المقدمة
يشهد التعليم في المدارس الأحوازية، شمالها وجنوبها، ترديا على كافة المستويات، وتأزما في كافة الأصعدة، سواء تلك المتعلقة بمستوى تعليم طلاب المدارس ومدى استيعابهم، أو تعداد المعلمين بالنسبة للطلاب، أو الميزانيات المخصصة وعدد المدارس، أو توفير المدارس على إمكانيات تساهم في تحسين الظروف الدراسية وتمكين الطلاب.
ولعل هذه الأوضاع المتردية في كافة المستويات هي التي جعلت شمال الأحواز («خوزستان») تحتل المرتبة 31 من حيث المناطق الأكثر ترديا في الدراسة بين المحافظات الإيرانية الأخرى. وحسب الإحصائيات الرسمية الإيرانية، لدى العام 2014، فإن شمال الأحواز تعاني من وجود 650 ألف أمي، ما يعني وجود فشل ذريع في أمر التعليم ينذر بحصول كوارث حضارية.
والخطير هو أن هذا التردي في التعليم مستمر لغاية ساعة كتابة هذا التقرير، حيث صرح أحد نواب البرلمان الإيراني عن مدينة الأحواز العاصمة بسقوط التعليم، وأوعز ذلك إلى أسباب واهية يريد بها البروز إعلاميا. فبناء على هذا التصريح الحكومي ما تزال شمال الأحواز، أي «محافظة خوزستان»، متربعة في أسفل القائمة من حيث التردي الدراسي، وتأزمها إلى أدنى مستوياتها ووقوعها في الهاوية، عبر استمرار وقوعها أسفل قائمة جودة الدراسة. ولا يتبين هول هذا التردي إلا إذا تم التنويه بأن حجم طلاب المدارس في شمال الأحواز، يحتل الرتبة الرابعة أو الثالثة؛ أي أن الأحواز هي الرابعة في النظام الإيراني من حيث عدد الطلاب، ما يعني احتلالها المرتبة 31، كارثة تعليمية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ويحاول هذا التقرير إلقاء نظرة على مختلف القضايا المشار إليها محاولة لرسم صورة التأزم التي تحيط التعليم في الأحواز شمالا.
التعليم في المدارس وقضية الاستيعاب
إن صفع الطفل العربي في الأحواز، في بداية عمره وبواكير تعليمه مهارات الحياة ومعارفها، بلغة في التعليم هي غير اللغة الأم تعني رميه في برزخ يفصله عن لغته التي نشأ عليها حتى السابعة من عمره، لغة صفعته في المدارس لا يدري كيف يتعامل معها ويحكم إتقانها. إن أول ما يظهر منطقيا من الدراسة بغير اللغة الأم هو هذا الاختلاف فيما بين اللغة التي يتحدثها الطفل منذ تفقهه اللغة في بيته ومن أمه وأبيه، وهي العربية المحكية الأحوازية، وبين اللغة الفارسية التي هي لغة الكتب المدرسية وهي لغة المعلمين في المدارس.
وعلى العموم تعدد الدراسات المعنية بهذا الموضوع أكبر المعاطب الفنية في التعليم بغير لغة الأم، خاصة في الفترة الابتدائية، في الأمور التالية، أي الأمور التي تعكس عموما الضعف الدراسي للدارسين بغير لغة الأم، وهي: إعادة العام الدراسي، وترك الدراسة، والمشاكل النطقية والسمعية.
ومن أجل ذلك فإن أولى مسببات هذا الانحطاط الدراسي، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، راجع إلى لغة التعليم، وهي الفارسية التي جعلت طلاب الأحوازيين، لا يتعاطون مع هذه اللغة على سبيل الاستيعاب، ناهيك عن سبيل التعلم بها في مختلف العلوم الرياضية والأحياء والجغرافيا وباقي المواد الدراسية التي تفرض في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية. والجدير في هذا السياق هو الإشارة إلى أن هذه القضية، قضية التعليم بغير لغة الأم، أهملت من جميع الدراسات والمقالات التي تناولت أسباب الضعف الدراسي في الأحواز بصورة متعمدة، لأنها تخالف التوجه العنصري للنظام الإيراني. حيث تشير جميع تصريحات المسؤولين إلى مختلف الأسباب التي جعلت الدراسة متردية، إلا ما كان من سبب لغة التعليم لا يتم التطرق لها، ولمختلف تأثيراتها لا من بعيد ولا من قريب.
