المقدمة
تحاول هذه الدراسة التطرق إلى موضوع مهم، يظهر بشكل بريء وملتبس، هو موضوع الروضات. فالروضات في جميع العالم، والأنظمة التعليمية عبارة عن مدارس تمهيدية تحاول تربية الأطفال للدخول للمدارس. ولكن في الحالة الأحوازية فإن الأمر على الرغم من ظهوره بهذا الشكل البريء، يضمر نوايا خطيرة وتبعات جسيمة. فأول خطورة الروضات استهدافها لغة الأطفال، العربية، وأقل تبعاتها هي القضاء على مستقبل العروبة في الأحواز.. هذه دراسة تحاول استكشاف بعض جوانب هذه الظاهرة.
في الظرف الأحوازي الراهن، وفي اللحظة التاريخية الراهنة، من حياة الشعب الأحوازي لا يمكن فهم الظواهر والمُحْدَثات بشكل مباشر، دون أخذ تعقيداتها ووضعها في شبكة من العلاقات بين الظواهر المجتمعية، وخلفياتها السياسية والتصادمية. وبناء على ذلك لا يمكن تناول الدور المجتمعي واللغوي والسياسي إلخ، الذي للروضات، دون معاينة ذلك الدور في شبكة علاقته المجتمعية والسياسية، فضلا عن دوره في التنشأة المجتمعية. أي أن الظرف الراهن الأحوازي لا يسمح النظر إلى الروضات من زاويتها التعليمية حصرا، دونما فهم ذلك الدور في جميع القضايا المتعلقة به.
ومن هنا فإن فرض النظام الإيراني على الشعب الأحوازي تسجيل أبناءهم في الروضات، منذ عمر الخامسة، وتقليص دخول الإبناء في الدراسة من السابعة تقليصها إلى الخامسة، لا يعد قضية تعليمية بحتة، بل إن دلالاتها غير التعليمية قد تكون هي السبب الأول وراء ذلك القرار؛ خاصة إذا استذكرنا لغة التعليم الفارسية، ودورها في الصراع اللغوي الدائر في الحدود الإيرانية. هذه دراسة نحاول فيها استكشاف بعض جوانب هذه القضية الخطيرة وبعض مآلاتها.
النظام التعليمي في الدولة المركزية الإيرانية
لقد كان بداية تكوين الدولة الإيرانية قائما على أساس فكرة محورية هي: تكوين دولة فارسية قومية، على حساب جميع الشعوب التي يسري عليها حكم هذه الدولة الفارسية، على رأسها الشعب العربي الأحوازي، البلوشی، الكوردي والتركي[1]. ومن البدهي أن تجعل هذه الفكرة الأساسية، جميع مقدرات الدولة الجديدة في خدمة تحقيق غاية هذه الفكرة، واستغلال جميع أجهزة نظام الدولة لإنفاذها، مما يجعل النظرة إلى نظام الدولة ككل، وسيلة لتحقق هذه الغاية.
ومن هنا بالتحديد، من هذه النظرة الأداتية، التي جعلت الدولة الإيرانية الجديدة، وجميع أنظمتها، أداة لتحقيق القومية الإيرانية/الفارسية صاحبة الدولة، يجب أن نفهم الأجهزة والأنظمة التي صنعتها هذه الدولة، وأن نوعز كل جهاز إلى الغاية المرجوة منه، الغاية الأولى والرئيسة وليس الغايات الفرعية. فإذا ما كان، على سبيل المثال، هدف النظام الإيراني، صاحب الدولة الإيرانية الفارسية القومية، إذا ما كان هدفه من بناء نظام تعليمي شبه حديث، والخروج من النظام القديم في التعليم، هو توفير قوى بشرية حديثة التعليم، لإمضاء التقدم والحداثة، والقضاء على الجهل، وصناعة أجيال مزودة بقيم واعية غير تقليدية إلخ[2]، فإن تلك الغايات بحد ذاتها مهمة وأساسية، بيد أنها تبقى فرعية وثانوية أمام الغاية الأولى والأساسية التي دون من أجلها النظام التعليمي الإيراني أحادي اللغة: غاية توحيد الشعوب في قومية مصطنعة مفروضة واحدة، هي الفارسية، والقضاء على التنوع العرقي القومي الذي يلوح في الدولة الإيرانية المصطنعة حديثا.
