المقدمة
ما إنْ تهدأ الساحة الأحوازية من حيث السلام واستتباب الأمن حتى يعلو صوت الصراع مرة أخرى، وتتلاحق الأخبار عن انفجار تصادم قَبَلي جديد، ضحاياه قتلى وجرحى، من الشباب عادة، وبين الأسرة الواحدة أحيانا؛ حول أسباب بسيطة تتعلق بـ«طيرة» أو «تقديم سلام» أو «مجرد ملاقاة» بين متخاصمين قديمين. وهذه المرة تكررت الظاهرة هذه، مرة أخرى، وبلغ فيها عدد الضحايا أكثر من خمسة، أب وثلاثة أبنائه، في حادثة تقترب من المأساة وأفلام الرعب.
لماذا هذا المسلسل الدموي المتكرر؟ وإلام تعود أسباب استمرار هذه الظاهرة، ظاهرة الصراع القبلي، على طول التاريخ؟
يمكن الإجابة بأنها حصيلة ظروف مجتمعية معينة مهدت لها، وبنيات تاريخية محددة تتجلى فيها؛ إذ من دون الممهدات المؤدية إلى نشوء ظاهرة أو تجلي سلوكيات لا يمكن توقع حدوث شيء يستند على ممهداته، وهي التي تعمل على حصول نتائج معينة، ووقوع تجليات محددة. وبناء على ذلك فإن هناك ممهدات تاريخية وبنيوية متواجدة في المجتمع الأحوازي، هي التي تجعل التجليات القبلية، من قتل وعنف وتخلف، ممكنة الحدوث من جهة، ومتكررة مستمرة من جهة أخرى.
وأبرز الممهدات المؤدية إلى تجليات الصراع القبلي وما في معناه هي روح التناصر القبلي، وثقافة الفزعة الرمزية، وتراخي السلطة القضائية للاحتلال. أما التجليات فهي الأبوية، والهوسات وشعرها المتقوم على العنف والإقدام، والقتل.
الممهدات المؤدية إلى الصراع القبلي
بما أن الصراع القبلي هو حصيلة المجتمع القبلي، وتجل من تجلياته، فإن الممهدات تعني استمرار القبلية بجميع معانيها ومظاهرها وتداعياتها. ولذلك تكون هذه الممهدات بمثابة الأرض الخصبة التي ينمو فيها الصراع القبلي، باعتباره أكبر تجليات المجتمع القبلي؛ من أجل ذلك لا يعتبر الإقرار بأن المجتمع القبلي هو مجتمع متصارع، أو يسوده الصراع القبلي، حكم قيمة، بل يعني هنا حكم تسعفه الأحداث التاريخية ونتيجة مخبرية عن تاريخ طويل من المجتمع القبلي العربي الذي اتسمت حضارته بسمة العصبية، أي القبلية، حسب عبارة ابن خلدون(1). وأبرز ما يميز هذه الممهدات هي أنها غير فردية، تقترب من كونها بنيوية، أو تسير في بنيات عتيدة في المجتمع الأحوازي، بوصفه جزء من المجتمع العربي القبلي ما قبل الحديث. وهي:
-
روح التناصر القبلي
تعتبر القبيلة كلا واحدا متجانسا متكاملا، له أنا فردية بحد ذاتها، وتضم جميع الأفراد المنضوين تحت اسم القبيلة، وتجعل منهم كلا منسجما يتحرك بوحدة مستحيلة للفرد. وتتجسد هذه الوحدة، أو الأنا الجماعية، في عدة دوائر خلقها النظام القبلي والقبيلة ذاتها، ماديا ومعنويا، تسري كالروح بين جميع الأفراد وتتم وحدتهم، وهي روح متقومة على التناصر، التناصر المادي والمعنوي معا.
فمن حيث المادي تظهر الروح التناصرية القبلية هذه، عبر دائرتين أو آليتين هما الدعم المادي: الفصل، والودي؛ والسند المعنوي: الوحدة والمنعة.
