الخميس, ديسمبر 19, 2024
دراساتالمرأة الأحوازية والتحولات الاقتصادية

المرأة الأحوازية والتحولات الاقتصادية

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المقدمة

 

 

جرت العادة في الدراسات القليلة التي تتناول شأن المرأة في الأحواز على تناول هذه القضية من زاوية نظر مجتمعية ونسوية بالدرجة الأولى، بيد أن الورقة هذه تحاول دراسة هذه القضية من زاوية نظر اقتصادية، لأن الدور الاقتصادي في المجتمع الأحوازي خاصة في العقود الخمسة الأخيرة كان دورا جلب معه تبعات اجتماعية كبيرة. 

 

 

وذلك أن العقود الخمسة رأت تحولا اقتصاديا في دولة الاحتلال الإيرانية بفضل المصادر الأحوازية من النفط والغاز غيّر من طبيعة الطبقات الاجتماعية في هذه الدولة، وأثر ذلك على الحياة الأحوازية بطبيعة الحال. فبعد البرامج التحديثية التي نفذها الحكم الملكي عن طريق كثرة هذه الموارد نشأت طبقات مجتمعية جديدة، وتحول الاقتصاد الإيراني من اقتصاد قديم إلى اقتصاد شبه حديث فيه برامج تحديثية كبيرة. 

 

 

ولكن على عكس الفترة البهلوية التي كان الأحواز فيها بعيدا عن التأثير المذكور من هذه البرامج، كانت فترة الجمهورية الإسلامية اقتصاديا شديدة التأثير على الشعب الأحوازي، نتيجة اقتراب الدولة من الحياة الحديثة، وكذلك نتيجة زيادة التعداد السكاني الأحوازي وما تبع ذلك من التقدم في الدراسة ونشوء فئات أحوازية عاشت العالم الحديث ورأت معالم الحداثة، سواء عن طريق الفرس أو عن طريق المواضع الأصلية للحداثة وهي الغرب. 

 

 

وتحاول هذه الدراسة التطرق إلى هذه التطورات من وجهة نظر اقتصادية وتأثير ذلك على المرأة الأحوازية وتغلب أحوالها مجتمعيا في خضم تلك التطورات.  

 

 

اقتصاد الاحتلال والتفقير

 

 

لقد كان الاقتصاد الإيراني في الفترة البهلوية الثانية، منظورا له بعيون أحوازية، اقتصادا انعكس على الشعب الأحوازي برمته بالتفقير والازدراء والانكماش عن الساحة المجتمعية. فقد كان الأحوازي في هذا الاقتصاد متقوقعا في قُراه يعيش في عالم قديم تتحصل معظم العوائد والدخل من الزراعة والفلاحة والرعي وجميع مصادر الرزق في العالم القديم. فلم تكن هناك مهن ولا صناعة تذكر ولا طبقة عمالية نشأت ولا مجتمع حديث تكون. وعلى الرغم من جميع البرامج التي دونها النظام الإيراني الملكي عبر مختلف الخطط التنموية لم تؤثر على حال هذا الشعب تأثيرا يمكن عده تغييرا مجتمعيا، بل يمكن القول بقوة بأن الشعب الأحوازي لم يكن معنيا في تلك البرامج كلها. 

 

 

ونتيجة لذلك ظلت الفئات الأحوازية على بناها القديمة وهياكلها المتوارثة، غير معنية بدولة الاحتلال والتغييرات العظمى التي تجري فيها. وكان أبرز السمات على البنيات الأحوازية القديمة هي تقوقع المرأة في إطار الأسرة الواحدة وعدم دخولها للساحة المجتمعية العامة وحشرها في الزاوية، أي جعلها على هامش الساحة العامة إذا صح القول، وزيادة العنف الأسري وانحسار دور المرأة في الإنجاب، والحياة في مجتمع أبوي.   

