، حتى لنجد الأفكار ذاتها تتكرر في أعمال صادق جوبك، ومهدي أخوان ثالث، ونادر نادربور، وغيرهم من الإيرانيين، إذ رأوا في العرب ما رآه هدايت، ونسبوا إليهم جميع أسباب الانحطاط الذي تجتره إيران منذ قرون.
أوهام العظمة، العرب والأحوازيين في موضع الاتهام
لقد كان العرب بشكل عام والأحوازيين بشكل خاص في أوهام النخب الإيرانية، وحداثييهم، تجسد الشر والانحطاط والهزائم التاريخية التي منيت بها إيران. إن استدعاء هذا المتهم المدان التاريخي كان بمثابة المرهم لجراحهم، والمخلص لهم من البحث عن الأسباب التاريخية الموضوعية لذلك الانحطاط. على أن العرب لم يكونوا وحدهم من حمل المسؤلية هذه، بل أعد الإسلام دينهم، كوحدة متكاملة لا فرق بينهما، وذلك لأن الإسلام جاء عن طريق العرب، وغلبتهم على الفرس، مما قضى على جميع الازدهار الإيراني وحضارته، وبات الرجوع إلى إيران الحضارة ما قبل الإسلام شرطا ضرويا من التخلص من العرب ودينيهم والانحطاط الذي جلبوه[17].
ولذلك فإن تكوين سردية على هذا الأساس، وتجذرها في عقلية المثقفين الإيرانيين وتكرارها طيلة القرنين الماضيين، كاني يعني مساوقة إعادة صياغة الهوية الإيرانية من جهة، والتأكيد على عظمة إيران ما قبل الإسلام من جهة أخرى، كإشباع للذات المنهزمة، والعقلية العاجزة عن فهم الأسباب التاريخية الموضوعية للإنحطاط[18].
إن هذه الرؤية الإيديولوجية القائمة على وصف العرب كأجانب، والسعي والأمل في إعادة المجد الإيراني القديم، هما السمتين الرئيستين للمثقفين الحداثيين الإيرانيين طيلة القرنين المنصرمين؛ في مساعيها الحثيثة وراء ترميم العقد التاريخية والشعور بالانكسار، عبر ازاحة الدين العربي. وتلك مساع لم تكن محصورة في مثقف دون آخر، بل هي خطاب منه تستمد الهوية الإيرانية معناها وتعينها. ما من مثقف إيراني حداثي جاد، إلا يعد العرب والمسلمين، السبب الرئيس في الانحطاط الإيراني، لا يمكن تحقيق الذات الإيرانية إلا من خلال التخلص من جميع إفرازاته، والتأكيد على التنافر الثقافي والخلقي بين العرب والفرس.
العرب فوبيا الداخلية والخارجية والتقارب
إن التقارب هو استراتيجية خطابية تجعل من الأحداث والإيديولوجيا البعيدة، ظواهر ذات تبعات للمخاطبين، كما تفضح الطريقة التي يتم بها استغلال التحديات المزعومة لإضفاء شرعية على بعض الأعمال والسياسات الردعية، مما يمهد الطريق أمام استخدام الخطاب السياسي في الساحة العامة. إن قوام هذا الخطاب هو الخوف، والتهديد، وإضفاء الشرعية، والسياسات الردعية. ومن شأن استغلال مثل هذه العوامل، في الساحة السياسية في بعد الفضاء، والزمان والإيديولوجيا، إلى جانب استغلال عداء العرب لإيران ومركزيتها السياسية، كل ذلك من شأنه إضفاء الشرعية على أعمال الحكم الإيراني في الحدود الجديدة.
إن سلب الشرعية من الوجود الأحوازي في إيران وإدانة إفرازاته وتأثيره، تكمن في مصطلح التنافر الثقافي بين العرب وإيران، وهو التنافر الذي وفرت المؤلفات المتراكمة منذ قرنين الرصيد الذي يمنحه الموضوعية والقبول، رصيد يؤكد على الصفات السلبية العربية، وضروة التخلص من جميع أسباب الانحطاط بالتخلص من ذلك الوجود.
