المقدمة
كانت الحرب الإيرانية ضد العراق منعطفا تاريخيا استثنائيا، وفرصة تاريخية كبرى، بالنسبة للشعب الأحوازي، لن يعيدها التاريخ له في الأمد القريب، وفق المعطيات الراهنة. إنها فرصة تاريخية لأنها كانت قابلة لأن تتحول إلى ممهد للتحرير، وبداية مرحلة التخلص من الاحتلال الإيراني.
ولذلك نسأل كيف استقبل الشعب الأحوازي الحرب الإيرانية ضد العراق على أرضه ووطنه؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب في البداية استجلاء أهمية هذه الحرب وبيان شأنها.
-
الحرب العراقية الإيرانية: ضياع الفرصة وفقدان الوعي
لم تكن الحرب المذكورة مجرد خسائر معنوية ومادية كما هو الشأن بالنسبة للعراق وإيران، بل كانت لحظة فارغة في التاريخ الأحوازي لا تضاهيها إلا تلك اللحظة التاريخية التي وقعت فيها الأحواز بقبضة الاحتلال الفارسي، سواء في العهد المشعشعي أو الكعبي. هي لحظة تماثل تلك اللحظات في الخطورة والشأن لأنها كانت كفيلة بأن تتحول إلى لحظة تحرير وتأسيس الدولة الأحوازية الحديثة، لو كانت أحداثها تسير بطريقة مغايرة عن الطريقة التي سارت عليها.
وبينما لا يستطيع أي ناظر تاريخي إلا أن ينظر لها من هذه الزاوية، ولكن الشعب الأحوازي ظل على غير ذلك لم يدرك لغاية الساعة أهمية هذه الحرب، ليس على مستوى عامة الشعب فحسب، بل بين نخبة المشاركين فيها، وبين المثقف الذي لم يولي أهمية كبيرة لها ولإمكاناتها، فكرا وتأريخا. ولذلك ظل التعامل معها كسائر الأحداث يمر مرور الكرام، ولا يذكر منها إلا وقائع تصلح للوعظ والاعتبار.
وعلى العموم يطول الحديث حول أهمية هذه الحرب، ولكن لا يتم هنا التطرق إلا إلى النقاط الآتية، على سبيل الاختصار؛ نقاط تندرج في سياق محاولة التأريخ للأحداث الأحوازية، والنظر إليها تأويلا وتحليلا، وليس مجرد تاريخ من الأحداث. والفرق بين التاريخ والتأريخ هو أن الضبط الأول يعني مجرد الوقائع والأحداث ومجريات التوالي الزمني، بينما الضبط الآخر يعني التحليل والتأويل والتفلسف حول التاريخ، وجعله تأريخا يروي ماضي أمة وماضي شعب(١).
-
التخلص من الجيش الإيراني
وبما أن اللحظة التاريخية تلك كانت لحظة حرب وتصادم، فأولى النقاط التي يجب الإشارة لها، هو ما اتاحته من إمكانية التخلص من الجيش الإيراني الفارسي المحتل الذي كان يتموقع في جميع نقاط الأحواز، وكان حضوره هو ضمان استمرار الاحتلال ونفاذيته. وليس المتوقع هو استهداف الجيش من قبل الشعب بمختلف أطيافه فحسب، بل ذلك الاستهداف إنما كان يتوقع، قبل أي جهة، من المنظمات الأحوازية الناشطة والمسلحة في تلك الفترة، وهي التي كانت تتلقى الدعم اللوجستي اللازم للقيام بمثل تلك المهام من الجيش العراقي. كما كان الحري بذلك الشعب ومنظماته استهداف الثكنات العسكرية المحتلة، وخلق حالة من الاستنزاف المستمر للقوات العسكرية الإيرانية، يجعلها عاجزة عن استمرار مهمتها الأولى في الحفاظ على الاحتلال وإدارة المنطقة الأحوازية السليبة.