ومن أجل ذلك يجب وضع النظام التعليمي الإيراني في سياقه التاريخي الصحيح من قيام الدولة الإيرانية، وباقي الشعوب المقهورة بنظام هذه الدولة. والسياق التاريخي الموضوعي هو أن هذا النظام تَقَصدَ غاية رئيسة، إلى جانب باقي الأهداف الفرعية، وهي غاية فرض اللغة الفارسية على جميع المنضوين في هذا النظام التعليمي، وجعلهم ينطقون بلغة واحدة.
ويعني هذا في الحالة الأحوازية، ولدى الشعب العربي الأحوازي، أن النظام التعليمي الفارسي هو أولى البوتقات المعادية التي يصطدم بها الفرد الأحوازي، وهو ذلك النظام الذي جعل وظيفته القضاء على العربية، اللغة العربية لغة الشعب الأحوازي، ووعاء وجوده التاريخي المجتمعي الثقافي، والسياسي المستقبلي. ومن أجل ذلك فهو ليس نظام تعليميا بريئا، يفرض قواعده وقوانينه وفق موضوعية التعليم، والمناهج التعليمية الحديثة. إن التوكيد على مثل هذه الصورة تخرج النظام التعليمي الفارسي عن واقعه وغاياته، فضلا عن وظيفته ومهمته.
ومن هنا يمكن عرض السؤال التالي الذي يقول ماذا تقصد النظام الإيراني عندما فرض على الأسر العربية في الأحواز تسجيل أبناءهم في الروضات في السن الخامسة؟ بعد أن كان أبناء الشعب الأحوازي يسجلون في المدارس الابتدائية في السن السابعة.
إن الإجابة عن هذا السؤال هي إجابة مركبة، تقدمت سابقا. مركبة بمعنى امتلاكها أسباب موضوعية، ولكنها فرعية، وأسباب جوهرية هي الدافع وراء مثل هذا القرار. وبعبارة أخرى إن دخول الطفل الأحوازي العربي، ذو السن الخامسة، في الروضات الفارسية التعليم لغويا، إلى جانب مساعدتها في الانخراط في العمل الجماعي، مثلا، واتقان الفارسية لغة التعليم، والتمرس في كسب مهارات التواصل والقراءة والذكاء الجمعي إلخ، بيد أن كل تلك الأسباب والأهداف الموضوعية إلى حدود ما، ما هي إلا فرع تلك الغاية الرئيسة، وهي إبعاد الطفل الأحوازي منذ بواكير العمر إبعاده عن العربية، والقضاء عليها إبان فترة تحكيمها منذ الطفولة المبكرة.
بداية تكلم الأطفال
يقول المختصون في سيكولوجيا الأطفال بأن بداية تعلم اللغة لدى المولود تحدث في سنين مبكرة جدا، منذ السنة الأولى من ميلاد الطفل، حيث تبدأ حركة تمييزه الأصوات وبعض المفردات منذ سنة الأولى والثانية، فيبدأ يخزن الكلمات في الدماغ منذ هذه السنين، دون المقدرة على نطقها أو استخدامها. وبما أن الطفل في هذه السنوات المبكرة من العمر يوضع أمام لغة تنطق بها الأم والأب حسب قوميتهم، وهي اللغة الأم، وفي الحالة الأحوازية الغالبة هي اللغة العربية، فإن دخول لغة في هذه المرحلة من العمر، غير اللغة الأم هذه، يخل بهذا التكوين إلى حدود بعيدة تطال العمر كله[3]. (الزواج بين الفرس والعرب في الأحواز، على الرغم من تزايده في العقد الأخير، هو حالة نادرة، لا ينبني عليها شيئا لغاية الآن، ولا تتحصل إلا لدى الفاقدين الوعي القومي اللازم).
