الإثنين, سبتمبر 16, 2024
دراساتالوعي والهوية: جدلية القومية والهوية في الأحواز 

الوعي والهوية: جدلية القومية والهوية في الأحواز 

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

مقدمة

 

لقد نال مفهوم الوعي من لدن الأحوازيين الباحثين حظه من الاهتمام والعناية، ونوه معظمهم به باعتباره مفهوما خطيرا ومن مسببات التخلف الذي طال الشعب الأحوازي وتسبب بالاحتلال وما انتهى إليه مصير هذا الشعب من الوضع الراهن المملوء من الضياع الهوية وفقدان الوعي. فماذا يريد هذا المقال التطرق له في ظل الكلام الكثير، وغير المدروس، الذي قيل عن الوعي؟ 

 

 

إن الفرضية الرئيسية هنا هي أن ميلاد الوعي الذاتي الجمعي في الأحواز أصبح محتوما بالولادة عن رحم الهوية، ولذلك لا يمكن للوعي الذاتي هذا نتيجة لظروفه إلا أن يكون وعيا هوويا يتمحور حول الآخر. وكل تلك أمور يتم شرحها هنا. 

 

 

في معنى الوعي والهوية   

 

 

يعد مفهوم الوعي مفهوما فلسفيا بالدرجة الأولى شرحه مختلف الفلاسفة في العصر الحديث، بيد أن الفيلسوف الألماني هيغل هو الذي منحه معناه الأقصى ووسعه شرحا وتماسكا. ولذلك يستند هذا المقال على أساس ما شرحه هذا الفيلسوف، على ضوء ما يجري في المجتمع الأحوازي، أولا وقبل كل شيء. 

 

 

يعني الوعي بالدرجة الأولى حالة من نفي النفي والعلاقة الجدلية المتعالية وفق مصطلح هيغل. ولكن هذا يعني بلغة يسيرة تحرك الوعي في نطاق ثلاثي: فأولا الوعي يتدرج من الذات الحاملة له، أي أن كل فرد له وعي بنفسه؛ إلى أن يصل ثانيا من الوعي بنفسه إلى الوعي بالآخر الذي يقف أمامه ويختلف عنه؛ وثالثا تعود الذات، أي يعود الفرد من نفسه التي تعرف عليها في اختلافها مع الآخر ليُكون وعيا ذاتيا، وتكون النفس بهذه الحالة واعية بذاتها من خلال وضعها وما يحوط بها (1). وبعبارة أخرى أكثر يسرا يعني أن زيدا يعلم أنه كائن حي يعيش ويأكل ويتحرك، في مرحلة الوعي؛ ثم إن زيد سرعان ما يدرك بأنه ليس وحيدا في هذا العالم بل يجاوره عمرو وفيروز ومعتصم وشجر وبرد وحر إلخ؛ وزيد هذا بعد تعرفه على عمرو والشجر وغيرهم لن يعود كما كان في السباق لا يدرك إلا نفسه، بل هو بهذه الحالة محاط بأشياء أخرى بشرية وجمادات، وبهذه الصورة يكون قد اكتسب وعيا ذاتيا

 

 

وبعد التمكن من التعرف على هذا الأمر، لندخل بذلك في المجتمع الأحوازي ولننظر كيف يتكون الوعي الذاتي للأحوازي وكيف يرتبط بالهووية ارتباطا حتميا، كما قيل.  

 

 

الوعي والهوية 

 

 

إنه إذا ما أخرجنا الوعي من موضعه الفلسفي وأدخلناه إلى الساحة المجتمعية، فإنه سرعان ما يتمحور على أساس العلاقات البشرية، وتكون الذات المدركة في هذا المعنى هي ذات بين ذوات أخرى، في علاقات قوامها التعاطي بين الأفراد في مجتمع ما. ومن أجل ذلك فإن الوعي الذاتي بهذا المعنى سيكون وعيا بين الأضداد مجتمعيا. 

