الإثنين, نوفمبر 18, 2024
مقالاتمستقبل إيران: استكشاف البدائل ودور الشعوب غير الفارسية

مستقبل إيران: استكشاف البدائل ودور الشعوب غير الفارسية

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المقدمة

 

 إذا ما أردنا التطرق باختصار إلى السبب الرئيس في التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في “إيران” يمكن إجمال ذلك بتأسيس “الدولة الأمة الإيرانية” وقيامها على تقديم القومية الفارسية ومفهوم الشعب الإيراني بمعناه السياسي على أنقاض كيانات الشعوب غير الفارسية. تأسيس قفز على عدة حقائق الواقع الجغرافية السياسية في إيران اليوم.
وذلك أن هذا التأسيس رفض التعددية السياسية، سواء في زمن الأنظمة الشاهنشاهية أو النظام الجمهوري الإسلامي الإيراني الراهن. كما أن هذا التأسيس يمثل إنكاراً وعدم اعترافاً بتنافر المكونات القومية بلغاتها وثقافاتها وتاريخها.

 

وإذا نظرنا إلى حقيقة تشكيل الشعوب غير الفارسية، والتي تشكل قرابة ٧٠ بالمئة من التعداد السكاني لإيران، أدركنا ما ينتج عن ذلك من تباين في البنية الاجتماعية والهوياتية من جهة، ومن حجم استبعاد قضايا الشعوب غير الفارسية وخصوصيتها ومطالباتها السياسية والثقافية والقومية والتاريخية من جهة أخرى.

 

وقد أدى كل ذلك إلى القمع والتهميش والقتل، إلى جانب سياسات الانصهار الهوياتي القسرية بحق هذه الشعوب التي تنشد الحرية. وكما قال إبراهام لينكولن: إنك تستطيع تحريك الجبال ولكنك لن تستطيع وضع أغلال العبودية في أعناق من ينشدون الحرية! ومنذ قرن توارثت أجيال هذه الشعوب توارثت المقاومة ضد الظلم والاستعمار من قبل الأنظمة الإيرانية المتعاقبة بكافة أشكالها، وتطلعت إلى الخلاص من العبودية المفروضة عليهم من قبل الدولة الإيرانية العنصرية. ولكن رغم هذا النكران للشعوب وكامل قضاياها، سيما الشعب العربي الأحوازي، ظلت هذه الشعوب تقاوم الاحتلال الفارسي طيلة العقود العشر الماضية رغم التعتيم المقصود الذي فرض عليهم، أو فقدان الدعم الأقل، خاصة الدعم الإعلامي والحقوقي والثقافي. ورغم الانتفاضات وحراك الشعب الأحوازي وبقية الشعوب غير الفارسية ضد الدولة الإيرانية، تُركت تلك الشعوب المنزوعة من كل قوة تركت لمواجهة مصيرها بمفردها، مواجهةً القمع الدموي والأمني الشديد.

 

ويثبت الوقت الراهن لمعظم الدول العربية الشقيقة المتضررة من سياسات الدولة الإيرانية الإرهابية والتوسعية، أن لديها فرصة تاريخية لمعالجة هذا التهديد من النظام الإيراني، عبر وضع حد له، وعلاجه نهائيا: وذلك بدعم وتمكين الشعوب الغير فارسية، وعلى رأسها الشعب الأحوازي، في الداخل والمنفى، لنيل حقوقه وصناعة تحالفات استراتيجية من شأنها تفكيك قدرات وقرارات الأحادية  الحكم  الإيراني المركزي داخليا في إطار فدرالية قومية، تضمن لهذه الشعوب حقوقها القومية والسياسية والثقافية والاقتصادية.

 

ورغم ذلك يرصد الإعلام الرسمي وغير الرسمي للدول العربية تخبطاً فظيعاً، ففي المواقف والسياسات المتعلقة بالتعامل مع إيران! يبدو مرجعها لتقييم الحالة الإيرانية انفعالي وغير مدروس، جعلها تذهب باتجاه “تعزيز موقف المعارضة الفارسية” الفاشية” وعلى رأسها رضا بهلوي، الذي يفتقر لأدنى مؤهلات التغيير، وفي مقدمتها رفضه لـ ٧٠ بالمئة من سكان الداخل الإيراني، وهم الشعوب غير الفارسية (١)، التي ترفض من جهتها هذه الشخصية، وتعتبرها أشد قومية وعنصرية من نظام الملالي في نهجه العنصري وإنكاره كافة حقوق الشعوب القاطنة في جغرافية إيران. بما يعني أن تغير العمائم ومجيء القبعات ” سيبقى نظرة وسياسات ونهج “إيران/الفرس” تجاه العرب واحدة لن تتغير.

 

 

ونظراً لما تشهده “منطقتنا العربية” في الوقت الراهن من ظروف حالكة، نتيجة الحرب على غزة ولبنان، مع ما تنذر به من احتمال وصولها إلى إيران، أو تطاول أثارها إلى الساحة الإيرانية، بما قد يؤدي انعكاسها وبقوة على القضية الأحوازية والشعب الأحوازي.

 

وعلى هذا المعطى الخطير، لا بد من تناول الخيارات الممكنة من قبل الدول الفاعلة على الساحتين الإقليمية والدولية للتعامل مع احتمال وصول الحرب إلى إيران، ومحاولة كشف ملابساتها ونقدها؛ بالنظر إلى موقف الشعب الأحوازي أولاً، والشعوب غير الفارسية ثانياً، فضلا عن موقف الشعب الفارسي المهيمن على القرار في طهران. أو بعبارة أدق، محاولة عرض الحلول المثلى، من خلال سبر آراء دول المنطقة والغرب للتعامل مع النظام الإيراني، ثم النظر إليها من زاوية الشعب الأحوازي، والشعوب غير الفارسية مع الشعب الفارسي أيضاً.

 

الخيارات المتداولة كبدائل للنظام الإيراني

 


نقد خيار عودة الملكية الشاهنشاهية

 

تميل بعض المصادر الإعلامية الغربية، والعربية أيضاً، إلى منح ابن الشاه المخلوع، رضا بهلوي، دوراً بين المعارضة الإيرانية في الخارج، مع العمل على إخراجه من ظلمات العزلة والنسيان إلى صدارة المعارضين للنظام الإيراني.

