المقدمة
كان أحد الأصدقاء على قناعة راسخة في عقله تقريبا بأن الحرب الكونية الأولى ما كانت لتندلع لو تمكن حراس الأرشيدوق النمساوي من القضاء على الطالب الصربي غافريلو برينسيب الذي اغتال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته في 28 يونيو/حزيران عام 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو. وهذا هو حال من يعتقد بأن نظام الجمهورية الإسلامية، المحتل للأحواز، قد يتغير بتغيير رئيس جمهورية أو وضع محافظ. فعندما تم تنصيب المحافظ الراهن استبشرت بعض فئات الشعب الأحوازي، التي تتحرك بعقلية شبيهة بعقلية الصديق المذكور، ورأت في ذلك إحقاقا لحقوق الاحوازيين، وانتصارا لهم. ولكن واقع الحال يشير إلى أن النظام الإيراني يعاني من مشاكل بنيوية تفوق الأفراد، والدوائر حتى، لا تسمح بالتغيير فيه لمجرد تعيين ذاك أو إزاحة هذا. وهذه القناعة هي ما سنحاول البرهنة على صحتها هنا.
المشاكل البنيوية
وهي تلك المشاكل التي تفوق الأفراد من جهة، وحصيلة فترات زمنية طويلة من جهة أخرى. هي تزاوج التاريخي بالمجتمعي بكل ما في الأمر التاريخي والأمر المجتمعي من أحداث وصُدَف ومظاهر وعقائد ودول. فهي إذن مشاكل وليدة الخصائص الحضارية العامة المتعلقة بكل قوم وأمة. ويتبين عن ذلك أن هذا النظام الإيراني المسمى بـ«دولة» يتميز بمشاكل بنيوية هي حصيلة تاريخه. من أبرزها هي:
بنية الدولة القومية
بنية تثبت بأن النظام الإيراني نظاما سياسيا ليس بدولة، لأنه يفتقد إلى عناصر الدولة القومية، بالمعنى الأوروبي ما بعد وستفاليا للكلمة. وذلك لأن هذا النظام أخضع بالقوة لسلطانه ونظامه مجموعة من الأمم، على رأسها الأمة الأحوازية، مغايرة له تماما، ثم بدل أن يجعل من هذه الكلية التي أطلق عليها اسم دولة، كيانا يعبر عن الأمم والشعوب التي فيه (الاحوازيين و الكورد والاتراك والبلوش على وجه الخصوص) أنكرها وحاول استحالتها ودمجها واندثارها.
ومن أجل ذلك بالتحديد لا يمكن لرئيس جمهور، ولا محافظ، ولا مرشد حتى، أن يغير من هذا الواقع، إلا إذا تم إعادة بناء هذا النظام، أو لنقل تفكيك هذه «الدولة»، وبناء كيان من جديد مغاير لهذا الكيان، المقام على أساس الاحتلال والغلبة. ولذلك فماذا يستطيع المحافظ العربي أن يفعل حيال ذلك؛ هذا إذا أراد أصلا أن يفكر في ذلك، أو لم يكن هو من المؤمنين بوحدة إيران، الوحدة المصطنعة المفتقرة إلى الانتماء من قبل الشعوب الخاضعين لها.
أزمات «الدولة» المختلفة
ثم إذا وضعنا جانبا أساس هذا النظام، و«الدولة الزائفة»، وجدناها تعاني من أزمات قاتلة تفوق مقدرة النظام بأسره، ناهيك عن القيادات الفردية. وفي مقدمة هذه الأزمات الناتجة عن تراكم زمني طويل، هي الأزمة الاقتصادية التي تعصف بجميع الشعوب مع فارق جوهري يفيد بضِعف المعاناة الأحوازية. لأنها بالرغم من غناها، مقارنة بالمناطق الخاضعة لإيران من دون منازع، وتغذيتها الاقتصاد الإيراني بنسبة 85 بالمئة، ولكنها أفقر المناطق الخاضعة، وأشدها فقرا وتمييزا وتخلفا ودمارا وفقدان مرافق عامة وبنى تحتية. والأزمة الاقتصادية هذه هي خلاصة النمط الإيراني في الإنتاج، القائم على أساس حق الملك، صاحب السلطان، بالملكية العامة للخيرات الاقتصادية.