تعداد المعلمين بالنسبة للطلاب
ولعل أبرز المشاكل التنظيمية التي تقف وراء ذلك التردي هو قضية المعلمين في النظام التعليمي الأحوازي، وهي قضية تظهر على شكلين: كمي وكيفي. فمن حيث الكم تعاني المدارس الأحوازية من عدد قليل من المعلمين، في مختلف المواد الدراسية، ويفوق عدد الطلاب على المعلمين بنسبة كبيرة، مما جعل الكثير من المدارس فاقدة للقوى البشرية من المعلمين.
وبينما تشهد الأحواز استفحال هذه المشكلة منذ ما يفوق العقد، حتى أصبحت قضية مشهورة للمعنيين وأولياء الطلاب، ولكنها بقيت على حالها تستفحل يوما بعد يوم. وتشير معلومات النظام التعليمي في الأحواز إلى أن نقص المعلمين بالنسبة للطلاب ما زال مستمرا على الرغم من تصريحات المسؤولين بأن هذا النقص قد تقلص وأنه سيتم القضاء عليه. فالواقع يشير بوضوح إلى نقص كبير لا يمكن تفاديه إلا من خلال استخدام آلاف المعلمين. فعلى سبيل المثال الذي يثبت استمرار هذه المشكلة قد أشار مدير التعليم والتربية في الأحواز، قبل أربع سنوات، قد أشار بوضوح إلى احتياج المدارس الأحوازية إلى ما يقارب 7 ألف و200 معلم، إضافة إلى نقص في القوى الخدمية التي تقدر بـ200 ساعة أسبوعيا. وبينما كان هذا العدد من النقص قبل أربع سنوات، فإن العام الراهن يشير إلى زيادة هذا النقص إلى 10 ألف معلم بشهادة مسؤولين في النظام التعليمي، مما يعني أن المشكلة بقت على حالها، ولم يتم معالجتها. (أما من حيث الكيف، فسيتم التطرق له في فقرة المحاصصة القومية).
الميزانيات المخصصة وعدد المدارس
وحال المدارس هي نبذة أخرى تشير إلى طريقة إحكام النظام الإيراني المحتل قبضته على الأحواز، وقوامها التهميش والتمييز ضد الشعب الأحوازي. فهنا أيضا يتم صرف الميزانيات المخصصة للتعليم، والتكاليف المختلفة الخاصة بشأنه، تخصيصها إلى المستوطنات، وإهمال باقي المناطق العربية الأكثرية، وعدم العناية بالتكاليف التي تحتاجها مدارس المناطق العربية من غير المستوطنات.
فعدد المدارس ينقص بشكل كبير في القرى والمدن الحدودية الأحوازية، وعادة ما يتم تخصيص الميزانيات الحكومية للمستوطنات وترك الحياء العربية مهمشة تعاني مختلف الاحتياجات والمتطلبات بشهادة المسؤولين أنفسهم. فبناء على ما تم استخلاصه من العام الدراسي السابق، افتتحت المدارس في الأحياء العربية الأحوازية، على هامش الأحواز العاصمة، عامها الدراسي دون وجود معلمين. لقد استمرت كل من الملاشية، والزوية، والغيزانية، والإسماعيلية، والزركان، ومسير التصفية، والعين، وحي الثورة، وزيتون العمالي، و«الخروسي»، وكوت عبدالله، وشيبان، والحايي إلخ، استمرت في عامها الدراسي من دون وجود معلمين لفترة تجاوزت الشهر.
وبينما حاولت السلطات الإيرانية في الأحواز التستر على هذه الفضيحة، أقدمت في خطوة مخادعة إلى بعث عدد من المعلمين إلى هذه المناطق. ولكن عدد المعلمين المبعوثين لم يغطي كافة المواد الدراسية المقررة من جانب وزارة تعليم النظام الإيراني، وهكذا ظل الطلاب من دون معلم في حصة العلوم مثلا، أو حصة الرياضيات، أو أية حصة أخرى. وأقدمت المدارس في هذه الحالة على منح الطلاب الفاقدين للمعلمين درجات مزورة من دون أن يكون الطالب قد قضى الدورة التعلمية، لتستر على ذلك الخلل. كما أن الدرجات تلك كانت متواضعة، وتم منحها ليس بالنظر إلى حال الطالب في باقي المواد الدراسية، بل منحت لهم درجة مشابهة هكذا، تقع ما بين 10 إلى 14 من مجموع عشرين درجة.