 

 

  • تقوقع المرأة الأحوازية في الهامش

 

في ظل غياب دراسات سابقة حول دور المرأة في المجتمع الأحوازي القديم، المجتمع القائم على الاقتصاد الزراعي يصعب الخروج بأية نتيجة قطعية، بل تظل التحاليل مجرد فرضيات قابلة للنقض بسرعة. وكل ما يمكن القول هنا هو أن التصريح بأن دور المرأة الأحوازية في المجتمع القديم دورا هامشيا، ينبع عن دورها الاقتصادي والزراعي بالدرجة الأولى. وذلك أن التاريخ الأحوازي، في القرن الأخير على الأقل وفق ما وصل عبر الأخبار الشفهية، يشهد هذا التاريخ على غياب دور زراعي لها على عدة مستويات: هي التمليك، والميراث، والزراعة. وغياب هذا الدور يعني بصورة واضحة الوقوع على الهامش حتما، لأن الزراعة هي المصدر الوحيد للدخل مما يعني غيابه الانعدام من التأثير والاستقلال الفردي للفاقدين

 

 

فعلى مستوى التمليك لم يكن العرف التمليكي في الأحواز يسمح باختصاص الأرض الزراعية وغيرها للمرأة، بل كانت المرأة تعيش على أراضي الرجال، الأب والأخ والزوج إلخ، وهي لا تمتلك من هذا المورد شيئا ولا يحق لها حيازته، ما دامت طبيعيا تنتمي إلى جنس بشري غير ذكوري. 

 

 

كما أن قانون الميراث في الأحواز، وهذه ملاحظة جد خطيرة وغير مطروقة، كان يمانع التشريع الإسلامي بشكل صريح وواضح، حيث لم تكن أرض الأب تنقسم على جميع أبنائه الإناث والذكور وفق الآية القرآنية المحكمة، والمعروفة، بل كان يرث الأرض أبناء الأب الذكور حصرا. ولهذا دلالة صريحة على ذلك الانعدام في الملكية المشار إليه في الفقرة السابقة. كما أن عدم تنفيذ هذا التشريع السماوي يدل على مستوى تجذر النظرة تجاه المرأة في المجتمع الأحوازي، حيث لم ينل من هذا التجذر التشريع المذكور ذاته. 

 

 

ومن أجل ذلك لم تكن المرأة تدخل في النشاط الاقتصادي المهيمن، وهو الزراعة، دخولا مستقلا بل إن استثناءات نشاطها في الحقول إنما كان يأتي لمساعدة الرجال في حالات نادرة، مما أعدمها الاستقلال، وجعلها عالة على صاحب الأرض الرجل، ومحتاجة له في قوت يومها وقوت أطفالها.  

 

 

ومن أجل ذلك لم تكن المرأة حتى على مستوى الادخار تمتلك شيئا، ولم يكن في إمكانها العيش لوحدها أبدا دون رجال يحيطون بها، وهكذا ظلت هي على طول التاريخ من الدرجة الثانية بشريا وعالة على من يتكفل بها. 

 

 

  • تبعات الهامش

 

ولقد تسبب هذا التقوقع للمرأة الأحوازية على الهامش، بالمعنى المشروح سابقا، بتبعات على الحياة المجتمعية لها والمكانة المجتمعية التي تختص بها، حيث ظلت مكانتها تهبط إلى مستويات سفلى ليس لها في التراتب الاجتماعي المشار إليه في بعض الدراسات محلا للإعراب. 

 

 

فإذا أُعتبرت هنا دراسة الدكتور عبدالله الميساني الذي يصف التراتب المجتمعي الأحوازي في عصورها القديمة التي استمرت لغاية الآن -رغم تزلزلها الذي ستتم الإشارة إليه في الفقرة الآتية- وهو الشيخ والسيد والفلاح والحرفي، فإن المرأة تحتل السلم الأسفل من هذا التراتب، وهي تهبط وتتغيب فيه أصلا نظرا لغيابها عن الساحة العامة؛ تغيبا هبط بها إلى ضمن الممتلكات التي يتم تبادلها أو التعامل بها. 

 

 

ويمكن بسهولة عزو ذلك الهبوط إلى الأسفل إلى ذلك الدور الاقتصادي المفقود، الذي يجعلها لا تملك من أمرها شيئا، تتقوقع على هامش المجتمع القديم المتمخض عن النمط الاقتصادي القديم، الذي يمكن خلاصته أنه نمط ينتج من أجل الاستهلاك. ومن هنا جاء ذلك السلوك المجتمعي والثقافي وتجلى عن هذا النمط الإنتاجي. 

