المقدمة
تركز جل الكتابات التي تتناول تحليلا وبحثا المجتمع الأحوازي واقتصاده والسياسة فيه، على زاوية نظر مختزلة بعض الشيء، هي زاوية النظر إلى الدولة الفارسية المحتلة والنظام السياسي القائم، دون العناية بالقوى العاملة وتلك القدرات الإجرائية التنفيذية التي تسهر على استمراره وديمومته. ولكن النظرة الشاملة تتطلب شرح كامل الواقع الأحوازي اقتصاديا وثقافيا ومجتمعيا إلخ، واستبيان تقسيم الأدوار في هذه الساحات وكشف تلك الأدوار التي يقوم بها المستوطن في تسيير سياسة دولته المحتلة، وجهده الكبير في تنفيذ سياسة التهميش والطرد للشعب الأحوازي من الاقتصاد والمجتمع، ومن ثم نفيه وجوديا.
وإذا ما تم البحث في هذه الأبعاد بالتركيز على المستوطنين الفرس الذين أتى بهم النظام الإيراني إلى الأحواز وسلطتهم على الشعب الأحوازي العربي، يتبين على الفور ذلك الدور الكبير الذي يقوم به المستوطن جنبا إلى جنب سلطات الاحتلال، ويتبين مدى مساهمته الفعالة في القضاء على الوجود العربي عبر مختلف السياسات. وهذا الدور لا يدعو مجالا للشك بأن مسؤولية هؤلاء المستوطنين في ما حل بالشعب الأحوازي مسؤولية واضحة وأكيدة قابلة للرصد والإثبات القانوني، مما يستوجب التعامل معهم من هذا الأساس وبناء على هذا التاريخ الطويل من المشاركة في إدارة الشعب الأحوازي إدارة قائمة على الاحتلال؛ ولا مجال للتعامل مع هؤلاء من منطلق اعتبارهم مجرد مستوطنين كان وصولهم إلى الأحواز والسكن فيها طبيعيا وفق النمو السكاني الطبيعي.
ومن أهم الساحات التي يتم التطرق لها هنا هي الساحة الاقتصادية ودور المستوطنين في نهب الثروات الأحوازية واحتكارها بينهم ونبذ الأحوازيين عنها؛ والساحة الثقافية ودورهم في بث سياسة التفريس وزرع الازدراء الذاتي بين العرب، الشعب الأحوازي؛ والساحة المجتمعية وتقسيم الأحواز إلى مراكز تتعلق بهم تتمتع بالخدمات المدنية الكاملة بالتزامن مع تفقير الهوامش(المناطق العشوائية) المخصصة للعرب؛ والساحة السياسية التي جعلت الفرس قادة الحكم وأرباب السلطة و الأحوازيين المحكومين الخاضعين للفرس.
اقتصاد المستوطن
لا شك بأن أولى البدايات التي ظهر فيها الدور المحوري للمستوطنين تبين من خلال الاستيلاء الشامل والاستغلال الكبير لمصادر الأحواز الطبيعية وثرواتها الهائلة من نفط وغاز وزراعة وثروة بحرية إلخ. فهنا لعبت جموع المستوطنين دورا لا غنى عنه في تسيير عملية النهب التي قامت به السلطات الإيرانية المحتلة، عبر إيفاد الآلاف من المهاجرين من المناطق الإيرانية الفارسية، من قوى عاملة وتقنية، إيفادهم إلى الأحواز خاصة المناطق التي تواجدت فيها آبار النفط والغاز، حيث كانت هذه القوى العاملة والتقنية هي التي مكنت عملية كسب الثروات من النفط، كأولى المصادر المستغلة من الأحواز.
ولكن مع مرور الوقت و طغيان العنصر العربي، صاحب الأرض، على مختلف الأصعدة الاقتصادية والشعور بضرورة استيعاب جانب من المجتمع في هذه المشاريع، أخذ المستوطن هو من يدير لعبة الاستيعاب هذه عبر منح القوى الأحوازية العاملة والتقنية دورا هامشيا تحت إدارته، وإنْ لم يتم تقسيم المناصب الاقتصادية والإدارية على أساس الكفاءة أو الجدارة، بل كان المستوطن يتصرف باعتباره صاحب هذه الثروات والسيد الذي يجب أن يكون الأحوازي العربي عبدا له ينفذ أوامره. وقد كانت هذه الإدارة هي عبارة عن عملية واعية لاستيعاب زيادة الحجم السكاني للأحوازيين مقابل الأعداد المستوطنة الوافدة التي أربكت حسابات المحتل، وجعلت أقل الطرق تكلفة لتوسيع هذا الارتباك هو منح مساحة لأهل الأرض لدخولهم إلى النشاط الاقتصادي، إلى جانب توفيرهم القوى العاملة اللازمة نتيجة توسيع العمل الاقتصادي القائم على استخراج المصادر الطبيعية.
وخير دليل على ذلك هو مستوى التوزيع الإداري في الأحواز اليوم، شمالا وجنوبا، حيث تقع معظم المناصب الإدارية، الكبيرة والصغيرة، في شركة النفط وشركة الصلب وشركة البتروكيماويات وقصب السكر والموانئ والجمارك وغيرها من كبار الشركات العامة في الأحواز بيد هؤلاء المستوطنين. ولذلك ظلت إمكانيات العربي الأحوازي اقتصاديا هامشية لا تتجاوز مجرد توظيف بدرجة متدنية أو عمالة في هذه الشركات العملاقة التي تدر بمليارات الدولارات على الاقتصاد الإيراني بشهادة النظام نفسه.
