الأربعاء, يناير 22, 2025
مقالاتالقمع المستأنف: موجة الاعتقالات الأخيرة في الأحواز

القمع المستأنف: موجة الاعتقالات الأخيرة في الأحواز

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 شنت السلطات الأمنية والاستخباراتية الإيرانية في الأحواز حملة اعتقالات واسعة منذ ما يقارب الأسبوعين، أقدمت فيها على احتجاز عدد كبير من المثقفين والكتاب والناشطين في الساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية الأحوازية، واقتادتهم إلى معتقلات مجهولة. كما أقدمت السلطات على مصادرة الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الهاتف والمكتبات الخاصة بالمستهدفين، ورفضت إعادتها حتى بعد الإفراج عن عدد منهم. وقد بررت الجهات الاستخبارية ذلك بأنه إجراء متبع في التحقيقات الأمنية.

ويظهر من هذه العملية التي طالت فئات عديدة من الشعب الأحوازي أنها عملية عشوائية شملت خليطا من الأفراد بينهم كتابا ومثقفين وناشطين، فضلا عن عدد من الشخصيات العامة والإعلامية مثيل الشعراء والمؤثرين في الفضاء الافتراضي، إلى جانب عدد من الشابات والشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين. 

وعلى الرغم من عشوائية الاعتقالات إلا أن تعامل عناصر الأمن مع المعتقلين لم يختلف كثيرا، إذ كانت المداهمات الليلية، والتعرض عند الأماكن العامة، والسطو على البيوت، هي الطريقة التي انتهجتها السلطات للوصول إلى المطلوبين. كما أقدمت أجهزة الأمن على استدعاء عدد من الأفراد عبر الاتصالات الظاهرة من دون أرقام الصادرة عن جهات حكومية. إلى جانب ذلك حرصت الجهات الاستخبارية على حجب أية معلومات بشأن مكان المعتقل، أو الجهة المعتقلة، أو التهم الموجهة، أو الفترة التي قد يستغرقها الاعتقال. 

وقد بلغ عدد المعتقلين حسب اعتراف السلطات الأمنية الإيرانية لغاية الآن 182 فردا، بينهم رجال ونساء من جميع المدن الأحوازية، في الخفاجية والسوس والمحمرة وعبادان والمعشور والخلفيه والفلاحية والأحواز العاصمة. وبينما رفضت الجهات الأمنية توجيه أي تهم بحق المحتجزين لديها، سارع الإعلام الإيراني بتوجية تهمة «الإخلال بالأمن» ضد جميع الذين اقتادتهم العناصر الأمنية إلى جهات مجهولة. وبينما تم اعتقال عدد من الأفراد بسبب نشاطهم القومي، ثقافيا ومجتمعيا وعلميا إلخ، فقد جعلت عشوائية الاعتقالات تهمة الإخلال بالأمن شاملة ضد كل من تزامن نشاطه مع هذه الفترة؛ حيث وجهت التهمة ذاتها ضد عدد من العمال احتجوا ضد التعيينات في شريكة قصب السكر. كما كان للتهمة الدينية نصيبا واضحا من الاعتقالات بعد أن ألقي القبض على عدد من الأفراد المعتنقين التسنن في مختلف المناطق الأحوازية. وهكذا جاء اعتقال كل من المحتجين لمناهضة التمييز في التوظيف، ومن ثبت لدى الجهات المعنية تحوله إلى المذهب السني من المذهب الشيعي، جاء مزامنة لموجة الاعتقالات وإثباتا لإستهتارها.     

هذا وقد تميزت هذه الموجة من الاعتقالات بالأسلوب القديم ذاته من الضرب المبرح، وتعصيب العيون، وترويع الأسر والأقارب، والامتناع عن التصريح بأية معلومات عن صحة المعتقل وحياته وإمكانية اللقاء به إلخ.