ومع وجود بعض الآراء التي تتحدث عن مزايا وجود النظام التعليمي الثنائي اللغة، وثنائية اللغة بصفة عامة، بيد أن الحالة الأحوازية تثبت، بما لا مجال للشك فيه، بأن ثنائية اللغة هي كارثة من كوارث الحياة في نظام احتلال قومي، عادت بتبعات حضارية جسيمة على الفرد الأحوازي كفرد، وعلى المجتمع الأحوازي بكليته. وهذا ما يتسق تماما مع مبادئ منظمة اليونسكو التي تعد تعليم الطفل بلغته الأم من شروط التعليم الابتدائي، ومن لوازم مراعاة حقوق الطفل الإنسانية.
ويطلق المختصون على ظاهرة انشطار اللغة لدى الأطفال، ثنائية اللغة اللامتوازنة، حيث تظهر في أن الطفل الفارسي يجد اتزانا واتساقا بين لغته الأم، وبين النظام التعليمي الذي يتعلم به، وينشأ في فضاءه؛ بينما العربي الأحوازي يجد انفصالا أو انعدام تناسق وترابط فيما بين لغته الأم العربية، وبين ذلك النظام التعليمي الفارسي الذي لا صلة له به[4].
فبالإضافة إلى التبعات التعليمية التي تجعل الإدراك بين الأطفال ثنائي اللغة، أضعف مقارنة بالأطفال الذين يدرسون بلغتهم الأم، هناك تبعات أخرى هي تبعات مهنية تجعل النظام التعليمي الثنائي اللغة كارثة على الطفل، منها ضعف السمع، وضعف المقدرة على التعامل وبناء العلاقات الجماعية، وضعف البيان والتعبير وأساليب الإبداع في التحدث، وضعف الكتابة والإنشاء، وضعف التفكر عموما والتأرجح اللغوي المؤثر على التفكير بصفة عامة[5].
غاية النظام الإيراني من فرض الروضات على الشعب الأحوازي
بَعْدَ عد التبعات الفنية على الطفل عند تعلمه بغير اللغة الأم، وقبل البدء بِعَدِّ التبعات الناتجة عن ذلك، في الروضات، يجب أن نشير سريعا إلى غاية النظام الإيراني من فرض الروضات على أبناء الشعب الأحوازي، في نظامه التعليمي، بالاستناد على وقائع من أرض الواقع، بغية تفنيد مبرراته المهنية التي يجهر بها.
يقول النظام الإيراني، ووزارة التعليم على وجه الخصوص، في الإعلام وفي الجلسات الإرشادية التوجيهية في المدارس وبين المعلمين وأساتذة المدارس، يقول بأن فرض الروضات على الأطفال منذ الخامسة تتقصد مساعدة الطفل على التنشأة المجتمعية، وتعزيز قدراته التواصلية الاجتماعية، وتعزيز معلوماته في القراءة والكتابة والانخراط في التعليم منذ بواكير العمر اقتصادا في العمر إلخ.
وهذه دعوات لا يمكن تصديقها للأسباب التالية:
- النظام الإيراني لا يكترث بالتعليم، وهو من أكبر الناغمين على التعليم، بدليل تعامله مع الجامعات، وعزل الأساتذة الأكفاء، بمجرد الشك بولائهم المطلق للنظام، ومعاقبة الطلاب المتفوقين وجعلهم «ستارهدار»، أي من المناهضين للنظام، تمهيدا لعزلهم مجتمعيا، إلى جانب التلاعب بنتائج الامتحان التأهيلي للجامعات لصالح الموالين الذين غالبا ما تكون مستوياتهم أدنى من الطلاب غير الموالين أو المناهضين للنظام.