والجدير بالذكر في عملية الاستحواذ على الثروات الأحوازية وحجبها عن العرب، هو أن هذا الحجب كان متزامنا مع عملية واسعة تبرره بأنه نتاج عدم تساوي الكفاءات بين الفرس وبين العرب؛ تم فيها تصوير الفرد الأحوازي منعدم الكفاءة والجدارة بالمقارنة مع نظيره الفارسي، سواء من حيث الدراسة أو المستوى الحضاري، أو حتى على مستوى العرقي، وذلك هو السبب الذي جعل الفرس يستولون على خيرات الأحواز ويقومون هم بإدارة ثرواته(1).
ومن أولى مظاهر هذا التمييز المتعدد التبعات، التمييز الظاهر على مستوطن الفارسي متربع على الثروات ومواطن احوازی يحتل مرتبة دنيا يعاني الفقر والتهميش، هو إقدام المستوطنين بدعم من السلطات الإيرانية على جعل المدن الأحوازية انعكاسا لهذا التمييز: المدن والأحياء التي خصصت للفرس والمدن والأحياء التي خصصت للمواطنين. فبينما تتمتع الأحياء الفارسية (وليس هناك مدن فارسية في الأحواز جنوبا وشمالا) بجميع الخدمات الرفاهية اللازمة للحياة المدنية، تعاني الأحياء والمدن الأحوازية من الحرمان في أبسط ما تتطلبه الحياة في المدن، سواء من مشافي أو مدارس أو شبكة صرف صحي إلخ.
وهكذا يتبين من خلال ذلك أن الاقتصاد الإيراني القائم على الأحواز وثرواتها لم يكن يسجل هذا الحجم من الاستغلال والنهب لو لا وجود قوى بشرية تقوم به وتعمل على تنفيذه وإدارته هم المستوطنون أنفسهم. ولذلك يمكن الإقرار بأن وجود المستوطن في الأحواز كان لضرورة تنفيذ المشاريع الاقتصادية القائمة على نهب الثروات الأحوازية، من زاوية نظر اقتصادية.
الثقافة
إنه إذا ما كان تبرير إيفاد المستوطنين إلى الأحواز تاريخيا بمبرر اقتصادي، وهي وجهة نظر تستحق النقاش، فإن تبعات وجود المستوطنين لم يقتصر أبدا على هذا الجانب فحسب، بل أن ذلك الوجود جلب معه تبعات ثقافية متعددة الأوجه، جعلت الهوية الأحوازية وثقافتها متأثرة إلى أبعد الحدود بهذا العامل الخطير. فبعد توطيد الدولة الإيرانية المحتلة في الأحواز، والقضاء كليا على معالم الإمارات العربية من تاريخ هذا الوطن، اجتهدت الدولة هذه في بناء ثقافة واحدة فارسية، عممتها على جميع الشعب الأحوازي، وأرادت له أن يتلبسها وأن يتثقف بها ويورثها لأبنائه. وفي كل ذلك وجدت في المستوطنين، مرة أخرى، العنصر الأول في بث هذه الثقافة والعمل على تجذيرها بين العرب.
وقد كان التوجه الثقافي بين المستوطنين توجها معقدا غير ملموس، لأن طبيعة الثقافة اقتضت ذلك، ولأن الأمر الثقافي ظهر بعيون الأحوازيين على أنه مجرد تجاور بين الفرس والعرب، كان العربي فيه، بناء على هذه العملية، العنصر الأضعف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى:
لقد كان العنصر العربي الأضعف في الأحواز في مواجهته الفرس لأن تلك المواجهة لم تكن متساوية وطبيعية تجري طبيعيا في مجتمعات مستقلة بذاتها، بل ضعف ذلك العنصر كان ناتجا عن استيلاء الدولة المحتلة على الأحواز، وما تبع ذلك من نكران العربية فيهم، وزعزعة العربي في موطنه وهويته وثقافته وتاريخه ولغته التي نشأ عليها. ولذلك كان الشعور العام في الأحواز شعور الهزيمة بكامل أبعادها أمام الفارسي الذي أتى منتصرا عليها حاملا معه ثقافته التي أراد لها أن تكون هي المحور في هذه الأرض التي استولى عليها.
ومن منطلق الغلبة هذا حاول الفرس قيادة حملة كبيرة لتفريس الشعب الأحوازي، بدء من المؤرخين وصولا إلى الفنانين والمستوطنين العاديين(2). فهنا حرص المؤرخ الفارسي على تزوير التاريخ الأحوازي وإخراجه كجزء بسيط من إيران الفارسية، وبذل في ذلك المستوطن أحمد كسروي مساعي كبيرة في كتابه “تاريخ بانصد ساله خوزستان”(3) المعروف، وحاول كذلك كُتاب الروايات من أمثال المستوطن محمود أحمد رواية التاريخ الأحوازي العربي بعيون فارسية كأنه تاريخ مدينة فارسية. أما المغني هو أيضا أخذ يصور المدن الأحوازية وعلى رأسها مدينة عبادان، التي كانت بؤرة استيطانية مرعبة كادت أن تتفرس للأبد لو لا الحرب الإيرانية العراقية، على أنها مسرح لمغامرات عشاق الفرس وطابعها الفارسي.
ولعل أكبر معالم الثقافة الفارسية التي لم يكن لها أن تنتشر لو لا نهوض المستوطنين بها هي ثقافة التفريس. وثقافة التفريس بدت أولا من محاولة منح هوية خوزية للأحواز تناسبا مع تغيير اسمها من عربستان إلى الأحواز، وتزامنا مع محاولة صناعة لهجة مصطنعة اسمها اللهجة الجنوبية أو العبادانية، هي الفارسية بحد ذاتها مع تغييرات قبيحة شكلا ولفظا (من زاوية الفارسية حتى) لإيهام العرب بأن لهجتهم فارسية تختلف في اللفظ مع اللهجة الفارسية المعيارية. وهنا برز ذلك الدور المحوري للمستوطنين إذ هم من روج لهذه اللهجة، وقام باستخدامها ولعب دورا كبيرا في بثها والتفاخر بها على أنها لهجة تختص بهذه المنطقة دون العربية.