 

وهذه المحاولة لتعزيز مكانة رضا شاه، تثير التساؤل، هل قناعة الدول العربية جدية بأنه بديل منطقي أو معقول للنظام القائم؟ وماهي أبرز الإشكالات التي تواجه هذا الخيار. للإجابة عن الشق الأول من السؤال، قد يبدو بديهياً ميل الأنظمة الشقيقة الملكية الحاكمة في الخليج إلى نظام ملكي وراثي، ولعل ذلك مراد قناعاتهم بابن الملك المخلوع، وذلك هو ما ينسجم أكثر مع نوع الأنظمة القائمة في دول الخليج العربي. لكن الأنظمة الملكية الحاكمة في دول الخليج العربي أثبتت فعاليتها، حيث حققت هذه الحكومات قدر كبير من الرخاء والنمو الاقتصادي، مع تمتع المواطنين بمختلف جوانب الرفاهية والاستقرار والأمن، والأهم من ذلك، المواطنة المتساوية مع العدالة لشعوبها. وعلى النقيض من ذلك، اتسم الحكم الملكي الإيراني بالخلل الوظيفي وقمع وتفقير وتهميش الشعوب غير الفارسية. فعلى عكس دول الخليج العربي، حيث يشترك غالبية السكان في الهوية العربية، فإن إيران متنوعة عرقيًا وثقافيًا. وقد أدى هذا التنوع إلى مطالب قومية وسياسية واقتصادية، وفي بعض الأحيان مطالب بتأسيس حكم ذاتي من قبل هذه الشعوب في أقاليمها، لكن هذه المطالب قوبلت بقمع واعدامات وسجن لقادة هذه الشعوب، ومن ثم قمع وإنكار لجميع حقوقها الأولية وتهميشها بشكل منهجي. وقد حرم كل من النظام الملكي والجمهورية الإسلامية الحالية هذه الشعوب المضطهدة من أبسط الحقوق، كالتعليم باللغة الأم وفرض التعليم باللغة الفارسية فقط، لتفريس هذه الشعوب وصهرها في بوتقته القائمة على العصبية الفارسية.

 

لذا فإن ابن الشاه المخلوع، ورغم إقامته الطويلة في دول الغرب المؤيد للديمقراطية والحقوق، عندما يتكلم عن القيم الديمقراطية يقصرها على الشعب الفارسي فقط، دون سواه من الشعوب القاطنة في إيران حالياً، والتي يحرمها من أبسط حقوقها الثقافية. ومن ذلك إيمانه بوحدانية اللغة الفارسية كلغة رسمية، نافيا وجود لغات أخرى، وربما شعوب أخرى في إيران. حيث يصنف هذه الشعوب ضمن القبائل البدوية المحلية. فيما يصنف المقربون منه، وأنصاره أيضاً، يصنفون مطالب هذه الشعوب بالتهديد، وهو تصنيف يزيل أي احتمال بقناعة مستقبلية لديهم بالتعددية القومية واللغوية والثقافية لإيران الحالية.

 

 

أما عن الإشكاليات المعترضة لهذا الخيار:

 

 

أولا العوامل الشخصية. منذ ظهوره المفاجئ بعد انتفاضة جينا أميني، بدأ الضعف متجلياً على تصرفات رضا بهلوي، الوريث المزعوم للعرش الإيراني السابق، ومن جهات عدة. فأولا يتجنب الحوارات واللقاءات الصحفية المباشرة، والابتعاد عن الدخول في أسئلة الصحفيين والإجابة عنها، ويحاول دائما الابتعاد عن الحديث عن أدنى اعتراف بحقوق الشعوب غير الفارسية. بدلا من ذلك، يسمي هذه الشعوب بتسميات كالقبائل والعشائر، وليس بشعوب لديها هوية قومية وثقافية، مع هوية جغرافية ومطالب مشروعة أيضاً. فيما يصنف لغاتها ضمن مسمى اللهجات المحلية، وليست لغات. فقط يكتفي بأحاديثه الإعلامية القليلة بتركيز الحديث عن القيم الديمقراطية، وعن إيجاد نظام جديد مسالم مع الغرب، وجلب الاستثمار الاقتصادي الغربي إلى إيران الجديدة حسب وصفه، بأسلوب يشبه عرض البضائع البراقة والمزيفة معاً، دون طرح آلية حقيقية وواقعية لذلك، أو طرح حلول حقيقية لأزمات إيران الداخلية والخارجية، بما يضمن حقوق شعوبها جميعا، دون تمييز. وبما يضمن أيضاً عدم استمرار السياسات الإيرانية التوسعية والاستفزازية بوجه آخر، كما حدث سابقاً، باستمرار سياسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية على نهج السياسات الشاهنشاهية التوسعية(٢)، لكن بأدوات وأساليب مختلفة. وهو ما يؤكده بقاء هذه الجمهورية على مطالباتها بالجزر الإماراتية الثلاثة وسواها من حقوق مزعومة في العراق وغيره، على غرار مطالب محمد رضا شاه بالبحرين وسواها. وهو ما يجدد أنصار رضا شاه الأبن به حالياً، سواء بالبحرين أو غيرها من الجزر أو الممالك الخليجية.

 

 

إلى جانب ذلك فإن النظر إلى تصرفاته السياسية التي أدت إلى تكوين ائتلاف مع بعض قوى المعارضة يظهر خطأ خياره في هذا الائتلاف؛ حيث كان ائتلافاً هشا لم يضم إلا أطرافاً غير مؤثرة قائمة على الأفراد، كالمعارضة مسيح على نجاد والممثلة نازنين بنيادي وحامد إسماعيليون؛ ائتلاف ما إنْ نشأ حتى تفكك، وتم إلقاء السبب في ذلك على تصرفات ابن الملك السابق أيضاً.