 

 

وبناء على ذلك، وطلبا للاختصار، فإن الوعي في المجتمع الأحوازي سيتحرك حتما بين العرب وبين غير العرب المستوطنين في الوطن الأحوازي العربي. وهكذا يتحرك الوعي الذاتي في الأحواز بين العربي وبين المستوطن، ويبلغ الذروة بوصوله إلى مستوى الوعي الذاتي، وفق الشرح المذكور، إذا ما أدرك العلاقة القائمة بينه بوصفه عربيا أحوازيا وبين المستوطن القادم بوصفه الفارسي المحتل القادم لنهب الوطن. 

 

 

ويعني ذلك بعبارة أخرى، بأن الوعي الأحوازي الذي هو في مرحلة الخمود في الوقت الراهن، لا يتم ويصل إلى المستويات المجتمعية التي تعني الوعي الذاتي إلا حال بلوغه مرحلة ينظر فيها الفرد من المنظار المجتمعي، ويكون فيها المجتمعي هو المحرك الأول لبناء رؤية. وفي هذه النقطة بالذات يترابط الوعي بالهوية.  

 

 

فعندما يكون الوعي بهذا المعنى بالغا الذروة من خلال وضع نفسه في ساحة مجتمعية فيها العربي والفارسي، يكون قد حدد الآخر غير المنتمي للأنا الواعية، وهكذا تكون المعادلة وعي الأحوازي وعيا ذاتيا بأنه عربي يكون مجتمعا عربي ووطنا عربيا، آخره هو فارسي لا ينتمي إلى العروبة بل يناقضها ويقف على الطراف المناهض لها. إن الهوية بهذا المعنى هي التي تسهل عملية الوعي الذاتي في الساحة المجتمعية، بينما الوعي هو الذي يسمح للهوية بأن تكون هوية مبنية على إدراك آخر مناقض للذات المدركة  (2).

 

 

ولكن الهوية تحتل مكانة أدنى مرتبة وجوديا من الوعي، وذلك لأن الهوية يمكنها أن تكتسب تحديدا مزيفا بوعي زائف، حيث أن الوعي والإدراك هو الذي يمنح الهوية ذلك التمثيل الفردي والجماعي الذي يمنحها التمظهر، وكل هوية إنما نابعة عما تكتسبه من وعي حول نفسها. ولذلك إذا ما وجدنا في الأحواز من يسمي نفسه هوويا بأنه «عربي إيراني» فذلك لم ينبع لغياب وعيه أو خذلان فيه، بل ذلك هو نتيجة الوعي الزائف الذي تغلب على الفرد الأحوازي وجعله يحدد نفسه هوويا بخليط متناقض ليس له مصداق في أرض الواقع والحياة المعاشة(3). ومن هنا يبدو أن الهوية هي نابعة عن الوعي وهو من يصوغها، ولذلك تكون صناعة الوعي البوتقة التي تخرج منها الهويات الفردية، والمجتمعية بالدرجة الأولى.

 

 

جدلية الواقع والإدراك: الهيمنة

 

 

وإذا كانت الهوية تنبع عن الوعي وتصدر عنه، لكنها تمنحه (الوعي) من جهتها الوعي الذاتي وتجعله متجسدا ومحدد المعالم والسمات. وهذه هي جدلية الواقعي والنظري، لأن الوعي لا يمكن أن ينطلق من مجرد نظريات صورية، بل الوعي الصارم هو ذلك الذي ينطلق من الواقع ليصوغه ويتعاطى معه (4). ومن أجل ذلك فلا يمكن الحديث هكذا نظريا عن وعي أحوازي إلا إذا تعدى هذا الوعي إلى ما يشير إليه، ويحدد معالمه. 

 

 

وعند الحديث عما يشير إلى الوعي ويحدد معالمه فإن ذلك يدخل مباشرة إلى التاريخ الأحوازي والتفرد الذي يميزه، تفرد تمثل في القرن الأخير بوجود المحتل، والآخر الفارسي الذي طبع الوجود العربي في الأحواز بطابعه وفرض عليه ما فرضه من مختلف الخصوصيات المميزة للمجتمع الفارسي ودولته المحتلة. إن الواقع الأحوازي يشير إلى سجن عملية الوعي بالإطار الذي يعيش الأحوازي فيه، وهو إطار تحولت فيه عملية الوعي إلى عملية تصادمية من الآخر المحتل. 