أحوال المدارس من حيث أدوات التعليم
وتظهر هذه المشكلة على شكلين مختلفين في القرية والمدينة. ففي القرى الأحوازية تكاد الإمكانيات الدراسية تكون منعدمة بالمطلق، ليس من حيث فقدان المعلمين، والنظام التعليمي الحديث، والبرامج الدراسية المتقدمة فحسب، وكل تلك أمور منعدمة بالأصل في القرية والمدينة على حد سواء، بل من حيث وجود مدارس ذات مباني محكمة، ووجود صفوف مقسمة بشكل مخطط، أو وجود صبورات أو نظام تبريد، أو كراسي للجلوس وكل ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر مفهوم المدرسة. ثم إلى جانب كل ذلك فإن انعدام المرافق العامة في القرى الأحوازية هو الآخر يساهم في صعوبة ذهاب الطلاب إلى المدارس، خاصة أيام اشتداد البرد والأمطار التي تعدم إمكانية مرور الطلاب الأطفال، وأيام اشتداد الحر التي تجعل الذهاب للمدرسة والعودة منها معاناة كبيرة للطفل الذي يجب عليه العودة عند الظهيرة إلى البيت. ثم إن الفقر المستشري في القرى قد جعل الطلاب في ضيق من توفير مستلزمات الدراسة وتوفير المعدات اللازمة لها، حتى يمكن القول بأن الكثير من مدارس القرى لا يتمكن طلابها من توفير الأقلام والدفاتر ناهيك عن باقي الأدوات الحديثة.
أما الذهاب برحلة سريعة إلى مدارس شمال الأحواز، سواء في العاصمة أو باقي المدن الكبيرة، هو الآخر يظهر درجات مختلفة من الضعف والحرمان فيها، حيث أن المدن الأحوازية ليست على درجة واحدة من حيث العمران والرخاء. وخلافا للقرى الأحوازية التي سلمت من المد الاستيطاني الإيراني، بيد أن المدن الأحوازية تعاني من ويلات الإستيطان، ومختلف تبعاته، حيث قدر للمدينة الأحوازية أن تنقسم إلى مستوطنات وأحياء تسكنها الفرس، والأحياء العربية. وهنا يكون نصيب الأحياء العربية التي تجاور الأحياء الفارسية بأمتار قليلة، الحرمان والدمار والتلوث وخروج مياه الصرف الصحي إلى الأماكن العامة، وانعدام الطرق والمدارس إلخ. وبشهادة مسؤولو النظام أنفسهم فإن المدارس الأحوازية تعاني من فقدان أبسط الإمكانات التعليمة والرفاهية. وأول تلك الإمكانيات انعدام التكييف في حرارة الأحواز القاتلة، وتكدس الطلاب في صف واحد قد يبلغ عدد طلابه أربعين أو خمسين، وعدم وجود برامج تعليمية عملية تساعد الطلاب على الاستيعاب الأفضل، وعدم وجود حافلات مدرسة، وتلوث البيئة المدرسية خاصة أماكن دورة المياه، وعدم تخصيص أماكن لتغذية الطلاب.
المحاصصة القومية
وهي مشكلة بنيوية تصلح أن تسمى خلاصة النظام التعليمي الاستعماري في الأحواز. فبعد احتلال الأحواز وتنفيذ سياسة الإستيطان على سعة مهولة، واستجلاب أكثر من مليوني مستوطن إليها، بعد كل ذلك عمد النظام الإيراني مباشرة إلى تقسيم ما أطلق عليها «محافظة خوزستان» إلى قسمين: قسم هم الحاكمون، وقسم هم «المحکومون». كان الحاكم هو الفارسي المستوطن، وفيه احتكرت مزايا الحكم والسيطرة والثروة، والمحكوم هو العربي وفيه تجلى التفقير والتفريس والذلة. ولكن لما كان النمو السكاني الأحوازي، يناقض هذه السياسة الإستيطانية، فإن تزايد نفوس الشعب الأحوازي، وتقدمه في التعليم، جعل النظام أمام سياسة كانت أقل السياسات ضررا وتبعات عليه، هي سياسة الاستيعاب الأقلي. عمد من خلال هذه السياسة إلى استيعاب القوى العمرانية الأحوازية في وظائف دنيا من النظام البيروقراطي توخى من خلالها التنفيس عن حالة الاحتقان الناتجة عن إبعاد الأحوازيين العرب من المناصب الحكومية، لتفادي انفجار الوضع.
ومن أجل ذلك بالتحديد كانت حصص المتعلمين الأحوازيين هي التعليم، وهي مرتبة دنيا وظيفيا وعوائدا، والبلديات على العموم. ولذلك فإن الملاحظة الأولى على المعلمين الأحوازيين هي أن بينهم الكثير من حملة شهادات الدكتوراه، ممن يوظف نظرائهم من الفرس في الجامعات وينالون أكبر المناصب فيها.