 

 

   

فإذا كان العنف الأسري ضد المرأة ثابت في التاريخ الأحوازي، وعبر ما تتناقله الجدات لأبنائها، فلقد أتاحت الوضعية الاقتصادية ذلك ومكنته من الاستمرار إلى قرون مديدة. لقد تعامل الأحوازي مع المرأة بعنف وإركاع في الأسرة، ولم تكن المرأة قد بلغت مستوى التشخص للرجال، بل ظلت بضاعة عزيزة يجب صيانتها وإبعادها عنهم، ليس إبعادا عن الساحة المجتمعية فحسب بل إبعادها عن الأنظار أيضا. ومن هنا تأتي قيمة الشرف ليس لكونها قيمة تتعلق بمكانة المرأة المقدسة، بل بوصفها ممتلكا يجب صيانة جميع مظاهره عن أنظار باقي الرجال.  

 

 

وهناك عاملا آخرا كان يعزز هذا التقوقع ويجعله مستمرا ويمكّنه من المضي في الزمان بشكل كبير، وهو عامل مستوى الإنجاب، حيث كانت الأسرة الأحوازية القديمة كثيرة الإنجاب، مما جعل المهمة الأولى للمرأة الأم رعاية الأبناء فضلا عن انعدام إمكانية الحركة المؤثرة نتيجة الحمل. ولعل مهمة رعاية الأبناء هذه كانت مزدوجة للمرأة دون غيرها، إذ لو أنجبت هي بنتا فحينها تتوزع تلقائيا، وفق النمط القديم من الحياة، تتوزع وظيفة رعاية الأبناء الذكور على الأم وبنتها الأكبر سنا من الذكور. وهذا هو غالب حال معظم الذكور في الأحواز الذين يتذكرون جيدا كيف كانت الأخت الأكبر سنا تقوم بوظيفة الأم في الرعاية وتساعدها على رعاية الذكور من الإخوة.

 

 

ولم يكن كثرة الإنجاب راجعا إلى شدة الغريزة الجنسية في الإنسان القديم وانعدام إمكانيات منع الإنجاب فحسب، بل إنه كان يتغذى من ظروف معيشية سائدة في الأوضاع القديمة، حيث كان ينظر إليه بوصفه أداة لزيادة عدد الرجال العاملين على الحقول والمقاتلين المدافعين عن مصادر الرزق من جهة، ولكونه علامة على منعه الرجل بكثرة عدد أسرته من جهة أخرى. وفي كل ذلك كانت المرأة المنجبة هي الأداة الأولى للوصول لذلك، حتى أصبحت كثيرة الإنجاب للذكور ذات قيمة رمزية متمثلة في مكانتها بين أهل زوجها وعشيرتها، مقابل المرأة كثيرة الإنجاب للإناث كنذير شؤم وأمارة الجدب والفقر.   

 

 

  • تعزيز الروح الأبوية

 

ونتيجة لذلك، لتقوقع المرأة هذا المكان ولفقدانها الحقوق المماثلة للرجال، كان المجتمع الأحوازي مجتمعا أبويا ذكوريا، ولا زالت بعض مظاهر الثقافة الذكورية تحيى بين أوساط مختلف الفئات الأحوازية لغاية اليوم. 

 

 

ونظرا للتاريخ الأحوازي ومجتمعه يمكن اعتبار الأبوية ثقافة تتدرج من أولى مراتب الحياة البشرية إلى أعلاها، بدأ من المكانة الاقتصادية للمرأة في العيش وتحصيل الدخل، مرورا بالمكانة المجتمعية، وصولا لطرق السلوك الثقافية. فمن حيب التجلي الاقتصادي قد تمت الإشارة إلى ما كانت عليه المرأة من فقدانها الأرض التي هي حصرا للرجل، وبالتالي تحولها إلى عالة عليه محتاجة إليه لتأمين قوت اليوم، وهذا ما تمت الإشارة إليه بالقدر الضروري هنا. 

 

 

أما من حيث المجتمع فإن الثقافة الأبوية إضافة إلى جعل الأحوازية في أدنى الفئات المجتمعية، وتحت رعاية الرجل  وأوامره دوما، فإنها أعدمت الساحة العامة من القوى النسوية، وجعلت جميع مظاهر المجتمع هي مظاهر رجولية ومن إنتاج رجولي وتكوين رجولي الطابع.