-
استهداف الحشود العسكرية
ليس هذا فحسب بل كانت تلك الحرب فرصة سانحة لاستهداف الحشود العازمة للجبهات، الآتية من أقصى المناطق الإيرانية، الفارسية وغير الفارسية، لخوض القتال في أرض العرب والقضاء على جميع التواجد العربي فيها، سواء التواجد العربي العراقي أو الأحوازي معا. لقد كان من المتاح جدا إصابة العساكر المتمترسة في الخفاجية والحميدية وعبادان والمحمرة والسوس إلخ، وخلق حالة من نقص الأعداد والعديد بين صفوف المقاتلين الفرس، ومنح الجيش العربي مزيدا من الفاعلية وقدرة المناورة، وإصابة كفاءة الجيش الإيراني الهادف إلى الحفاظ على سلامة الأراضي التي يحتلها، والإبقاء على الأحواز أرضا تحت سيطرة الفرس وجزء من دولتهم.
كما كان واجبا، كأقل الخطوات في المقاومة الجماهيرية، استهداف العدة الغذائية للجنود المقاتلين، وهكذا خلق حالة من الاستنزاف الشامل لكل مرافق الحياة وتضييق الخناق على الجنود والعسكر، كما حصل في بعض الحروب التي اندلعت في مناطق أخرى من العالم، في روسيا مثلا، عند ما كان أهل الأرض يستقبلون الفرنسيين (أيام الإمبراطورية النابليونية) أو الجنود الألمان (أيام الحرب العالمية الثانية) بحرق المحاصيل عند المغادرة من المدن، وتسليمهم مدنا لا يوجد فيها معلما من معالم الحياة النباتية والمعنوية معا؛ مما خلق حالة من الإنهيار للجنود الغزاة جعلهم يتراجعون ويفقدون حوافز المشاركة في القتال(٢).
-
استهداف الاقتصاد
وبغض النظر عن كل ذلك، فلقد كان الواجب الأول في هذه الحرب، وهو واجب كان ممكن الحدوث والقيام في تلك الفترة، هو استهداف العصب الاقتصادي للنظام الإيراني وجيشه المقاتل في جبهات القتال العربية. إنه من أضعف الإيمان المطالبة، أو التصريح، بوجوب قيام الشعب الأحوازي في تلك الفترة بالنيل من مكمن القوة الأساسي للاحتلال الإيراني المتمثل بالشريان النفطي، الذي كان استمرار تصديره يعني تدفق الأموال والعوائد الكبيرة التي تسمح له بالقتال وتوفير كل متطلبات الحرب واستمرار الاحتلال. وعلى الرغم من التعثر المستمر في مصفاة عبادان، ومسجد سليمان، كانت هذه الحقول النفطية والآبار تعمل ويعاد تشغيلها من قبل الاحتلال الإيراني، ويتم تصدير النفط عبر الخليج العربي دون أن يلتفت الشعب الأحوازي وقواه المقاتلة إلى ضرورة توجيه ضربات لهذا المرفق الحيوي للنظام، حتى في أحلك الفترات في الحرب وهي فترة «حرب البارجات» التي أخذ كل من العراق وإيران يستهدفان البارجات النفطية؛ إذ تبق الشعب الأحوازي غير مشارك في إرباك عملية النهب لثرواته، وبعيد عن محاولة عرقلة الحقول والمصافي النفطية التي تجاوره في عبادان ومسجد سليمان ودارخوين على وجه الخصوص لا الحصر(٣).
صناعة الوعي القومي
وإذا كانت هذه الجوانب التي تم التطرق لها في الفقرة أعلاه تروي الأبعاد المادية للحرب، وتشير إلى ما كان واجبا تنفيذه من قبل الشعب الأحوازي، بكل أطيافه ونخبه، نظرا لإتاحة الفرص للقيام بكل تلك الواجبات، فإن هذه الفقرة ستشير إلى ما اتاحته تلك الحرب من إمكانيات هائلة لصياغة الوعي الأحوازي نظريا وعمليا، وكيف على هذا الصعيد أيضا أخفق هذا الشعب في استغلال الفرص واغتنامها.