وسلاحهم في كل ذلك هو بث روح الازدراء الذاتي بين الشعب الأحوازي العربي، إذ تصرف الفرس كأنهم العنصر الأفضل عرقيا على العرب، من منطلق نرجسية لا تمت للواقع والتاريخ بصلة، وعمدوا على التصرف بتعال علي العربي الأحوازي، خاصة بعد جعله في دولة الاحتلال مواطنا من الدرجة الثانية مفقرا يسكن في مناطق قروية أو هامشية على المدن، هزيل الثقافة واللغة. وإذا ما كان الازدراء في العقود الأولى من الاحتلال ضعيفا بفعل التباعد وبقايا الروح العربية الأنفة، فإن رسوخ الاحتلال وطول مدته نال منها وجعل العربي يزدري نفسه أمام المستوطن الفارسي شيئا فشيئا، وهو يقارن حاله به فيراه مديرا متعلما ثريا إلخ، بينما هو يعاني من أبسط احتياجاته اليومية.
وفي هذا السياق يجب إدخال مفهوم الإخصاء الدال على إيقاف الذات العربية الأحوازية عن الإنجاب، وجعلها تجتر آلامها وانكفاءها على ذاتها، بعد كل ما منيت به من هزائم روحيه جعلتها لا تعير لنفسها الاهتمام، وترى نقصا هو نتاج أوهام زرعت فيها من قبل مستوطنين مهمتهم هي النيل من هذه الذات والقضاء عليها.
ثم إذا كانت هذه التصرفات الثقافية تعكس الجانب الخفي من أدوار المستوطنين في تهميش الثقافة العربية الأحوازية، فإن هناك تصرفات ظاهرة لم يكن المستوطن يخشى كتمانها، أبرزها هي محاربة المؤسسات الثقافية العربية والتضييق عليها ومساندة ودعم الاستخبارات الإيرانية لكشف توجهاتها والقضاء على أنشطتها. وأبرز مثال لذلك هو ما تفعله قناة “خوزستان پاره تن ايران زمين” التي بات كل ناشط عربي أحوازي وكاتب مثقف يخشاها، وما كان ذكرها ليتم هنا لو لا دورها الاستخباري في الرصد جميع كتابات الأحوازيين، والتشهير بهم وحث الجهات الأمنية على التصرف الأمني معهم وضرورة كبتهم. وعلى الرغم من هزال المحتوى الذي تنشره هذه القناة وأمية العاملين عليها لكنها تحولت بقوة إلى شبكة رصد، بإمكانياتها المتوفرة من أموال الشعب العربي الأحوازي المنهوبة، تتيح للجهات الاستخبارية ما كان بعيدا عنها، وهو رصد دقيق وتحليل متطرف عنصري لجميع كتابات الأحوازيين.
المجتمع
إذا كانت ثقافة التهميش والازدراء ونكران العربية ناتجة عن دور صريح للمستوطن تاريخيا، على كل المستويات الفنية والتاريخية والحياة اليومية، فإن الدور المجتمعي لهم جاء متكاملا مع تلك الأدوار ومتسقة معها. فعلى صعيد إرباك المجتمع العربي الأحوازي، نهض المستوطن مرة أخرى بكل اهتمام وأخذ يكون رأيا عاما فارسيا في الأحواز قوامه عداء العرب أهل هذه الأرض التي استوطنوها فجعلوها خالصة لهم نصبوا لأهلها العداء والبغض.
فعلى مستوى الرأي العام الفارسي الـ«خوزستاني» في الأحواز نجح المستوطنون في جر فئات أحوازية متعلمة لم تجد مخلصا من سطوة الدولة الفارسية ومستوطنيها إلا من خلال الانصهار بها وتبنيها لقضايا الفارسية المفروضة عليها. فهنا دأب العربي الأحوازي المغلوب على أمره في الجامعات والدوائر الحكومية ومحال توظيفه وجيرانه إلخ، أن يصطبغ بصبغة القوم الذين غلبوه، فصار يقلد شأنهم(4) ، وبات يتصنع توجهاتهم العامة، حتى لو كانت توجهات لا تمت إلى الوطن العربي بصلة. ومن هنا تبني القضايا الخاصة بالتعددية الدينية من قبل الإصلاحيين العرب من المنظور الفارسي، بعيدا عن علاقته بالخصوصية الأحوازية ودور التشيع في التاريخ والمجتمع الأحوازيين معا، على سبيل المثال لا الحصر.
ولم يختصر تبني القضايا الفارسية من قبل المجتمع الأحوازي وفئاته النشطة فحسب، بل تعمم ذلك في قضايا خطيرة هي رفض التحرر وفكرة وقوع الاحتلال، حتى صارت الفئات هذه تحدث عن مواطنة إيرانية، والتسالم مع المستوطنين، وإسقاط تاريخ من جرائمهم ضد الشعب الأحوازي. ولكن في مقابل ذلك لم يذعن المستوطن أبدا لهذه الفئات ولم يتعامل معها، بل ظل يسلك السلوك ذاته في التعامل مع الشعب الأحوازي من طرد اقتصادي ونبذ العربية واعتبار العربي عنصرا أدنى عرقا من الفارسي. وهذا التوجه لا يعكس فئات أو أفرادا من المجتمع الفارسي، بل هو رأي عام يوحد أكبر الفئات ويجمعها على رفض العرب وعدم الاعتراف بوجودهم على أرض الأحواز.
ولذلك ظل الوجود الأحوازي هامشيا على أطراف المجتمع الإيراني المحتل، ولم يترك له المجال للحضور والتواجد في ساحة النشاط المجتمعي. ومن هنا تم حجب جميع الإصدارات الثقافية الأحوازية العربية، وتم سحب جميع تراخيص العمل الخاصة بدور النشر والمراكز الثقافية، وباتت جريمة إقامة ندوات عربية أو صحف أو نشاطات تتعلق بالتراث العربي والثقافة الأحوازية تستوجب عقودا من السجن والإعدام. وهذا هو بالتحديد ما جعل النشاط المجتمعي الأحوازي نشاطا هامشيا ليس له حضور في الساحات العامة، ولم يتكون رأيا عاما إلا الرأي العام الفارسي ولم يسمع صوتا مجتمعيا وقضايا مجتمعية إلا تلك التي تتعلق بالمستوطنين وشؤونهم اليومية.
ولكن المخادعة تكمن في تشجيع الرأي العام الفارسي للمستوطنين تشجيعه القبلية، ونعتهم الشعب الأحوازي بتسمية العشائر والقبائل، وذلك تنصلا من الاعتراف بوجود شعب موحد بل التصريح بدل ذلك بوجود جماعات متناحرة متنافرة هاجرت من العراق أو اليمن أو من أماكن أخرى فسرقت الأراضي الفارسية، أي الأحواز، وجعلت الفرس أمام مضيقة. ولذلك إذا ما أرادت هذه المجموعات العشائرية البقاء والوجود في الأحواز فعليها أن تتشبع بالثقافة الفارسية وأن تترك إرثها العربي، حتى يتم الترحيب بها من قبل الدولة والمواطنين الفرس من المستوطنين في الأحواز.
وهكذا في هذه الجزئية تلتقي سياسة التفريس بضغوط الرأي العام الفارسي ورأيه الغالب في المجتمع الأحوازي، ليرأى الأحوازي ذاته ونفسه من منظار الفرس، وينسلخ عن هويته ويحاول جاهدا الخروج من العشائر، حسب النعت الفارسي، والدخول في عالم التحضر الفارسي، فارسي اللغة والوجود. وهذا ما حدث لشريحة من أبناء الوطن، حيث انتزع نتيجة كل هذه الضغوط النفسية والمجتمعية، الغير ملموسة، ذاته العربية، واتخذ الفارسية كلغة لنفسه، وأصبح يلح على كتمان العربية أو التنصل من بقاياها خاصة بين أبنائه.
ومن جهة أخرى لا بد من الذهاب بعيدا بروح الغطرسة الفارسية مجتمعيا، حيث أن هؤلاء الفرس لم يعترفوا بوجود قبائل أحوازية حتى، بل إنهم لا يصرحون إلا بوجود عشائر عربية، وذلك أن مفهوم القبيلة يعني دلاليا لهم العرب والتاريخ العربي من جهة، وهي تعني من جهة أخرى وجود مجموعات كبيرة أكبر من العشائر التي هي مجموعات أصغر عددا من القبائل. ولهذا دلالة صريحة على مقدار الشعب الأحوازي في الرأي العام الفارسي، ومدى تغطرس النظرة الفارسية تجاه العربي الأحوازي في أرضه ووطنه.
أما الوجه العملي لمسؤولية المستوطن في أرض الأحواز تجاه ما يحدث فيها فإنه يتجلى في تحويل الأحياء العربية في كافة المدن الأحوازية إلى أحياء مساعدة للجريمة وأنواع الشذوذ المجتمعية. وقبل التطرق لهذه النقطة لا بد من التصريح بأن ارتفاع منسوب الجرائم والجنح في الأحياء العربية الهامشية لا يعني الوقوع في فخ الفرس من جلد الذات الأحوازية والازدراء الذاتي، بل التصريح بذلك ينبع عن أمرين: أولهما هو أن ذلك نتيجة إحصاء ميداني وانطباعات فردية، يمكن تعميمها بسهولة، وثانيهما أن هذا الأمر هو ليس حكرا على الأحوازيين حصرا بل إن وقوع أي فرد أو مجموعة في مثل هذه الظروف تسبب بنتائج مشابهة تقريبا، سواء كانت في الأحواز أو العراق أو لندن وباريس. إنما الأمر الهام في كل ذلك هو أن مسببات الوقوع في مثل هذه الظروف المجتمعية المزدرية جاء على يد المستوطنين الفرس ودولة احتلالهم.
السياسة
ونظرا للأهمية التي تكتسيها السياسة في هذا الشأن، سيتم البحث في هذا الجانب بمزيد من التفصيل.