 

 

أما من حيث الثقافة وهي محل النقاش في هذه الفقرة، فإن الثقافة الأبوية عملت كغطاء على التهميش الذي يطال المرأة، وجعلت ممانعتها من لعب دور مستقل كأنه أمر طبيعي وليس صنعا بشريا. ومن هنا يأتي الاستمرار التاريخي لهذا التهميش، وتجليه عبر مختلف السلوك في المجتمع الأبوي. ولتقريب هذه السلوكيات يمكن التطرق إلى جزئيات مبتذلة في الحياة الفردية، لكنها عظيمة الدلالة على تسري هذه الثقافة ومدى تأثيرها على أصغر التعاملات في الأسرة الأحوازية واختلاف ذلك بين الرجل والمرأة: فعلى سبيل المثال إذا كانت الزوجة في بيت معين من المجتمع الأحوازي القديم تمتلك أبسط الممتلكات فإنها عرضة لتطاول الزوج، وإنْ كانت ممتلكات يسيرة هي عبارة عن قطع ذهب ليست ذات قيمة. وفي مثل هذه الحالة يقدم الرجل على بيعها كلما اشتد به الحال، في رضا تام من المرأة، لأنهما تربيا على أساس ذلك الدور الاقتصادي الذي يكون فيه الرجل هو المالك، والمرأة فاقدة الملكية وإنْ على قدر قطع من الذهب لا تساوي شيئا أمام قطعة الأرض مثلا التي يمتلكها الذكر. 

 

 

ليس هذا فحسب بل إن هذا التطاول يستمر ليتحول إلى حالة غير إنسانية تتحول بها المرأة نفسها إلى سلعة للتبادل والتعاطي، وهذا ما حصل في المجتمع أيضا على الأشكال المختلفة مثل: الفصلية، وقتل الشرف، وعدم الاعتراف للمرأة في الاختيار: سواء اختيار الزوج أو الملبوس أو الدراسة. فبموجب الفصلية تكون المرأة الأحوازية غرامة لحل نزاع نشب بين رجال القبيلة، ويقوم الجاني بمنح بنته أو أخته أو أية قريبة له إلى المجني عليه كي يضع حدا لذلك النزاع، ويعامل المتلقي هذه الغرامة المرأة يعاملها بأقبح صور التعامل، ولا يمنحها حقوق النساء الأخريات التي قد تكون في ذمته، ولذلك تظل هذه الزوجة الفصلية إلى مدى العمر عرضة لشتى أنواع الإساءة والتصرف الغير الكريم. كما أن المرأة أساسا ليس لها الحق في اختيار الزوج وإنما يتم ذلك من خلال رأي الأسرة، الأب والأخ الأكبر عادة، وتذهب إلى رجل لم تكن تعرفه هي؛ وإذا حدث لها أن تعرفت على أحد رغبت في الزواج منه وأقامت علاقة من بعيد به، فحينها يكون العار قد لحق برجال عشيرتها كلهم، مما يستوجب القضاء عليها قتلا لإزاحة العار عن ذويها. وهكذا يستمر انعدام الاختيار ليشمل منعها من ارتداء ما تحبذه، ومنعها من الدراسة أيضا بدوافع الخوف من الاختلاط مع الرجال وجلب عار محدق دوما بها.    

 

  

  

لقد تغذت الثقافة الذكورية وتحركت جنبا إلى جنب ذلك الدور الاقتصادي المنعدم للمرأة وإلى جنب تلك الظروف المعيشية التي جعلت منها عالة على الرجل لا تستطيع بناء ذاتها بالاستقلال عنه، لأن البنى المجتمعية القائمة على الاقتصاد الزراعي ما كانت تسمح للمرأة لبناء كيان يمنحها ذلك التفرد المطلوب الذي تعززه الظروف الاقتصادية المجتمعية. ونتيجة ذلك الأساس الاقتصادي أصبحت تتوقع في المجتمع الأحوازي على الهامش، وفي المراتب السفلى من الفئات المجتمعية. وما ساعد الاستمرار في هذه الحالة من التقوقع هو تلك الثقافة الأبوية التي منحت لهذا الطرد ليس أبعادا جديدة فحسب، بل منحته إمكانية الاستمرار، وجعلت هذه المكانة طبيعية لا ينظر لها على أنها من علامات التخلف أو الظلم، ثقافة حجبت عنها الاختيار وحولتها إلى سلعة تباع وتشترى.   

