المقدمة
يحتاج المجتمع الأحوازي في الوقت الحاضر إلى قراءة ظرفه الراهن، لاستكشاف بعض نقاط التحول فيه، وإلقاء الضوء على التحولات الخطيرة التي تعصف به. حيث ينعكس هذا الأمر غالبا عبر سؤال متكرر يهجس في أذهان معظم المهتمين بهذا الشأن، من خلال السؤال عن تقييم هذا المجتمع، وما يمر به من أحوال.
وبناء على ذلك، يتطرق هذا المقال إلى أحوال المجتمع الأحوازي اليوم، وأبرز ما يمر به من منعطفات يصلح تسميتها بـ “سمات المرحلة”، وأبرز المؤثرات فيها، والمحددات للسلوك الفردي والمجتمعي معا. ولذلك فإن التركيز على بعض الجوانب وإهمال الجوانب الأخرى، يدل على أهمية الجوانب المذكورة، ومحدودية تأثير سواها من الجوانب التي لا يتم التطرق إليها.
ومن هنا يتم التصريح بالسؤال الآتي: ما هي الأحوال العامة في المجتمع الأحوازي اليوم؟
وللإجابة عن هذا السؤال العام، يمكن الإشارة إلى أن المجتمع الأحوازي اليوم، يشهد أزمة اقتصادية كبيرة، تعم كافة فئاته ومجموعاته، كان لها تبعات كبرى على المنظومة القيمية للمجتمع، من خلال عصف هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة بالقيم المجتمعية بما يؤدي لإفقادها دورها المعهود، وإلى كونها وازعا يجعل الناس تسلك سلوكيات ضمن أطر معلومة ومقبولة بالآن ذاته.
وإذا ما أدركنا أن مجموعة القيم الأحوازية تأتي من مصدرين رئيسين، هما القيم النابعة عن التقاليد والسنن أو القيم التقليدية، والقيم الدينية، فإن وقوع هذين المصدرين في دائرة التأثير المربك للأزمة الاقتصادية، جعلهما يفقدان دورهما المعهود المستمر على طول قرون. وفيما يلي يتم التطرق لهذه الفرضية التي تجيب عن سؤالنا.
الاقتصاد والمجتمع
من خلال النظر في أبرز أعمال الحضارة العربية التي قامت بتحليل المجتمع، وهو مقدمة ابن خلدون(1)، يمكن ملاحظة العناية الكبيرة التي أولاها ابن المؤلف للدور الاقتصادي الخطير، فحلل بمقتضاه الانشطار بين البداوة والحضارة. حيث يقول العلامة ابن خلدون بأن تاريخ الوطن العربي هو تاريخ تبدل عظيم بين حياة العرب في باديتهم وعند شظف حياتهم، وبين حياتهم في الترف وملذات الحياة عند دخولهم في الحضارة، حسب لغته. وإذا ما كان محرك تاريخ البداوة والحضارة هو العصبية بحد ذاتها، ولكن ذلك لا ينفي الدور المعيشي الاقتصادي الكبير الذي يطبع المجتمع العربي في طور دورته بين الحضارة والبداوة.
إن صاحب المقدمة يبين بوضوح تام كيفية تتبع العصبية المزايا الاقتصادية، ويثبت بجلاء أن الحكم وإقامة الدول الذي تقف عنده المطالبة العصبية إنما يتوقف عند غاية مزايا السلطان، تلك المزايا التي لا يمكن لها إلا أن تكون اقتصادية. وذلك لأن الحضارة التي هي مفسدة للعمران ومذهبة بالتماسك العصبي والتحام العصبيات، إنما هي حضارة بذخ وترف، تجعل العصبية التي هي محرك التاريخ والجري وراء تأسيس الدول في مهب أرواح الملذات المفسدة لها، ما يأذن باستئناف الدورة العصبية وذهاب أمرها وإحلال عصبية ملتحمة من شظف العيش لها، حتى تحل محلها وتلاقي المصير ذاته(2).
أما إذا أخذنا فلسفة العصر الحديث نموذجا للدلالة على تأثير الاقتصاد على المجتمع، وجدنا خير تفكيك لذلك التأثير عند كارل ماركس، حيث يفيد العلامة ماركس بأن التاريخ الأوربي ينقسم إلى فترات تاريخية، من فيودالية وبورجوازية واشتراكية وشيوعية، بناء على نمط الإنتاج، حيث تمتاز كل فترة تاريخية بنمط أهلها في الإنتاج، وكلما استولى نمط معين، جلب معه بنيات مجتمعية معينة، ومن ثم تتكون علاقات مجتمعية محددة، لها قيمها وأخلاقها بناء على تكوينها الاقتصادي، وعلاقتها بالقوى المهيمنة في كل بنية من الإنتاج مجتمعية(3).
أما من حيث التأثير الذي يتركه الاقتصاد على أحوال المجتمع أفرادا وجماعات، من زاوية السيكولوجيا، فذلك هو ما يشير إليه العالم النفسي أبراهام ماسلو، ونظريته الشهيرة للخاصة والعامة، تدرج الحاجات، حيث يفيد فيها بأن النفس البشرية لا يمكن أن تبلغ مداها من التنمية الذاتية إلا إذا أشبعت برغبات تدريجية تبدأ من الغرائز الفسيولوجية وتنتهي بالهرم السابع الذي هو تحقيق الذات والإبداع الفلسفي والفني(4).
وبناء على ما تقدم، مما تم كشفه من خطورة الشأن الاقتصادي في حياة الشعوب والمجتمعات والأفراد، فإن ارتباك و تدهور الشأن الاقتصادي لا بد له من أن يترك تأثيرات متعددة الأوجه على المجموعات البشرية، قديما وحديثا، ولا يمكن إيجاد مجتمع بعيد عن تلك التأثيرات، كما لا يمكن إهمال تبعات المعيشة على مجتمع يعيش تحت وطأة الارتباك الاقتصادي. ومن هنا فإن مرور الأحواز بهذه الأزمة الاقتصادية المزدوجة -وسيتم تبين معنى الأزمة الاقتصادية المزدوجة بعد قليل- لا بد أن يجلب له مجتمعا يقع تماما تحت تأثير مختلف التبعات الاقتصادية المتأزمة.
إن الأحواز منذ احتلاله من قبل فارس/إيران، عانى من تبعات اقتصادية جسام، حيث ما إن بدأ الاحتلال بتوطيد دعائم حكمه عبر نهب ثروات الأحواز، حتى فرض على الشعب والمجتمع الأحوازيين سياسة قوامها التفقير، وجعل الشعب في دائرة الكفاح من أجل لقمة العيش. ولم تكن سياسة التفقير سياسة بغيضة ناتجة عن بغض قومي أو عنصري أبدا. بل هي سياسة واعية و«ممنهجة» ارتدت بنتائج سريعة لصالح المحتل، حيث كانت تعني على طول التاريخ في ظل الاحتلال المستمر لقرن، ارتدت بنتيجة عظمى هي انهماك الأحواز في تحصيل أولى الغرائز اليومية التي تمكن الفرد والجماعة من الاستمرار في الحياة، لتتحول الحياة الأحوازية هكذا إلى حياة كفاح من أجل البقاء، لا يتم صرف طاقات أهلها إلا إلى تحصيل الضروريات التي تسمح بالبقاء.
وقد استمرت هذه السياسة التي كان قوامها التفقير، بما يعني منع الشعب الأحوازي عن تجاوز درجة الحاجة الغريزية إلى درجة الاعتزاز بالنفس واحترام الذات والإبداع والتحرير والفن، حسب عبارة ماسلو، استمرت هذه السياسة لعقود حتى جاءت فترة العقوبات الأمريكية على نظام الجمهورية الإسلامية، فوقعت دولة الاحتلال كلها، بأحوازها التي احتلتها واستعمرتها وباقي مناطقها، تحت أزمة حصار اقتصادية قاتلة، مما أدى لجعل الأزمة على الأحوازيين مزدوجة، لأنها زادت من سندان التفقير والتهميش التي كانت هي سمة الاستعمار الإيراني في تعاملها معهم، زادتها ضراوة وحدة وتأثيرا. وهنا بالتحديد ارتبكت شؤون الشعب الأحوازي رأسا على عاقب، بما أدى لتيه شعب الأحواز بين أمواج هذه الأزمة، والفقر المدقع، فلجأ تارة إلى بيع المخدرات سبيلا للحياة، وتارة إلى زيادة بيوت الدعارة(6) في المدن الأحوازية الكبيرة (أرجو أن لا يثير هذا الكلام حفيظة القارئ الكريم وأن يراجع الإحالة أدنى هذه المقالة) وتارة إلى ظاهرة «التسليب»، وتارة إلى ظاهرة «البيع المتجول في الشوارع»، ومختلف المظاهر الاقتصادية التي يتم مشاهدتها في الأحواز ومدنها كل يوم.
ولكن باعتبار أن مقالنا لا يخص اهتمامه الكبير بمظاهر الأزمة الاقتصادية، والتي قد تتمظهر على شكل زيادة الفقر، والتضخم المنفلت، وفقدان المقدرة الشرائية، وعدم تغطية الدخل لتكاليف المعيشة إلخ، وإنما يصب جل اهتمامه بتبعات تلك الأزمة، وخاصة منها التبعات القيمية، حيث تجلت تلك الأزمة في أخطر شؤونها بهذا الارتباك المجتمعي القيمي، بما جعل القيم الأحوازية في مهب ريح العيش، وتحت زوبعة الفقر الذي لا يذر، وبات الفرد في كفاحه في الحياة، كفاحه من أجل توفير المصروف اليومي وحصول الخبز والقوت والمأكول عموما، لا يراعي للقيم ذمة، ولا يولي للصدق في المعاملات، ولا للعلاقات الفردية والأسرية اهتماما وعناية، ليس لأنه منفسخ الأخلاق والتربية الأسرية، كلا بل لأن الأزمة الاقتصادية في كل مكان، في الأحواز وغيرها، تجعل الغاية الوحيدة هي الخلاص من وطأة الجوع، بعيدا عن التدرجات الأخرى للحوائج الإنسانية من الأخلاق والتقدير.
وهذا الأمر هو الملاحظ في جميع الحدود الإيرانية والمحافظات الفارسية التي لا تهم هنا، بل ما يهم هو وقع ذلك على الأحواز وتأثيراتها المزدوجة. وبما أن القيم في الأحواز تنبع من مصدرين قديمين، هما العادات والسنن، والدين، فإن الملاحظ في قراءة الوضع الأحوازي اليومي، هو تطاول الأزمة الاقتصادية عليها، حيث أصبحت هذه القيم لا تعبر عن أحوال المجتمع تعبيرا كبيرا، بل جعلتها قيما منسية، لا يريد المجتمع التعامل معها.
وبما أن القيم يجب أن تكون متعاطية مع المجتمع، تخدمه ويخدمها، أي تلبي حاجته المادية والمعنوية معا حتى تصبح قيما موضوعية ومبررة الالتزام، فإن ترك القيم تحت تأثير الاقتصاد المتأزم جعل المجتمع هذا، خاصة أجياله الجديدة التي نشأت في ظل هذا التأزم، لا يتعاطى مع القيم إلا بغرابة، وهي غير مفهومة من قبل الفئات المجتمعية، ليس لها ترجمة على أرض الواقع، وهي لذلك في طور التلاشي والزوال، دونما إحلال قيم أخرى عنها تؤدي تلك الوظيفة المجتمعية المعنوية التي تحفظ للمجتمع تماسكه ودعته، وتجعله مجتمعا يتمتع بثقة، الثقة باعتبارها قوام التعاملات اليومية ومحرك الاستمرار في التعامل والعيش المشترك(7).
وإذا ما كان من المحققين الأحوازيين من يستطيع تحليل ارتباك القيم في المجتمع بعوامل أخرى، بيد أنه يبدو هناك إجماعا على زعزعة القيم، وابتعاد الناس عنها، حيث بات التعامل بين العرب لا يتم على الأسس التي كان يتم عليها سابقا، وحيث باتت الناس على يقظة مريبة ومتعبة عند دخولهم في تعاط مع آخرين، قد يقربون نسبا وقد يتباعدون. إنه المجتمع الذي ظل يدور ويجتهد من أجل قوت لا يتوفر ومن أجل كد في حصول مستلزمات الحياة، من مأكل ومسكن ووسيلة نقل ومدخرات، عصفت بكل ما يقف أمامه من قيم وسلوكيات معيارية تحولت إلى عقبة كبرى أمام توفير هذه المتطلبات الواجبة.
وهنا بالتحديد يجب العناية بمعنى تحول القيم إلى عقوبات أمام ضروريات الحياة والمتطلبات الواجبة. فهذه العبارة توضح بجلاء ذلك الطريق المؤدي من الفقر إلى انعدام القيم. فهنا يجد الفرد نفسه أمام خيارين: إما الالتزام بالقيم غير الواقعية، وإما تحمل الجوع والفاقة أو حياة الاستئجار أو فقدان الوظيفة. يجد الفرد الأحوازي نفسه هنا أمام الالتزام بتحرير الأحواز والقول بوقوع الاحتلال والالتزام بالعروبة، وبين السجن والفقر وفقدان الدخل الشهري. وليس سهلا القول بأن الخيار الأمثل هو خيار القيم، فذلك مجرد «موهومات» ليس لها صلة بحياة الشعوب والمجتمعات. بل إن النظرة التحليلية هي وعي هذه العلاقة، والتفطن إلى مآلات اضطرار الفرد بين خيارين، واحد يفضي إلى تعطيل الحياة، وواحد يفضي إلى معنويات لا تغني ولا تسمن من جوع.
مصدري القيم في الأحواز: السنن
استمدت الأحواز على طول تاريخها التليد، قيمها من مصدرين رئيسين هما السنن والتقاليد، والدين. ويجب التصريح هنا بكل ثقل بأن حظ القيم النابعة من السنن والتقاليد فاقت القيم العالمة الدينية، واستطاعت أن تصبغها بلونها وسلوكياتها، حيث ظل التفوق في المجتمع من نصيب القيم النابعة من العادات الجارية في المجتمع الأحوازي العربي القبلي(8).
ولكن القيم هذه سرعان ما فقدت مكانتها في نفوس السالكين في أطرها، لأسباب تتعلق بالتحول الاقتصادي الذي جرى في الأحواز (إلى جانب أسباب أخرى لا تندرج في البحث هذا رغم خطورتها وشأنها). لقد كان للتحول الاقتصادي الذي جرى في الأحواز من الإنتاج القديم، الزراعي بالمجمل، والمرتكز حول الإنتاج من أجل الاستهلاك، كان لذلك التحول الاقتصادي الأثر الكبير في تهالك هذه القيم. فبينما كانت المجموعات الأحوازية، الظاهرة على شكل قبيلة ومنتظمة في هذا الوحدة، ترتكز على الأرض، وما تتيحه من خيرات، حيث كانت الأرض هي التي تحدد العلاقات بين الأفراد والمجموعات، وكانت هي التي تقوم بتقسيم الناس على أساس تراتبية تقليدية، معروفة في إطار التقسيم القبلي بين شيوخ وأعيان وعوام وأصحاب «الجرش» (الحلف والولاء) والصراعات القبلية إلخ.
إن القيم التي كانت تسير العلاقات المجتمعية في الأحواز القديمة، كانت متصلة أكبر الاتصال بنمطها في الإنتاج. ولذلك نرى قيم الرجولة مثلا والمبارزة والأبوية وتقديم الجنس الذكوري على الإناث، وما في معنى ذلك من القيم المعروفة، تستمد وجودها وتكتسب مبررها من هذا النمط في الإنتاج إلى حدود بعيدة. فعلى سبيل المثال إذا ما كان الذكر هو قوام المجتمع فذلك إنما ينبع من أنه صاحب المقدرة الجسدية الأقوى الذي تمكنه من حرث الأرض والمصاولة ضد المعتدين لتصرف الأرض مصدر الحياة(9). ولكن مع قدوم الأحواز إلى نمط في الإنتاج حديث، بفعل دولة الاحتلال البهلوي وسياسته في مصادرة جميع مصادر الرزق للشعب الأحوازي، فقدت كل الفئات المجتمعية مصدر رزقها، وتحول إثر ذلك نمط الإنتاج إلى نمط إنتاج جديد، تمتلكه الدولة بنظامها البيروقراطي وصناعتها من جهة، ويتم عبر نشاط السوق الحر من جهة أخرى، وهو كما لا يخفى نمط إنتاج مشوه، ما كان له إلا أن يشوه القيم القديمة النابعة من الإنتاج التاريخي المعهود.
ومن هذه النقطة بالتحديد فقدت الكثير من قيم المجتمع الأحوازي الزراعي اتصاله بأسلوب حياته في كسب العيش، وأصبحت هذه القيم، على الرغم من تمتعها ببقاء ومكوث، غير متمتعة بذلك الاتصال الحثيث بواقع الحياة وتغطيته لأسلوب حصول العيش والقوت(10). فمثلا إذا كان التقسيم التراتبي المتجلي في الشيوخ والعوام يمتلك صلته بالواقع من كون الشيخ هو مالك الأرض والعوام فلاحون على أرضه، وإذا ما كان قانون التوارث يمنع البنت من ميراث الأب، وهو ميراث الأرض عموما، وإذا ما كان التحزب والتعصب القبلي يحفظ حدود القبيلة وأراضيها، فإن دخول إنتاج جديد على المجتمع أفقد تلك التقسيمات مبررها تماما، وأصبحت مسميات على غير مسمى، ليس لها ما تعكسه على أرض الواقع، ومجرد مورث قديم.
ولكن مع دخول الأزمة الاقتصادية أشدها في عصر الجمهورية الإسلامية انعكست الأحوال بشدة، وذلك لأن إدخال الأحواز من الإنتاج القديم إلى الجديد قد حافظ لها على بعض قيمها. ليس لأن التفقير كان قليلا في العهد البهلوي، كلا، بل لأن العادات والتقاليد كانت حديثة العهد في تلك الفترة، كان الجيل الذي شهدها يحرص على استمرارها وعلى اتصالها بالواقع، وهو الجيل الذي أورثها إلى الأجيال التي أعقبته. إضافة إلى أن حياة القيم ليست كحياة باقي الظواهر، لأنها حياة بطيئة تستمر وتتقادم، ولا يتم تغييرها بعد إلى تعاقب أجيال متوالية. ولكن عهد الجمهورية الإسلامية منح الوقت اللازم لتغيير القيم ودخولها في طور التلاشي بعد تعاقب الأجيال، لتتلاقى هذه الأجيال التي ذابت قيم أسلافها وتقاليدهم وعاداتهم، بالتزامن تماما مع مرور دولة الاحتلال بأزمة خانقة نتيجة إرهابها الدولي.
ومن هنا وجد الجيل الأحوازي نفسه، جيل السبعينيات والثمانينيات، وجد نفسه أمام واقع مجتمعي له قيم بالية: القيم المتأتية من قيم الأسلاف، فوجدها قيم لا تلبي واقع حاله اليومي، ولا تلبي واقع حياته في المجتمع، من جهة أخرى، لأنها تقف حائلا أمام مساعيه الاقتصادية من أجل توفير أبسط متطلبات الحياة في دولة قوام سياستها تفقير الشعب العربي الأحوازي. وبعد كل ذلك ما كان للفرد الأحوازي والمجتمع الأحوازي برمته، إلا ترك هذه القيم، والنظر إليها باعتبارها معوقات أمام مساعي الفرد في توفير اقتصاده. فإذا ما كانت المعاملات الاقتصادية تتطلب رعاية الأصول الأخلاقية، فإن ذلك يعني على الفور التقليل من الربح، ومن ثم العجز في تسديد تكاليف مدرسة الأبناء، أو عدم القدرة على توفير تكاليف معالجة الأسرة إلخ. وبالمثل إذا ما كان يتطلب الحفاظ على العِرض التزام العفة، فإن ذلك كان يعني مشقات العزوبة في مجتمع ارتفعت فيه سن الزواج نتيجة الفقر إلى ما فوق الثلاثين، فكان التراخي في الالتزام بالعفة وتفضيل العلاقات الخارجة عن إطار الزواج.
إن التقاليد والسنن في الأحواز فقدت موضوعيتها لتعارضها حاليا مع الاقتصاد المعاش. وذلك لأن تداولها يعني تماما فقدان مصادر الرزق، وإنْ كانت مصادر الرزق غير أخلاقية، كما أن السلوك ضمن التقاليد والعادات، العادات المتجلية في النخوة وفي الصدق وفي الإيثار وفي مساعدة القريب والكرم وبذخ العطاء إلخ، كلها باتت سلوكيات تؤدي لمزيد من الفقر والتقوقع في خانة المجاعة. هذا هو سر ذلك التراخي في التقاليد، وسبب ابتعاد الناس عنها؛ ليس لأنهم أشرارا بذاتهم يميلون إلى سلوك غير متأطر وغير ملتزم، بل لأن ظروفهم المعيشية الراهنة جعلت من أي التزام متناف مع شروط استمرار الحياة وتوفير متطلباتها واحتياجاتها الشحيحة.
مصدري القيم في الأحواز: الدين
استمدت الأحواز على طول تاريخها التليد، قيمها من مصدرين رئيسين هما السنن والتقاليد، والدين. ويجب التصريح هنا بكل ثقل بأن حظ القيم النابعة من الدين كان أقل من القيم النابعة عن السنن والتقاليد. وذلك لأن التاريخ الأحوازي يثبت بقوة بأن الناس في هذه البقعة الجغرافية طوعت الدين لنمط حياتها القبلي والأبوي، فلم يتمكن الدين إزاحة هذه القيم وتمكينها في نفوس البشر.
إن الدين في الأحواز على الرغم من إسلام الناس منذ مطلع الدين، صيغ على مقاس المجتمع التقليدي القبلي، وبات الناس في الأحواز يأخذون من الدين ما يلائم كيانهم القبلي، ويطرحون ما يتعارض معه. وبما أن الدين الإسلامي عربي الطابع، فكان التزام الناس به يتم من هذه الزاوية، من زاوية تلائمه مع العروبة أكبر تلائم. وخير دليل على ذلك هو قانون الميراث الإسلامي، الذي تم ذكره سابقا، حيث ظل متروكا لا يعمل المجتمع الأحوازي به، قديما وحديثا، لا يورث الإناث. كما أن قانون القتل والقصاص والديات، هو الآخر، ظل بناء على المنظومة القبلية، حيث يعود مرجع البت به إلى الشيوخ الذين يفضون الخصومات بين الناس. إلى جانب طرح القيم الإسلامية الخاصة بالملكية الفردية، حيث ظلت الملكية جماعية من جهة، وقابلة للسلب عبر الغزو من جهة أخرى.
وإذا كان التاريخ الأحوازي قد شهد إقامة دولة شبه دينية، يستند مصدرها على الدين الإسلامي، وهي دولة المشعشعيين(11)، فإن تتبع جميع آثار هذه الدولة، ومعاينة تاريخ اتصالاتها، وأسلوب حكمها، وطريقة توارث حكامها، والقيم التي طبعت سريان الحكم والإدارة فيها، كلها تثبت مدى تأثرها بالقيم والتقاليد المجتمعية القبلية، بالتزامن مع ابتعادها عن القيم الدينية في الحكم والسياسة. كما أن ارتكازها على تعريف محدد للدين، هو التعريف المبني على الاتصال والغيب، هو الآخر يثبت مدى تأثرها بالأساطير الجارية في المجتمع، وتقبل العامة لهذه الأفكار النابعة من الحياة اليومية، أكثر منها من النصوص الدينية والحدود القرآنية على سبيل المثال.
ولكن العلامة الفارقة في منظومة القيم الدينية في الأحواز كان بلوغ الجمهورية الإسلامية سدة الحكم، وتكوين حكم ديني شامل، فشل في تلبية جميع متطلبات الحياة الكريمة. فعلى الرغم من الإيمان بالقضية الأحوازية واحتلالها من قبل إيران، ظل المجتمع الأحوازي العربي متأثرا إلى أكبر الحدود بما يجري في «الدولة الإيرانية» صاحبة الحكم عليه، وبات يتأثر في مجريات المجتمع الإيراني والحكم فيه إلى أكبر الحدود، أكثر من تأثره بالوطن العربي، نتيجة انقطاع الاتصال بهذا الوطن وتوطيد الاتصال ب “الدولة الإيرانية” بالآن نفسه.
وعليه، عندما دخلت الجمهورية الإسلامية، خاصة منذ عقدين، في أزمة اقتصادية خانقة، بات الناس في هذه الدولة يرون مساوئ الحياة التعيسة التي فرضتها عليهم الطغمة الحاكمة من رجال الدين، يرونها من زاوية الدين نفسه، وبات الحديث اليومي يسأل عن قيمة هذا الدين الذي أورثهم كل هذا الفقر والفاقة. وهذا هو انطباع جميع الشعوب القابعة في إيران، حيث يتم إحالة أي نقص في الحياة اليومية لعموم الناس إلى الدين، بحيث بات الدين الذي يمثله رجالات الدين الحاكمين هو المسؤول الأول عن هذه الأزمات في الحياة(12). وتحت هذا النفس العام الذي يروجه بشدة الإعلام المعارض خصوصا، الإعلام المعادي للإسلام الشوفيني الطابع، تأثر المجتمع الأحوازي العربي، وبات نفوره عن القيم الدينية متأثرا بالطابع الفارسي، خاصة إذا استذكرنا مدى متابعة الشعب الأحوازي للإعلام والصحافة والمنشورات الفارسية، نتيجة لغة التعليم الفارسية التي ربما يجيدها الأحوازي أكثر من العربية.
إن القيم الدينية اليوم في الأحواز خالية عن المضمون، جاءت تماما لصالح طرحها وعدم التزام الناس بها. وبما أن الأحواز لم يكن منذ تاريخه ديني السلوك والقيم، بل تقليدي القيم، فإن وقوع أزمة في الحكم الديني من جهة، وتأثير الإعلام الفارسي العنصري والمعارض للإسلام من جهة أخرى، أبعد الناس أشد البعد عن الدين. ثم إذا تمت العناية بأن الدين الشيعي بما لديه من عقائد وشعائر تنافي العصر الحديث، غيبية الطابع تقترب من الخرافة، فما كان لمثل هذه القيم أن تصمد أمام التحولات العالمية، وهي أساسا قيم الطغمة الحاكمة التي تزور باسم الدين، واستعبدت الشعوب في إيران باسمه وقضت على قوتهم اليومي وجعلت أقصى غايات الفرد في الحياة هي توفير شقة سكنية أو سيارة، أو توفير الوجبات اليومية من المأكول.
زعزعة القيم: الفراغ والتيه
لم يكن التحليل الذي جاء عن القيم واتصالها بالاقتصاد مجرد بحث قيمي، نوستالجي الطابع لحياة خيالية قوامها الأخلاق النبيلة. كلا؛ إنه تحليل موضوعي يريد استكشاف ما يجري في المجتمع الأحوازي في حالته الراهنة من زعزعة قيمه المتوارثة، سواء الدينية أو التقليدية، وبيان ما سيجري من جراء ذلك.
فأول التبعات لهذه الحالة الأحوازية، هي إدراك الأحوازيون لاستحالة الحياة البشرية بدون قيم، فتم من جراء ذلك العودة إلى القيم القديمة، أو اكتساب أخرى مستحدثة. وهنا وقع الارتباك مرة أخرى، بين من عاد إلى القيم التقليدية فتصرف في إطارها دون مرفقاتها اللازمة، لأنه لم يكن قد عايشها وإنما سمعها رواية عن الآباء، في أحسن الأحوال، فرجع إلى القبلية، والتزم بمكانة شيوخها وأعيانها وقيمها من أبوية وذكورية وكرم ومشيخة إلخ، فعمل بها بشكل فج، حتى تحولت إلى أشكال مضطربة، ظهرت في المجتمع الأحوازي إما على شكل شيوخ ليس لهم من صفات الشيوخ القدماء شيئا (وإن كان في القدماء منهم طوام وجرائم)، حتى صار التقليد لهم يساوي تقديس السلطة والاعتداد بالأنساب على حساب العرب الآخرين من قبيلتهم أو قبائل أخرى، ليجرهم هذا إلى العمالة والتعاون مع سلطة الاحتلال. وإما تحولت هذه العودة إلى رجوع قيمة الشجاعة على شكل معارك قبلية عنيفة لا أخلاق ولا «مرجلة» فيها، وإما على شكل عنصرية ومناصرة لاسم القبيلة فقط، والابتعاد عن القبائل الأخرى، ليتحول عندهم المجتمع الأحوازي إلى مجرد قبائل وعشائر، لا شعب ذو هوية عربية يقع تحت احتلال الفرس.
أما القيم الدينية فكانت عودتها، بعد الفراغ الحاصل عن طرحها، على شكل تسنن لم يشهد الأحواز له مثيل، فنشأت فئات من الشباب في المجتمع الأحوازي سنية سلفية، لا تعرف من السلفية إلا الجلباب والسواك ومعاداة الشيعة والتكفير، راحوا ضحايا إعدامات السلطة الإيرانية المحتلة، أو ضحية ذهابهم للجهاد في سوريا عند البعض القليل منهم! بالإضافة إلى عودة البعض الآخرين من الفئات الأحوازية إلى نسخة من التشيع جديدة متمثلة في التشيع العراقي من الزيارات واللطم والمواكب، صورة غالية لا تشبه إسلام الشيعة كما شهدها الأحواز كثير تشابه، حتى بات هذا المجتمع يرى الإسلام خلاصة من البكاء للحسين، والزيارات! ثم إلى جانب هذين المصدرين، نشأت قيم حداثية بين النخب المتعلمة في الأحواز، هي الأخرى عصف بها فراغ القيم، فبات هؤلاء بين من يرى الحداثة في القيم عبارة عن التفريس والتشبه بالفرس، وبين من يرى الحداثة معاداة الدين الإسلامي والتنكر للقيم الدينية والقبلية معا، وبين من تبنى صورة من اللاإدرية السلبية التي لا تعرف للحياة معنى!
الاستنتاج
وبعد لا يمكن إنكار الصورة السوداوية التي رسمتها هذه المقالة من دون شك، بيد أنها حاولت إسناد هذه الصورة بأدلة من أرض الواقع الأحوازي، تبرهن على أنه مجتمع في طور تلاشي القيم. ولم يكن قصد هذه الدراسة قط إسناد تلاشي القيم وزعزعتها إلى الذات الأحوازية وقدحها، بل تم ذلك التحليل بناء على الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الشعب الأحوازي جراء حكم احتلال بربري جعل الشعب لا يجد سبيلا إلى الحياة إلا بطرح القيم والتخلي عنها، لأنها باتت قيما تمانع حياته، وتقف حجر عثرة أمام توفير العيش البسيط.
إن زعزعة التقاليد القديمة والعادات المتوارثة في الأحواز كان نتيجة لتحول الإنتاج في مرحلة الاحتلال البهلوي، مما جعل القيم المتداولة العربية لا تعبر عن أسلوب الحياة، وأسلوب توفير المتطلبات الضرورية، مما أحدث فجوة بينها وبين الحياة اليومية.
مثلما كان النفور من القيم الدينية نتيجة لذلك الحكم الإسلامي في الجمهورية الإسلامية التي حولت رجال الدين الممثلين للدين إلى أكبر لصوص في التاريخ، يحكمون الناس بالحديد ويجوعونهم ويسرقون خيراتهم. وهو الأمر الذي حول الدين في عيون الناس إلى ما يرونه يوميا من أساليب الحكم الديني الظالم، والتساوي بين الدين كما هو وبين الحكم الديني في الجمهورية الإسلامية. ولكن بما أن الشعب الأحوازي، شأنه شأن كل البشر، اكتشف استحالة الحياة من دون قيم، لأن ذلك يعني انعدام إمكانية إقامة حياة مجتمعية، فإنه لم يجد بدا إلا العودة إلى القيم، فرارا من الفراغ الناتج عنها. وهنا وقع هذا الشعب بين القيم المتضاربة: بين القيم القديمة التي اندثرت ولم يبق إلا رسومها على شكل مشوه، وبين القيم الدينية الشيعية التي باتت غالية لا تمت إلى الإسلام بكبير صلة، وقيم سنية ليس لها قاعدة مجتمعية ولا عقبة تاريخية تسعف تداولها. أما القيم الحداثية فهي الأخرى جاءت منعدمة عن رصيدها الفلسفي وعقبتها التاريخية ومعرفتها الرصينة العاقلة الهيومانية.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات
الهوامش والمصادر
1: . عبدالرحمن ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبدالواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة.
2: . راجع حول التفسير الخلدوني الذي تم تبنيه هنا دون باقي التفاسير الموثوقة الأخرى إلى: محمد عابد الجابري، فكرإبن خلدون: العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009.
3: آلن وود، كارل ماركس https://philpapers.org/rec/WOOKM-2
4: Abraham Maslow, A theory of human motivation
5: عباس العباسي الطائي، قافلة الحب والموت 2007.
6: أرجو أن لا يثير هذا الكللام حفظية القارئ الكريم، وأن لا يعتبر ذلك تجاوزا على العرض الأحوازي المصان، بل ما حدى الكاتب على هذا القول هو توفر احصائيات غير منشورة عملتها نخبة أحوازية تفيد بأن معظم دور الدرعاة في الأحواز العاصمة وعبادان على وجه الخصوص، يتم إدراتها من قبل العرب، وليس من قبل المستوطنين. وذلك من تأثيرات الاقتصاد وتبعاته، حيث لا يضطر المستوطن المتمتع باقتصاد مستقر على حساب الشعب إلى الكفاح في سبيل الحياة وتأمين القوت اليومي، ولا يضطر إلى سلوك ما يخرم المروءة من أجل توفير خبزة لنفسه وأهله.
7: الفيلسوف التحليلي الأمريكي هيلاري إنهيار ثنائية الحقيقة / القيمة https://www.hup.harvard.edu/books/9780674013803
8: أنظر مثلا لذلك إلى أقدم مصدر يتوفر لدينا: السيد علي بن عبدالله المشعشعي، الرحلة المكية، مخطوط في مدرسة سبهسالار في طهران تحت رقم 1513.
9: راجع مثلا: إحسان النص، العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي، دار الفكر، 1973.
10: أنظر مثلا إلى: محمد مهدي روشنفكر، نوسازي وجامعه ايلي در دوره بهلوي، نشر مورخان، طهران 1397.
11: جاسم حسن شبر، تاريخ المشعشعين وتراجم أعلامهم، مطبعة الآداب، النجف 1965.