 

 

ومن أجل ذلك فإن عملية صناعة الوعي لا يمكن أن تتم إلا إذا دخلت حيزها العام، المتجلي في مجاورة العرب للفرس وما نتج عن تلك المجاورة من إقامة علاقة احتلال بين هذا وذاك. إن التأكيد على العلاقة المتلازمة بين الوعي والهوية، سرعان ما تكشف تأثيراتها العميقة على الإدراك الأحوازي والتصاقه بالواقع المعاش. ومن أجل ذلك فإن الذات الأحوازية لا يمكن لها أن تتكون هكذا بحرية لأنها منقوصة الحرية، ولأنها تحت قيد هذا التنافر الذاتي بين العرب والعجم، وكل ما يلزم عن ذلك من الزامات معرفية. 

 

 

ومن هنا يمكن التأكيد على أن جميع الإنتاجات العربية الأحوازية ظلت متأثرة، سلبا أو إيجابا، بالفارسي، وإنها لم تخرج عن رد فعل هذا المهيمن. ولذلك يمكن اعتبار عملية الإنتاج الواعي، أي عملية تكوين الوعي بذاته، عملية مرتبكة بفعل وجود واقع صممت العلاقة فيه على أساس غير سوي، أساس تقسيم الحيز الذي يعيش فيه الأحوازي إلى عربي أحوازي محتل وفارسي صاحب الدولة محتل. وهنا بالتحديد نبع ذلك الترابط بين الوعي والهوية، ومن هذا الأساس صيغت العلاقة بين النظري والواقعي، وعلى هذا الأساس حدث ذلك الارتباك، وبناء على هذا لا يمكن تفسير الوضع الأحوازي الراهن، بكامل تجلياته إلا من خلال هذه العلاقات المترابطة بالأصل ارتباطا يمكن البرهنة عليه في كافة الساحات الفكرية والعملية.  

 

 

لم يكن يعني الاحتلال الذي منيت به الأحواز مجرد فرض نظام حكم على شعب معين، بل كان ذلك يعني للأحوازيين فرض أنماط من التفكير والسلوك والقيم إلخ، التي فرضت عليهم دون أن تكون نابعة عن تاريخهم ولا عن تطور مجتمعهم، بل جاءت كل تلك نتيجة فرض، وأصيب بها هذا الشعب فتحولت إلى معيقات كبرى أمام وعيه وهويته وقيمه. ومن أجل ذلك تكررت الحالة المستمرة في التاريخ الأحوازي من نشوء مظاهر غريبة الشكل شاذة التكوين، سواء الهوية الزائفة القائلة بالعربي الإيراني، أو الوعي الزائف القائل بالفدرالية ونكران الاحتلال، أو عدم التأريخ للأحواز بوصفها حيزا عربيا جرب إقامة الدولة في تاريخه. وكل تلك لم تكن نابعة أيضا عن ضعف العقل الأحوازي، وعدم تعلم الفرد الأحوازي فحسب، بل إنها كانت متأثرة بالدرجة الأولى عن هذا الواقع وهذه الهزيمة الحضارية الكبرى.

 

 

ومن أجل ذلك فأي صناعة للوعي دون الأخذ بالاعتبار بهذه التجارب هي وقوع في فخ الوعي الزائف الذي فرضته هيمنة المحتل، ولذلك أصبحت عملية الوعي محفوفة بالمخاطر المعرفية والعملية نتيجة لتاريخ يقارب القرن من التأثيرات الأحادية المفعول التي تأتي من جانب صاحب الهيمنة وتعصف بالذات الأحوازية بشعور أو من دون شعور، حتى باتت الكثير من الانتاجات الفكرية لا تمت للمظاهر العملية متنصلة لهذا المعنى عن الحركة من الداخل، ومن صلب الخصوصية التي ارتمت بها الأحواز شعبا ودولة وحضارة. 

 

  

تحديات الواقع وصناعة الوعي وتأرجح الهوية

 

 

وما دام الوعي حبيس الظروف التاريخية الشاذة، فهو من أكثر العمليات تشعبا وارتباكا. وذلك لأن التحديات التي تقف أمام النخب الأحوازية في بث الوعي كثيرة، سواء كانت خروج سطوة النخبة في العصر العالمي الراهن، أو تبني الشعب الأحوازي قضايا نابعة من حياته اليومية هذه التي يعيشها في كنف الاحتلال ومجاورة المستوطنين. 