 

 

ولكن ذلك الائتلاف لم يكن نتيجة ضعف الشخصية في ابن الملك فحسب، بل كان تعبيراً عن واقع آخر-وهذه هي الملاحظة الثانية- واقع فقدانه لأية قاعدة حزبية بين المعارضة. وذلك لأن كبريات الحركات المعارضة الإيرانية في الخارج ترفضه ولا تعتبره ممثلا لها، وأكثر من ذلك تمانع منحه مساحة في الحكم المستقبلي الذي سيخلف النظام القائم. فأولا مجاهدي خلق ترى فيه تخلفاً يقود إلى الماضي المرفوض الذي قضت عليه ثورة ١٩٧٩، ثورة شاركت فيها القوى اليسارية كلها ولعبت دوراً مفصلياً في إنجاحها، كما تعارضه القوى اليسارية، وفي مقدمتها المجاهدين من منطلق رفض أنظمة وراثية، ولا ترى فيها إلا شموليات تخرج البلاد من استبداد ديني إلى استبداد أسري.

 

 

وهذا الموقف لا يتفرد به مجاهدي خلق فحسب، بل يمكن القول بشكل شبه مطلق بأنه موقف جميع القوى التقدمية في المعارضة الإيرانية في الخارج، التي ترى في ابن الملك تجلياً للوجه الظلامي في الانتفاضات الإيرانية. موقف لطالما صرحت به “جبهة ملي” صاحبة التاريخ النضالي الكبير، حيث تجنبت كلياً عن أي تعاط مع هذا الرجل، وفرضت عليه تعتيماً معنوياً عبر عدم التطرق أو الاهتمام لأي نشاط لابن الشاه، إن وجد (جل أعمال رضا بهلوي هي الظهور الإعلامي والبيانات الإعلامية.

 

 

والإثبات رفض القوى التقدمية لدور البهلوي أيضاً، يمكن الإشارة إلى رفض الحركة النسوية الإيرانية له، وعدها الرجل من أول المعارضين للنساء ودورهن في الحياة الاجتماعية، وما يجب من منحهن حيزاً سياسياً في النظام المقبل البديل. وإذا ما كانت مسيح على نجاد استثناء في ذلك، فإنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، لأنها لم تكن تمثل أية حركة نسوية بقدر ما كانت تمثل طموحاتها الفردية.

 

مع ذلك، ورغم أهمية هذه الأطراف في المعارضة الإيرانية، وتأثيرها على مصير البهلوي، هناك شرائح فارسية تناصر الرجل. وهي شرائح تنتمي للأرياف الفارسية في الأعم الأغلب، وعادة ما تفتقد هذه الشرائح إلى رؤية سياسية واضحة، لذا وجدت في ابن الشاه واجهة تجسد رفضها للنظام القائم وظلمه الواقع عليهم. لكن هذه الشريحة، سرعان ما تتلاشى أمام موقف الشعوب غير الفارسية من رضا بهلوي. فجميع الشعوب غير الفارسية، والتي تشكل باجتماعها أكثرية في إيران، ترفض الرجل رفضاً باتاً، وترى فيه إرث الملكية البهلوية التي بطشت بهم وأفقدتهم استقلالهم القومي والسياسي. والأهم من ذلك، ما تركه رضا بهلوي الابن من تأثير سلبي على انتفاضة جينا (مهسا) أميني، عبر إضعاف زخمها الثوري بين الكرد، الذين ما إنْ رأوا صعوده على حسابهم وحساب انتفاضتهم، حتى ترددوا في دعمها، كما خف مدها الجماهيري بعد تصريحاته بشكل ملحوظ. أما الشعب الأحوازي فهو من أكثر المعارضين له، حيث يرى كل أحوازي فيه تاريخاً يقارب القرن من الاحتلال والظلم ومحاربة العروبة في جميع شؤونها(٣). وذلك ليس مجرد نزعة رومنسية للشعب الأحوازي وباقي الشعوب غير الفارسية، بل نتاج مواقفه الرجعية تجاههم، وعدم اعترافه بحقهم في الاستقلال القومي، والتعليم باللغة الأم، والتمثيل السياسي التام في حالة افتراض نظام فدرالي، ومعارضته لاعتبار الدولة الإيرانية دولة متعددة القوميات، حيث يراها دولة أمة، هي الأمة الفارسية كما هو الحال عليه الآن. وهذا موقف سياسي يخلو من الذكاء، إلى جانب كونه موقف متطرف، لأنه استبعد بضربة واحدة أكثرية الشعوب التي تعيش في الدولة الإيرانية القائمة. وهو موقف يجلب لمن يتبناه رفضا مستقبليا، إلى جانب الحكم على من يتخذه بالموت السياسي تقريباً.

 

 

ليس هذا فحسب، بل إن التزام البهلوي بموضع قومي شوفيني لم يختصر على الداخل الإيراني ورفض الشعوب غير الفارسية، بل إنه اتخذ موقفا معاديا للعرب عموماً، كما هو حال الدولة البهلوية المناهضة للعرب، وذلك عبر مشاركته في الاحتفال السنوي للشوفينيين الإيرانيين الذين يحيون كل عام ذكرى انفصال البحرين عن إيران. وفي ظل هذه المواقف والتوجهات، يمكن التساؤل عن مستقبل العلاقات العربية مع نظام إيراني بديل يكون فيه رضا بلهوي الزعيم، وهو لم يعترف بالبحرين دولة مستقلة. كما أن قليلاً من البحث في خطط المستشارين الذين قد يشاركونه النظر يثبت توجها يقضي بتحالف إيران البديلة عن الجمهورية الإسلامية مع إسرائيل على الدول العربية وقضاياها مما يعيد إلى الأذهان العلاقات البهلوية التي كانت بين الطرفين سابقاً، مع ما جلبته تلك العلاقة على العرب وقضاياهم من ضرر.

 

 

وهكذا تتدرج مواقف الرجل المضرة بمكانته من حيث لا يدري ونتيجة ضعف شخصيته وفقدانه الذكاء والتجربة السياسية اللازمة، حتى تصل إلى موقفه من الحرس الثوري الإيراني، ودعوته إلى ضرورة إدماجه بالجيش الإيراني. وقد أضرت هذه الدعوة كثيراً بمكانته لدى الجيش، فضلا عن مكانته بين العلمانيين، وبين الشرائح التي تمت الإشارة لها من التي يمكن عدها قاعدة شعبية محتملة له. لقد أراد رضا بهلوي من خلال هذا الموقف جلب دعم القاعدة الوسطى والدنيا من الحرس الثوري، ولكنه موقف يشبه الأوهام، إذ القاعدة الوسطى والدنيا في الحرس هي إما قاعدة متدينة لا يمكنها أن تميل نحو حكم بهلوي، وإما هي قاعدة تميل إلى القوى المعارضة التي تنادي بالحريات العامة. ففي الحرس الثوري شريحة تكونت، بالأعم الأغلب، من باقي القوميات، لها تطلعات للحياة التعددية، ولكن جرفتها صعوبات الحياة المادية إلى الانضمام إلى الحرس الثوري طلبا لمصدر رزق مستقر.