- النظام الإيراني نظام إيديولوجي إسلاموي، جعل من نفسه مركز الإسلام، في عملية استبدلت القومية نسبيا بالتشيع، وجعلت مركزية إيران مركزية شيعية، بعد أن كانت قومية في العهد البهلوي؛ نظام لا يمكن أن ينظر إلى أجهزة الدولة ومن ضمنها النظام التعليمي غير نظرة أداتية تجعله وسيلة للوصول لغاياته. ولذلك لا يمكن لأي متتبع أن يصدق دعوات النظام الإيراني التي تقول بأن فرض الروضات هو لأسباب مهنية تعليمة بحتة.
- ثم إلى جانب هذا الوجه الإيديولوجي الإسلاموي الإيراني، هناك توجهات بين رجال الدولة الإيرانية تمزج بين التشيع والقومية الفارسية، فيخرج لذلك مزيج غريب يتحول فيه المذهب إلى دين فارسي قومي، الفارسية هي الحامل له والمدافع عنه[6]. وبناء على ذلك يتحول الحفاظ على الفارسية، عبر النظام التعليمي الذي يفرضها كلغة تعليم وحيدة، هي فريضة دينية. وهذا ما يجعل أية معارضة للفارسية والدعوة إلى التعليم بلغات أخرى، هي محاولة لضرب الدين الشيعي، والخروج على أوامر الله الشيعي ونواهيه.
- إن السابقة التاريخية لتكوين الدولة الإيرانية، خاصة في جزئية النظام التعليمي، تثبت بوضوح أن النظام التعليمي لم يكن يراد بحد ذاته، بل هو بوتقة من بوتقات صناعة الأمة الإيرانية الفارسية. حقيقة كانت محل تصريح كبار النظام التعليمي الإيراني، نظير عيسى صديق، وعلي دشتي وغيرهم من كبار النخب القومية الإيرانية.
وفي ملخص كل تلك الأسباب نعود هنا فنصرح بأن إقدام النظام الإيراني على فرض الروضات على الشعوب غير الفارسية، المنضوية في الدولة الإيرانية، على رأسها الشعب العربي الأحوازي، لم يكن فرضا مهنيا فنيا، اقتضته ضرورات تنمية النظام التعليمي، وتجاربه. لم يكن هذا القرار نتيجة تراكم تجارب تعليمية للنظام التعليمي الإيراني، خاضعا لآليات حركة النظام التعليمي، بعد مقارنته بباقي أنظمة التعليم العالمية الموفقة، من قبل دراسات قدمتها نخب التعليم الإيراني وكبار الباحثين في هذا الشأن.. كلا لم يكن هذا القرار نتيجة مثل تلك العمليات والضرورات، بل هو قرار قومي عنصري بالدرجة الأولى، أراد أن يسدد ضربة قاضية ضد الشعوب الأخرى: ضربة استهدفت أغلى ما عندهم هي اللغة، وذلك لجعل هذه الضربة ضد اللغات الأخرى، تمهيدا للقضاء على هويتهم القومية، وكل ما يتعلق بالشعوب من ثقافة وتاريخ ومجتمع متمايز، وفي النهاية تطلعات سياسية تتمخض عن اللغة وثقافتها وتاريخها وتمايزها المجتمعي.
هذا هو ما أردنا التحذير منه في هذه الدراسة، وما أردنا التصريح به: وهو أن النظام التعليمي منذ تكوينه في الدولة الإيرانية الجديدة، كان أداة لتوحيد الشعوب غير الفارسية، والقضاء على لغاتهم بكل ما تحمل، إلى جانب باقي أهدافه الفرعية. ومن أجل ذلك فإن فرض الروضات على أبناء الشعب الأحوازي منذ عمر الخامسة، إنما يعني بأنه محاولة خبيثة أخرى تريد القضاء على لغة أطفال هذا الشعب، تمهيدا لمسخ هويتهم العربية، والقضاء عليها بالقضاء على لغتهم.
وبناء على ذلك فإن الذي يتبقى الآن هو الإشارة إلى أبرز التبعات التي تأتي من هذا القرار، وعواقبه الوخيمة على الشعب العربي الأحوازي، إذا ما لم يتنبه إلى هذا الخطر العظيم، وإذا ما لم يقدم، بنخبه وعوامه وخواصه، يقدم على مجابهة هذا القرار والتصرف الواعي معه، وضد تبعاته الجسام.