وإذا ما نظرنا إلى عموم الإيرانيين فإننا نجدهم غيرراغبين في السياسات الراديكالية، إلا إذا تحولت السياسة إلى ردفعل تجاه الظواهر الجديدة التي تستهدف الحياة العامة لديهم. ولذلك فإن استراتيجية المقاربة، وتجذيرها في الساحة العامة، جعلت قضية مجابهة الشعب الأحوازي والعداء له، يتحول إلى التزام حكومي من قبل النظام الإيراني، يطالبها به الشعب الإيراني الفارسي ذاته، للقضاء على هذا الشر العربي المحدق. وفي الجدول أدناه يمكن تحديد مفاهيم خطاب معاداة العرب طيلة العهود الأخيرة، المتكررة على أفواه المسؤلين والساسة الإيرانيين:
- التنبؤ بالحقائق
- الإحالة إلى الروايات الإيديولوجية الكامنة لإيران
المفاهيم | النماذج الرئيسة |
التعابير الإسمية التي تعد العناصر المركزية للخطاب الحكومي في إيران | إيران، الشعب، الأمة، المجتمع، الشيعة، الإيرانية، اللغة الفارسية |
التعابير الإسمية التي تعد العناصر الخارجة عن المركز المعادية أو المنافس الخطابي | آل سعود، صدام، الدول العربية، خلق عرب، العدو، الإنفصاليين، الأحواز، العرب، الهوية العربية، النيوبعثية |
التعابير الراهنية للحركة والاتجاه بوصفهما معالم الحركة نحو الكلية الخطابية الحكومية | يقصدون:
· مصممون على تجزئة إيران. · الأعداء الحضاريين الساعين في انحلال إيران. · يهدفون إلى إقامة حرب أهلية في إيران. · يخصصون الأمول لضرب الأمن الإيراني. · يسعى القوميين العرب إلى تجزئة إيران. · يعملون على جعل إيران كسوريا. |
التعابير الإسمية الدالة على المفاهيم الانتزاعية بوصفها تنبؤ | التهديد، الخطر |
التعابير الاسمية الدالة على المفاهيم الانتزاعية بوصفها تبعات التصادم | الكارثة، الحرب الداخلية، الحرب الدينية، التغيير الجيوسياسي في إيران |
العرب فوبيا والحقد المجتمعي في إيران
تكون منذ آخوندوف إلى طباطبايي تراث من صناعة الغير المتمثل في العرب، في إيران الحديثة، جلب تبعات اجتماعية مهولة، حيث كان يعني رسوخ ذلك التراث مجتمعيا عبر إعادة إنعكاسه في مختلف القواعد المجتمعية الأساسية، نصا وتصويرا، يعني اختلاق مأساة وهيام بالذات تجاه الماضي المجيد، سرعان ما تحول إلى أحقاد وقومية سياسية إيرانية الطابع. إن المعاداة تجاه العرب كان يعني شطب القيم من التعامل معهم، وخروج العلاقات المجتمعية عن دائرة القيم ما دام الطرف الآخر هو العربي، في الداخل الإيراني، بالنسبة للشعب الأحوازي؛ حتى اندمج عنف الدولة، بالامبالاة الاجتماعية، وتحول شر الدولة تجاه العرب في الأحواز إلى حالة من الوضعية المنسية التي لا تثير الاهتمام الأخلاقي.
إن الحقد الذي هو شعور بالإزدراء والعداء الدائم استطاع من خلال الإنتاج المكتوب والإعلامي التصويري تحويط الشخصية الإيرانية برمتها، والتأثير على جميع جوانب النظام القيمي والثقافي الإيراني، لتكون النتيجة المجتمعية هي أحكام قيمية سقيمة ضد الشعب الأحوازي. ولقد أثر هذا الموقف المتجذر على قنوات العاطفة المجتمعية الإيرانية، حيث أصبحت الجموع الإيرانية، صاحبة الحكم، لا تتخذ موقفا أخلاقيا تجاه الإعدامات والمجازر التي ترتكب بحق الشعب الأحوازي ما دام يقع في دائرة العرب. ويمكن اعتبار قضية حبيب السيود النموذج الصارخ لهذه اللامبالاة وسط تعاطف إيراني كبير مع إعدامه، ورضى ملحوظ من المعارضة الإيرانية في الخارج أيضا. أما وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فهي خير دليل على هذه الأخلاق المتجذرة المعادية للعرب، حيث كلها أعادت الفكرة ذاتها من وصف العرب بالغير المعادي للوحدة الإيرانية والوجود الإيراني. على أن بداية تاريخ الجمهورية الإسلامية، هو الآخر، كان شهيد على الأربعاء السوداء، التي قامت فيها الجمهورية الإسلامية بشنق عشرات السياسين الأحوازيين، بتهم الإنفصالية، وزجت المئات في السجون، وسط رضى الإيرانيين، لأن اتخاذ موقف عربي كان يعني، وفق نظم القيم الأخلاقية الفارسية التي تكونت في تلك السياقات المشار إليها أعلاه، الخروج عن القيم المقبولة، والحياد عنها، المستوجب للعقاب والقتل.