 

وفي الملاحظة الأخيرة، لا بد من التأكيد على أن التجربة السياسية للعصر الراهن، عصر عولمة القيم والديمقراطية، أثبتت دوما بأن الرهان على الفرد بدل المنظومة ونظام الحكم المؤسسي، خيارا غير سياسي، وخيار قصير النظر. وذلك لأن أي بديل قد يعرض على الشعوب الإيرانية، ويكون قائما على الفرد، لا يغريهم فحسب، بل يثير مخاوفهم من حكم فردي عانوا منه لقرون، وسيبدو لهم رجوع خطوات إلى الخلف أيضاً، ودفناً لتطلعاتهم إلى الحرية والعيش الكريم والاستقلال القومي. وكل ذلك يفقد هذا البديل الدعم اللازم بقوة لتغيير نظام الحكم الحالي، أو الظهور بمظهر المعارض صاحب القاعدة الشعبية العريضة والمؤثرة.

 

الخيار الغربي

 

خلافاً للموقف الخليجي الذي تم تلخيصه بتبني ابن الملك المخلوع، رضا بهلوي، وهو الموقف الذي تم تفنيده وهز أسسه الارتجالية والهشة، يبدو الموقف الغربي، وفي مقدمته موقف الولايات المتحدة الأمريكية، متأرجحاً بين الحفاظ على النظام القائم مع إضعافه وبين الفيدرالية.

 

 

حيث يرى الغرب بإضعاف النظام الإيراني، مع الحفاظ عليه، سبيلاً أمثل لكف تدخلاته المزعزعة لاستقرار المنطقة، من خلال إشغاله بالمشاكل والأزمات الداخلية، الاقتصادية الطابع بالدرجة الأولى. ومنع التسلح المتطور، من أجل كف أذاه حصرا. وذلك لأن الاتحاد الأوروبي لا يرى مصلحة في إضعاف هذا النظام إلى حد تحويل إيران إلى دولة فاشلة، لما يشكل ذلك من خطر تحولها إلى أكبر مصدّر للمهاجرين في بلد يقارب عدد سكانه ٩٠ مليوناً.

 

ويثبت رصد التصرفات الغربية مع النظام الإيراني هذه الحقيقة، حيث لم تسدد القوى العظمى في جميع خلافاتها معه ضربات قاضية ضده، بل ظلت المواقف تحرص على النيل من قوته كلما ظهرت مستجدات أراد النظام بها الإخلال بتوازن القوى. ولعل الصراع الراهن بينه وبين   إسرائيل   شاهداً آخراً على تجنب القوى الغربية العظمى تسديد الضربة القاضية، رغم إتاحة الفرصة المناسبة لذلك.

 

أما الخيار الآخر الذي تتبناه أكثر اللجان البرلمانية في الاتحاد الأوروبي والكونغرس الأمريكي، وهو خيار الفدرالية، فعلى الرغم من جديته وتناوله جذور المشكلة، إلا أنه يحتل اهتماماً أقل من إضعاف هذا النظام. وربما ينبع ذلك من كلفته واحتمالية تطّلبه تدخلاً مباشراً، مما جعله خياراً غير محبذ من جانب هذه القوى. إلى جانب ذلك، يناقض مصالح دول إقليمية مؤثرة، كتركيا التي تعارض أي فيدرالية قد تأتي بإدارة ذاتية للكرد في إيران. مع ذلك، ينطوي النظام الفدرالي على نقاط جدية للتعامل الأمثل مع النظام الإيراني، بما يجعله الخيار الواقعي والأمثل لإضعافه، عبر المساهمة في دعم وإقرار حكومات إدارة ذاتية، لكل منها تطلعاتها القومية التي لا تتقاطع مع تطلعات النظام الفارسي التوسعية أو المزعزعة للاستقرار. كما أن الفدرالية يمكن الاستفادة منها كورقة ضغط على إيران، بحال استفزازها لدول المنطقة وتدخلها بشؤونها، وحينها يمكن التلويح بإمكانية دعم تطلعات هذه الشعوب بحق تقرير مصيرها فيما بعد الايران الفدرالية.

 

عموماً تتلخص أكبر الملاحظات تجاه الموقف الغربي المتأرجح في النقاط التالية: 

 

يتطلب خيار إضعاف النظام فترة طويلة، كما أنه غير مضمون النتائج، خاصة أن لدى النظام الإيراني قوى بشرية كبيرة يمكن أن تساعد في الالتفاف على العقوبات، إلى جانب تمتعه بتحالفات في المنطقة، وأخرى مع القوى الدولية، في مقدمتها روسيا والصين، كلها تقلل من أثر العقوبات الغربية. كما أن هذا الخيار سيقابله استمرار ومضاعفة نظام الحكم في طهران لتدخلاته في المنطقة، وجر أذرعه إلى التدخل، وخلق مزيد من الفوضى والخسائر في المنطقة العربية.

 

 

كما أن استمرار النظام الإيراني في حالة ضعف سيكون إضعافاً خارجياً، بمعنى أنه سيظل مهيمنا على الشعوب غير الفارسية، وعلى الشعب الفارسي أيضاً، وسيكون أولى نتائج هذا الاستمرار مزيداً من الاستبداد ومزيداً من الحرية في مواجهة هذه الشعوب، في ظل تلاشي خوفه من فقدان الشرعية الشعبية، ومعاناة هذه الشعوب من الفقر والحرمان والتهميش الاستعماري الممنهج. تماما كما حصل مع نظام صدام حسين في العراق، والذي استمر في الحكم رغم الضعف والعزلة والعقوبات.