إنه إذا كانت الدولة العراقية قد جيشت كل إمكانيات الدولة وقواها من أجل الحرب، فإن قسما من تلك التعبئة كانت متاحة للأحوازيين وإنْ لم تكن دخلت حيز الواقع والعمل. ونقصد بذلك هو الإمكانية التي كانت متاحة من العراق على مستوى دعمه المالي ودعم إعلامه ومفكريه. حيث كانت هذه الفترة خصبة من أجل خوض نشاط إعلامي، على كافة الأصعدة، تخدم القضية الأحوازية، كما كان الأمر مساعدا من أجل جلب عناية الطاقات الفكرية العراقية للبحث في القضايا الأحوازية ومختلف شؤونها. (وصحيح أن بعض القيادات العربية الأحوازية في تلك الفترة تروي اليوم بأن العراق وقيادته كانا ينظران للأحواز كقطر إلى باقي الأقطار العربية، ولم يكونا ينظران إليه على حدة وباستقلاله وتشخص تاريخه إلخ، بيد أن ذلك كلاما لا يعتد به لأنه كان من الممكن أن يتم عرض عشرات الصيغ لخدمة القضية الأحوازية من قبل الشعب الأحوازي ونخبه تجلب رضى القيادة العر(٤).
-
العمل الفكري
وبغض النظر عن هذا الاعتراض، فإنه يكفي أهمية العمل الفكري في تلك الفترة الإشارة إلى أنه بعد مرور أربع عقود على تلك الحرب، ظلت الكتابات التي ألفها الأساتذة العراقيون تفوق الكتابات التي كتبها المثقف الأحوازي اليوم(٥)، وهذا فضلا عن إظهاره التكاسل الأحوازي، يظهر مدى أهمية تلك الفترة وما فيها من إمكانيات سانحة. لقد أهتم المفكر العراقي في تلك الحرب بالتاريخ الأحوازي وأعلامه، وكانت جميع الجامعات العراقية الرصينة في تلك الفترة، ترحب بـ البحوث والرسائل التي تكتب في هذا الشأن، فضلا عن ترحيب الأجهزة الحكومية بذلك. ويبدو من البديهي التصريح بأنه ترحيب لم ير الأحواز مثيلا له لا من قبل ولا من بعد ولا في العصر الراهن أيضا. ومن أجل ذلك بالتحديد كان على القوى المثقفة في تلك الفترة، بدل الولوع بحزب توده واليسارية الإيرانية التي لم يفهموها، اغتناء الوضع الفكري المساند من أجل عرض أفكار وأطروحات تؤرخ التاريخ الأحوازي، وتظهر فيه حقيقة صريحة لم تظهر لحد اليوم، هي حقيقة عروبته وانفصاله عن الدولة الإيرانية بكامل صيغها الإمبراطورية والملكية والجمهورية الإسلامية.
لقد ظل التاريخ الأحوازي ذيل التاريخ الفارسي الإيراني، ولم يتمكن من إزاحة هذه السطوة(٦)، حتى يومنا هذا، والحال أن ذلك التاريخ لدى المختص بهذا الشأن، ولدى من يعرف مناهج التاريخ الحديثة، هو تاريخ عربي، لم يتصل بالتاريخ الفارسي المجاور، إلا اتصال المحتل بالمحتل، أو المستعمر مع من يستعمر. وخير مثال لذلك هو ما كتبته أقلام «المؤرخين الأحوازيين» الراهنين الذين ظلوا ينظرون لهذا التاريخ من زاوية الفرس، حتى في تلك المحاولات التي أرادوا بها التصريح باستقلال الأحواز وعروبته المناقضة للإيرانية جملة وتفضيلا(٧).