العداء للعروبة وضرورة إنكار وجود العرب في الدولة الإيرانية
- موقف المفكرين الفرس من العرب عموما وعرب الأحواز خصوصا
لقد تبنى المفكر الإيراني القومي رؤية في بناء الدولة الإيرانية المركزية، الأحادية القومية، قوامها معاداة العرب والعربية، حضارة ودينا وتاريخا وحاضرا إلخ. وليس خطأ لتصريح بأن رأس هؤلاء المُفْرِطين في تلك العداوة هو فتحعلي آخوند زاده، وتلميذه ميرزا آخوند كرماني، عداوة أثرت على سقوط لغتهم أيضا. يقول آخوند زاده في سياق تعليله الانحطاط الذي يعتور الدولة الإيرانية، شعبا وسلطانا، على سبيل المثال لا الحصر، يقول: «واحسرتاه عليك يا إيران، أين ذهبت منك تلك الشوكة والمكنة والسعادة. إن العرب العُراة والجياع أفرغوا عليك شقاء لأكثر من ألف ومئتين وثمانين عاما. فدمروا بذلك أرضك، وجعلوا أهلك جهلاء، وأبعدوك عن الحضارة العالمية، وحرموك من نعمة الحرية… إن منبت كل ذلك الشقاء الذي يكتنفك فهو في العرب»(5). وهذه اللغة الحاقدة على العرب، التي تُنسب اعتباطا كافة الانحطاط في الوضع الإيراني إلى منسوب من دون برهنة ولا تعليل تاريخي، هي ما نعثر عليها أيضا لدى كرماني، يقول: «إننا إنْ عثرنا على أية رذيلة في الخلق الإيرانية، فجذرها مزروع من العرب، ونبتتها غرست بأيديهم. إن جميع المرذولات والعادات الإيرانية فهي منبعثة عن الأمة العربية أو ثمرة عن غزوهم وتبعة منه»(6).
ويتبين عن هذه الأمثلة الشهيرة، التي انتبه لها معظم الكاتبين العرب في الأحواز، أن العرب هم المسببين بما آل إليه إيران الفارسي من دمار وانحطاط لا مثيل له، ولذلك فيبدو بدهيا أن يبدأ الخلاص من هذا الوضع من التخلص من بقايا الترسبات العربية وتأثيراتها. ولكن إذا ما كان هذا هو الموقف من العربية، بوصفها حضارة ودينا وتأثيرات متشعبة إلخ، وهو موقف الرفض والدعوة إلى نبذ كل ما يمت لها بصلة، فما هو الواجب إزاء أولئك العرب الذين ضمتهم الدولة الإيرانية في الأحواز، وجعلتهم جزء من “مواطنيها”، وهم عربا باللغة والقومية والماضي والانتماء إلخ؟ لقد كانت الإجابة على هذا السؤال، إجابة الفكر القومي الإيراني الذي يغذي السلطة الإيرانية بأفكار واستراتيجيات إلخ، ينفذها على أرض الواقع ويفرضها على المناهضين، هي ضرورة مسخ العربية بين عرب الأحواز، ونكران قوميتهم العربية، بشتى الأساليب، على رأسها الدعوات الإعلامية، وتزوير التاريخ، وفرض لغة تعليم أحادية فارسية، والإكثار من الاستيطان.
-
الاستيطان والمستوطن: قوام دولة الاحتلال
لم تكن أرض الأحواز من المناطق التي يعرفها الحكم الإيراني القاجاري، لأنها كانت تقع على الحدود النائية القريبة من العراق المحاذية الخليج العربي، والدول العربية عموما، مما جعل الحكم القاجاري لا يصنفها جزء من حدود سلطانه، بل يتعامل معها بنوع من التعامل الخاص لا يعترف باستقلالها ولا يصر على عدها من ضمن نطاق سلطانه. ولذلك تبقت حالة هذه الرقعة الجغرافية تتراوح بين الحكم المستقل، حسب فترات تراخي الحكم القاجاري الذي تَعَوَد التطاول عليها، وبين الخضوع بنوع من أنواع الخضوع، وهو غالبا ما يكون على قد تسديد الضرائب. على أن أكثر الأمور التي كانت تعزز الجهل المُطْبق بأحوال الأحواز من الدولة القاجارية الطامعة بها، شأنها شأن الدولة البهلوية، هو عدم وجود نظام بريد أو معلوماتي ينقل إلى البلاط ورجالات الدولة أحوال المناطق النائية التي يمكن أن تكون ضمن السلطان، أو ممن يمكن الاستيلاء عليها. “إنه خلافا للإمبراطورية العثمانية التي تركت للباحثين المستقبليين أكثر من ألفي طن من الوثائق المخزنة، فإن الحالة الإيرانية في القرن التاسع عشر [لا تشتمل على أية من هذه الوثائق] نظرا لغياب نظام بيروقراطي فعال”(7) .
ولعل هذا الأمر هو ما دفع الرحالة الشهير حاج عبد الغفار نجم الملك أن يوصي البلاط القاجاري بضرورة الاهتمام التوسعي بالأحواز لأنه كاد يراها أجنبية تماما عن الفرس معادية لهم: “لا يمكننا عد مُلك خوزستان والفلاحية جزءا من الأراضي الإيرانية سوى بالاسم وصوريا. إن طول اهمالنا لهذه المنطقة جعل أهلها يندهشون لرؤية [إيراني فارسي] يرتدي قبعة سوداء… إنهم ينفرون عن الفرس، لا لشيء سوى لاهمالنا التواصل المستمر معهم. يجب علينا أن نبعث بالفرس من جميع الطبقات، من البائعين والصناع والفلاحين والشيوخ والجنود والتجار، حتى يتغلبوا على تعداد العرب المتواجدين هنالك“(8).
وعقيب ذلك أتى الحكم البهلوي فعزم أن يخرج بنظام الحكم في إيران من الحكم القديم، الشبيه أكثر بالحكم الكنفدرالي اليوم، المسمى حينها بحكم الممالك المحروسة، إلى الحكم الحديث المركزي الطابع والسلطة، فأَصَّر على انتزاع الحكم العربي عن الأحواز، فنجح في ذلك، فأخذ يروج لسياسات يعزز بها ما تحصل عبر القوة العارية وهي الاحتلال بقوة السيف تارة، واستمرارها بالقوة الناعمة عبر السياسات الثقافية التفريسية، على رأسها سياسة الاستيطان تارة أخرى.