العرب فوبيا والسياسة الخارجية
إن حجم الإنتاجات التي تنال من العرب، لكثير من الكتاب والمثقفين الإيرانيين، منذ عصر المشروطة وبعد الثورة الإيرانية الإسلامية، خلق أرضية وبنى تحتية، وجهت رؤية حكام إيران في تبنين السياسة الخارجية الإيرانية، حيث عملت هذه الأرضية على بناء وتمفصل المؤسسات التحتية لخطاب التدخل الإيرني، ودعم قطاعات كبيرة من الشعب الإيراني الفارسي لذلك.
خطاب التبرير والتدخل في المنطقة
إن استراتيجية العرب بوصفهم أعداء حضاريين، تحولت إلى مبرر كامن لتمضية الاستراتيجية الخطابية للجمهورية الإسلامية، تمكنت من تمرير خطاب معين بين الساسة الإيرانيين، مكنهم من التبرير المجتمعي في ساحة السياسة الخارجية، ومن دعم فئات كبيرة من الشعب الفارسي، بضرورة التدخل في حرب سوريا مثلا، أو التدخلات في العراق. خطاب تمركز في البداية على وجود صنفين من المواطنين الإيرانيين، وطنين وضد الوطن. يقول هرمن في هذا السياق «في الحالة العادية لا يرغب الناس العاديون في الحرب، ولكن قادة البلد هم الذين يحددون السياسة العامة. وسواء كان النظام ديمقراطيا أو نظام برلمانيا، أو ديكتاتوريا شيوعيا، فإن ترغيب الناس في خوض الحرب أمرا ليس بيسير. وسواء استطلعنا آراء الناس أم لم نستطلع، فإنه من الممكن تماما جر الناس إلى جبهات الحرب، وذلك لا يتطلب جهد كبيرا، حيث كل ما يلزم هو أن تقول للناس أنهم تعرضوا لعدوان، وعد دعاة السلام ضد الوطن وممن يترك البلد في المخاطر. إنها طريقة تعمل في جميع البلاد[19]».
وهكذا كان تدخل إيران في حرب سوريا، وقيام النظام الإيراني بمجازر في سوريا، اتصلت بخطاب حكومي، عززه أساطير قومية، ليتم تحديد العدو، ليتحول هكذا “قاسم سليماني” قاتل اطفال سوريا والعراق والأحواز إلى “رستم إيرانشهر” (البطل الايراني في الاساطير)، مجسدا الوعي الشقي الإيراني، ومذكرا إياهم بالهزيمة التي ألحقوها العرب بهم عند الفتح الإسلامي. ليس هذا فحسب بل تمكن الخطاب الإيراني المعادي للعرب، عبر التلاعب بالتصاوير، من إكمال صورة أخرى من صور الحرب هذه، وهو التصريح بوجود خطر محدق، كسب موضوعيته من القياس، قياس حالة متأزمة راهنة، مع حالة أخرى من الماضي، حيث ما كان الخطر الذي حدث في الماضي ليكون، لو كان رجال الماضي أيقاظا واجهوه بالطريقة ذاتها التي يتم بها مواجهته الان. وقد كان نموذج هذا التصور هو العمل على بث رسم من أتوبينلي، من قبل الجنود السايبريين التابعين للنظام الإيراني، بهدف إيقاظ الحافظة التاريخية الإيرانية، وشعور الحنين للماضي، وإقامة مماثلة بين الوضع الراهن حول داعش في سوريا، مع الماضي البعيد.
إن الرسالة التي كان يبعث بها هذا التصوير للمجتمع الإيراني، ويهيأ اللاوعي للمجتمع الإيراني، للتدخل في المنطقة، في العراق وسوريا، لم يكن سوى التذكير بعظمة إيران ما قبل الإسلام، الذي تم القضاء عليه من قبل العرب، والتحذير من عدم تكرار مثل هذه الواقعة، في الزمن الراهن. وهذا جانب خطير من جوانب الخطاب الإيراني في حربها وتدخلتها في المنطقة.
استراتيجية تجريد الأرض/الوطن من العرب
إن البحث في استراتيجية إزاحة الوطن/الأرض عن العرب لا تعني قط التقليل من التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية، عبر وضعها في سياق العرب فوبيا، بل إن الهدف هنا هو تفكيك الأدلة والمبررات التي تحولت إلى جزء خطير من خطاب الجمهورية الإسلامية الحربي.