ماذا يريد المحافظ فعله أمام ذلك؟ هل يمكنه الحد من عبث المرشد وجنوده (الحرس الثوري) بالاقتصاد؟ هل يستطيع جلب ثروات الأحواز لها؟ هل يستطيع تحسين الاقتصاد الإيراني العائم على بحر من تضخم، ونفط في نفاد لا يجد من يطلبه في الأسواق العالمية نتيجة سوء إدارة سياسية استبدادية؟
استبداد طبع التاريخ الإيراني بطابعه، حتى صار أبرز صفات التاريخ الإيراني منذ القدم، يكون فيه الملك المتصرف المطلق في إدارة الشؤون العامة للعباد والبلاد. ولذلك يبدو بوضوح بأن استبداد المرشد الإيراني الراهن، قد يفوق إرادته بذاته، حيث وجد نفسه وريث بنية سياسية تاريخية قديمة لا تتقوم إلا بالاستبداد والاستقلال بكل ما في السلطان والملك والنظام. استبداد خلق منذ أكثر من قرن أزمة سياسية (في الشرعية، وفي مصادر السلطة ودور الشعب، وفي العلمانية، وفي انشطار الأجيال) لم تجد حلا لغاية الآن، بل تستفحل يوما بعد يوم، وتظهر في كل فترة على شكل مظاهرات وخروج وثورات واقتتال داخلي.
إن رأس السلطة الاستبدادية، كما يظهر التاريخ الإيراني، لا يهتم بمحافظ أو وزير أو رئيس جمهورية، كما يهتم بالبقاء على رأس الحكم، وإن تطلب ذلك القضاء على الشعب كله وكل ما يملك. ومن هذه العقلية بالضبط تصرف النظام المحتل بخيرات الأحواز وطبيعتها وبيئتها. لقد تمخض عن هيام المرشد بالذات من أجل البقاء، تمخض تصرف في البيئة، في الحدود الإيرانية، حولها إلى اقطاع يهبها لمن يثبت ولائه المطلق. وهو أمر ذهب بها إلى أزمة قاتلة، ودمار محقق، جعل الأحواز أكثر المدن تلوثا، ومنطقة غير صالحة للحياة والعيش. أجل قد يخرج المحافظ فيقول ذلك، ويشكو من قتل البيئة الأحوازية، ولكن ذلك مجرد قول لا يصمد أمام عقلية من الاستعمار وتاريخه واستهتار بالبيئة ومن عليها؛ كما أنها أقوال صدحت بها أصوات الفرس من المستوطنين في الأحواز أكثر من العرب الغافلين عن العالم، بمحافظهم الجديد.
ثم لو تناسينا كل تلك الأزمات المختلفة، وقلنا بأنها مجرد أفكار تُحَمّل الواقع أكثر مما يطيق، غير مرتبطة بتنصيب المحافظ، وربما مجرد هذيان، لو تناسينا كل ذلك يبقى السؤال مبررا تماما عن السبب الذي جعل النظام الإيراني يجنح إلى اختيار محافظ عربي في موطن عربي طالما أنكر عروبته، ونهب أهله وثرواتهم، وأنزل بهم شتى المصائب التي جعلت موطنهم غير قابل للحياة ملوثا تماما؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، في ختام هذه الفقرة التي تتناول المشاكل البنيوية، يتطلب استحضار تلك الأزمة السياسية التي يعاني منها النظام، بعد عشرات المظاهرات والاحتجاجات التي ذوبت شرعيته، وأظهرته نظاما تنبع شرعيته عن قوته على قتل المواطنين واعتقالهم وكبت حرياتهم ومصادرة أموالهم وحياتهم. وهنا وقف الجميع أمام هذا النظام، الفارسي والمحتل من الاحوازيين والترك والأكراد، في موقف مترد من الحياة المتردية؛ وإن كان نصيب الاحوازيين أشد وأوجع.
وهكذا يبدو أن النظام حاول بمثل هذه الخطوات العبثية غير المجدية، للأسباب التي شُرحت هنا، التماس شرعية يضفيها على حكمه؛ شرعية حاول هذه المرة الحصول عليها من خلال حكم إصلاحي يستميت الشعوب المحتلة غير الفارسية عبر منحها كسورا من حقوقها. وفي هذا السياق بالتحديد يجب فهم اضطرار النظام إلى وضع عربي أحوازي كمحافظ على شمال الأحواز، ما يسمى «خوزستان».
انعكاسات الأزمات البنيوية على الواقع الأحوازي
وإذا ظهرت الأفكار المذكورة في الفقرة السابقة بعيدة عن الواقع، خاصة لدى غير المختصين بالمناهج البحثية، فإن هذه الفقرة تحاول بيان تأثير تلك البنيات المتأزمة على الواقع الأحوازي، في محاولة تهدف إلى قراءة تبعات اختيار المحافظ العربي.