 

 

الاقتصاد المتأزم 

 

 

إنه إذا كان هذا هو الحال في الاقتصاد الأحوازي المتفرع عن اقتصاد دولة الاحتلال الإيرانية ومتأثرا عنها إلى حدود كبيرة، في العهد البهلوي الثاني، فإن دخول الجمهورية الإسلامية غيّر من المجتمع الأحوازي كثيرا، وتحول الاقتصاد برمته إلى أحوال مغايرة تماما عن السابق في الأحواز، حيث يمكن الحديث بصرامة عن دخول الأحواز إلى الاقتصاد الصناعي والاقتصاد القريب من عهد الرأسمالية

 

 

وفي هذا العهد تم القضاء على الاقتصاد الزراعي الأحوازي بشكل كبير، وتوسعت المدن بفعل التحديث المدعوم بالأموال النفطية، وشهدت الأحواز ميلاد طبقات حديثة، وتكونت فيها طبقة وسطى ناشئة، وتزعزعت بشكل كبير مكانة المرأة المتدنية قديما، وأخذت الأحوازية تنال بعض حقوقها في التعليم والدراسة والكسب والعمل واحترام مكانتها بوصفها إنسانا كما الرجل.

 

 

ولا يرجع ذلك إلى فضل الدولة الإيرانية قط، لأن ذلك كان تطورا طبيعيا جرى في جميع الدول المجاورة، وحدث فيها هذا الانتقال حتى صنع هذا الأمر مفهوم بلدان العالم الثالث أو الدول النامية، يقصدون به تلك الدول التي تمر بدور الانتقال من القديم إلى الجديد. وتستطيع هذه الدراسة الدعوة بأنه لو قدر للأحواز أن تمضي في طريقها دولة عربية لكان مصير التحديث فيها، بفضل خيراتها الوافرة، يشابه التحديث الجاري في الدول الخليجية. 

 

 

ولكن رغم شذوذ تلك العملية بيد أنها غيرت على كل حال الوضع الاقتصادي وخلقت وضعا مجتمعيا جديدا كان يتمثل في ميلاد طبقة عمالية وطبقة وسطى وطبقة برجوازية صغيرة لها يعود التبدل العام في الأحواز، خاصة وضع المرأة، لأن البرجوازية الصغيرة الأحوازية تشتمل على أكبر عدد سكاني في الأحواز. وفيما يتعلق بشأن المرأة الأحوازية يمكن تحديدها في دخول المرأة إلى الساحة العامة والعمل المعيشي الاقتصادي، وتذويب الثقافة الأبوية والتخفيف من شدتها، ومكافحة رسوبات المجتمع القديم من قبل الطبقة الوسطى الناشئة. 

 

 

  • إرهاصات دخول المرأة لميدان العمل

 

واجه الاقتصاد الإيراني منذ ثورة العام 1979 عقوبات من قبل الدول المتقدمة، وحمل النظام الثوري منذ ميلاده اقتصادا مرتبكا كانت انعكاساته على الأحواز مضاعفة سياسة التفقير التي كان النظام البهلوي ينفذها على الشعب الأحوازي من قبل. والمقصود بـ سياسة التفقير هو ذلك التعامل الاحتلالي الذي اتبعه النظام الإيراني المحتل منذ احتلاله الأحواز حيث نهب ثرواتها ومانع إيصالها إلى أهلها، لخلق حالة من الفقر تجعل هذا الشعب متخلفا جائعا لا يميل نحو المطالبات القومية منهمكا باحتياجاته اليومية. ولأن السياسة هذه كانت هي الأصل فقد كان وقوع الدولة في عقوبات يعني مضاعفة هذا التشدد على الأحوازيين، وجعلهم بين مطرقة التفقير وسندان العقوبات التي تطال النظام الذي أفقرهم. 

 

 

ونظرا لارتفاع العدد السكاني الأحوازي، وسرعة توسيع المدن، ونظرا للحرب التي جعلت أهل القرى في الأحواز يهاجرون إلى المدن الأحوازية، فإن ذلك التفقير سرعان ما تحول إلى حافز للأحوازيين يصنعون به اقتصادا مستقلا عن دولة الاحتلال كان هو اقتصاد السوق، واقتصاد البرجوازية الصغيرة. ومن هنا نشأت فئات متعلمة نسبيا جعلت من التمييز الذي يغلق الأبواب أمام توظيفها في الدولة جسرا للعثور على مصادر للرزق مختلفة، كانت في الأحواز هي الأسواق والهجرة إلى الدول الخليجية (وهي ظاهرة سيتم تخصيص دراسة لها في الأمد الغريب لا يتم تناولها هنا).  