تبعات فرض الفارسية على الأطفال الأحوازيين في الروضات
نحاول هنا التطرق إلى أهم التبعات التي تنبثق عن النظام التعليمي الفارسي الإيراني، على الأحوازيين، تلك التبعات التي تتفرع عن هذا النظام التعليمي، بطابعه الرئيس الذي أشرنا إليه، الطابع الذي يثبت بأن النظام التعليمي هذا أداة لصهر اللغة العربية والشعب العربي الأحوازي: ثقافة وهوية وتاريخا ومستقبلا.
-
التبعات التعليمية
وبما أن الحديث عن النظام التعليمي بالدرجة الأولى، فلا بد من تخصيص حيز لتناول التبعات المهنية عن نظام تعليم أبرز صفاته المهنية هي ثنائية اللغة فيه، حيث يعد هذا النظام نظام يأتي بمتعلمين من خارج لغته المفروضة الرسمية، ويجعلهم يتعلمون في نطاق هذه اللغة المتداولة. ولهذه الظاهرة، ظاهرة دراسة العرب بالفارسية، في النظام الإيراني، تبعات على دراستهم أصلا، دون النظر إلى باقي التبعات التي سيتم التطرق لها في موضعها. ومن أبرز هذه التبعات هي:
- ضعف القوة الإدراكية: وضعف الإدراك يعود أساسا إلى التحرك في نطاق لغتين، لأن الطفل الذي اعتاد إلى الخامسة سماع العربية، بمجرد سماعه في الروضات الفارسية، يرتبك في الإدراك، وترتيب الظواهر بناء على المفاهيم التي خصصها لها، عبر تكرار السمع، واطلاق بعض المفاهيم على بعض الظواهر، في تلك العملية التلقائية التي تحصلت له من دوام تعامله البصري اللغوي مع لغة والديه، منذ الميلاد.
- ضعف التعامل المجتمعي: وهذا الضعف في الإدراك يرتد على الطفل بالانكفاء والانطواء، إذا بمجرد عودته إلى البيت يجد نفسه مرة أخرى أمام معهوده من اللغة، بينما عودته للروضة، تصطدمه بتلك اللغة الدخيلة، ما يجعله في ضعف تواصلي مع بيئة المدرسة أولا، ثم في البيت أيضا باستمرار هذا الانشطار.
- المشاكل النطقية والسمعية: إن الطفل العربي الأحوازي المرتمي في روضة فارسية وكتب فارسية، في بواكير عمره، يصطدم باللغة الفارسية، فيظل إثر ذلك يعاني من مشاكل سمعية، تجعله كأنه فاقدا لإحدى حواسه الفيزيولوجية الحيوية يعاني من تشوه في الخلق. ويتجلى ذلك أكثر تجل في الأسماء التي تطلق على مسميات في العالم الخارجي اعتاد هو سماع أسماء عربية لها، وذلك يخلق فيه حالة من الحيرة في مختلف الأسماء التي يسمعها. والروايات الكثيرة من المعلمين، تثبت أن الكلمات الفارسية التي تأتي في طيات الأشعار والنصوص الدراسية تظل غير مفهومة لدى الطالب العربي، بل إنه يضطر إلى حفظها بشكل خاطئ، ويظل أيضا، بالرغم من حفظه لها، غير قدير على استخدامها، جاهلا المواضع الصحيحة لاستخدامها. ثم إن هذا الإنشطار اللغوي الذي جعل الفرد المصاب به فاقدا المكنة اللغوية في التعبير والكتابة والقراءة والاستعمال إلخ، في كلا اللغتين العربية والفارسية، ركيك الإنتاج على الصعيد الفكري وعلى مستوى فاعليته الإنسية بتمام كمالها[7].