 

 

وهو ما سينعكس بقوة أكبر على الشعوب غير الفارسية، لأن استمرار النظام ضعيفاً في الخارج، ومهيمناً في الداخل سيعني مزيداً من صهرها في الدولة الفارسية المهيمنة، تقويضاً لإمكانية إقامة فدرالية في إيران، أو لمنح هذه الشعوب حقها في تقرير مصيرها، بما يؤدي لتقزيم إيران إلى دولة صغيرة عبر تقسيمها، ومن ثم إمكانية التخلص منها نهائياً.

 

أما فيما الفدرالية فإن أهم النقاط الخاصة بهذا الخيار هي التالية: 

 

غالباً ما ستتطلب الفدرالية تدخلاً خارجياً مباشراً وصريحاً يدعم الشعوب المغلوبة على أمرها والخاضعة إلى الشعب الفارسي المهيمن منذ قرن. ويبدو أن القوى الدولية الفاعلة غير مستعدة لذلك. ويستدل على ذلك بتجنبها لغاية الآن كل المنعطفات التي تطلبت مواجهة مباشرة مع إيران. حتى الحكومة الإسرائيلية أخذت تتجنب الصدام المباشر، ولم تعد تحبذ الدخول لصالح الشعوب بهدف التخلص من هذا النظام. كما إن الحالة الراهنة لأوضاع الشعب الأحوازي والكردي والتركي والبلوشي، تثبت هشاشة معارضتهم الخارجية، وارتباك أوضاعهم الداخلية، بعد نجاح سياسة الصهر الإيرانية، وبث روح التفرقة بينهم، مما مهد الطريق إلى استمرار الهيمنة عليهم، حيث باتت هذه الشعوب عاجزة عن تتبع مطالبتها، ناهيك عن تحقيقها. وهذا بالذات هو ما يشترط التدخل الخارجي ضروريا للُحمتها، ومن ثم مضيها في تطلعاتها القومية التي تناقض الوحدة الإيرانية الراهنة.

 

 

جهة وعلى الجانب الآخر، فإن أحوال الفرس أصحاب الدولة، تثبت هي الأخرى بما لا مجال للشك عدم استعداد الشعب الفارسي المهيمن لقبول الفدرالية. وهذا واضح من جميع تصريحات المعارضة في الخارج بكل أطيافها، بعد رفضها لفكرة الفيدرالية، ورفض أي إقرار لحق الشعوب فيها، ناهيكم عن حقها في تقرير المصير. وهذا مع رفضها العملياتي لفكرة المساواة في الحقوق بين الشعب الفارسي والشعوب الأخرى في إيران. ولعل أكثر معارضة إيرانية تقدماً في هذا الشأن، هي تلك التي تقر بوجوب منح الشعوب حقوقاً اجتماعية ضئيلة، لا تصل أبداً إلى الفدرالية مثلا، بينما ترفض أغلب الحركات المعارضة الإيرانية حتى الحق في التعليم باللغة الأم المنصوص عليه في الدستور الإيراني الراهن. وكل ذلك لا يدع مجالا للشك بأن الفدرالية تستوجب تغييراً كبيراً في الدولة القائمة يسمح لها بالمضي والقبول، ولا يمكن لمجرد سقوط النظام أن يحققها.

 

 

ومن هنا تبقى إمكانية قيام حرب داخلية بعد تزعزع النظام واردة، وذلك لأن جميع القوى الفارسية المعارضة أو الموالية للنظام القائم ستتوحد على قلب رجل واحد إذا ما قام شعب من الشعوب غير الفارسية بمطالب تنال من وحدة الأراضي الراهنة، وإذا ما استشعر النظام الراهن أو البديل، بنوايا سياسية تميل نحو تحقق مثل هذه المطالب. كما أن الشعوب هي الأخرى لن تقبل إلا بإقرار حقوقها القومية بطريقة لا يمكن الالتفاف عليها لاحقاً في حالة انهيار النظام القائم، أو بالانفصال. وهي التي أثبت تاريخها اغتنام كل فرصة مواتية يضعف فيها نظام الاحتلال لتحقيق كامل تطلعاتها القومية. وكل ذلك يخلق أرضية ممهدة لقيام حرب أهلية، في دولة منهارة ليس فيها جهة متفوقة يخضع لها الجميع.

 

الخيار الأمثل: التعاطي مع الدولة الإيرانية القائمة من منطلق الشعوب غير الفارسية وتكرار اللعبة الإيرانية ضدها

 

 

بعد هذا العرض الموجز لأهم الخيارات للتعامل مع النظام الإيراني، وفق الرؤيتين الخليجية والغربية، يبق التطرق إلى الخيار الأمثل من وجهة نظر الشعوب غير الفارسية، ومنها الشعب الأحوازي. ولتلافي الاسترسال، يبدو الخيار الأمثل لهذه الشعوب، هو منحها المساندة الكاملة في صراعها الذي لم يخمد يوماً في سبيل تحقيق حريتها القومية. وهذه هي رد اللعبة الإيرانية إليها. فإذا كان النظام الإيراني يزرع أذرعاً في المنطقة لزعزعة الأمن العربي، بسيطرته على عواصم عربية أربع، فإن الدول العربية قادرة على استخدام لعبة إيران نفسها، واستقطاب أذرع لها في داخل إيران، تدفع أو تواجه بها سياسات ومشاريع الأخيرة المزعزعة لاستقرار المنطقة. وبالمثل إذا ما كانت إيران خلقت أذرعا لتهديد المصالح الأمريكية والأوربية، فيمكن للولايات المتحدة وأوروبا، إذا ما كانوا صادقين في تنافسهم مع إيران، أن يخلقوا من الشعوب الأحوازية والكردية والتركية والبلوشية، ليس أذرعا، وإنما حلفاء لهم في داخل إيران، يخفّضون بها القوة الإيرانية/الفارسية، ويردعون بها إيران إلى الأبد، ويتخلصون منها بواسطة هذه الشعوب، إن أرادوا ذلك، وخلاصاً إلى غير رجعة.