أزمة الأخلاق والفساد الممأسس في النظام
وأول هذه التبعات هي أن النظام الإيراني نظاما فاسدا بالمطلق، فساده متمأسس، يجعل كل فرد يدخل في هذا النظام فاسدا أيضا. وقبل سرد أمثلة لسريان عملية الفساد في النظام الإيراني، وكيفية إفسادها لكل فرد يدخل بوتقتها، نشير إلى مرجعية فكرية تفيد هذا الموضوع بالتحديد. وهي أفكار العلامة الألماني الإيطالي روبرت ميتشلز الذي وضع نظرية أسماها قانون الأوليغارشية الحديدي، أفاد بها بتأثير الأنظمة على سلوك الأفراد، وكيف يصبح الفرد بعد فترة من دخوله نظاما ما صاحب سلوكيات صاغها النظام الذي دخل فيه.
ومن أيسر الأمثلة لذلك، لتأثير النظام الفاسد على فساد الأفراد العاملين به هو النظام البنكي الإيراني: إذ ما من فرد عمل في هذا النظام المصرفي، إلا تحول بعد فترة من عمله إلى فاسدا بدرجات مختلفة، أو مشارك في الفساد، أو صامتا عليه. وذلك لأن النظام البنكي الإيراني هيكليا فاسدا بعينه وانعكاسا لفساد أعظم هو فساد الملك والسياسة. وهذه الدرجات المختلفة من الفساد قد تظهر على شكل تخصيص قروض للعاملين، أو في وضع العراقيل أمام العملاء من عامة الناس، أو على شكل منح القروض عبر الوسطاء إلخ. وليس المهم احصاء هذه الأساليب والصور، بل المهم هو إظهار أنها كلها أشكال من الفساد، وإنْ كان تحولها إلى طريقة في إدارة العمل جعل منها عادية ورسلا جاريا في جميع البنوك. وبالمثل إذا أخذنا أستاذا جامعيا كمثال على تأثير النظام الفاسد في فساد الأفراد وأخلاقهم وتصرفاتهم، سنجد أن فرض الرقابة الذاتية والاستخبارية لعدم خروج أي نقد أو نيل من النظام السياسي القائم، حول الأساتذة إلى صنفين: صنف صامت على الظلم وانحراف الإدارة الصحيحة للمجتمع والدولة (الدولة المعيارية في كل مكان) وصنف متعاون ظهير الظالمين من أجل الحصول على مناصب ومزايا.
لا يدخل النظام الإيراني، ومختلف أجهزته الحكومية، إلا من اجتاز مختلف الاختبارات التي تثبت ولائه المطلق للنظام: إنه إذا كان الحصول على توظيف أدنى في شركة الكهرباء مثلا، يتطلب الإقرار بنظام ولاية الفقيه، والولاء للنظام، والتواجد في جميع ما يطلبه النظام من مظاهرات وصلوات وشعائر مذهبية، واحترام للقومية الفارسية بوصفها القومية الوحيدة والمتفوقة، وما إلى ذلك من الأمور المعروفة، فإن وصول الفرد إلى منصب المحافظ سيعني اجتيازه جميع مراحل الفساد المذكورة في الفقرة الأولى، وسيعني أيضا التثبت من ولائه المطلق للنظام الإيراني الراهن، بما فيه من فساد ومذهبية وقومية عنصرية وقتل المدنيين إلخ.
وبناء على كل ذلك فإن السيد المحافظ هو نسخة أصيلة من نظام الجمهورية الإسلامية، بفسادها وبطشها، وقتلها ومذهبيتها الظلامية، وكل ما فيها من أزمات جعلت الخاضعين لها يعيشون في ظروف خانقة.
شبكة التناصر
ثم تظهر أجهزة النظام ودوائر حكومته أنها قائمة على شبكة تناصرية من العلاقات الممتدة على الأخذ والعطاء. إن الشبكة التناصرية هذه تعبيرا عن البنية السياسية الإيرانية التي تجعل أي قرار خاضعا لها، لاعتبارات طويلة وعريضة، قوامها الالتزام بتوزيع المزايا والتجنب من الإخلال بالتوازن القائم بين مختلف الجهات الموجودة في أروقة الحكم، وليس قرارا نابعا عن علم فردي أو اجتهاد لتحسن الأوضاع. وبناء على ذلك فإن توزيع المناصب من جهته لا يمكن أن يتم بمنأى عن طبيعة هذه العلاقة، ومن أجل ذلك يكون اختيار السيد المحافظ تعبيرا عن اتفاق بين القوى الحاكمة، المتصلة برأس النظام والخاضعة له الموالية إليه، أي عن تلك القوى الحاكمة التي أفضت بالأحواز إلى ما أفضت إليه من تخلف مدقع، جعلت مدنا أخرى نظير أصفهان ومشهد وتبريز متقدمة عليه بقرن، من حيث العمران والبنى التحتية، ومن حيث المدنية، ومن حيث الصحة إلخ.