 

 

ومن صفات هذا التوجه هو دخول المرأة إلى الساحة العامة، وتمتعها بدراسة أخرجتها من الأمية، وخلقت لها تشخصا أوليا يعترف لها ببعض الحقوق في المجتمع الأحوازي وبين الرجال خصوصا. ولكن هذا التوجه البدائي الناشيء سرعان ما اصطدم بالثورة الأصولية الإسلامية، وجعل المرأة الأحوازية تتقوقع مرة أخرى في قيد النظرة التقليدية، إذ كان المجتمع الأحوازي القديم، والثورة المنتمية إلى عالم تقليدي قديم محل التقاء طرفين متناقضين.

 

 

ورغما عن ذلك كان مرور الزمان ووقوع أزمات اقتصادية عاصفة بالنظام، خاصة في العقد الأخير وضع المجتمع التقليدي الأحوازي أمام واقع اضطره إلى النظر إلى المرأة باعتبارها فاعلا اقتصاديا يمكن أن يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية تلك التي عادت تفقيرا على الأسرة الأحوازية، خاصة وأنها أزمة مضاعفة كما قيل، مضاعفة بفعل التمييز الذي لم ينقطع ضد الأحوازيين من قبل النظام. ثم كان لهذه الأزمة أن طالت الساحة الأحوازية الاقتصادية البعيدة عن تطاول الدولة، أي السوق، أيضا وذلك عزز من شدة تلك الأزمة المفضية إلى الضغط على ترك حيز لنشاط المرأة.

 

 

ومع اشتداد هذه الأزمة خرجت بشكل ملحوظ المرأة الأحوازية إلى النشاط في المجتمع وأصبحت تدير أعمالا اقتصادية بدائية وصغيرة، جعلها تعيل بعض الأسر أيضا. وهذا هو المقصود هنا من علاقة الأزمة الاقتصادية بتحسين ظروف المرأة من حيث الخروج إلى الساحة العامة حصرا، دون أن يعني ذلك إدارتها لمشاريع اقتصادية مربحة أو كبيرة، لأن اقتصاد المرأة ظل يسيرا متأرجحا لا يدر بمكاسب تتحصل بها لتأمين الحياة. 

 

 

  • تذويب الثقافة الأبوية بحضور المرأة في الساحة العامة

 

وما كان لهذا الباعث الاقتصادي بالدرجة الأولى أن يكون لو لا نيله بالآن نفسه من رسوبات الثقافة الأبوية المذكورة سابقا. وذلك أن السماح بنشاط المرأة الاقتصادي، أو الاضطرار للقبول بذلك من قبل المجتمع الأحوازي، كان يعني تماما تذويب الثقافة الأبوية، والاعتراف بالآن ذاته بدور المرأة الإنساني، وخطورة شأنها المجتمعي، والاعتراف بها بأنها والرجل من رتبة واحدة. إن حضور المرأة في الساحة العامة والخروج من تقوقعها الخاص بالمجتمع الأبوي القديم جاء مصاحبا تماما لنشوء فئات مجتمعية حديثة، لها رؤيتها المغايرة مع العالم القديم، مكن المرأة من أن تلعب دورا جديدا في مجتمع باتت ظروفه تلح على الاستجابة لمزيد دور لها. 

 

 

ومنذ هذا الدخول، توسع دور المرأة الأحوازية في باقي النشاط المجتمعي، وضمن الطبقة الوسطى الناشئة، حتى باتت معلمة وطبيبة ومهندسة إلخ، وبات الزواج يتم بطرق حديثة للمرأة الكلمة الفصل فيه. ولعل لذلك الحضور المجتمعي سمات أخرى تتعلق هذه المرة بالمقارنة فيما بين المرأة العربية والرجل العربي معا، مقارنتها بالمرأة الفارسية والرجل الفارسي، وهذا العامل المساعد خفف من وطأة الأبوية الأحوازية، نظرا لتقدم المرأة الفارسية على العربية في الأحواز من حيث التواجد المجتمعي والنشاط الحضاري عموما. 

 

 

ويمكن رصد هذا التواجد على عدة ساحات منها حجم النساء المتعلمات في الأحواز على المستوى الجامعي، وحصتهن من التوظيف، وكذلك حجم الوثائق الملكية المسجلة بأسمائهن، وعدد الأطفال الذي ينجبن، وعدد الطلاق المقدم من جانبهن، وحجم السفر إلى خارج البلاد، وحجم المنشورات والكتب المطبوعة الصادرة عنهن إلخ، مما له دلالات إحصائية على دورهن التقريبي في المجتمع، مقارنة بالرجال العرب من جهة، وبالنساء الفارسيات من جهة أخرى. 