- الارتباك في الكتابة والقراءة: الذي يجعل من الطقل متأرجحا بين لغته الأم، واللغة التعليمية الدخيلة، تأرجح يستمر إلى مدى العمر بين فئات من الشعب الأحوازي حاولت بصرامة الحفاظ على عربيتها، إلى جانب اتقان الفارسية. وهذا بالتحديد هو ما نشهده في معظم الأحوازيين المتعلمين، وهم متأرجحين بين لغتين، يتم الخلط في الكثير من الأحيان بين اللغة الأم العربية، وبين لغة التعليم القسري المفروض الفارسي، حتى أفقد هذا الأمر المهارة اللازمة لإتقان اللغتين والكتابة فيهما. وأكثر ما يتمظهر فيه هذا الارتباك هو ظهوره على بناء الجملة: فتجد الجملة لدى العربي الأحوازي أعجمية الهيكل، عليها رداء جلي من الفارسية الأعجمية، وذلك يعود إلى أن العربي، في هذه الحالة، يبدأ يفكر في ذهنه بالفارسية، ثم بعد ذلك يحاول إفراغ ذلك التفكير الفارسي في الذات العربية، إفراغة إلى اللغة العربية. وهذا لا ينعكس على الجمل فحسب بل إنه يظهر على الحديث أيضا: فالكثير من الأحوازيين يقومون لا شعوريا بترجمة التراكيب الفارسية إلى العربية، سواء على مستوى استخدام المفردات أو استخدام الجمل.
-
التبعات الهووية
ولا يمكن خلاصة تلك التبعات بالأمور التعليمية فحسب، بل لها تبعات عامة أخرى، على رأسها التبعات الهووية، التي تجعل الروضات، التابعة للنظام التعليمي الأداتي ذاك، وسيلة للقضاء على الهوية العربية الأحوازية.
- إخراج العربية من دائرة التداول: إن إيداع الطفل عند مؤسسة لا تتعامل إلا باللغة الفارسية، يعني إيداعه عند مؤسسة تقتل العربية، وتنبذها، وتجعلها بعين الطفل لغة غير صالحة للاستعمال العام، خاصة إذا استذكرنا توبيخات المعلمين في الروضات وتعنيفهم للطفل العربي الذي يستخدم لا شعوريا العربية. وذلك أن استخدام أساتذة غير مدربين سلفا للتعامل مع الطفل الصغير، والزج بكثيرين منهم في السلك التعليمي في الروضات، لتمشية سياسة التفريس، تفريس الأطفال، تجعل أولى الطرق للتعامل مع الطفل الذي يستخدم لغته ببراءة هي التعنيف، وذلك أول ما يغرس في الطفل هي حالة تأديبية تجعله يتصور فيها استخدام العربية، ومن ثم العربية بكل حمولاتها، أمرا شاذ يستوجب التعنيف.
- تقبيح الهوية العربية: وإذا ما تعممت هذه التجربة، التي تحصلها الطفل في الروضات، التي تظل في وجدانه وتركيبة شخصيته إلى الأبد، إذا ما تعممت هوويا ستعني حينها أن العربية، والتظاهر بأن الشخص عربي، أمر شاذ يستوجب التعنيف. وبعبارة أخرى تصبح الهوية العربية ظاهرة منبوذة يجب على الفرد التستر عليها، أو التخلص منها نهائيا.
-
التبعات القومية المجتمعية
وتتوج التبعات الخاصة بالروضات، وإحقانها الفارسية، بالتبعات المجتميعة القومية، في نهاية الأمر، وذلك إثباتا لخطورتها العظيمة، وتلويحا لغايتها المرجوة من قبل النظام الإيراني الذي طوع جميع الدولة والشعوب، وما ينتج عن كل ذلك من ثقافة ومجتمع وتاريخ ومستقبل، طوعها للفارسية وإصهار الجميع فيها.