إن انتشار نظرية إيرانشهر من قبل جواد طباطبايي الذي يعد امتداد لتراث آخوندزاده وكرماني، ومواقفه المناهضة للعرب، خاصة في كتابه تاريخ الفكر السياسي الإيراني، كلها ساهمت في تشكيل لا شعور سياسي في إيران، يحن على الدوام إلى استحضار التاريخ، وإعادة تلك العظمة الماضية التي كانت لإيران. وتسبب إعادة إنتاج هذا التوجه، بأشكاله المختلفة، بتحول المعاداة للعرب إلى بداهة لاشعورية، واستيقاظ شعور الرغبة في الثأر من العرب، بوصفهم سبب الانحطاط الحضاري الإيراني، بين عموم الناس والقادة السياسين على حد سواء.
إن التقاء هذا اللاشعور العدائي تجاه العرب والأحوازيين، ووجود النزاعات السياسية والمنافسات الإقليمية مع دول الخليج العربي، إضافة إلى ارتباك الدولة العراقية وأحوالها الداخلية، وما تمر به سوريا، وتشكيل الهلال الشيعي، كل ذلك أفضى إلى تكوين استراتيجية كامنة هي التي تقود السلوك الإيراني في المنطقة.
وتتجلى استراتيجية إزاحة الأرض/الوطن عن الشعب العربي، التي تسببت بإعادة تموضع الهلال الشيعي، في مفهوم جديد، بعد أربع عقود من حياة الجمهورية الإسلامية. فمنذ الألفية الثانية، اتجهت السياسة الإيرانية العامة نحو إعادة صياغة جديدة للعلاقة بين الحكم الإيراني والمذهب الشيعي، واعتبرت المذهب ممثل للقومية الفارسية، يحدد هوية جديدة للإيرانيين بأنهم إيرانيين شيعه. وهذا أفضى إلى عد المذهب الشيعي جسرا للتدخلات القومية الإيرانية، وما منحها بعدا دوليا، تكون فيه طهران أم القرى. وهذا هو ما صرح به خامنه اي، المرشد، بأن من يدافع عن الحرم، في الأراضي السوريه، هم عشاق إيران الحقيقيين.
والخطير في كل ذلك هو أن إعادة تعريف المفاهيم هذه، والخروج بهذه الصياغة القومية المذهبية، استطاع استمالة فئات كبيرة من الشعب الفارسي الإيراني، خاصة فئات علمانية قومية منهم، ممن بات يصرح بضرورة التدخل العسكري الإيراني في المنطقة، إلى جانب المعارضة الخارجية التي باتت مقتنعة بهذه الرؤية. فعلى سبيل المثال كانت تصريحات الكثير من المعارضين في الخارج تصب في هذا الاتجاه، وتدعم علانية التدخلات الإيرانية في المنطقة، وتقول بحق النظام الإيراني في ذلك. وهنا أيضا اتصل الراهن بالماضي، حيث بات الحديث يجري عن هذه التدخلات على أنها تصل بإيران إلى البحر الأبيض المتوسط، مما يعد إنجازا جيواستراتيجيا خطيرا، يمهد إلى تعبيد طريق آسيا الوسطى عن طريق العراق وسوريا، للوصول إلى حدود إيران القديمة، كما كانت عليه في العهد الساساني.
على أن إعادة تعريف المفاهيم هذه، كانت نتيجة مطالبات داخلية أيضا، إحدى العوامل الكبيرة فيها هي إعادة تحديد الحدود الإيرانية وفق الرواية القومية الجديدة. وذلك ليس بدعا في الأمر ما دامت السياسة الخارجية هي انعكاسا، إلى حد كبير، من السياسة الداخلية[20]. لقد كانت العقوبات الاقتصادية الغربية، ضد الملف النووي الإيراني، إضافة إلى عقوبات عقد التسعين ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة، تسببت كلها بضغوط اقتصادية كبيرة، أضطرت بالنظام الإيراني إلى التوجه إلى مناطق أخرى للفرار من شدة هذه الضغوط، إضافة إلى المساءلات الداخلية عن تكلفة معاداة الغرب وزمن الخلاص منها. وكان مفتاح كل ذلك هو التوجه إلى الهلال الـإيران شهري هذه المرة، للاستهلاك الداخلي. لقد تحولت هذه المطالبات، خاصة المطالبات السياسية للمشاركة، إلى العرب أيضا، حيث تم تصوير العقوبات على أنه الثمن الذي دفعه النظام من أجل تدخله في سوريا والعراق، ومجابهة ذلك العدو التاريخي العربي، وبما لهذا التصوير من تخفيف وطأة المطالبات، وصنع وفاق مجتمعي، إلى حين.