-
الإعلام
ثم كان من شأن الإعلام الذي لعب دورا أساسيا في تلك الحرب، كان من شأنه إخراج سلسلة من الأعمال العربية، تهدف إلى صياغة الوعي الأحوازي، والتعريف به، وشرح الحرب القائمة على موطنه، وحث الشعب وتوعيتهم من أجل إدراكها، والمشاركة فيها في سبيل مصالحهم العليا، وتمييز العدو من الصديق في الاقتتال الدائر في بيوتهم واحيائهم.
إن تلك الفترة كانت أكثر الفترات إمكانية لصياغة الوعي العربي الأحوازي عبر الإعلام وسطوته على الشعوب. إنها فترة خصبة ليس على مستوى الإمكانيات المادية والمعنوية التي كانت تتيحها فحسب، بل لأنها كانت فترة تسمح للفرد الأحوازي، والجماعة الأحوازية، أن يرى ترجمة ما في الأفكار والرؤى على أرض الواقع يوميا وبأم العين. وهذا يعني أن الأفكار الدالة على العروبة، وعلى الاستقلال الأحوازي، وبناء الدولة الأحوازية، وعنصرية الفرس إلخ، وهي الأفكار التي يتم تداولها اليوم، كانت بالأمس حدثا واقعيا، أي أنها كانت تجري على الواقع المعيش، ومجرد التصريح بها فكريا، وإخراجها على صورة إيديولوجية خفيفة غير معقدة، كان كفيلا بزرعها في نفوس الملايين، وجعلها البوصلة في المشاركة في تلك الحرب واغتنامها.
كما كان من الممكن العمل على إخراج سلسلة من الأعمال المسرحية والروايات القومية أحوازية الطابع، من أجل توثيق الإجرام الذي أرتكب بحق الأرض الأحوازية، ورواية الاستماتة العنصرية التي بذلها الفرس من أجل الحفاظ عليها، وخوض حرب طاحنة في سبيل استمرار نهبها.
ثم كان الإعلام بالفعل ساحة من ساحات القتال الدائر بين الفرس والعرب، فبينما كان الإعلام الإيراني يصور الحرب بينه وبين العراق على أنها حرب كفار مع مسلمين، مما استمال فئات من الشعب الأحوازي وخدعها، أو زيف وعيها حول هذه الحرب، حتى جعلهم هذا الأمر يشاركون فيها لصالح النظام الإيراني ضدا على إخوتهم العرب، تخلفت الرواية الأحوازية أو غابت عن تأدية الأدوار الصحيحة، ولم تتمكن من إضعاف هذه الرواية، وبيان زيفها، على الرغم من إتاحة المجال لذلك، وعلى الرغم من أنها رواية أضرت بالأحوازيين أكثر من ضررها بالعراقيين، لأنها كانت تستهدف القابعين في حدود النظام الإيراني أولا، تستميل الشباب المتدين من الشعب الأحوازي على وجه الخصوص.
-
وضع اللبنات الأولى لبناء الدولة والتحرير
وأخطر الشؤون في تلك الفترة كان إخفاق الشعب الأحوازي في أهم قضية تضمن له مستقبلا أو تحررا، وهي قضية وضع اللبنات الأولى للأحزاب الممأسة والتنظيمات الشاملة التي تسمح لقضيته بالاستمرار.
لقد كان على المنظمات والأحزاب المشاركة في تلك الحرب، الخروج بمنظمات جديدة وقادرة لها شبكة علاقات دولية، تكتسب منها الدعم الدولي من أجل مزيد من الاستقلالية والدخول في علاقات قوامها التدبير السياسي القائم على أساس المصالح المشتركة، لا أن تظل مجرد منظمات تعيش على إعانات تأتي من هنا وهناك تفرض على المنظمات الأحوازية شتى صنوف التبعية، وتظل إعانات لاستمرار حياة المنتظمين لا من أجل خوض حركة مؤثرة أو تدوين برامج تنشد تغيير المعادلات القائمة على أرض الواقع.