وبما أن الدولة البهلوية هذه، خاصة بالنظر إلى المفكرين القوميين الذين أتاحوا لها الأرضية النظرية اللازمة لتنفيذ سياساتها القومية، هي وريثة المفكرين القوميين الذين ظهروا إبان عهد انتفاضة الملكية الدستورية، فقد ظلت التوصيات التي أتى بها هؤلاء بضرورة العبث السكاني في منطقة الأحواز ماثلة أمامهم، يتحينون الفرص لتنفيذها. ولعل خير مثال لذلك هو اقتراح رفعه آقا خان كرماني إلى السلطة القاجارية لم ينل القبول في البداية، لكنه ما لبث سنوات حتى نال التنفيذ بيد الملك محمد رضا بهلوي: فقد كان قوام هذا الاقتراح يتقصد زرادشتي الهند من الفرس، سُمي بـ وثيقة شراء عربستان، يحثهم على الرجوع إلى إيران، ثم شراء الأراضي العربية الخصبة في الأحواز، ليستثمروا بها، مساهمة منهم في عمران الوطن، حسب وصفه. وفي التوازي مع ذلك تقوم الدولة الإيرانية بتخصيص العوائد المتحصلة من استثمارهم لبناء سد في الأحواز، وتدشين ميناء فيها يضارع ميناء بومباي وكراتشي في الهند. وبالرغم من تتبع أردشير جي، ممثل الهند الفرس لهذا الاقتراح، فقد رفضه ناصر الدين شاه القاجاري، ليعود محمد رضا بهلوي في الخمسينيات لتنفيذ بعض بنود هذا الاقتراح، بعد تتبع شاهبور جي نجل أردشير هذا، منحهم منطقة تسع 7960 كيلومترا أسست فيها شركة يملكها الهند الفرس(9).
ولعل دعوة أحد كبار المثقفين الفرس، محمود أفشار، توضح حجم الإجماع بينهم على سياسة دمج المختلف قوميا: “على من يأبه بالتاريخ الإيراني، وعلى الذين ينتمون إلى اللغة الفارسية وأدبياتها، وعلى من يحبون المذهب الشيعي، عليهم جميعا أن يعلموا أن تفكك وحدة هذه الدولة سيعني ضياع كل شيء. ولذلك على الكافة أن تهب هبة رجل واحد لبث اللغة الفارسية، بوصفها لغة وحيدة، في عموم الدولة، حتى تحل مكان كافة اللغات الأجنبية. ولا يمكن تنفيذ هذا الأمر إلا بعد تأسيس مدارس ابتدائية في كل مكان، ثم تدوين قانون في التعليم والتربية القسرية والمجانية، وتعبئة الأدوات اللازمة لكل ذلك”.
ولا يخفى أن ما كانت تعد مجرد دعوات في خاتمة العهد القاجاري وفي فاتحة العهد البهلوي، أصبحت في هذا العهد سياسة تُنفذ على أرض الواقع. وذلك أن غاية تحقيق دولة إيرانية أحادية القومية ما كانت لتمر من دون سياسة تسمح لها بإصهار القوميات المناهضة التي تتواجد في هذه الدولة المزعومة، على رأسها القومية العربية.
-
مقاصد الاستيطان الفارسي في الأحواز
ومما لا ريب فيه هو أن المنظر القومي الفارسي كان يتوخى من الاستيطان مقاصد جمة، أراد بها إتمام مشروع بناء الدولة الإيرانية على حساب القوميات المناهضة الأخرى، على رأسها القومية العربية في الأحواز. ومهما يكن من أمر فيمكن هنا حصر أهم مقاصد الاستيطان بالآتي: تعزيز السلطة المركزية، وصناعة الدولة الأمة، والانصهار الهووي للآخر المناهض.
- تعزيز السلطة المركزية: لقد كانت الدولة الإيرانية، في بداية العهد البهلوي، دولة من الطراز القديم، دولة لا تمارس السلطة على الخاضعين لسلطانها بوصفهم مواطنين أفرادا، بل بوصفهم جماعات خاضعين لها كليا بوازعِ تَفَوق قوتها العارية عليهم، وليس في نطاق تعاقد مجتمعي قانوني يرسم الحدود فيما بين الحاكم والمحكوم، جماعات أو أفرادا. إنه الحكم القديم الذي يمارس باسم الملك والسلطان، ويتجسد بالسلب والنهب والإخضاع المُقَيِد. ولذلك كانت الأطراف النائية الواقعة على الحدود الإيرانية، خاصة منها منطقة الأحواز، وبالمثل كذا مناطق نظير كوردستان ونحوها، تتمتع بنظام في الحكم نابع عن طبيعة تاريخها وصيرورتها المجتمعية، وهو نظام قبلي كان على رأسه أميرا يحكم، هو الآخر، لا على الأفراد بوصفهم خاضعين لحكمه، بل يحكم على باقي المشيخة، ويكتفي منهم بضمان الولاء وعدم التعرض لإمارته.