 

 

فعلى صعيد فقدان النخبة الأحوازية تأثيرها(5)، قبل أن تتكون أصلا تكوينا يجعلها فئة اجتماعية لها وجود ناهيك عن التأثير والقيادة، فإنها ارتمت في زمن لم تعد فيه النخب كما كانت عليه: مجموعة من المتعلمين يشهرون أفكارهم على شكل منظومات فكرية تشرح الراهني والمستقبلي وتعرض حلولا من أجل نيل الغايات. وهذا الغياب لعصر النخبة جعل المجتمع الأحوازي محروما من قوى فكرية قبل أن تولد، نخب فكرية كان يمكن لها أن تقوم ببلورة بعض القضايا وايضاحها، ناهيك عن حلها والقضاء عليها. ومن أجل ذلك ذهبت هذه المهمة إما إلى النخب الفارسية تنوب عنهم وتفرض قضاياهم على هذا الشعب، وإما إلى أصحاب التأثير الافتراضي من المشاهير يلقون بطرق حياتهم على الكافة، خاصة الجيل الشاب منهم، مما يجعله جيلا شابا لا هو بعالمي ولا بقومي ولا بفارسي، بل مزيج من كل ذلك لا يعلم من وعيه شيئا. 

 

 

ولا يضاهي فشل النخبة الأحوازية بصناعة وعي قومي إلا احتلال الأحواز وفشل هذه الأمة في الحفاظ على مجتمعها وقوميتها وهويتها. ومن أجل ذلك بالتحديد تواجه النخبة المتصاعدة اليوم، من أمثال جيل الكتاب الذي أخذ ينمو في العقد الأخير في الأحواز، تواجهم تحديات من شتى الصنوف وفي مقدمتها صناعة وعي مترابط بالهووي يعي بالتمام تلك العلاقة الجدلية الخطيرة بين القومي وبين الهووي(6).    

 

 

 

أما على صعيد التحديات العالمية تكونت قضايا عالمية اليوم لا تسمح بقوة بالخصوصية القومية والثقافية، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي العالمية الانتماء والميول تفرض قيما ونزعات هي غربية بالدرجة الأولى لكنها تمكنت من أن تصبح عالمية بفعل الهيمنة الغربية، وبات الكل في المجتمعات الأقل تقدما تئن تحت وطأة تبنيها وتسريها، وتحولها إلى الذاتي الذي يحل محل الواقع والنابع من الذات. 

 

 

وفي هذه الجزئية كانت الأحواز محل تأثير مزدوج حيث تواجه من جهة هذه التحديات العالمية والقيم العالمية، والمواطنة العالمية، ومن جهة أخرى تعاني هي من دون شعور بذلك المد التفريسي المحتل الذي فرض هوية معينة على الأحوازي جعلته يقترب رويدا رويدا من فكرة الأرينة وتبني الاحتلال الإيراني باعتباره هو الوطن والدولة والإنتاج الحضاري لهذا الحيز العربي الأحوازي.

 

 

القيم والواقع  

 

 

ولم تنل من الأحواز ومهمة صناعتها وعيا إلا تلك القيم العالمية التي هي في واقع حالها مثقوبة العالمية، لأنها عالمية أتت للشعب الأحوازي عبر قناة الفرس وبلغتهم عبرها. وهنا تكمن أخطر المفارقات في حياة المجتمع الأحوازي لم يعيها جل الكتاب الذين تناولوا مفهوم الوعي. وذلك لأن هذه القيم الغربية، وفي مقدمتها المواطنة العالمية ونبذ القومية، التي انهالت علي العالم سيما الأحواز وصلت لها عبر الترجمات العالمية، وعبر مشاهير الأحواز الذين هم مشاهير الفرس والفرس أنفسهم، ومن أجل ذلك تلون هذا الوعي المفقود في الرحم، بلون الفارسي وهيمنته ولغته، وتلوث عند ميلاده وترعرعه بلوث الفرس حتى وصل الشعب الأحوازي. وهذا يعني بالتحديد إعادة إنتاج الهيمنة الفارسية عبر غلاف عالمي هذه المرة، قد يظنه العربي المغلوب على أمره كأنه العالمية بحد ذاتها. 