وبغض النظر عن كل ذلك، أي عن ذلك التعامل الذي يحتاج إلى أطراف خارج الوطن الأحوازي، فإن الأحزاب والمنظمات الأحوازية تخلفت عن بناء كادر نخبوي حزبي داخل تنظيماتها، تنقل له تجربة الحرب والانتكاسات التي مرت بها الحركة الأحوازية، مما يؤهل مختلف الأجيال من خوض العمل الحزبي التنظيمي بالاستناد إلى تجربة تنظيمية حزبية تتناقلها الأجيال المتوارثة على العمل الحزبي المنظم.
وإذا ما بدأ النقاش حول ترسيخ الوعي القومي بين الشعب الأحوازي في فترة الحرب، نوعا من المطالبة بالأمور الطوباوية ربما، ولكن الحرب بطبيعتها ووفق منطقها وسيرها الذاتي في جميع العالم، فهي بوتقة لصناعة الرجال والقيادات على أقل التقدير. ومن أجل ذلك فإن الحديث عن إخفاق الشعب في جعلها جسرا لبث الوعي بين المواطنين العرب، إذا كان مستحيلا في عيون البعض، ولكن التصريح بالعجز عن جعل تلك الحرب مرحلة لصناعة قيادات قومية أحوازية، هو أقل المطالبات ومن صنف تحصيل الحاصل. وذلك لأن شأن الحرب هي صنع القيادات، وأسطرة الرجال، وتدوين الملاحم القومية والشعبية، التي تنعش الوعي القومي، وتجعل الأمة تحيى بأمجادها (٨) . وكل ذلك هو ما عجز عنه الشعب الأحوازي بالتحديد حتى عبر أكثر الفترات مساعدة.
-
الغالبية المنفعلة
وبعد التعرف، في الفقرة الأولى، على أهمية تلك الحرب على المستوى المادي، وما كانت إتاحته على ذلك الصعيد، وما كان يمكن فعله إلى جانب ذلك على مستوى الوعي القومي، يبق هنا شرح موقف الشعب في تلك الفترة، والعودة إلى السؤال الرئيس: كيف استقبل الشعب الأحوازي الحرب الإيرانية ضد العراق على أرضه ووطنه؟
لقد استقبل الشعب بأكثريته الساحقة، في مناطق احتدام القتال على وجه الخصوص، استقبل تلك الحرب بالنزوح والمعاناة الشديدة التي خلفتها على أرواحه وممتلكاته ومستقبله، وجميع ما تخلفه الحروب في جميع الأوطان. وبينما كانت هذه الحرب تشتد بين الجانبين على أرض الأحواز، ولكنهما كانا متفقين على قواعد الاشتباك لا يجري التماس إلا ضمن المناطق المحددة، ولا تستهدف إلا تلك المناطق. وكان النظام الإيراني قد حدد الأحواز رأس المناطق الحربية، وهي مقدمة الجبهات. ومن أجل ذلك كان حظها المطلق من تلك الحرب دفعت أثمان باهظة فيها دون أن يكون الشعب بأكثريته مساهما، أو عالما بأسبابها والغايات المرجوة منها.
وليس هذا قدحا بالشعب على الإطلاق، بل ذلك هو الشأن في جميع الحروب، تتكون فيها ثلاث أطراف: الأكثرية الصامتة التي هي من يتحمل أعباء الحروب وأوجاعها، والقوات العسكرية المشاركة وهي قوام الحرب، والقيادات السياسية التي تتابع الحرب من القصور. وهذا ما جرى في الأحواز في تلك الفترة بالتحديد، حيث كانت هذه الأكثرية نازحة بين من نزح إلى الأراضي الإيرانية الفارسية، وهي أعداد قليلة بالمقارنة مع أكثرية النازحين، والنازحين إلى باقي المناطق الأحوازية التي لم يطالها الحرب، نظير الأحواز العاصمة.