وفي الفصل، كما هو معروف في الأحواز، تنقسم المغرمة الحاصلة من ذنب وجريرة على عدد رجال العشيرة أو القبيلة، وينهض كلهم لدفعها للمجنى عليه، لقاء الصفح أو كف التقاتل، وهذه الآلية تسري في جميع القبائل العربية في الأحواز من دون استثناء، والكل ملتزم بها دون استثناء، تجري مجرى الطبيعة في المجتمع الأحوازي، ما من أحوازي، مثقف أو شاعر أو أمي أو راعي إلا يلتزم بها ويؤدي خلالها المقدار المالي الملقى على عاتقه أو عاتق أسرته، دون أن يعلم حتى بالذنب الذي اقترفه ابن عشيرته.
أما الودي (أو أي مسمى له في المناطق الأحوازية الأخرى) فإنه مساهمة مالية أخرى يسددها الفرد، أو الأسرة، أو العشيرة، لقاء نشاطات القبيلة التي تحتاج لمال، سواء لولائم مراسم التأبين، أو تكاليف الاجتماعات القبلية، أو لأي نوع من النشاط المستوجب مالا.
ويبدو على هذه الإليتين أو الدائرتين المادتين أنها مساهمة جماعية حسنة تتناسب مع الروح الجماعية الإنسانية، فما هو المأخذ عليها؟ إن المأخذ عليها بالتحديد وبكل وضوح في اثنين:
- لأنها ليست آلية بريئة، بل هي تنتمي للعصر القديم البالي، لا تمت للعالم الحديث بصلة. هي مضرة بالاقتصاد عبر تحميلها آخرين وزر جريرة لم يرتكبوها؛ ومشجعة للاعتداء عبر تسهيل وازع الضرر المادي الناتج عن جريمة ومفرغة غاية المغرمة المادية عن طابعها الوازع الردعي.
- ولأنها تغذي الروح القبلية ومنطقها تساوق الالتحام بين القرباء مع الابتعاد عن الغرباء من أبناء القبائل الأخرى. إنها منطق أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب(2) .
أما السند المعنوي فهو ذلك العالم الذي يحتضن الفرد ويضمه، ويصنع له المعنى ويجعله يعيش في عالم قريب هو بيت الفرد وأهله وأقربائه، عالم العشيرة الواحدة المنفصل تماما عن باقي العوالم: عوالم القبائل الأخرى المجاورة. هو عالم وسيع بعيون القبلي وهو عالم متضايق بعيون واقعية(3). إن الفرد هنا يجد من الوحدة والالتحام ما يجعله كائنا سعيدا يمثل الجمع والجمع يمثله، يشعر بقيام عالمه عليه، وتمثيله له، وهو فيه متوائم إلى جانب نظرائه وأضرابه.
وهذا الفرد محور العالم الذي يتجلى فيه الكل وهو فداء الكل، يحظى بمنعة كبيرة من بني عشيرته وقبيلته، وفق المنطق المشار إليه، ولذلك لا يمكن الاعتداء على الفرد المنتمي إلى قبيلة في المجتمع الأحوازي القبلي، ومن هنا لا يتصور الفرد المعتدي بأنه وحده في صراعه مع آخر أراد مصارعته، بل إن جيش قبيلته كله يسنده. ومن هنا تتحول المنعة في الكثير من المصارعات إلى اختبار ميداني لمستوى القوة، موازنة القوى والمنعة والتعاضد، بين العشيرتين المتصارعتين.
وغني عن القول تقديم السند المعنوي القائم على المنعة هذا، من حافز كبير على المصارعة، وتعزيز شعور الفرد بأن مصارعته مع عشيرة أخرى هي بمثابة نيابته عن عشيرته كلها لإثبات تفوقها في البسالة على الآخرين، مما يجعله يستميت في القتال والضرب والعنف.
-
ثقافة الفزعة الرمزية
إن أكبر مفهوم موفق استخدمته هنا وفي باقي الدراسات التي قدمتها لمعهد الحوار، هو مفهوم الفزعة لوصف الثقافة القبلية. ويعني هذا المفهوم العجلة، بمعناها العام، الدال على الاستعجال، البعيد عن التؤدة والروية، سواء كان هذا الاستعجال في الأكل، أو في الزواج، أو في اتخاذ قرار، أو في صدور حكم… إنه استعجال يسري في كل نشاط الواحد القبلي.