ومن أبرز التبعات القومية للروضات هي:
- القيم: التي يحقنها النظام التعليمي في الروضات في الأطفال، إذ أن المواد التي تدرس في الروضات لا يمكن لها أن لا تكون متصلة باللغة الفارسية، فتصبح القيم المقبولة هي القيم الفارسية، وعلى رأسها القيم الخاصة بالولاء للدولة الإيرانية، دون أن يعلم الطفل شروط هذا الولاء، ودون أن يفكر في ذلك الولاء، بل يغرسه في ذاته، حتى إذا بلغ الرشد يجد نفسه ينازع ذاته عندما يميل لقوميته، ضدا على الفارسية التي غُرست فيه. وفي الكثير من الحالات يتحول هذا النزاع بين القيم المغروسة في الطفولة عن الولاء للدولة الإيرانية، وضرورة تبني القومية العربية، كخيار يتعلق بتعين الشخصية والكرامة والحرية، يتحول إلى نوع من الكراهية الشديدة للفارسية، قد تتحول إلى عقدة بالغة من الكراهية لهم.
- الأبطال القوميين: ولا يمكن التنصل من هذه الحقيقة بأن زرع القيم وحقنها في الطفل هي فارغة المضمون إذا لم تكن قائمة على الأبطال القوميين الفرس، وتمجيدهم بين الأطفال لتبني الولاء لهم ومحاولة استمرار طريقتهم. وهذه هي الطامة، لدى الطفل الأحوازي وقوميته ومجتمعه، إذا كيف له أن يتولى رستم وهو ابن القعقاع الذي حاربه رستم هذا، وكيف له أن يتولى خميني وهو ابن الجيش العربي العراقي الذي قاتله خميني هذا قتالا ضروسا، وكيف للطفل، الذي سيبلغ يوما، أن يعد فردوسي شاعره القومي والتفاسير التي عن هذا الشاعر تقول بأنه معاد للعرب (ونحن نشك بأن فردوسي كان واعيا بوعي قومي تجعله يرى الفرس مناهضين للعرب بالصورة التي صورتها عنه التفاسير القومية الفارسية).
- التاريخ: وكل تلك العملية لا بد أن تتم للطفل في تاريخ قوامه الفرس، والقومية الفارسية، في تنكر تام للعربية. حتى يصبح الطفل في الروضة فارسي التاريخ، لا يقرأ شيئا عن مآثر العرب، أولا، ومآثر الأحوازيين من العرب ثانيا: فلا التاريخ العيلامي القديم يحدد بأنه عربي، ولا التاريخ العربي الأحوازي يجد محلا للإعراب في هذه الروضات. وربما قد يعترض القاريء بأن الروضات لا تحتمل كل هذه المواد التاريخية والهووية والقومية. ولكن ذلك الاعتراض غير موضوعي، إذ مجرد تكرار المدرسين في الروضات تكرارهم بيت شعر فارسي من فردوسي، أو مجرد تكرارهم إيران أرض الآريين، أو مجرد تكرارهم قصة مآثار رستم وسهراب، وما إلى ذلك، تعني تكرار قيم وتاريخ وهوية ومجتمع.
الطرق الممكنة لمواجهة هذه السياسة:
إن النظام الإيراني بقراره القاضي ببدأ النظام التعليمي منذ الخامسة، أطلق رصاصة السامة نحو الشعب الأحوازي. وذلك أن الهدف الأول والرئيس من وراء هذا القرار هو القضاء على العربية في الأحواز، وإماتة الشعب العربي فيها. ولذلك لا يمكن في قسم الاستنتاج إلا القبول بهذا التأويل للروضات، والمسارعة إلى التصدي لها عبر الطرق التالية:
الطرق الملتزمة بحدود النظام
وهي الطرق التي تعمل بحدود النظام الإيراني، لا تعاديه علانية، بل تتخذ التعامل معه وسيلة لتقليل مصائب سياساته. وعلى الرغم من ارتباك هذه الطريقة، وإبتعادها عن الطريق الصحيحة، من المواجهة والمقاومة، بيد أنها طريقة لازمة، إلى جانب الاستراتيجية المقاومة الشاملة. وأهم طرق المواجهة في هذه الطريقة هي:
- الإصرار على تفعيل المواد الدستورية الخاصة بالسماح للتعليم باللغة الأم
- تفعيل حراك مدني يطالب بالمطالبات المدنية
- الحصول على دعم من النخب الفارسية شبه المتبنية للمطالبات الديمقراطية
- توفير نصوص عربية للأطفال تحفزهم على العربية
الطرق الرافضة لنظام الاحتلال
وهي الطرق التي ترفض منذ اللحظة الأولى أي تعامل مع النظام الإيراني، وتناهض جميع إفرازاته ومأتياته، وعلى رأسها نظامه التعليمي. وفي هذه الطريقة فإن أهم طرق المواجهة مع الروضات التفريسية هي:
- استهداف الروضات مباشرة والقضاء عليها
- الامتناع عن إرسال الأطفال للروضات وتولي التعليم المنزلي
- التواء المربين والمعلمين العرب العاملين في الروضات، واستخدام العربية مع العرب بدل الفارسية، ضمن عملية التعليم للأطفال
- خوض حملة إعلامية لفضح غايات الروضات من فرض الفارسية
الاستنتاج
إن الاستعمار عندما يريد تدمير شعبا ما، فإنهم يستهدفون لغة تلك الشعب أولاً، وإذا لم يتم تدمير لغة أمة ما، من المستحيل هزيمة تلك الشعب، لأنه عندما يتم القضاء على اللغة، سيتم القضاء على ثقافة هذا الشعب وذاكرته الجماعية أيضاً، وعندما يتم القضاء على الثقافة، سيتم القضاء على الشخصية أيضاً، في ذلك الوقت، حتى لو بقي جسدياً، سيبدو الأمر كما لو أنه ليس من أمته، على سبيل المثال، إذا أصبحت ثقافة الأحوازي مشابهة لثقافة الفارسي ، وأصبحت لغته فارسية ، فيتم إبعاده عن كينونته، وعندما يدخل المرء هذه الحالة، فإن وجوده لم يعد يشكل تهديداً للعدو، ويصبح هذا الشخص مطيعا للمحتل، لهذا السبب يهدف جميع المحتلين أولاً إلى تدمير اللغة، كما يهدف جميع المقاومين إلى حماية لغتهم، ولا توجد أمة تستطيع العيش بدون لغة خاصة بها، لحماية كرامة الأمة وتاريخها وثقافتها. لذا، يجب عدم التخلي عن اللغة الأم. الطفل الأحوازي هو مستقبل الأحواز.. عندما يكون واعيا يُسجن ويُعذّب ويعيش الرّعب اليومي، لذلك يجتهد الاحتلال الإيراني في تفريسه من خلال البرامج التعليميّة وغيرها من المشاريع التي تستهدف لغته العربية، هويته، فكره ووجدانه.
بواسطة فريق البحث في معهد الحوار
المراجع:
1: محمد توكلي طرقي، تجدد بومي وبازانديشي تاريخ، ايران نامك، 1394.
2:ديويد مناشري، نظام آموزش وساختن ايران مدرن، ترجمه عرفان مصلح، نشر سينا، 1397.
3: كاظم شادمان وديكران، دوزبانكي در نظام آموزش ايران، فصلنامه بويش در آموزش علوم تربيتي و مشاوره، دوره دوم، شماره 3، تابستان 95.
4: اميليا تري سيانس، مباحثي در دو زبانكي در ديدكاه علوم اجتماعي، سازمان ميراث فرهنكي كشور، تهران 1382.
5: راجع في ذلك دراسة قدمها معهد الحوار تحت عنوان: التعليم بغير اللغة الأم في الأحواز.
6: محمد جواد لاريجاني، مقولات في الإستراتيجية الوطنية، نبيل العتوم، مركز العصر للدراسات الإستراتيجية والمستقبلية، لندن، 2013.
7: دوزبانكي در نظام آموزشي ايران: بررسي اجمالي عملكرد تحصيلي، هويت وتطبيق با نظام آموزشي ساير كشورها، كاظم شادمان وعارف بايكان، فصلنامه بويش درآموزش علوم انساني، خرداد1397، دوره4، شماره10، ص46.