 

 

لا يمكن الحديث عن وعي ذاتي قومي في ظل وجود هذه القيم، وفي ظل واقع أصبحت الهيمنة فيه تتكرر بوعي زائف تغلف بشكل عالمي، وجرف معه الأجيال العربية الناشئة، وأصبح المثقف القومي يفتقد لقاعدة جماهيرية تقرأ له، ناهيك عن أن تتأثر به. إن هذا الارتباك على كافة المستويات في التاريخ الأحوازي الراهن يحتم العودة إلى أسس هي اليوم في طور الزوال، أو إعادة بنائها بطرق حديثة تجعلها قريبة من المجتمع، بعيدة عن «أوهام النخبة» المثقوبة الوعي هي أصلا. 

 

 

إن ساحة صناعة الوعي اليوم في الأحواز لم تعد كما كانت في السابق، بل إن الأجيال العربية المتعلمة باتت ترى من القيم وأنماط الحياة ما جعلها لا تصغي إلى وعي قوامه الصدام وزعزعة العيش المترف الظاهر في القيم العالمية، ومن أجل ذلك يجب وعي انقلاب المعادلة بين النخب والمجتمع، وإدراك ضرورة جري النخب وراء المجتمع لمنعها من الانصهار غير المشعور به، والحفاظ على حياة عروبة الأحواز وشعبها. 

 

 

وإلى جانب كل ذلك يجب القول أنه لم يكن الشعب وحده هو من جرفه التيار وأصبح يميل إلى العالمية المثقوبة، بل إن عدد من النخب الأحوازية هي الأخرى نزعت نحو الفرس، وباتت تنادي بضرورة الإنصهار مع هذا المحتل، وصنعت مفهوما موفقا هو «عرب إيران» عمل بمثابة وصفة سحرية سرعان ما وجد قاعدة جماهيرية مخيفة تكاد تخرج بالأحواز مجتمعيا إلى أحضان الاحتلال. وهنا يجب الاعتراف بكل صدق بنجاح هذا المفهوم وما يدل عليه ويرمز له ثقافيا ومجتمعيا وسياسيا. نجاح ظهر في المجاهرة به بين أكثر عدد من النخب المجتمعية والساسة وأكثر الفئات تعلما وحداثة. وذلك لأنه مفهوم ناجح، على الرغم من معادته من قبلنا، نبع عن واقع الحياة الأحوازية وقضاياها واهتماماتها. أولا لأنه مفهوم جنب الكثيرين بطش السلطات الإيرانية، وجاء بذكاء ليحقق بعض الحقوق مقابل إضاعة بعضها، ثانيا لأنه مفهوم منح معنى للهوية الضائعة الأحوازية، وتحصل الأحوازي من خلاله على عروبته، بوصفه عربي، بالوقت الذي تحصل على المواطنة الفارسية الإيرانية، بوصفه إيراني، من خلال سماح هذا المفهوم النكولي(الانهزامي والتراجعي) بمزيد من المطالبات القومية والسياسية والاقتصادية للشعب الأحوازي. 

 

 

وهنا يظهر تفوق النخبة العربية الأحوازية الموالية للنظام على النخبة التحررية النضالية التي لم تنل مثل هذا النجاح في صنع مفهوم يقترب من أن يكون خطابا يهب المعنى للذوات الجماهيرية المتعطشة للوعي والهوية، وإن زائفتين. وهذا بالتحديد يوضح جليا مستوى تسلل الوعي الزائف بين المجتمع الأحوازي والعقبات المجتمعية العملية والفكرية النظرية أمام التخلص من تجذره من جهة، وبناء بديل له من جهة أخرى.   