وما يهمنا من أمر الفزعة، الاستعجال، هنا، هو أنها فزعة تستخدمها القبيلة كمفهوم حسن، يعني النخوة كأفضل تحديد له، وسرعة الإقدام، وسرعة النهوض. والسرعة والاستعجال هذا، أي الفزعة هذه تعني في التعامل المجتمعي، مجتمع القبيلة، سرعة الرد على خطأ بأضعافه إذا صدر من أحد ضدا عليك، وبنفس المنطق سرعة رد الجميل إذا سدده أحد لك، وسرعة النيل إذا تم وعدك به، وهكذا يتعمم على جميع السلوكيات الفردية والجماعية.
ولذلك فإذا صدر اشتباك بين فردين في المجتمع الأحوازي، فإن منطق الفزعة هذا يجعل اصطفاف العشرتين لا يكلف عشرة دقائق، في أكثر الحالات، من أجل التصادم والاشتباك والتقاتل. تقاتل لا يكون إلا مع القبيلة الأخرى، لأن القبيلة لا تعترف بضد لها إلا أن يكون ندا لها، والند في المجتمع القبلي لا يمكن أن يكون إلا قبليا، لأن الدولة أو الغزاة هم خارج دائرة الفهم القبلي، وبالتالي فلا يمكن لهم أن يكونوا أندادا في هذه الحالة، مما يجعل الفزعة القبلية غير ممكنة الحدوث إلا في المجتمع القبلي وضدا على قبيلة أخرى(4).
ولكن الغريب في الأمر هو أن منطق الفزعة ضعف في جميع تجلياته، إلا ما كان من تجليه في العنف. فمثلا الفزعة بمعنى النخوة قل في الأحواز، والفزعة بمعنى الاستعجال في رد الجميل ضعف، والفزعة بمعنى الاستعجال في تحصيل الغاية قد فتر إلخ. فمثلا إذا كان الفرد القبلي يتوانى في تقديم المساعدة في الفصل ولا يفزع لذلك، أو إذا كان يتخلف عن حضور المناسبات القبلية ولا يفزع للحضور وتسجيل التواجد دلالة على كثرة الرجال في بيته وحمولته وعشيرته، ولكنه على الرغم من ذلك كله ظل يحرص على حضور الاقتتال أين ما كان، ويحرص على تسجيل حضوره بأسرع الوقت، فازعا وقت التصادم بكل ما أؤتي من سرعة.
ولذلك دوافع سيكولوجية إذ التخلف عن الفزعة في المال مغفور، والتخلف عن الفزعة في الحضور ورد الجميل ونحوها كذلك قابل للصفح، بيد أن التخلف عن الفزعة في الصدام والاقتتال فهو يعني الجبن، والجبن هو أذم الصفات في المجتمع القبلي الأحوازي، يصل إلى حد اجتناب الناس من مصاهرة الجبان، أي المسالم الذي لا يجنح للقتال والعنف الجسمي. ومن أجل ذلك عند استخدام مفهوم الفزعة فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الأحوازي والفهم الأحوازي هو السرعة في استجابة طلب القتال والحرب، الحرب ضد العربي وقبيلته الأخرى أولا وأخيرا.
-
تراخي السلطة القضائية
ما كان للمصادمات القبلية الأحوازية أن تتكرر وتحصد أرواح المئات من الشباب وتفتك بالأسر، لو لا التراخي القضائي الواضح من قبل سلطات الاحتلال الإيراني، الذي يمنح غطاء أمنيا لتكرار حالات العنف الهائج عبر غض الطرف عن تتبع ملفات الجرائم القبلية، والتعامل معها بإهمال.
ولكن هذا لا يوضح الصورة بكليتها، بل إن التراخي القضائي يعني وجود دائرة قضائية موازية في داخل المجتمع القبلي والقبيلة ذاتها، هي التي ساهمت مساهمة كبيرة في الاستهتار القضائي الراهن، والعبث بحقوق المجنى عليهم، والمساهمة في تحفيز الجاني على استمرار أعماله. وذلك أن الأعراف القبلية، والنظام التسلسلي فيها الذي يحتل فيه شيخ القبيلة ورؤس العشائر والحمائل دورا قضائيا، تجعل قضية رفع الدعاوى والبت في الأمر من اختصاص هؤلاء(5).