 

 

وللدول العربية والغربية مصالح لا تعد ولا تحصى في دعم الشعوب غير الفارسية: فأولا: هو إشغال للنظام الحالي بمشاكله الجذرية الداخلية، ومنعه من التهرب منها. وذلك لأن الشعوب المحتلة في إيران على أتم الاستعداد للتعاطي مع أية قوة في العالم تساند قضيتها وتساعدها في نيل تطلعاتها. كما أن قرن من الاحتلال أورث هذه الشعوب حرماناً وذلاً وضياعاً جعلها تقترب من الاندثار، ولذلك هي مستعدة شعورياً ولا شعورياً للتعاون مع أية قوة تدعمها وتخرجها من الوضع المأساوي الذي هي فيه. وكل ذلك يخلق، مما لا شك فيه، زوبعة في النظام لا تشغله بأموره الداخلية وتمنعه من تدخلاته الخارجية في المنطقة فحسب، بل تجعله نظاما منهكاً يقترب من الهاوية دائما، بفعل نضال هذه الشعوب.

 

 

ثانيا: كما سينال منح الشعوب، وهنا الشعب الأحوازي تحديداً، حيزاً من الاستقلال والاستقواء في التصرف بمقدراته وخيراته، سينال من المكنة الاقتصادية الكبيرة التي ينهبها النظام حالياً ويغدق بها على أذرعه، وكلها تأتي من خيرات الأحواز ونفطها وثرواتها. ومن أجل ذلك فإن حصول الشعب الأحوازي على وضع يمكنه من منع نهب ثرواته، سيعني تماما منع المحتل الإيراني من هذا العبث بها وتخصيصها لخلق مشاكل لدول المنطقة، كما يعني أيضا مد هذا الشعب بقوة اقتصادية كبرى تجعله مكينا في مواجهة الأطماع الإيرانية، وبذلك يتحول إلى الواجهة الأولى في الصراع مع النظام، ويكفي بذلك الدول العربية من شر إيران وسياساتها في المنطقة. كما أن امتلاكه لقرار ثرواته، ومعظمها النفطية، سيجعله مؤازر بقوة لقرارات الدول الخليجية في منظومة أوبك، بدلا من التصويت الإيراني المعرقل لتوجهات دول الخليج في هذه المنظمة.

 

 

ثالثا: بحال استمر تحرر الشعوب الغير فارسية من براثن الهيمنة الإيرانية، فإن الدولة الزائفة هذه ستتحول إلى طور الذوبان والضعف من حيث العدد. فعدد الشعب الأحوازي يقترب من العشر مليون، وكذلك يقارب الشعب الكردي هذا العدد  و الشعب البلوشي حوالي  خمسة ميليون، ويفوق عدد الشعب التركي الأذربيجاني خمسة وعشرين مليونا. وعليه، سيقلص استقلال هذه الشعوب من الحجم الكبير للشعب المسمى حالياً بالشعب الإيراني، بما يجعلها دولة ثانوية في المنطقة قليلة العدد، ليس لها تلك الطاقات البشرية التي تسمح لها بالتطاول على دول المنطقة، أو التفكير في بناء مشاريع توسعية على المستويين الإقليمي والدولي.

 

 

رابعا: سيتعمم تقليص العدد على تقليص المساحات. فبينما تحتل إيران الآن مساحة مليون ونصف المليون كيلومتر مربع، فإن قطع أوصالها إلى أوطان للشعوب التي تحتلها، سيجعل مساحتها أقل من نصف المساحة الراهنة. وفي ذلك نقطة خطيرة جداً، من حيث الوضع الجيوسياسي، وهو أن جميع هذه الشعوب تقع على الحدود الإيرانية: فالعرب هم على حدود الخليج والعراق، والأكراد على حدود العراق والتركية، والأتراك على الحدود أذربيجان والتركية، والبلوش على الحدود الباكستانية. ومنح هذه الحدود لأهلها سيعني التخلص نهائيا من أي تجاور بين إيران وبين الدول المتضررة منها في الوقت الراهن، وسيتطلب التجاوز على هذه الحدود والوصول إلى الدول العربية اجتياز هذه المناطق المناوئة لإيران، وبالتالي فرض حصار وخناق عليها يفقدها الحركة على مستوى الإقليم نهائياً وسيكبل جميع تحركاتها من إرسال السلاح والجنود والمعدات والأموال. وإلى جانب ذلك، سيحرمها من التهديدات الدائمة بإغلاق مضيق هرمز، أو ما سواه من هيمنة أو تهديد لممرات التجارة الدولية القائمة أو المحتملة، كممر الهند-الشرق الأوسط-أوربا.

 

 

خامسا: إن اقتطاع الأحواز من إيران أو منحها حرية العلاقات مع العرب وباقي الدول ضمن نظام فيدرالي مثلا، سيعزز من صناعة حائل صلد أمام الفرس، وستكون الأحواز هي البوابة التي يجب على الفرس اجتيازها للوصول إلى العرب، كما ستكون هي بوابة العرب للتعامل مع إيران. وبما أن الشعب الأحوازي خبير بالروح الفارسية، فإنه سيكون الممثل الرئيس والجدير للعرب عند تعاملهم مع هؤلاء، وسيضمن ذلك تفوقا عربيا على المستوى العقل السياسي والثقافي العليم بالفرس، مقارنة بتعامل الفرس معهم، الفاقدين إلى مثل هذه الطليعة المخلصة في معاداة الفرس والخبيرة بأساليبهم في الخداع والتعامل السياسي المبني على التعالي والاستعباد.

 

 

سادسا: وبناء على ذلك فإن العمل على دعم هذه الشعوب، سيكسب الدول الدعم المحتملة مساحات نفوذ جديدة في العمق الإيراني، لا يمكن اعتبارها نقطة قوة في مثل هذا التعامل فحسب، بل يمكن عدها الزمام الذي ستدور به إيران إلى حيث ما أراد صاحب هذا الزمام أخذه. إن النظر إلى صراع النفوذ الجاري في الشرق الأوسط، وكيفية تفوق إيران على الدول العربية في ذلك، يثبت ضرورة قلب اللعبة الإيرانية عليها والدخول معها بنفس الطريقة التي تدير بها اللعبة في المنطقة. وإذا ما أثير تصور بأن الدخول في ساحة الصراع إلى الداخل الإيراني قد يؤدي إلى دخول إيران إلى داخل الدول العربية، فإن ذلك التصور يحتم علينا الحكم بغلبة الدول العربية أيضا. وذلك لأنه لا توجد دولة في العالم تعاني من كثرة الشعوب والأمم كإيران، ولأجل ذلك فإن أي استمرار على خوض سجال معها على أساس تجزئتها ودعم الشعوب التي تحتلها، سيأتي على حساب خسارة إيران على المدى الوسيط. وإذا ما كانت إيران قادرة في الوضع الراهن على الإضرار بالدول التي ستدعم هذه الشعوب للتخلص منها وزعزعة كيانها إلى غير رجعة، على الأمد القصير، فإن الاستمرار في مثل هذا الدعم هو السر الوحيد في نجاح هذه السياسة، إذ لا يمكن لإيران أن تستمر لسنة واحدة في مقاومة أمام انتفاضات الشعوب غير الفارسية المطالبة بالتحرير، وستركع أمام زخمها وسعة رقعتها الجغرافية وكثرة تعدادها.