الاستنتاج
إن الهوية الإيرانية التي تحولت في أواخر العهد القاجاري إلى الموضوع الرئيس في مؤلفات النخب الإيرانيين، لم تتمكن من تحديد صفاتها وذاتها إلا من خلال عملية صناعة الغير، الذي من خلاله تعرف ذاتها، ولم يكن ذلك الغير في التاريخ الإيراني الحديث سوى العرب. لقد تم وضع العرب والأحوازيين بشكل خاص في تلك الحقبة المؤسسة أمام الإيراني، في تنافرهما واختلافهما، وعد العرب أجانب معادين، وكل ما ينتج عن ذلك من تبعات قومية وعرقية وثقافية ودينية.
إن الطاغي على النصوص الإيرانية القومية طيلة القرن المنصرم، هو نوع من التيه والحيرة، في كتابات المثقفين، لم يجدوا مهربا منها سوى باستدعاء التاريخ الإيراني ما قبل الإسلام، العصر الذي وجدوا فيه كل العظمة والإزدهار الذي حلموا به، ويحلمون في تحقيقه مستقبلا. ومن هنا ارتبط ذلك الازدهار المزعوم والموهوم، بتأثير العرب في تلاشيه والقضاء عليه.
ومن هنا تحولت قضية العرب فوبيا في السردية الإيرانية إلى عملية انعكست في البداية في النصوص الدراسية، وإعادة كتابة التاريخ، ثم تحولت بعدها عبر السلطة السياسية إلى النظام البيروغراطي الإيراني، حتى تجذرت كطريقة في السلوك تطبع بطابعها الثقافة الإيرانية الفارسية برمتها، سواء في العهد البهلوي أو الجمهورية الإسلامية. إن هذه القناعة تحولت إلى قضية متجذرة في المجتمع، وإحدى العناصر الرئيسة للقومية الإيرانية. إنها أشد أنواع القوميات خطورة، القومية العنصرية، التي تستند في تحديد ذاتها على أساس نقاوة العرق، وهنا العرق الآري، وتأثير الآخرين في انحطاطه وتمزقه.
لقد تحولت المعاداة للعرب، إلى طابع محلي إيراني فارسي، وإحدى الصفات المجتمعية المميزة وروتين يومي في السلوك الفردي والمجتمعي، ترك تأثيرات مدمرة على السياسة الداخلية والخارجية للنظام الإيراني. ومن أخطر هذه التبعات هي اللامبالاة المجتمعية، التي جعلت حياة العرب القابعين في النظام الإيراني، وهم الشعب الأحوازي، خارجين عن دائرة الأنا، لا يتعاطف معهم الفرس، ما داموا عربا محتفظين بهويتهم العربية التي تصنف على أنها العدو الأول لإيران. إن العربي معاد للفرس وسبب انحطاط العظمة الإيرانية، سواء في الأحواز، أو سوريا أو العراق.
رحيم حميد باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات
المصادر والمراجع
[1] راجع في ذلك مثالا يسيرا: آرامش دوستدار، امتناع تفكر در فرهنك ديني.
[2] . محمد توكلي طرقي، تجدد بومي وبازانديشي تاريخ، كتاب ايران نامك، 1395، ص45-69.
[3] . Derrida Jacques, Dissemination trans Barbara Johns on Chicago, University of Chicago Press1981
[4][4] Alessandro Bausani, The Persians, from the Earliest Days to the Twentieth Century. P177
[5] Wilhelm Eilers Education and Culture Development in Iran during the Pahlavi Era, Iran under the Pahlavis, edited by George Lenczowski. P:256.
[6] . مكتوبات كمال الدوله، ص21،22
[7] . ملحقات، ص161
[8] Greek Thought Arabic Culture. The Graeco-Arabic Translation Movement in Baghdad and Abbasid Society. New York 1988..
[9] . م.ف. فرزانه، آشنايي با صادق هدايت، ص71.
[10] . صادق هدايت، مازيار، ص13.
[11] المصدر ذاته، ص95
[12] فريدون آدميت، انديشه هاي ميرزا آقا خان كرماني
[13] توب مرواري، ص120
[14] المصدر ذاته ص132
[15] . Kamshad, Modern Persian Prose Literature,pp108-109
[16] . Homa Katouzian, Sadeq Hedayat: The Life and Literature of a Writer: London 1991.
[17] . Leon Poliako, The Aryan Myth A History of Racist and Nationalism Ideas in Europa, Translated by Edmund Howard,1977, p47
[18] Bayat Philipp, A Phoenix too Frequent, p208.
[19] . غورينك هرمن، محكمة نورنبرغ.
[20] Graham Fuller, the Center of The Universe: The Geopolitics of Iran 1991. P243