ونظرا لسريان تأثير الفزعة هنا أيضا فإن جلسة الفصل المشار إليه تجعل الدعوة منتهية ظرف جلسة واحدة على يد هؤلاء سادة القوم. ونظرا لمنطق الجلسات المصحوب بالتساهل والتسويف في كثير الأحيان، فإن الحساب هنا ودراسة الدعوة لا يشبه النظام القضائي الحديث ألبتة، وذلك يعني مزيد من التساهل المفضي في نهاية المطاف إلى خلق ممهد آخر لتجلي دوامة الجريمة القبلية المتكررة في المجتمع الأحوازي القبلي.
ثم إذا كانت الأنظمة القضائية في جميع المناطق نابعة عن الثقافة السائدة في المجتمع، ولما الحديث يدور هنا عن مجتمع قبلي، فإن الأعراف القبلية محكومة هنا بصفات هذه الثقافة أيضا. وبما أن صفات هذه الثقافة متقومة على أساس الفزعة فإن النظام القضائي هنا سريع الإجابة، محكوم بمنطق تصارعي أيضا: إن الأحكام هنا هي خفيفة غير مؤلمة ولا قطعية، لأنها تراعي بالأساس إمكانية عكسية، أي أنها عند صدورها ضد جان، تأخذ بعين الاعتبار إمكانية عكس الموضوع وأن يوضع المجنى عليه مكان الجاني، وعندها يكون المجني عليه رحيما بالجاني أكثر منه، لأنه يتوقع عما قريب أن يتجاوز على فرد آخر من قبيلة أخرى ويتوقع أن يكون الحكم خفيفا لأنه خفف ممن جنى عليه في جلسات الفصل وتحميل الغرامة. وهذا ما يحدث كثيرا في جلسات الفصل الأحوازية وكلها تخفف من عقوبة الجاني بمنطق واحد متكرر: عثرنا عندكم اليوم فتساهلوا معنا، لأنكم ستعثرون عندنا قريبا وحينها سنرد التساهل لكم، ولا نحملكم ما يحتم الردع أو إيلام الجاني لكفه عن تكرار الجرم.
تجليات ممهدات الصراع القبلي
وبعد تميز المجتمع الأحوازي بهذه الصفات القبلية الراسخة فيه، وهي كلها ممهدات تؤدي إلى صراع قبلي، فإن هذا الوضع القبلي يتجلى في عدة ظواهر، كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة، أو أنها أرض خصبة لوقوع مثل هذه النتيجة، وتأخذها مأخذ الوضع الطبيعي: القتال والصراع. إن التجليات هنا هي ترجمة عملية لأمور بنيوية تاريخية، كأنها جذور لما تثمره الشجر وتعيد إنماءه.
لا يمكن للتجليات المجتمعية أن تظهر من الصدف، بل هي حصيلة بنيات ومجريات تاريخية مترسخة، تؤدي إلى مظاهر معينة، وتبعد مظاهر أخرى من المجتمع، ومن التوالد والتأثير على المجتمع وأفراده. فإذا كان المجتمع قائما على أساس التعاقد الظرفي والمصلحة الاقتصادية مثلا، لا مجال لظهور تجليات تناصرية فيه، وبالمثل إذا كان المجتمع روحانيا قائما على أساس التضحية للجماعة لا يمكن ظهور تجليات فردانية فيه يكون الفرد ذاتا قائمة برأسها. ومن أجل ذلك فإن التجليات الظاهرة على المجتمع الأحوازي والطاغية عليه لم تأتي من فراغ أو نتيجة صدفة بل هي حصيلة إرث تاريخي طويل من القبيلة وكل ما أنتجته وأعاد إنتاجه في هذا المجتمع المحتل. ومن أبرز تجليات تلك الممهدات فهي الآتية:
-
الأبوية
لا يعير المجتمع الأحوازي للمرأة ذلك الاهتمام الذي يناله الرجل، وهي في هذا المجتمع، إلى قبل عقدين تقريبا، كانت تساوي سلعة يتصرف بها الرجل بحرية. لا يهم كثيرا استقصاء معاني الأبوية في المجتمع الأحوازي الذي يشابه المجتمع العربي بكليته(6)، وهو جزء منه، بل الذي يهم بالدرجة الأولى هو سبب تدني مكانة المرأة إلى هذا المستوى، ودلالة ذلك التدني، وهي دلالة صريحة على مكانة العنف والقوة في هذا المجتمع، إذ لو لم يكن العنف محورا لتقييم قيمة الفرد ومكانته جماعيا لما كانت منزلة المرأة هذه المكانة الأدنى من الرجل لأنها أضعف منه في القوة والبطش.