ولكن المنظر القومي الإيراني أراد إخضاع كافة هذه المناطق إلى حكم من نوع مغاير، يضارع الحكم والسلطة في أوروبا، يمارس على الأفراد والجماعات بشكل مباشر، ويدعي لنفسه الاستحواذ على الحق القانوني لاستخدام السلطة المتفوقة، التي تتطلب خضوع الكافة لها. ومن أجل هذه المهمة اعتلى المُلك رضا خان بهلوي، أول الملوك البهلويين، فانتدب نفسه لإخراج إيران من نمط الحكم القديم، وهو ذلك الحكم الذي رأينا فيه فسحة كبيرة من تمتع الآخرين بحيز خاص بهم: قوميا ومجتمعيا وحكومة، إلى نمط الحكم الحديث، بسلطة يتيمة، وقومية واحدة، ومجتمع موحد إلخ. ومن البدهي أن تقف الأحواز حجر عثرة أمام هذه الغاية. كيف لا وهي المنطقة العربية ذات الحكم العربي الذي يديره أمير على رأس مجموعة من الشيوخ، بلغتها العربية المعادية للفرس حسب تصور المنظر القومي، والمنطقة التي تختلف بشهادة الرحالة نجم الملك كل الاختلاف عن باقي المناطق الفارسية. فكيف السبيل إذا لتمرير الحكم المركزي الواحد على هذه المنطقة؟ إنه القوة الغاشمة من دون شك، لكن لا يمكن للقوة الغاشمة الاستمرار بالزمن، لأنها مكلفة تستجلب الرد بالمثل، فمن هنا جاءت الأساليب والسياسات الناعمة، الثقافية والمجتمعية والقانونية والرمزية إلخ، تقف على رأس الاستيطان وجلب المستوطنين الفرس من كل مكان.
- صناعة الدولة والأمة: وإذا كان هذا هو حال السلطة و نزوعها نحو المركزية في إيران، فإن النزوع القومي فيها كان أشد من ذلك وأمر. وهو أن رجالات الدولة في إيران، من الفرس عموما، لم يقبلوا بوجود قوميات متعددة في نطاق الدولة التي استولوا عليها بالقوة، وظلوا يلتمسون مختلف الأفكار والأطروحات الغربية وغيرها من أجل العثور على سند نظري يحدد لهم خطوات أذواء في إماتة هذا الاختلاف في جوف دولتهم. وكانت تصب كل تلك المساعي في غاية واحدة هي ضرورة التنصل من الاعتراف بالتعدد القومي، وانساب ذلك إلى انحراف قومي راح ضحيته العرب لأن مجاورتهم مع البلاد العربية غيرت لغتهم الفارسية الأصلية، وجعلتهم عربا باللغة حصرا. ومن هذا المنطلق جيشت الدولة، ورجالاتها الحراس عليها، جيشت التاريخ والأدب والتعليم والجيش بحد ذاته وكامل عُدة الدولة وعديدها من أجل استحالة العروبة أولا، ومن أجل إحلال الفارسية بدلا عنها ثانيا. وفي هذا السياق، سياق صناعة الدولة الأمة، أي الدولة المنبثقة من قومية وحيدة، هي في الحالة الإيرانية الفارسية، جاءت مشاريع الاستيطان تهدف أولا وأخيرا المسخ الهووي والقومي للعرب (10) . وعبثا حاول الإعلام الإيراني تبرير ذلك بتطور ديموغرافي طبيعي، أو أغراض اقتصادية تتعلق بمنطق الاقتصاد وتطوره الذاتي.
- الإنصهار والمسخ الهووي للآخر المناهض: وبعد تلك المساعي الرامية إلى فرض حكم مركزي وصناعة دولة أمة من أصل متنافر وقوميات مناهضة، جاءت أولى تبعات هذه السياسات الشوفينية على عرب الأحواز تريد النيل من هويتهم. وهنا أخذ المؤرخ الفارسي، بمساندة الدولة، والجهاز التعليمي الأحادي اللغة، ينسب عرب الأحواز تارة إلى القومية الخوزية المتفرعة عن الآرية، وإلى حضارات أخرى لا نعلم لها وجودا تاريخيا، تارة أخرى، من أجل التأكيد على خلو الأحواز من العرب حاضرا وماضيا. وقد كان قوام سياسة المسخ الهووي هذه، هي الأبعاد النفسية والثقافية. وهذان البعدان هما ما ألقت السلطة الإيرانية وظيفة تنفيذهما على عاتق المستوطن الذي جلبته إلى الأحواز، لأنها سياسات تمضي بصورة لا واعية وكأنها تسري في مجرى طبيعي.
فبموجب المسخ الهووي في جانبه السيكولوجي، يُصور المستوطن الذي جلبته الدولة إلى الأحواز على أنه الفرد صاحب العرق الآري المتفوق على العربي السامي الصحراوي، صاحب الحضارة المتدنية أمام الحضارة الفارسية، كما تم تصوير ذاك أعلى مدنية من هذا. وليس هذا فحسب بل تم تصوير المستوطن الفارسي على هيئة تفوق جمالا جسديا من العربي الأسمر صاحب الطول القصير والهندام الهزيل. تلك هي توصيفات أكثرت منها السلطة الإيرانية، بذكاء ملحوظ، توصيفات جاءت في إطار نبذ العرب من عروبتهم، لا تقوم بها السلطات بشكل مباشر، حتى لا ينفر منها العربي الأحوازي المستهدف، بل يروج لها ذلك المستوطن الذي يحتك بالعربي في المدارس والأحياء السكنية والدوائر الحكومية، ويضع نفسه موضع الصديق والمصاحب، ولكنه يقذف في نفوس العرب كل تلك المشاعر السلبية التي تريد النيل من كرامته وجعل يشعر بالدونية إذا هو قارن نفسه مع الفارسي المجاور له.
ومن هنا جاء التفريس، أو التبدل نحو الثقافة الفارسية، الثقافة بمعناها المشتمل على العادات والزي والتصرف والحديث باللغة إلخ، الخيار الأكثر عقلانية ووصولا لدى العربي الأحوازي من أجل الخلاص النفسي، والتحرر الثقافي، من نقص الانتساب إلى العرب، إلى أولئك الذين تصورهم الدولة، عبر المستوطنين هؤلاء الغزاة الناعمين، تصورهم أقل حضارة، وأقزام تاريخيا، وأبشع وجوه إلخ من الفرس. وقد لا يمكن إدراك خطورة هؤلاء المستوطنين الأبرياء الظاهر، إلا إذا انتبه إلى دورهم هذا الذي يؤدون في تنفيذ هذه السياسة القاضية بمسخ العروبة، عبر بث سيكولوجيا روح النقص في العرب من جهة، ومساندتهم للتفريس، تفريس العرب من جهة أخرى.