 

 

الزامات صناعة الوعي

 

 

إنه بالإضافة إلى ضرورة العناية القصوى بتلازم الوعي والهوية نظريا، بناء على وضع الشعب الأحوازي الذي يعيش حالة من الاحتلال، فإن هناك الزامات أخرى عملية لا بد من العناية بها من منطلق الالتزام الصارم بين تعاط الواقع والنظر. وفي مقدمة هذه الالزامات هي تقييم الأوضاع الراهنة التي يمر بها هذا الشعب، وأن لا يكون التمظهر الهووي الناتج عن صناعة الوعي بالنقيض مع حياته اليومية وإنْ كانت حياة تميل إلى المحتل. وذلك لأن وجود مثل هذا التعارض يجعل الأفكار الممهدة للوعي لا تنال موضعها الصحيح من القبول والتداول بين مختلف الفئات الأحوازية. وهنا يظهر الدور غير المشعور به للعرب الموالين للنظام على اعتبارهم معبرا يعمل كممهد لتعالي الدعوات القومية، التي يجب مصادرتها من جانب دعاة التحرير والعمل على تحولها إلى دعوات تحررية. 

 

 

ومن الإلزامات الأخرى في عملية صناعة الوعي هي ضرورة بناءه على أساس الحضور المستمر التاريخي والراهني للآخر غير العربي، ووضعه في موضعه الصحيح من مساهمته التاريخية في احتلال الأحواز، ودوره الراهني في الحفاظ عليه. وذلك التذكير هو ما يسمح بتوطيد الهوية العربية الأحوازية، والبرهنة على تمايزها مع الآخر الفارسي، فضلا عن أن جميع الأحداث اليومية والمنعرجات التاريخية تزكي هذا الأمر، مما يجعل الوعي لا يعبر عن التاريخ الماضي فحسب، بل إنه يعكس بصورة قومية، وعبر خط زمني يربط الراهن بالماضي، يعكس هذا التنافر ويعززه ويبرهن على صحته، كأنه الحقيقة بحد ذاتها. 

 

 

ثم إلى جانب كل ذلك وختاما، لا وعي من دون أيديولوجيا قومية تقدمية تحررية (7). فعلى الرغم من الالتباس والتضليل الذي اكتنف هذا المفهوم الخطير، تظل الإيديولوجيا هي الخاصرة الرخوة للشعب الأحوازي ونخبه، لأنه تخلف عن تكوينها، ونتج عن هذا التخلف ارتباك في الوعي والإدراك وضياعا للهوية. إن المقصود بالايديولوجيا تلك الأفكار التي تصل التاريخ بالراهن والمستقبل، وتجعل الشعب أمام خطة شاملة يسير وفقها ويقيم نفسه بها، ويستمد هويته منها، ويمتلك وعيا ذاتيا عبرها. إنها الفكرة الشاملة التي لا تحدده كتشخص جماعي متميز فحسب، بل تحدد له الآخر، وتكشف له عن طبيعة هذا الآخر ودوره الفاعل في التأثير عليه. وبتحديد هذا الآخر الفارسي تبين الإيديولوجيا إفرازات العدو هذا، ودوره التاريخي في إحباط جميع المحاولات التي خاضها الشعب من أجل الاستقلال واللحاق بالحضارة(8)

 

 

ويعني مفهوم الإيديولوجيا، إضافة إلى كل ذلك، اتصال الفردي بالجماعي، عبر تحويل الأفكار التي يعرضها إلى عقيدة، تشمل الفرد وتحتضنه وتهب له معاني مختلف المظاهر السياسية والعقدية والاجتماعية، كما تشتمل على الجماعة وتجعل منها كل واحد متجانس التطلعات. إنها هنا هي صانعة الأمة، والطريق نحو تحقيق آمالها وغايتها، تلك الغايات التي تحدد هي مسيرها والسبل الخاصة بها. 

 

 

الاستنتاج

 

 

لا يعد مفهوم الوعي مفهوما انتزاعيا لا يتصل بأمر الواقع ومجرد أفكار صورية تتوالد من تلازمها المنطقي وحركتها الفلسفية، بل إن الوعي، كما تبين هنا، هو عملية مرتبطة ارتباطا عضويا بالعملي، وما أطلق عليه الهووي، ليس ارتباطا مصطنعا بل هو ارتباط وليد الظروف الخاصة التي ارتمت بها الأحواز وطبع بها تاريخها. إن الوعي في الحالة الأحوازية لا يمكن إلا أن يكون قوميا مرتكزا على الهوية العربية، لأن الواقع المعاش هنا يلح على هذه العلاقة، ويجعل أي وعي يتنصل من هذه العلاقة وعيا زائفا جاء نتيجة الظروف التي فرضها المهيمن المحتل الفارسي. وذلك لا يعد أحكام قيمة بقدر ما يعد قراءة مبررة وموضوعية للواقع الأحوازي، تستند على الحياة اليومية الراهنة قبل استنادها على التاريخ والمعطيات التاريخية. 