ثم إن الأبوية لا تقيم تراتبا قيميا بين الرجل والمرأة وتكتفي بفصل حازم بينهما، بل هي تذهب بهذه التراتبية إلى حدود أبعد عند ما تفرضها بين علاقات الرجال أنفسهم، فلا تمنح المكانة الكبرى إلا لذلك الرجل الأكثر تمتعا بصفات معينة على رأسها العنف، والقوة، والإقدام على الفزعة والتحلي بها. وهذا لا يحتاج إلى كبير دلالة في المجتمع الأحوازي الذي يتوجب فيه على الشاب أن يكون رجلا جسورا يلاقي المنايا ويرفع سمعة أقربائه في ذلك.
إن الأبوية هنا تبتعد عن معناها اللغوي أصلا، ولا يكون الأب هو صاحب السلطة المعنوية، بالدرجة الأولى، يعامل أبناءه الذكور بذات المعاملة الواحدة، بل منطق الحفاظ على الجماعة يستوجب عليه أن يقوم بعملية مراقبة شاملة من أجل التعرف على الأجدر من الذكور من أجل تسليمه مهمة الحفاظ على الجماعة، وإعادة توطيد قيم الجماعة فيهم، تلك القيم التي تتقوم على أساس العنف، كأهم أسسها.
ولذلك فإن الأبوية هي تجل صريح لممهداتٍ هي البنى التاريخية لهذا المجتمع، البنى التي جعلت الفرد البشري لا يحتل مكانة تكتسب قيمتها من وجودها، بل قيمة الفرد تؤخذ أولا من ذكورته، وذكورته هي الأخرى لا تكون محل اعتبار إلا إذا تحلت بالصفات الواجبة، على رأسها العنف الذي يتجلى في المعارك القبلية والقتل المشهود في كل يوم. وهكذا يتبين واضحا أن المجتمع الأحوازي بذكوريته العنيفة هذه، لا يمكن أن يتجلى إلا على هذه الأشكال العنيفة من القتل والشدة والتصارع. هنا تبدو هذه النتيجة محتومة في مجتمع يتقوم أساسا على هذه البنى، ويسير في نطاقها، وتنتظم فاعليته في حيزها.
وما دام النشاط والفاعلية الجمعية محبوسة في هذه البنيات الممهدة للقتل فلا يمكن لهذه التجليات أن تتوقف، بل أكثر من هذا يعني توقفها تهديم البنيات تلك، ويعني الخروج من إحكام سيطرتها، وبكلام واحد الدخول إلى عالم جديد غير عالم القبلية ذلك. وهنا تنفتح طامة كبرى على مثل هذا المجتمع إذ لا يمكن له التخلي عن بنيات ووحدات عهدها وألفها لمدى أحقاب. ولعل هذه النقطة، الخروج من سطوة البنيات التاريخية والدخول إلى بنيات غيرها، هو ذلك الصراع المرير في البلدان العربية، المسمى بالصراع بين الحداثة والتراث. وليس ذلك بعيدا عن المجتمع الأحوازي الذي ظل متجمدا بالتراث، لم يستطع لغاية الآن الخروج منه، وآيته بقاء المجتمع هذا مجتمعا قبليا، وحدتها الكبرى هي القبيلة وليس وحدات أخرى صنعها العالم الحديث(7).