  • وأول ما يظهر من هذه الموجة الهوجاء من الاعتقالات أمر بالغ الخطورة والحذر، يكشف عن توجه جديد لدى سلطات الاحتلال فرضته الظروف الراهنة التي يمر بها الشعب الأحوازي: ألا وهو تسديد الضربات الأمنية الغاشمة ضد الفئة المثقفة. وهذا أسلوب لم تطبقه سلطات الإيرانية من قبل، ولم يقدم عليه عناصر الأمن قبل هذا التاريخ بالتحديد بهذه الصراحة وهذا التأكيد. فإذا كان النظام الإيراني قد قضى طيلة احتلاله على جملة الفئات المثقفة والمتعلمة واستهدافها عن عمد وبسبق إصرار وترصد، فإن ذلك كان يتم بعد اندلاع الانتفاضات، وتحت ذريعة خروج الشعب الأحوازي واحتجاجه على الاحتلال. بيد أن هذه الموجة الراهنة التي طالت الفئة المثقفة وأخذت تصطاد الأفراد المثقفين بالدرجة الأولى جاءت بعد فترة طويلة من السبات والانكفاء، حيث لم تشهد الساحة انتفاضة قومية منذ ما يزيد على عقد. ويعني هذا الاستهداف الإصرار على منع الشعب الأحوازي من التقدم العلمي وانتشار الوعي العربي القومي، تمهيدا لتمادي الوعي الزائف في تشويه الحقيقة، واستمرار الاستعمار الإيراني وتصويره نظاما من الدولة يمتلك الشرعية اللازمة التي تقوم عليها الدول. وليس ثمة شك في أن استهداف هذه الفئات المتعلمة جاء عن قصد بذل النظام فيه مساع وخطط؛ حيث ترك واجباته في استتاب الأمن، وركز بدلا عن ذلك على هذه الفئة بالتحديد: فبينما ترك اللصوص والمجرمين وتجار المخدرات والنشطاء القبليين وأصحاب الفساد الاقتصادي أحرارا ينشطون في أعمالهم وحياتهم اليومية، واجه مقابل ذلك الفئة المثقفة بيد من حديد، ولم يترك شخصا يتوجس منه الخيفة ومن تأثيره على المجتمع إلا تصدى له وألقى القبض عليه أو استدعاه. وكل ذلك يبين أن علامة المرحلة الراهنة من مواجهة الشعب الأحوازي مع الاستعمار هي محاولة هذا الأخير القضاء على القوى العلمية المتعلمة والمثقفة في المجتمع.    
  • ثم إذا كانت هذه الحملة العشوائية من الاعتقالات قد استهدفت الفئة المثقفة، بيد أن الغاية الكامنة خلفها هي بث الإرهاب بين المثقفين أنفسهم، كما باقي الفئات التي تسمع بالخبر على حد سواء. ولا يختصر الإرهاب هنا على المنع والإحجام فحسب، بل هو يكتسي طابعا نفسيا سيكولوجيا، وطابعا قيميا أيضا. ولذلك تقصَدَ النظام ذلك الجانب السيكولوجي والقيمي من الإرهاب: حيث يصنع الخوف المنتشر من جانب الدولة الایرانیة في الذات الأحوازية حالة من الإحجام تجعل الأفراد والمجتمع عاجزين عن الإقدام واتخاذ المبادرات، لينتهي بهم الخوف إلى حالة من الجمود، تتويجا بحالة اللامبالاة المطلقة التي تجعل الأفراد منفعلين في ذهول وعدم استيعاب أمام ما يحدث لهم بين أنفسهم وفي المجتمع معا. إنها حالة القضاء على الذات بوصفها فاعلية تصنع أو تقدم أو تهدم أو ترفض إلخ؛ إنها الخروج من الحيوية إلى متاهة الإنفعال المطلق. وتجري الغاية من الإرهاب عبر تجميد الذات، جنبا إلى جنب ذلك الطابع القيمي الجاري في الإرهاب عبر إنزال العقوبة. والعقوبة هنا فضلا عن كونها عقوبة فردية وجماعية بالآن ذاته، عقوبة تطال المتهم بالقدر الذي تطال فيه المجتمع، فإنها عقوبة تريد أن تحدد القيمة: فما أتى به النظام المحتل وقبل به أو غض الطرف عنه وتسامح معه، فهو القيمة، وهو الأمر الأخلاقي المقبول والمطلوب من السلوك؛ أما ما رفضه  المحتل وتصدى له أو فرض عليه عقوبة أو قبح منه فهو الأمر النُكُر الذي يجب على الكافة تجنبه، والابتعاد عنه وعدم التفكير به رأسا. ومن هنا يقصد النظام الإيراني تحويل القضية الأحوازية العربية القومية، عبر هذا الإرهاب المنطوي على الذات المجمدة والقيمة الزائفة، من كونها قضية حقة تتعلق بتحرير شعب، إلى قضية مجرمة تستوجب العقاب وخالية عن القيمة الأخلاقية بحد ذاتها. وهكذا تكشف عملية الاعتقال مغزاها الحقيقي، وهكذا يكون الإرهاب آلية لهدف آخر ووسيلة لغاية أعلى، هي إخصاء الفرد الأحوازي، بوصفه لبنة المجتمع، والتقبيح القيمي العقدي من القضية الأحوازية وإخراجها عن دائرة الأخلاق والمعاني السامية، ولوثها بمختلف الملوثات كالإنفصالية أو الشوفينية.