 

 

على أن عملية صناعة الوعي تحتاج إلى الكثير من الجوانب في صياغتها، حيث يشتبك فيها النظري جنبا إلى جنب المجتمعي والتاريخي والسياسي، ومن أجل ذلك تحتم على صناعة الوعي في الأحواز أن تفطن لهذه العلاقات المتشعبة وأن لا تجعل من الضغوطات التي تحيط بها مصدرا لإضافة ارتباكات أخرى في عملية صناعة وعي الأمة. إن التأكيد على هذا المعطى القومي في جميع الحياة الأحوازية كان حاضرا بقوة في تاريخها الذي استمر لغاية اليوم، ومن أجل ذلك أي استدعاء لقراءة شاملة يتطلب الحركة في هذا الإطار، الإطار الذي يشتبك به القومي بالهووي وبالسياسي وبالوعي الذاتي بجملة واحدة. 

 

 

ومن أجل ذلك بالتحديد فلا يمكن لأي مفهوم أن يستوعب كل تلك الأمور المتشعبة إلا مفهوم الإيديولوجيا الكفيل بتبديد ارتباك الوضع الأحوازي الراهن، والقادر على بناء هيكل معرفي عملي سليم تتحرك فيه مختلف الفئات الأحوازية، تحت مظلة واحدة، وجامعة كبرى هي تطلعات هذا الشعب المحتل. إن الإيديولوجيا لا تعتبر هنا مجرد بناء فكري متماسك فحسب، بل إنها فكرة ترتبط بالواقع ارتباطا عضويا ونابعة عنه، بالوقت الذي تريد أن تنال منه وتكسر القيود التي بنيت فيه. إنها العقيدة الكبرى التي توحد الذوات الواعية وعيا ذاتيا في سبيل تحقيق الغايات القومية الكبرى، التي هي السبيل إلى الحرية والتقدم المنشود. 

 

 

ولا يمكن الحصول على كل تلك المبتغيات إلا إذا تكون الوعي الذاتي، بالمفهوم المشار إليه، واستطاع التداول بين مختلف الفئات، وبات الحديث عن مفاهيم نظير الشعب والأمة والتحرير والاحتلال والأحواز يهب معنى للحياة اليومية، وجزء من الاهتمامات المعاشه وما به يحيى الفرد، ويكد من أجله. إن الرقي بالقضية الأحوازية من مجرد أحلام في صدور المثقفين والقوميين، إلى قضية شعب وقضية إنسانية لا يمكن أن يتم إلى إذا وعى الشعب الأحوازي بها، وجلب الوعي العربي والعالمي لها. 

 

 

 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

 

 

 

المراجع

 

 

 

  1. Robert Stern, Hegel and the Phenomenology, Routledge Philosophy .GuideBooks,2002 
  2. برهان غليون، الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1992.
  3. أنظر إلى أساليب تكوين الوعي الزائف وطرقه في: محمد أمين العالم، الوعي والوعي الزائف في الوطن العربي، دار الثقافة الجديدة، دون ت. 
  4. أبويعرب المرزوقي وحسن حنفي، النظر والعمل: المأزق العربي والإسلامي الراهن، دار الفكر، بيروت 2003. 
  5. . حول النخبة والمجتمع أنظر إلى: توم بوتومور، النخبة والمجتمع، ترجمه جورج جحا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1988. 
  6. أنظر نقدا للنخبة في الكتاب التالي: علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز العربي الثقافي، بيروت 2004.
  7. عزمي بشارة، أن تكون عربيا في أيامنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2009. 
  8. عبدالإله بلقزيز، الثقافة الإيديولوجيا والمعرفة، دار ساقي، بيروت 2024.



error: Content is protected !!