-
الهوسات
لقد نشر، قبل هذا، معهد الحوار كتابات يدعو فيها إلى الحفاظ على الإرث الحضاري الأحوازي عموما، بما فيه الأهازيج والهوسات خصوصا، من زاوية نظر تعزيز التنافر والاختلاف فيما بين الشعب العربي الأحوازي وبين المستوطنين الفرس. وبينما كانت زاوية النظر هذه صائبة، بيد أن زاوية النظر الأشمل تستوجب ملاحظة الأضرار التي تتولد عن هذه العادة وهذا الرسم القديم.
لقد تحولت الهوسات والشعر المنتشر فيها إلى المكان الأنسب والموضع الأمثل الذي تتجلى فيه ثقافة الفزعة والعنف والشدة والتحفيز على الملاقاة واستبعاد العقل والتعامل المدني. إن النظر الخاطف على مجموع الشعر الذي يرفعه المهاويل في مثل هذه المراسم الحاشدة يكشف تكرار مضامين رئيسية فيه: الخوة: خذلانهم ومواقفهم وضرورة الحفاظ على وحدتهم خوفا من طمع الطامعين، القطيعة مع من لم يفزع لك، مدح العنف وعنف الأجداد ويسمى «شجاعة»، ضرورة استمرار عادات الأجداد، مدح الرجال، ذم التخلق بصفات المرأة.
وبما أن محور هذه الدراسة هو تناول الممهدات التي تؤدي إلى العنف، فيمكن اعتبار الهوسات هي التجلي المغذي العنف والجنوح له، واعتباره طريقة في التعامل، بل وطريقة في التعامل لا تصدر إلا من الرجال المستثنين وهي محل إثبات لرجولتهم ومدى تمتعهم بالأقدام. وإذا كانت الاحصائيات المخبرية لا تسعف في إثبات صلة الأفراد الجناة المشاركين في القتل والعنف القبلي صلتهم بالمشاركة في الهوسات والمجاميع القبلية، لكن يمكن للتحليل المنطقي أن يبرهن مثل هذه العلاقة، خاصة أنها علاقة مباشرة، بما يتغذى به الشاب القبلي من كمية هائلة من الشعر في الهوسات الذي يصب في مثل تلك المضامين، المضامين العنيفة بكل معنى.
ليس هذا فحسب، بل إن المشاركين في مثل هذه المراسم، وقد يكون كل أحوازي مشارك بها في عمره لمرات عديدة، يلوح عليهم حالة من الهستيريا في هذه «العراضات» يأتون مهرولين في حالة مُهيبة وبيدهم السلاح وتعلو أصوات الطلق الناري، كأنها ساحة حرب تامة، لا يرون أمامهم شيء، سوى تكرار شعار واحد يبعث على الوحدة والتكاتف، يظهرون مستوى شدتهم وشدة عشيرتهم التي تتميز بالعلم الذي يرفعونه أمامهم، ويستعدون للفناء من أجله أمام قبيلة أخرى مجاورة لهم. إن أكبر ما تتميز به هذه الظاهرة العجيبة والمُهيبة: أي المخيفة، على المستوى الفردي هو ذلك الإنفعال والعزم الذي يطال الأفراد ويمتلكهم، فتراهم يقفزون من أماكنهم على إيقاع الشعر ويضروبون بأرجلهم بشدة على الأرض ويعلو صوت موحد يزيد من تأهبهم. وهذا التأهب لأنه لا يجد مكانا لكي يتفرغ فيه، فإنه يبقى كامنا داخل الفرد، يجعله شرارة مستعدة للإنفجار في كل لحظة، شرارة عادة ما يتم ترجمتها على سرعة الاشتباك بين الأفراد، ونتيجة القتل المستمر.
لا يمكن الاكتفاء بهذا القول لدراسة تأثيرات الهوسات وشعرها ومضامينه، من دون شك، وتظل هذه الإشارات سقيمة ومبتسرة، ما لم يقوم علماء اجتماع وسيكولوجيا أحوازيون، يأخذون على عاتقهم دراسة مجتمعهم ومختلف المظاهر التي تحل فيه. وذلك أن هذه المظاهر ليست آنية خالية التأثير، بل إن امتداد تأثيراتها عميق وبعيد الأمد، وأقل ما تم الإشارة له هنا من هذه التأثيرات، هو مساهمتها وتشجيعها أو دورها في القتل القبلي، الذي تم الاكتفاء بالإشارة له هنا فقط.