-
الفئة القليلة المشاركة: مع، ضد
وبينما كان هذا هو الحال بالنسبة لأكثرية الشعب الأحوازي وموقفها من الحرب، فإن هناك فئات مشاركة فيها، انقسمت، في مفارقة تاريخية مرة، إلى أقلية شاركت مع الجيش العربي العراقي، وأقلية وقفت ضد الجيش العربي بعراقية وأحوازيه، وهي الفئة المستلبة التي شاركت ضمن قوات التعبئة الإيرانية الفارسية ضدا على الوطن والأحواز والعروبة والانتماء. إنها فئة الخونة، الذين يظهرون في كل تاريخ.
ولكن ذلك يتطلب قراءة الدوافع التي جعلت الفئة القليلة الأحوازية المشاركة في هذه الحرب تنقسم هذا الإنقسام الحاد. وذلك يعود بالنسبة للعروبيين إلى إيمانهم بالعربية، ووعيهم القومي، ومحفزات النظام العراقي، التي جعلتهم يقفون لجانب الجيش العراقي، ويخوضون قتالا ضاريا ضد المحتل، ويساهمون مساهمات أشاد بها القادة العراقيون في حينها. وتتمثل هذه الفئة بما كان يسمى الفوج الأحوازي المشارك في تلك القتال. وقد أبلى بلاء حسنا في تلك الفترة، على الرغم من الإخفاقات التي مني بها، نتيجة أسباب تاريخية وموضوعية تحتاج دراسة لحالها.
ولكن أبرز الدوافع التي جعلت هذه الفئة تميل إلى مساندة الجيش العراقي، إلى جانب الانتماء الذي لا غبار عليه، هو المحفزات المادية والمعنوية التي منحها العراق إياهم، سواء من أموال أو من مكانة اجتماعية. وذلك لأن معظم هذه القيادات كانت من أبناء شيوخ القبائل، حيث قدم الجيش العراقي القوى التقليدية هؤلاء على القوى التقدمية العربية من النخب المشاركة في هذه الفئة، مما جعل هذه الفئة التي تفتقر إلى الذكاء الحديث والعقل الحداثي هي المتحكمة بالقرارات وخواتم الأمور. ولقد تاهت الفئة التقليدية هذه بعقلية القادة أبناء الشيوخ الذين تعاملوا بمنطقهم القبلي البالي مع قضية الأحواز والحرب الدائرة حولهم، دون أن يعوا تماما خطورة المرحلة، ومثابة اللحظة التاريخية التي قدر لهم أن يجربوها. ومن أجل ذلك كانت مشاركتهم غير منتهية بنتائج تعزز القضية الأحوازية، لأنها كانت تفوق قدراتهم العقلية، ومستوى إدراكهم.
أما الفئة الأخرى، وهي فئة الخونة، فقد كانت دوافعها مذهبية، حيث كانت تلك الفترة، فترة تعالت فيها الأصوات المذهبية من كل جانب، خاصة بعد تعزيز النزعة الدينية بانتصار الثورة الإيرانية على الشاه، وما أدى إليه ذلك من ترسيخ فكرة قوة الدين على تحقق الانتصارات، واستماتة المؤمنين بأنه الحل لمشاكل العصر. ومن هنا أدت «السيدية» (باعتبار خميني سيد ابن الحسين) دورا مجتمعيا في تحشيد المشاركين العرب في هذه الحرب، ولعب فيها السادة دورا أكبر من باقي الفئات المجتمعية.
لذلك كانت شخصية خميني القائد الكاريزماتيك لتلك الثورة، مؤثرة جدا في نفوس الخونة الأحوازيين، إذ كانوا يتصورونه سيد من سلالة الحسين، وأنه ذا تأثير غيبي، معزز من الأئمة القادرين على ضمان النصر، وتجل لجميع المخزون الخرافي الشعبي الذي تزخر به الثقافة الشعبية الأحوازية في تلك الفترة. إن هؤلاء لم يكونوا خونة مع سبق الإصرار والترصد، بل كانوا خونة مغفلين، لأن مفعول المذهب الشيعي هو الذي حدى بهم إلى هذا الخطأ المميت، وإلى تصور تلك الحرب حرب إيمان بين الكفر والإسلام، مبتعدين بها تماما عن فهمها «حربا بين قوتين استبداديتين كانت تهدف إلى ضم الأحواز لها».