 

 

ويتبين من ذلك أن الدور المتصاعد للمرأة لم يكن نتيجة تواجدها فقط، بل هو تواجد له دلالة واضحة على ميلاد ممهدات في المجتمع الأحوازي قبلت بدور المرأة ليس على الصعيد الاقتصادي الذي كان اضطرارا، بل على الصعيد المجتمعي والثقافي أيضا. فعلى الصعيد الاجتماعي لا يمكن جعل الإناث المولودات في طبقة العمال حتى، فضلا عن طبقة التجار والموظفين والطبقة الوسطى عموما كما في السابق في منزلة أقل من الذكور، وحصرهن بأمور حددها النظام القديم الأبوي، بل الأرضية المجتمعية المساعدة هذه خلقت ثقافة قوامها القبول بدور المرأة و الاعتراف بذلك التهميش الذي كان يطالها ويهبط بها إلى منزلة البضاعة والسلع. ومن أجل ذلك بالتحديد يمكن القول الآن عن الأحواز أنها اجتازت إلى غير رجعة ظاهرة الفصلية، وانخفض القتل على الشرف إلى حدود كبيرة مقارنة بسابقه، إضافة إلى تحول الدراسة إلى ميزة في المرأة على عكس اعتبارها السابق منقصة لها.      

 

 

  • بقايا الإرث والدين وحق المرأة النصف في المجتمع

 

ولكن كل ذلك التصريح بتحسين دور المرأة في المجتمع الأحوازي ما زال يواجه مصاعب كثيرة وكبيرة. مصاعب ثنائية يأتي قسم منها من النظام التقليدي الأحوازي من جهة، ومن النظام الايراني المحتل من جهة أخرى. فهذا النظام الأصولي كما معروف نظام إسلاموي يناهض المرأة ويعاديها من منطلق جنسي معقد، ينزل بالمرأة إلى حدود الجنس ويناهض تماما دورها في المجتمع، سواء عبر فرض الحجاب عليها أو منعها من التوظيف إلا في حالات نادرة أو عبر مختلف المضايقات التي تعاني منها المرأة في النظام الإسلاموي. 

 

 

وإضافة إلى ذلك فإن المجتمع الأحوازي ظل يحافظ على الكثير من رسوبات المجتمع التقليدي، وظلت شرائح واسعة منه ما زالت تنظر للمرأة النظرة القديمة، خاصة في القرى والمدن الصغيرة، وما زالت المرأة دون الرجل وعورة يجب التستر عليها وفق أدبياتهم المنتشرة في المجتمع. 

 

 

ولعل ذروة هذه الترسبات وتأثيراتها ثبتت في الثورة الأخيرة التي حدثت في إيران، خاصة بين الشعب الكوردي وباقي الشعوب، وتخلفت عنها الأحواز بشكل تام، حيث لم يشارك العرب فيها، وإنْ بدوافع مختلفة، لكن يمكن القول بصراحة إنْ مكانة المرأة كان من دوافعها حيث على الرغم من كل ذلك التحسن المذكور لم يبلغ دور المرأة الأحوازية ذلك الدور الذي يسمح لها بتسيير مظاهرة أو خلق حالة عامة، فضلا عن قيادة ثورة كما حدث في الشعب الكوردي في ثورة جينا. 

 

 

أما على المستوى التشريعي فإن قانون الميراث ظل على حاله في التفريق بين ميراث المرأة والرجل، وظلت الحالة الأحوازية التقليدية هي الأخرى غير معترفة بتوريث المرأة كما يرث الرجل. وذلك أن توزيع الإرث في الأحوازي هو توريث يتخلف على التوريث الإسلامي القاضي بحق الرجل مثل حظ الأنثيين، حيث أن المجتمع الذكور الأحوازي لا يمنح للمرأة، خاصة المتزوجة شيئا من ميراث الأب، والزوجة لا ترث عن الزوج إلا ما هو دون حظ الأبناء. وهذا مرة أخرى محل تلاقي النظام الإيراني مع الحالة الأحوازية إذ الكثير من القروض وفرص العمل في إيران لا تمنح إلا للرجال ما عزز من إضعاف مكانة المرأة الأحوازية من جهته. 