-
القتل والقاتل
هذا هو غاية الممهدات ومنتهى التجليات التي يصل بها المجتمع القبلي في بحث هذه الورقة. ولكن لكي يتم استجلاء بعض خفايا هذه الظاهرة، يجب التطرق إلى بعض النقاط على عجل: وهي أن معظم القتل القبلي غير مقصود، ولم يكن نتيجة سبق إصرار وترصد! بل إن احتدام الصراع وارتباك الاشتباك يؤدي إلى القتل، إذ لو سألت الكثير من القاتلين لصرحوا بصدق أنهم عند ذهابهم إلى الصراع والاشتباك لم يكن يدور في عقولهم أبدا وصول الصراع إلى مقتل طرف.
ولكن في مقابل هذا هناك من يقوم بالقتل بإصرار وترصد، وذلك لا يمكن تفسير عمله إلا من خلال الرجوع إلى ما تقدم في هذه الدراسة من ممهدات: وهي ثقافة الفزعة، وعلى رأسها وضع ثنائي مشهود فيها هو ثنائي وجوب القتل للشرف، ووجوب القتل للأرض وهي العرض. وهنا يتحول القتل إلى خيار مبرر ومشروع، إذ أي تجاوز على هذه الحرم يستوجب القيام بالقتل من أجله. وهذا خطأ آخر من أخطاء العالم القديم، عالم القبيلة، مقابل العالم الحديث الذي تكون فيه الروح فوق كل شيء، فوق الشرف وفوق الأرض.
الاستنتاج
هذه دراسة قام بها كاتبها تحت وطأة الخبر الأخير الذي حدث في الأحواز العاصمة من قتل خمسة اشخاص في اقتتال قبلي. وقد تم التفكير دون انحياز فتم تقسيم الأسباب المؤدية إلى القتل القبلي في المجتمع الأحوازي إلى أمرين، الممهدات التي هي البنيات التاريخية في الأحواز، والتجليات التي تنبثق عن هذه البنيات.
فكانت البنيات القبلية عبارة عن روح التناصر المتجلي ماديا ومعنويا، وثقافة الفزعة العنيفة المستعجلة، وتراخي سلطة الاحتلال الفارسي التي تحتفي بهذه المظاهر، لأنها مظاهر كفيلة بجعل الشعب الأحوازي ينشغل عن مواجهة الاحتلال بنفسه ويجعل القتل يحدث بين القبائل بدل حركة تحرير تريد الحرية والكرامة.
أما التجليات فكانت عبارة عن الأبوية والهوسات كساحة عمل يشتد فيها الاستعداد للإقدام، والقتل آخر المراحل التي يبلغها المجتمع القبلي الأحوازي.
وفي الأخير قد يعترض القاريء على نعت المجتمع الأحوازي بالمجتمع القبلي، بيد أن ما تم تقديمه من تحليل يبرر استخدام هذا الاسم، كما أن الظواهر التي تتكرر منذ القدم في هذا المجتمع تثبت أنه لم يتجاوز بعد حالته القبلية، وظل هكذا يعيد مظاهر وثقافتها وأخلاقها.
عدنان التميمي
المراجع:
- محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991، القسم الثاني.
- محمد نجيب بوطالب، الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر: دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2012.
- اريك هوفر، مريد راستين، ترجمه شهريار خواجيان، نشر اختران، تهران1401.
- أنظر تحليل ابن خلدون في شروط العصبية والتحامها وشروط تغيير غايتها إلى وجهة غير الصراع القبلي في ظروف معينة.
- أنظر إلى: عبدالله الميساني، انطباعات عن الشخصية الأحوازية.
- هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992.
- كتبت في ذلك كتب لا تعد ولا تحصى، ولا نشير إلا إلى هذا الكتاب الذي يتوفر الآن أمامنا: عبدالله الغذامي، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة، المركز الثقافي العربي، بيروت 2009.