  • وكلتا الحالتين السيكولوجية والقيمية، تلتقيان في استباق الأحداث، وتحبيذ النظام منع الانتفاض قبل اندلاعه، بدل معالجته ساعة اندلاعه وتفجره. ومن هنا جاءت هذه الحملة تتوخى منع انتفاضة جديدة: فلا شك بأن للنظام الإيراني مؤشرات يضبط بها الوضع القائم، ويتوجس إشارات تفيد بقرب وقوع انتفاضة أو خروج الشارع، مما حداه، بكل تأكيد، إلى اتخاذ هذه الخطوة الأمنية المتسارعة. فبعد خلو الساحة من كل انتفاضة منذ ما يزيد العقد تشير كل المؤشرات المنبثقة من الواقع المعاش بقرب غليان سيكشف المستقبل الغريب طبيعته وحجمه ومآلاته. كما أن الانتفاضة في الساحة الأحوازية العربية التي تشهد بوادر خروج، لا تعني انتفاضة المطالبة بحصة من المياه أو المطالبة بتحسين ظروف الحياة المعيشية، ولا تعني أيا من هذه الاحتجاجات الفئوية المطلبية، بل إن الانتفاضة قبل كل شيء هي ما عهدها التاريخ الأحوازي، انتفاضة العروبة وكسر قيد الاحتلال والاستعمار الایرانی، والاحتجاج ضد وجوده ورفضا لأية مظاهر من مخلفاته الاستيطانية واللغوية والثقافية وكل تبعاته. وذلك بالتحديد هو ما خشيه النظام في الوقت الراهن، بعد رصد مؤشرات قوية عليه، لأنه ظل يتعامل مع كافة الاحتجاجات العربية المعيوبة، كالمطالبة بالمياه والتوظيف وحركة التسنن إلخ، يتعامل معها بمرونة وصبر، على عكس تعامله مع ذلك الخروج القومي العربي الذي يبطش به ويضربه بيد من حديد ولا يمكنه تحمل أي بادرة تشير إليه.     
  • وبينما جاءت هذه الموجة لحصاد الفئة المثقفة، فإنها أظهرت خللا في التعامل الاستخباري الإيراني وأثبتت ضعفه. فبعد فضيحة جهاز الاستخبارات بتلقيه مختلف الضربات الإسرائيلية جاءت الموجة هذه تثبت وجه آخرا من وجوه ذلك الترهل. فملاحظة قائمة المعتقلين تظهر بما لا لبس فيه وجود عشرات الأفراد الذين لم يتجاوزوا خطوط الاحتلال الحمراء بكلمة واحدة. فإذا كان من رأى في ذلك محاولة لبث الرعب والإرهاب وإسكات المتهم وغير المتهم والمظنون على حد سواء، فإن ذلك لا يمانع النتيجة التي تقول بأن  هذه الحملة قصدت العثور صدفة على ناشطين قد يظهر استجوابهم وإرهابهم «إدانتهم» كما يظهر زيف الدعاية التي روجتها وسائل الإعلام عن قوة الاستخبارات الإيرانية وسطوتها وسيطرتها على كل شاردة وواردة. فهنا أخذ النظام يعتمد على الصدف والاصطياد من الماء العكر، حيث لم يأتي بقائمة المؤثرين على الساحة وبمن هو متأكد من نشاطهم القومي المناهض للاحتلال، بل هو ألقى القبض على «القومي والعامي» من المثقفین معا عله يظفر باعتراف تحت التعذيب سيتفاخر به.  
  • وختاما لا بد من معرفة نقطة غاية في الخطورة عادة ما يتم إهمالها في التحليل أو في اتخاذ الخطوات اللازمة للتعامل مع الواقع، وهي قضية الاستقلال شبه التام التي تتمتع به السلطات في الأحواز، خاصة منها السلطات الاستخبارية والأمنية. وذلك أن وقوع الأحواز على الحدود ما بين العراق وإيران جعل منها منطقة نائية عن المركز والمحافظات الفارسية الهامة، ما جعل المسؤول الأمني فيها يظهر بمن أدرى بأمورها وتشعباتها من القيادة المركزية في المركز، كما أضاف ذلك بعدا أمنيا مضاعفا لها بسبب القضايا القومية والتنافر القومي اللغوي الثقافي المجتمعي التاريخي والحضاري الفاصل بينها وبين إيران. ومن أجل ذلك فإن القضية الأحوازية وخطورتها على الوحدة الإيرانية من جهة، وبعدها عن المركز من جهة أخرى جعل المسؤول الأمني شبه مستقل في اتخاذ القرارات وزيادة القمع والبطش. وبينما يحتل اليوم منصب المدعي العام عربي اسمه أمير خلفيان فإنه من غير المستبعد أن يجنح هذا الشخص إلى تشديد العقوبات إذا ما أراد إثبات ولائه للمحتل وتحكيم منصبه، أو أن يحدث العكس، على سبيل الافتراض، وأن يجنح إلى منع البطش المنفلت بالعرب وهو يشهد العشرات من خيرة أبناء شعبه قد زجوا في السجون والمعتقلات من دون تهم ولا جريرة. ولعل الإفراج السريع عن بعض السجناء والاكتفاء بالاستدعاء عبر الاتصالات جاء خاضعا لهذا الاعتبار أو متأثرا منه.  

   

   

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here



error: Content is protected !!