-
الوعي الراهني بالحرب العراقية الإيرانية
وهنا بالتحديد يجب الوقوف قليلا من أجل شرح النقطة الأخيرة التي انتهت الفقرة الأخيرة بها، القائلة بأن: العراق كان طامعا في الأحواز وإيران كذلك كانت طامعة فيها وتحتلها، ولذلك لا فرق بين احتلال إيراني أو عراقي: لأنها «حربا بين قوتين استبداديتين كانت تهدف إلى ضم الأحواز لها». وهذه قناعة فاسدة كثيرا ما كررتها النخبة المشاركة في تلك الحرب، بعد خيباتها المتعددة في نيل الأهداف. هي قناعة فاسدة لأن هناك اختلافا جوهريا بين الاحتلال الإيراني، و«الاحتلال العراقي» إذا سلمنا بذلك الكلام، وإذا كانت الأحواز تحولت بفعل تلك الحرب إلى العراق وصارت جزء منها. وهذه تدل على وعي بائس بين النخب الأحوازيين، وقصر نظر بائن، وذلك دليل آخر على ابتعاد النخب القائلة بذلك عن وعي تلك الحرب ووضعها في سياق تاريخي سليم. وفساد تلك الفكرة يتبين في النقاط التالية:
- أولا: إن صراعنا مع الفرس هو صراع قومي
- ثانيا: تعمدنا وضع الجملة الأولى بالعنوان العريض، دون شرح يليها مباشرة، لخطورتها وأهميتها. إن صراع الشعب الأحوازي مع النظام الإيراني الفارسي، هو صراع قومي، يعني أنه ليس صراع لقمة العيش، أو تحسين حياة يومية، أو منح مزيد من النشاطات الثقافية، أو ترك جانب من الثروات النفطية للأحواز من أجل بناء جسور أو تخطيط شوارع مع شبكة صرف صحي جيد. كلا إن من يقول بذلك لا يدرك منطق الأمم، وهو أسير فخ دعوات التيار الإصلاحي الذي غالبا ما استدل بأن الأحواز لم تكن لتظهر مشاكل قومية، لو منحها التيار الأصولي، صاحب الحكم، بعض الثروات تبني فيها مدارس جيدة، ومتنزهات، وتقضي على البطالة. وهذه من فساد التيار الإصلاحي وخدعه، وذلك لأن النظرة المجتمعية المعززة بالإحصائيات والوثائق وشهادات السجن، تظهر بما لا مجال للبس فيه ومراوغته، بأن معظم الشهداء والأسرى والقوميين الناشطين من الشعب الأحوازي هم من الفئة الوسطى، ومن الطبقة الوسطى الأحوازية، وليس من الفقراء الذين اندفعوا، وفق رواية النظام، من فقرهم لتبني الأفكار القومية العربية والمطالبة باستقلال الأحواز. إن الفقير المعدم لا يستطيع تبني الأفكار، وهو منهك عقليا وجسديا ووجوديا بقوت يومه، في كل مكان في العالم وليس في الأحواز فقط، ولذلك فإن الأفكار القومية، والوعي العروبي الوطني، والأحواز وطنا عربيا وكل تلك المعاني إنما نبتت بين الطبقة الوسطى وفيها أينعت واستمرت. ومن أجل ذلك فإن القضية تفوق الحاجات المادية التي تهبط بالإنسان إلى كائن يبحث عن المأكول والمشروب والعيش المادي الرقيد.