- الوظيفة الأمنية في القمع والكبت: وليس خطأ التصريح بأن أكبر الأدوار التي أدتها جموع المستوطنين في الأحواز وضد الشعب الأحوازي هو تلك المساهمة الكبيرة في وأد الثورات الأحوازية والمطالبات القومية لشعبها، إلى جانب القضاء الأمني عبر الاعتقال والكبت والإعدامات التي عصفت بالعرب. فمنذ تاريخ الاحتلال، وكما تبين سابقا، كانت القوات الأمنية والجيوش الوافدة تتغذى من هؤلاء، وكان المستوطن أشد فتكا بالمواطن الأحوازي لأنه كان يراه منافسا له في نهب الثروات واستغلال الخيرات. واستمر هذا الدور في القمع حتى بلغ ذروته في الأربعاء السوداء في المحمرة، إبان ثورة العام 1979 إذ تولى أمر القضاء على هذه الانتفاضة جموع المستوطنين، من أمثال جهان آرا وغيره، ونفذوا إعدامات ميدانية بحق المتظاهرين السلميين الأحوازيين، وقضوا على الأنتفاضة قضاء مبرما. وعندما انتفض الشعب الأحوازي في العام 2005 قامت القوات الأمنية من الحرس والشرطة، وهم يتكونون من اللر أكبر المستوطنين عددا في الأحواز للتقارب الجغرافي، بشن حملة قمع قاهرة قتل فيها العشرات ممن ألقي في نهر كارون حتى مات غرقا، وممن مات تحت التعذيب، وممن لم يعرف مصيره إلى اليوم. وبعد النجاح في وأد هذه الانتفاضة العارمة قاد المستوطنون من الجهاز الأمني حملة اعتقالات واسعة ضد الشريحة المتعلمة والمثقفة الأحوازية، سعيا منهم لقتل الوعي القومي الذي كانت تبثه هذه الفئات بين الشعب، وعمدوا على قتل كل صوت مثقف في الأحواز على كافة الأصعدة كما تبين في فقرة التأثير الثقافي للمستوطنين على الأحواز.
الاستنتاج
لقد تبين عما تقدم بأن المسؤولية القانونية الشاملة للمستوطنين في الأحواز ليست مجرد دعوات عنصرية تبعث على الكراهية ونفي التعايش السلمي كما يتصوره البعض، خاصة من الأحوازيين «المتنورين»، و دعاة التعددية والفدراليات الموهومة. بل لتلك المسؤولية مظاهر اقتصادية لا يمكن نكرانها، ولا يمكن تشويه التاريخ من أجل التستر عليها أو غض الطرف عنها. فالعقود الطويلة من الفقر والحرمان الذي اكتوى به الشعب الأحوازي ما كان ليكون لو لا ذلك التصرف العنصري من جانب المستوطنين ولو لا نهبهم ثروات الأحواز وتمتعهم بالثروات الهائلة المستخرجة من قلب الوطن السليب بتلك الكيفية.
لقد حول المستوطن عملية النهب الممنهجة على مدى عقود والثروات المتراكمة على يديه إلى ضرب الثقافة الأحوازية العربية بدل ترك الشعب وشأنه شأن ثقافته، على أقل التقدير، وأخذ يزرع ثقافة في نفوس الشعب عبر ما توفرت لديه من إمكانيات اقتصادية هائلة قوامها الازدراء والحط من قيمة المواطن العربي على موطنه وفي أرضه.
حتى بنى بفعل كل ذلك مجتمعا استيطانيا فيها سادة من الفرس المستوطنين و«عبيد» من العرب المحتلين، وجعل أحيائهم على هامش المدن، لا يوظف منهم إلا مجموعة عمال وموظفين هامشيين يقلل بهم من احتمالية انفجار الوضع ويمني مجموعات أخرى لحصولهم على فرص يوفرون بها مقدار سد الجوع.
وكل ذلك بطبيعة الحال هو نتاج عقود من سياسة دولة الاحتلال التي أخذت أرض الأحواز غنيمة حرب فأنزلت بشعبها المنتفض الموتور صنوف السياسات التي طابت لها، وجعلت الشعب مجرد مواد في مخبر سياستها القائمة على أساس الازدراء والاستيطان والنهب والقتل، الذي قام به المستوطن مع سبق الإصرار والترصد.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار
المراجع:
- العربي إسماعيل، السياسة الاستعمارية الفرنسية في البلاد التونسية، ألفا للوثائق، 2023.
- أنظر فقرة السياسة في هذه الدراسة.
- عبدالنبي القيم، تاريخ عرب الأحواز ونقد كتاب أحمد كسروي، دار مدارك للنشر، بيروت 2012 .
- مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
- ميرزا فتحعلي آخوند زاده، مكتوبات كمال الدولة، ص؟
- سه مكتوب، ميرزا آقاخان كرماني، د.ت، ص 21.
- يرواند آبراهاميان، مقالاتي در جامعه شناسي سياسي ايران، ترجمه سهيلا ترابي فارساني، تهران 1390، ص13.
- حاج عبد الغفار نجم الملك، سفرنامه نجم الملك، د.ت، ص108.
- حسين فردوست، ظهور و سقوط سلطنت بهلوي، انتشارات اطلاعات، تهران 1397، جلد دوم، ص 173.
- داريوش قنبري، دولت مدرن ويكبارجكي ملي در ايران، نشر تمدن، تهران 1385.