وضعه الأسري
والغريب في كل ذلك هو أن السيد المحافظ هذا ينتمي إلى أسرة عربية أصيلة، هي السادات المشعشعية، التي يرأسها الموالي. وبيت الموالي هو بيت الرياسة، المعروف في التاريخ الأحوازي بموالاته لمختلف الأنظمة الإيرانية. لقد كان آباء السيد المحافظ في فترة الحكم الصفوي بعد احتلال إيران حاكمون بتفويض من الصفويين، كما كانوا كذلك في العهد القاجاري.
وإذا كانت هذه العهود القديمة ذات خصائص لا تسمح بالقدح بهذا التعامل، إلى حدود ما، بيد أن تعامل هذا البيت مع النظام البهلوي تحول إلى شبه خدمة لهذا النظام المحتل. كما تحول تعامل هذا البيت في عهد الجمهورية الإسلامية، خاصة أيام الحرب الإيرانية ضد العراق، إلى علاقة لا يمكن وصفها إلا بالتنكر للشعب الأحوازي ومصالحه.
وفي هذا السياق يجب وضع تولي المحافظ هذا المنصب السيادي، لأنه سليل بيت رياسة أثبت ولائه ليس للحكم الإسلامي القائم فحسب، بل للنظام الإيراني بكامل أنظمته وحكوماته ومستبديه.
أولى قراراته
ويكفي إثباتا لذلك التذكير بأولى قراراته التي توجه فيها بمنح أراض زراعية شاسعة لقصب السكر، تلك الشركة التي تختصر تاريخا من الدمار البيئي ومصادرة الأراضي الزراعية، وإذلال العرب ونهب وطنهم. ثم إلى جانب ذلك يظهر توزيعه للمناصب جنوحه نحو المستوطنين ومنحهم القيادات في معظم المدن الأحوازية. وإذا كان جانبا من ذلك يأتي في إطار الخضوع لجماعات الضغط التابعة لهم المتجذرة في الأحواز، فإن جانبا كبيرا منه أيضا يتم لأسباب تراعي منطق الشبكة التناصرية التي تجعل الفرد يتحرك في نطاق رد الجميل للجهة التي منحته مزية الحكم والمنصب.
وختاما نتسائل عن جدوى هذا التفسير المشار إليه هنا وكأنه قد أظهر اختيار محافظ عربي مضر بحال الأحواز أكثر من نفعه. وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من تسجيل ملاحظات ختامية:
وأولا: يجب العلم بأن الشيطان الرجيم ذاته فيه بعض خير ومزية، إذ بوجوده ووساوسه يتبين المؤمن العامل من المنافق المذنب. وهذا هو الحال مع المحافظ العربي الجديد، إذ فيه من الخير والمزية مثل ما في الشيطان، نشير لها هنا: في مقدمتها الإقرار الضمني بالعرب في الأحواز، وحقهم في التمثيل وفي إدارة الشؤون الخاصة بهم، في «محافظتهم» التي «يشكلون الأكثرية» فيها.
ثانيا: إمكانية إنعاش النشاط العربي في الأحواز، عبر منح مزيد من التراخيص للعمل الثقافي مثلا؛ أو الإكثار من إسناد المناصب القيادية للعرب الذين قد يكونون ضمن شبكة المحافظ وضمن عناصره المفضلة؛ أو خوض حملة من التوظيف للقوى العربية العاملة والمتعلمة التي قد يميل لها المحافظ ويجلب رضى النظام الإيراني عنها، من منطلق احتياجه إلى الأصوات العربية في مستقبله السياسي الذي قد يضمن له، عبر هذه الخطوات، نيابة البرلمان بالآراء التي يجلبها بمثل هذه الخطوات وما شاكل ذلك من اساليب اللعبه السياسية في النظام الايراني.
ثالثا: دخول العرب في الأحواز إلى معترك السياسة في النظام الإيراني. وهذه نقطة يجب العناية بها إلى حدود بعيدة وبكل تشعباتها: وذلك لأن الشعب الأحوازي، بأغلبيته الساحقة، يعتبر النظام الإيراني دولة الفرس، لا علاقة له بها، ولا تمثله، ولا يتوقع منها، بل يناصب العداء لها، ويتحين الفرص من أجل القضاء عليها. وهذا على الرغم من كونه يشكل ثقافة سياسية مستعدة، تمام الاستعداد، للنضال وخوض كفاح على أساس قومي صريح، ولكنه أبعد الشعب الأحوازي عن مزايا الحكم وقدرته على التأثير على أرض الواقع، وأفقده الكثير من المصالح التي وزعها النظام على المستوطنين بوصفهم «ممثلين خوزستان» في غياب تام له.
رحيم حميد، باحث مختص في شأن الأحوازي في معهد الحوار للأبحاث والدراسات