 

 

الاستنتاج

 

 

تحتل الدولة الإيرانية شعوباً كثيرة، العرب والكرد والأتراك والبلوش وغيرهم، ولن ترتدع أمام جيرانها، لاسيما العرب، إلا إذا تم مواجهتها في صميم دارها، وبنفس أدواتها أيضاً، عبر دعم هذه الشعوب لتمكينها من مواجهة هذا النظام بحالها. وهنا يتطلب الأمر الدخول في لعبة تشبه اللعبة الإيرانية في المنطقة، حيث يتم صناعة أذرع تشغل إيران، كما صنعت إيران أذرعا شغلت بها العالم.

 

وخير معين في كل ذلك هو هذه الشعوب التي تتطلع للحرية والقومية والتخلص من هذا النظام العنصري قومياً وأثنياً ودينياً ومذهبياً. وإذا ما بدى ذلك دعوة لإيران للتدخل في شؤون الدول التي تدعم هذه الشعوب، فإن إيران، وبدون مبرر، لاهثة يوميا وراء التدخل بشؤون دول المنطقة، ولكن في الحالة الأخيرة ستكون النتيجة شبه مضمونة، كونها ورقة ضغط تخشاها إيران وبقوة، لما تشكله من بوابة لتجزئتها، لأن لا نقطة ضعف قاتلة لإيران ومضمونة النتائج، كنقطة الشعوب الغير فارسية المتعطشة للانعتاق والحرية.

 

أما فيما يخص الحلول التي تم التطرق له في البداية، فهي على الرغم من نفعها ظرفياً، تبقى مجرد إضاعة للمقدرات والدعم المقدم، فلا المعارضة الخارجية الفارسية ستغير من نهج إيران في التطلع إلى التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة على حساب باقي دول المنطقة، ولا ابن الملك السابق بجدير على خلق معارضة تطيح بالنظام الراهن، إن لم نقل بأنه لا يشكل خطراً يذكر أصلاً على النظام الحاكم في طهران. عدا عن استفادة هذا النظام من إعادة تظهير ابن الشاه المخلوع، لما تركته الحقبة البهلوية من ذكرى مقيتة استبدادياً ودينياً ومالياً واجتماعياً. بما يؤدي لتثبيط همة الراغبين بتغيير هذا النظام من الداخل الإيراني.

 

ورغم إدراك إيران التام درك للقضايا الخطيرة للشعوب غير الفارسية ونضالاتها، إلا أنه لا تزال، وبعد أكثر من 4 عقود من عمر الجمهورية الإسلامية، والتي يفترض بها إلغاء التمييز العرقي والقومي، لا تزال تقاوم الاعتراف بالمطالب الحقيقية لهذه الشعوب، وتعتمد فقط على أداة القمع المضاعف لاحتوائها. ولعل خطاب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بأيلول/سبتمبر الماضي، والذي به خاطب به مجموعة من الإيرانيين المؤيدين للنظام مباشرة، وبطريقة غير مباشرة للوبي الإيراني المعارض للنظام الإيراني في أمريكا، قائلاً إن اندلاع  حرب داخل إيران سيؤدي إلى إضعاف الحكومة المركزية، أو إلى فراغ في السلطة، وتالياً سيؤدي ذلك بلا شك إلى قيام الشعوب غير الفارسية “بانتهاز الفرصة” لفرض نفسها على اقاليمها، ومن ثم تأسيس دولها الخاصة في الأحواز وبلوشستان وكردستان والمناطق التركية الأذربيجانية(٤). وهو خطاب ينم عن هاجس الخوف الرهيب لما تشكله هذه الشعوب من قنبلة موقوتة، لو أحسن الراغب برد الأذى/السلوك الإيراني إلى مصدّره، وهو خوف منبته معرفة هذه السلطة للحجم الهائل للتمييز والانتهاكات الممارسة بحق هذه الشعوب، في سبيل تفريسها وطمس هويتها الثقافية. إلى جانب مضاعفة الإجرام أو العقوبات تجاهها حين التصدي لمطالب الشعوب الإيرانية مطلقة، بما فيها الفارسي، بالحرية والديمقراطية. وخير دليل على ذلك، العدد الكبير لضحايا إقليم كردستان وبلوشستان، ومنها الجمعة السوداء، خلال انتفاضة مهسا أميني. وبجانب ذلك، الحصة الكبيرة لحالات الإعدام الشهري للأحوازيين والبلوش والكرد في إيران.

 

ولكل ذلك، يأتي حديث كلام بزشكيان كتخويف للشعب الفارسي المعارض قبل المؤيد لهذا النظام، بأن اندلاع أي اضطراب أو حرب في إيران، فإن الشعوب غير الفارسية لن تساند النظام، بل سترى في ذلك فرصة للخلاص كرد على ما تنتهجه السياسة الإيرانية من سياسة الصهر والتفريس على هذه الشعوب. وهنا يمكن الاسترشاد بما تمارسه هذه السلطة من عملية صهر القسري بحق الأحوازيين ثقافياً ولغوياً، ودمجهم في الفرس على عدة مستويات، لغوية وهوياتية، وتاريخية، ومجتمعية. حيث دأبت السلطات المتعاقبة في فارس/إيران على اعتبار العرب الأحوازيين مجرد مستعربين بتأثير مجاورتهم للعراق والخليج، ولذلك يجب إعادتهم إلى العرق الآري الفارسي عبر تغيير لغتهم، وتزوير تاريخهم العربي وجعله تاريخاً فارسياً، وعبر القضاء على كل المظاهر العربية في مجتمعهم، بما فيها الزي العربي من عقال وشماغ وكوفية.