 

 

الاستنتاج

 

 

لقد رصدت هذه الدراسة المختصرة قضية جديدة هي الدور الاقتصادي في تعزيز مكانة المرأة الأحوازية بين نظام الاحتلال الإيراني وسياساته الاقتصادية تجاه الأحواز، وبين تطور المجتمع الأحوازي اقتصاديا. ولما كان الاقتصاد في تحول مستمر فإن ذلك لزم معه تغييرا في المجتمع وفي الثقافة وذلك يعني تغيير طال الوجود الأحوازي بكامل تمظهراته. 

 

 

وفي القسم الأول تبين أن الاقتصاد الأحوازي ظل على سابق عهده القديم لم يطاله التغيير، على الرغم من السياسات التحديثية البهلوية، وذلك لأن نظام الاحتلال البهلوي تعمد أن يبعد  الشعب الاحوازي عن ركب التحديث، عبر مصادرة جميع ثرواته، والإصرار بالوقت نفسه على تفقيره والحفاظ على بنياته القديمة. تلك البنيات التي حتمت على المرأة أن تكون في مجتمع قديم تهبط منزلة البضائع والسلع. ومن أبرز صفات المجتمع الأحوازي القديم بالنسبة للمرأة كان تقوقعها في هامش المجتمع والقضايا الاقتصادية سواء على مستوى العرف التمليكي أو قانون الميراث الذي جعلها لا تمتلك ممتلكات اقتصادية تذكر، خاصة الملكية ذات القيمة الوحيدة وهي الأرض وكانت تتناقل عبر الرجال حصرا. ولذلك الأمر كانت تبعات مجتمعية كبيرة على المرأة الأحوازية منها فقدان المنزلة الاجتماعية وفق التراتبية المجتمعية في ذلك الوقت، ومنها كذلك العنف الأسري الذي طالها طيلة التاريخ. 

 

 

ولكن مع دخول الأحواز إلى العقد الستين والسبعين ثم فترة الجمهورية الإسلامية تحول هذا الوضع كليا، وأصبحت الأحواز مقبلة على العالم الحديث، عبر تكوينها طبقات تغاير الطبقات القديمة. وذلك هو الدخول الذي غير الكثير في وضع المرأة في المجتمع. ونظرا لاستمرار سياسة التمييز ضد الشعب الأحوازي فإن الأمر الحاسم الذي أسرع وتيرة التغيير فيه هو وقوع النظام الإسلامي لدولة الاحتلال الإيراني في أزمة اقتصادية جعلت التحكم بطور الانتقال خارجة عن سيطرته، وهذا ما حدى في بداية الأمر بدخول المرأة للحيز العام تحت وطأة الأزمة الاقتصادية. ومن هنا نبعت مختلف التغييرات في حياة المرأة، سواء من حيث النشاط الاقتصادي، أو من حيث زيادة التعليم والدخول في التوظيف أو من حيث تشخصها واحتلالها مكانة تقترب من الرجل عبر زعزعة الأبوية. 

 

 

ولكن على الرغم من ذلك ظلت مكانة المرأة الأحوازية متدنية و متزعزعة خاصة بالمقارنة مع المرأة الفارسية، وخاصة في ظل الأوضاع التي تعود فيها الأبوية في المجتمع وتنتعش بفعل هذا العامل أو ذاك.   

 

 

  

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

 

المراجع

 

 

  1. M.I.Finley, the ancient Economy, University of California Press,1974
  2. يرواند ابراهاميان، إيران بين دو إنقلاب، ترجمة أحمد كل محمدي، نشر ني، تهران1386. 
  3. استفن دون، افول و ظهور شيوه توليد آسيايي، ترجمه عباس مخبر، نشر اختران، تهران 1397.
  4.  راجع في ذلك: عبدالله الميساني، انطباعات عن الشخصية الأحوازية، مهر سجاد، تهران 1394.  
  5. في حالات هذا الانتقال راجع مثلا: دانيل لرنر، كذر از جامعه سنتي، غلامرضا خواجه بور، نشر بروهشكده مطالعات راهبردي، تهران 1383. 
  6.  في حالات هذا الانتقال راجع مثلا: دانيل لرنر، كذر از جامعه سنتي، غلامرضا خواجه بور، نشر بروهشكده مطالعات راهبردي، تهران 1383. 
  7. آلوين سو، تغيير اجتماعي وتوسعه، محمود حبيبي مظاهري، بروهشكده مطالعات راهبردي، تهران1401. 
  8.  حسين بشيريه، جامعه شناسي سياسي ايران دوره جمهوري اسلامي، نشر نكاه معاصر، تهران 1386.
  9. هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992. 

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!