دأب النظام الإيراني طيلة العقود الماضية على خداع شارعه والمجتمع الدولي عبر انتهاج سياسة المراوغة وتوزيع الأدوار، واستطاع بذلك تجاوز منعطفات صعبة وتحديات جسام أوشكت أن تؤدي به إلى الهاوية. لکن خروج دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018م(كاحد اهم انجازات هذه السياسة) وكذلك أحداث الشارع العنيفة عام 2022م اثر وفاة الفتاة الكردية جینا(مهسا)اميني اثناء اعتقالها على خلفية الحجاب والتي أخذت بالنظام الى حد السقوط -كما وصفها الرئيس الأسبق “روحاني”- والاهم من ذلك قلق النظام المتزايد من عدم ضمان تمرير الخلافة بعد وفاة خامنئي بسلام ، دفعت بالأخير للتخلي عن هذا النهج واستبداله بسياسة” تنقية”دوائر الحكم من أي عناصر وتوجهات يشوبها شيئ من الريبة والتشكيك حتى وان تفانت في معارك الوغاء ومسارح الولاء سلفا. وبعد مرور عامين تفاجئنا بتخلي النظام عن سياسته الجديدة وعودته لنهجه القديم!! ما يثير هذا السؤال بان: ما الذي جعل رأس النظام يتراجع عن سياسة “التنقية” والعودة الى لعبة توزيع الأدوار بعد ادراكه لعدم كفاءتها ومنافذ خطورتها ؟ وهل تنتشله من ما هو فيه من تحديات؟
اليوم، وبعد وضوح ملامح المشهد قد يجد المشككون بالرواية الرسمية لاسباب وفاة الرئيس الايراني الاسبق”رئيسي” ووزير خارجيته”عبد اللهيان” قرائن مفيدة للبرهنة على شكوكهم السابقة، سيما بعد اغتيال رئيس حركة حماس في قلب طهران والاختراقات الواسعة في منظومة الامن الايراني ، ما يعزز نظرية تدخل العامل الخارجي بشكل مباشر اوغير مباشر في اغتيالهما ، خاصة وان التردد المريب للسلطات في الإعلان عن مصيرهما، ومنحهما لقب “الشهيد”وهو نعت لا يوصف به إلا من يقتل أو يصاب في المواجهات ، كلها تدعّم هذا الاستنتاج.
ويرى بعض المهتمين بالشأن الايراني، ان استهداف رئيسي وعبد اللهيان (ان ثبُت) لم يكن يرمي للتخلص منهما بسبب دورهما الفاعل في دعم أحداث 7 أكتوبر في غزة فحسب، بل كان أيضا بمثابة رسالة واضحة لراس النظام، باقتراب الخطر منه وامكانية القضاء عليه ما ان لم يتوقف عن سياساته في المنطقة، الامر الذي اجبره لابداء انعطافات مرنة بدءاً من الداخل عبر اللجوء لإحياء لعبة “السُلّم والثعبان” وإضفاء صبغة الإصلاح على المعتدلين خُلّص الولاء وانتدابهم للعب الدور الذي تجلى بوضوح في تزكية ودعم الرئيس الجديد واعادة المتهمين بـ ارتهان ايران الى الغرب ومنحهم هامشا من المناورة.
أما على صعيد السياسة الخارجية ودعم حلفاء إيران من تنظيمات وجماعات مسلحة، بدت القيادة الإيرانية بعد أحداث 7 أكتوبر مرتبكة في موقف حرج للغاية في ظل تخبط حائر و اجهاز عسكري خاطف وانهيارات متسارعة ومفاجئة وزحف مرتقب لا يكاد أن يتوقف الا عند نسف النظام ،ما دفع به للتعامل بحذر والتركيز على بقاءه حتى وان كان على حساب التخلي عن مضض من دعم هذه الجماعات التي كان يراهن عليها كجبهة امامية و كجزء من استراتيجية أمنه القومي، كما وصفها”مصطفى محمدي بور”وزير الأمن الاسبق الايراني!
لا شك بأن هذه السياسة التي انتهجتها إيران ساهمت حتى اللحظة في تفادي الانزلاق في منحدر الهاوية ليس لفاعليتها ونجاعتها الذاتية،بل نتيجة ظروف حتمتها الانتخابات الرئاسية الاميركية، الا ان جل المؤشرات قد تدل على عدم ضمان كفاءتها في ما يطمح إليه النظام، إذ أن انتداب جرّاح القلب الرئيس ، لاجراء اصلاحات دون تفويض واسع له، ودون توفر مشراط جراحة حاد يمكّنه من إجراء عمليات جراحية معمقة واستئصال جذري مؤلم ، سوف لن يجدي نفعا مع شارع انهارت جل ثقته بكافة اركان واشكال الدولة والنظام.
أما على صعيد السياسة الخارجية فإن القهقهة الماكرة لوزير الخارجية الأسبق( ظريف) لم تعد تنطلي لا على المجتمع الدولي ولاعلى شعوب ودول المنطقة بعد ان بانت خلف ثنايها انيابا فاسدة ورثة لاتنفع الا في عض اصابع الندم،خاصة في ظل الانهيار الدراماتيكي لأهم أوراق كانت تمتلكها إيران تلوح بها تارة وتضغط بها اخرى وتجيرها لانتزاع مكاسب داخلية ضيقة.
انكشاف إيران الأمني ، وعدم تكافؤها التقني والعسكري مقارنة بترسانة الغرب واسرائيل المدللة في ظل غياب دعم واضح روسي وصمت صيني مريب ، والاهم من ذلك فوز ترامب الساحق وهزيمة الديمقراطيين، مضافا الى شارع ايراني مهمش ومهشم يغلي غيضاً وغضبا نتيجة الفساد المستشري وسوء الإدارة وغياب الحكم الرشيد والاستهتار بمقدراته المعنوية والمادية ، قد تعتبر من أبرز الأسباب التي زادت في شهية “نتنياهو” لحد النهمة المفرطة وتركت لعابه يسيل الى توجيه ضربة عسكرية شاملة من شأنها أن تؤلب شارعاً يبحث عن أي سبب للخلاص من الجحيم الذي يعيشه وينهي صداعا طالما أرّق رعاة اسرائيل الغربيين ونتنياهو وشارعه المسعور والحالم في الهيمنة على شرق أوسط جديد يفصله على مقاسه كما يريد، الأمر الذي حذّر منه بشدة قائد القوات الجوفضائية الايرانية”حاجي زاده” معتبرا بان النظام يواجه تحديات و حربا مركبة ومعقدّة كلها خطرة ، الّا ان اشدها فتكا قد يأتي من الشارع.
أما ترامب الذي يعيش نشوة فوزه الساحق في الانتخابات والذي راح ينظر لنفسه على انه اصبح سيد العالم وحاكمه المقتدر بالله ، بعد أن حباه الاله حياة جديدة وانقذه من شر قتلة أرادها له الاعداء والخصوم وفي مقدمتهم إيران ، فهو وإن بدا غير مكترث بتغيير النظام الإيراني ما أن تخلى عن مشروعه النووي! وظهر غير متحمس لشن الحروب ، لكن من يحيط به من صقور قد يشجعونه على إطلاق يد نتنياهو في المنطقة على أقل التقديرات لاستعادة هيبته المفقودة وتفوقه المعهود!
ثمة سبب آخر يضاف إلى رغبة ترامب الرامية لإحكام قبضة الهيمنة على الشرق الاوسط للحؤول دون النفوذ الروسي والصيني يتمثل بسعيه المحموم لجني المزيد من الغنائم الاقتصادية والتي يحتاجها لإنعاش وتشييد إقتصاد الذي ينبغي أن يبقى كاقوى الاقتصادات، ما قد يفتح مزيد من شهيته لرفد صديقه المقرب “نتن ياهو” بكل ما يريد للهيمنة على تلك الموارد سيما وان جغرافية إيران الواسعة تضم ما يقدّر بين 5-7% من الموارد الطبيعية في العالم وتستهوي أفئدة دعاة الهيمنة والحروب،ناهيك عن موقعها الجيوسياسي المميز وكونها على خط التماس بين الشرق والغرب وأن من يرثها سيتربع على عرش دوائر نفوذها وربما المزيد.
ودون استبعاد امكانية اسعاف النظام وانقاذه من قبل القوى العظمى والاحتفاظ به كلاعب تحركه المقتضيات مهما ضعف ، وفي محصلة إجمالية لأبرز المعطيات ، يمكن القول بأن إيران قد دخلت المنعطف التاريخي الصعب الذي حذّر منه”خامنئي” منذ عامين ، من دون امكانية العودة ، وان مستقبل نظامها على المنظور المتوسط ان لم يكن القريب،قد يواجه أحدي السيناريوهات التالية:
1- اللجوء إلى إصلاحات وتعديلات جوهرية وشاملة من شأنها ان تفضي الى تغييرات بنيوية تنتهي بتغيير النظام كليا وان كانت بالتدرج.
2-وقوع تصدعات وانهيارات دراماتيكية في منظومة دوائر الحكم وحدوث انقلاب مخملي او عسكري.
3-اندلاع احتجاجات شعبية عارمة من المتوقع أن تشعل شوارع إيران الباردة خلال هذا الشتاء نتيجة إجراء تعديلات قاسية في سياسات دعم الوقود وقد تكون متزامنة مع توجيه ضربات عسكرية خارجية محدودة وضغوط سياسية واقتصادية دولية تشل القبضة الأمنية الحديدية وتسمح بتوسيعها لاحتجاجات عارمة لا تتوقف الا عند تغيير النظام ،وهناك معطيات وتسريبات ترجح هذا السيناريو ما لم تتغير المعطيات.
وعلى فرضية تحقق أي من هذه الاحتمالات ، فان امكانية ضبط التغييرات عند حدود النظام غير مضمونة ومن المحتمل أن تفضي الى تفكك الدولة الايرانية ذات التركيبة المشوهة منذ الميلاد والتي تفتقر لعناصر تماسك افتقدت فاعليتها بعد قرن من الزمن ، سيما في انعدام أي بديل واقعي يحظى بهامش من الثقة والقبول لدى الجميع . واخيراً فإن الخيار الذي يمكن المراهنة عليه فعليا ومستقبليا هو إرادة الشعوب المهمشة والمرتهنة في هذه الجغرافيا السياسية المعقدة و التي تكافح وتناضل منذ قرن من الزمن بكل ما أوتيت من قوة للخلاص من العبودية والقهر والتنكيل والتواقة لنيل كرامتها المسحوقة وحريتها المنشودة وقرارها المصادر والتعايش السلمي مع شعوب ودول الجوار.
د.جعفر الهاشمي، خبير مختص في الشأن العربي والايراني