 

وحيث أن هذه الشعوب، خاصة الأحوازي، قد تضاءل، وربما انعدم لديهم أي انتماء إلى فارس/إيران، نتيجة هذه الممارسات السلطوية البغيضة بحق حقوقهم الهوياتية والثقافية، وقبلهما وبعدهما وما بينهما حقوقهم السياسية. فقد مانعت هذه السلطات حتى حقهم بالتعليم بلغتهم الأم في المدارس الابتدائية، وذهبت أكثر من ذلك في سياساتها التفريسية، في محاولة لتغيير الواقع السكاني لمناطق الأحواز، من خلال توطين مستوطنين فرس، عبر استقدامهم للعمل في شركات النفط والغاز، وبناء مستوطنات خاصة ومرفهة لهم ضمن المناطق الأحوازية، في مقابل تهميش الأحوازيين، وإبعادهم عن أبسط الفرص للتوظيف في قطاع النفط والغاز التي تزخر بها مناطقهم، وفي الإدارات الحكومية بالأولى.

 

وبجانب هذا التهميش القائم على العرق، هناك تهميش قائم على الدين والمذهب. حيث تقوم الأيديولوجيا الإيرانية على عمادين، ديني وقومي. ويقوم العماد الديني على المذهب الشيعي والاثنا عشري تحديا، فيما يقوم القومية على العرق الفارسي، باعتبارهم أصحاب المذهب وسدنته. وترى في العاصمة قم/طهران أم قرى التشيع وركيزته. ولذلك الشعوب غير الفارسية ترى أنه لا ناقة لها في هذا الحرب ولا جمل. وإن كانت بعض الفئات المتمذهبة بالمذهب الشيعي من الشعوب غير الفارسية تناصر النظام جزئيا، ولكنها بعد فشل النظام في تلبية تطلعات شعوبها، وعلى رأسها الحياة الاقتصادية المتزنة، سحبت ولائها منه وباتت منفعلة أو معارضة له.

 

وتبقى النقطة الفارقة في تعامل السلطة الحاكمة في طهران تجاه هذه الشعوب، هي ترتيب سياساتها تجاه الأحواز بناء على ما يرفع له من الأجهزة المحلية في الأحواز، وهي أجهزة يترأسها عنصريون معادون للعرب (مستوطنين الفرس). ولذلك يتم تصوير الشعب العربي الأحوازي كخطر على وحدة إيران، ومن هنا يتم التعامل مع كافة المطالبات المحلية العادلة من زاوية الأمن ومن زاوية أهمية الأحواز الجيوسياسية والاقتصادية/النفطية. لذا ينظر بشكل دائم إلى هذه المطالب العادلة كمطالب انفصالية أو مدعومة من قبل انفصاليين، ولعل هذا ما سيؤدي بالأحوازيين مستقبلاً للمطالبة بالحكم الذاتي أو الفدرالي /حق تقرير المصير، بعد الفشل المتكرر والمتعمد من قبل السلطة المركزية لتعزيز المساواة والمواطنة بين الشعوب الإيرانية، أو عبر سياساتها القسرية والتمييزية مع سياسات التجويع والتهميش والتجهيل الممنهجة بحق الشعوب غير الفارسية.

 

لذا إن الرهان الجذري والناجح الوحيد لأي توجه سياسي يريد أن يخطو خطوة شجاعة ونهائية يسدد بها ضربة قاضية هي قضية الشعوب الغير فارسية، هذه الشعوب لا غير. إلى جانب ذلك، يجب التنويه بأن كل حركات المعارضة  الشعوب غير الفارسية  المقيمة في المنفى سواء كانت أحزاب أو مؤسسات ومعاهد دراسات مستقلة جاهزة لتعامل البناء مع الدول العربية والغربية التي تعادي سياسات إيران، حيث الواجب السياسي المنطقي والممكن يتطلب إقامة علاقات ما بين هذه الجهات والحركات والأحزاب الأحوازية والكردية والبلوشية والتركية مع هذه الدول على أساس مصالح مشتركة، تنطلق مقدماتها من دعم  الشعوب المكافحة للتخلص من الاستعمار ونيل الحرية من براثن النظام الإيراني، وحصول كافة هذه الشعوب القابعة تحته على الدعم الإعلامي والحقوقي والاعتراف بها كشعوب مستعمرة لها الحق القانوني والشرعي في تقرير مصيرها. في المقابل، تقوم الشعوب غير الفارسية، ومنها الشعب الأحوازي، ببناء علاقات مشتركة قائمة على الاحترام والمصالح المشتركة مع هذه الدول، إضافة لتقديم صورة واقعية عن أحوال الدولة الإيرانية وبما يجري في داخلها، والظهور بمظهر الجهات المعتمدة والقوية التي يمكن أن النظر إليها كبدائل مشروعه وجديرة لمواجهة سياسة النظام الإيراني التوسعية والمزعزعة للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

 

 

 

رحيم حميد، باحث مختص في شأن الأحوازي في معهد الحوار للأبحاث والدراسات

 

المصادر:

 ١: وبحسب وكالة أنباء الطلبة الإيرانية، أفاد وزير التعليم الإيراني حميد رضا حاجي باباي أن 70% من طلاب المدارس في جميع أنحاء البلاد ثنائيو اللغة، ويتحدثون لغاتهم الأم ولا يعرفون اللغة الفارسية. وأشار إلى أنه بعد دخول الصف الأول واستكمال العام الدراسي، لا يزال هؤلاء الطلاب لم يتعلموا اللغة الفارسية مثل لغتهم الأم. وهذا يثير المخاوف بشأن قدرتهم على التنافس مع الطلاب الناطقين بالفارسية الذين يدرسون في طهران. الرابط:  https://shorturl.at/gRjxL

٢: رضا بهلوي، مشروع أمني يخدم النظام الإيراني الحالي؟ الرابط: https://www.zeitoons.com/113176

٣: الإرث الاستعماري الفارسي: دراسة نقدية للسياسات الإيرانية وتأثيراتها على الأحواز. الرابط: https://shorturl.at/2wkUt

٤: الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يحذر من تفكك إيران في حال اندلاع أي حرب ضدها.  الرابط: https://shorturl.at/DRV1F

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here



error: Content is protected !!