- ثالثا: إن «احتلال عراقي» أهون من الاحتلال الفارسي بكثير، وذلك لأن مثل هكذا احتلال إذا سلمنا به، إنما لا يسلب المرء هويته وذاته والاعتراف به. وكل تلك مطالبات ومظاهر نفسية أولى ما يحتاجها الفرد كاحتياجه للغذاء والشرب. ولذلك نجد الذات الأحوازية، التي تتمتع في دولة الاحتلال بضروريات الحياة من مأكول ومشروب وسكن بوفرة تقريبا، تظل منفصمة تعاني من عقد نفسية هوياتية بائنة لا غبار عليها، لأنها مستهدفة بعروبتها. إن الاحتلال الفارسي قد جعل الذات الأحوازية منفصمة عن ذاتها، تعاني من سيكولوجية منشطرة، جعلت الشخصية الأحوازية، على جميع الأصعدة الدراسية، والثقافية، والعلمية، واللغوية، عاجزة ومتخلفة عن الأقطار العربية، ناهيك عن الدول العالمية المتقدمة.
الاستنتاج
حاولت هذه المقالة البرهنة على أن الحرب الإيرانية ضد العراق وضد العرب، العرب في الأحواز وفي العراق على أقل التقدير، هي من المنعطفات التاريخية التي لم يستطع الشعب الأحوازي استغلالها في خدمة قضية تحرره من الاحتلال الإيراني. ثم تم التطرق إلى أهم الوجوه التي يمكن اعتبارها فرص تاريخية في تلك الحرب، وهي وجوه مادية نظير استهداف المصافي التي تنهب الثروات الأحوازية، والوجوه المعنوية نظير تكوين أحزاب أحوازية وقيادات بارزة تكمل المسير النضالي.
ولقد استمر الاستخفاف بهذه الحرب تارة أخرى من قبل المثقف الأحوازي الذي لم يقدم لغاية الآن على دراسة هذه الحرب ووضعها في سياق تاريخي رصين تساعده على فهم واقعه، واعتبارها جزء خطيرا من تاريخه المعاصر، إلى جانب استخلاص العبر لفهم واقعه المعاش. ومن أجل ذلك تستحق هذه الفترة التاريخية العناية بجدية على سبيل تأصيل التاريخ وإعادة كتابته بروح قومية عربية، تنظر للأحواز بوصفها أمة.
وعلى العموم كان الهدف الأول والأخير من هذه الدراسة، كما في جميع الدراسات التي ننشرها في معهد الحوار للأبحاث والدراسات، اللفت إلى بعض القضايا، واقتراح بعض الموضوعات في التاريخ والمجتمع والسياسة والمستقبل إلخ في الأحواز، أملا في إثارة فضول الباحث الأحوازي الذي يقرأها، وحثه على تتبعها، والخروج بها إلى دراسات أو كتب رصينة، أكثر من الذي أتينا به هنا.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات
المصادر والهوامش:
١. . راجع في ذلك: عبدالله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2017.
٢. حصار لينينغراد، 1941-1944: 900 يوم من الرعب. بقلم: جلانتز، ديفيد م.
٣. حروب ناقلات النفط: الهجوم على السفن التجارية أثناء الأزمة الإيرانية العراقية، 1980-1988 (مكتبة العلاقات الدولية) – 31 ديسمبر 1996 بقلم مارتن س. نافياس.
٤. جابر احمد ، الحصاد المر: صفحات منسية من نضال الشعب العربي الأحوازي، دار دجلة للنشر والتوزيع، عمان 2020.
٥. وعلى رأس هذه الأعمال هي كتابات الأستاذ علي نعمة الحلو، وكتابات السيد جاسم الشبر.
٦. أنظر نموذجا في ذلك: عبدالبني قيم، خمسمائة عام من تاريخ خوزستان.
٧. . أنظر في ذلك: موسى سيادت، الغجر على مر التاريخ.
٨. الحرب ؛ كيف صنعتنا النزاعات والصراعات لـ مارغريت ماكميلان.