وبعيدا عن شرح كل ذلك فإن الأمر الذي يخص التعليم هو أنه على الرغم من جر الأحوازيين إلى التعليم، فإن المستوطن نافسهم على هذا الجانب البيروقراطي أيضا، وباتت إدارة التعليم العليا في الأحواز تنقسم على أساس محاصصة قومية، حيث تكون مختلف مناطقها خاصة ببعض العرب، والباقي هي من حصة المستوطنين الفرس. ومن أجل ذلك تتعالى بين الفترة والأخرى أصوات من المعلمين والمسؤولين تصرح بأن أكبر المشاكل المساهمة في التردي الدراسي في الأحواز هو هذه المحاصصة التي جعلت إدارة المناطق التعليمية لا تكون بيد أصحاب الجدارة بل يتم تقسيمها على أساس حصة العرب، وحصة باقي المستوطنين وهي الأكبر، كما أنها المستولية على المناصب الإدارية العليا.
ثم إلى جانب كل ذلك، كانت القضية القومية حاضرة بشكل آخر، حيث تعاني الأحواز في مختلف مدنها من هجرة المعلمين الأكفاء. والقضية هذه تبدأ من حيث يتم إيفاد المعلمين الفرس إلى الأحواز، ثم بعد تعلم المعلم الموفد هذا واكتسابه الخبرات المهنية اللازمة في التعليم، يتم سحبه إلى المحافظات الإيرانية، لتتحول الأحواز إلى مخبر لكسب التجارب على حساب تعليم الطلاب.
وفي الختام يتبين بأن احتلال الأحواز على مدى سنوات متوالية المرتبة الأسفل «بین المحافظات الإيرانية» من حيث تردي الأوضاع الدراسية والفشل الدراسي، هي قضية من أخطر الكوارث التي تواجه الشعب الأحوازي في الوقت الراهن، ومن أهم ما يجب على النخب الفكرية والسياسية تناوله والتحذير منه. وذلك لخطورة الشأن الدراسي، ومكانة التعليم بين الأمم، ولأنه لا يمكن أن تقوم لأمة قائمة وأبناءها من الأميين المتخلفين عن أبجديات التعليم، ناهيك عن العلم العالمي المتقدم.
ومن أهم الأسباب التي جعلت التعليم في الأحواز مترد إلى هذا المستوى من السقوط، هي لغة التعليم الفارسية المفروضة التي هي الأساس في ذلك، وهي تحتل محل القلب من هذا السقوط العلمي، لتأثيرها السلبي على الطلاب الأحوازي وذويه ومجتمعه وكامل وجوده. كما أن انخفاض المعلمين بالنسبة للطلاب جعل الكثير من الطلاب لا يتمتعون بمعلمين في كافة الحصص والمواد الدراسية، بل السائد هو تولي معلم باختصاص معين، مثلا في الفيزياء، توليه المادة الدراسية في علم الاجتماع والإنكليزية والرياضيات إلخ، مما أربك عملية التعليم رأسا. إلى جانب ذلك فإن عدم تخصيص ميزانيات للتعليم في الأحياء والمدن العربية والذهاب بها إلى المستوطنين وبؤرهم الاستيطانية جعل المدارس متهالكة خالية عن مقومات التدريس المهني، وربما معاناة يتصارع معها الطفل الأحوازي في بواكير عمره وبداية طفولته، حتى جعلته يكره الدراسة ويراها من هذا المنظار المأساوي. إلى جانب كل ذلك فإن للمحاصصة القومية الدور الأكبر في فقدان المعلمين الأكفاء، وتولي شأن الدراسة من قبل مستوطنين سيطروا على الشأن الدراسي الأحوازي، وأصروا على إبعاد العرب، الشعب الأحوازي، مما جعل تعليم الطلاب يمر من زاوية تسلطهم وتعنتهم وفارسيتهم التي يرونها متفضلة على العربية.
ويتبين من شرح أسباب هذا التخلف أن شأن التعليم هو خلاصة عن الشؤون العامة للدولة الإيرانية وسياساتها تجاه الشعب الأحوازي الرامية إلى محوه من الوجود عبر مختلف الأصعدة، تارة عبر التفقير ونهب الثروات، وتارة عبر الأمية، وتارة عبر التفريس وتارة عبر الاستيطان إلخ. وكل ذلك يتحد في غاية واحدة ويبلغ إليها، وهي غاية مسح الشعب الأحوازي من الوجود.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات