المقدمة
بينما يتعرض جل المناضلين في الأحواز إلى موجة اعتقالات واسعة تقودها سلطات الإيرانية، يثار السؤال عن الموقف من هجمة النظام هذه ضد هؤلاء الناشطين السياسيين والثقافيين الأحوازيين، كيف يجب أن يفهما المثقف والناشط الأحوازي، وكيف يجب أن يتخذ موقفا منها إذا حدثت له، وكيف سيكون موقفه إذا حدثت لأخيه أو صديقه أو أي مواطن الأحوازي؟
كيف التعامل مع الاعتقال إذن؟ اعتقالنا أو اعتقال قريب منا؟ هذا هو سؤال هذا المقال، وهذا ما ليس من السهل الإجابة عنه. وذلك لأنه من السهل جدا تبني المواقف المنفصلة عن ظروف الواقع الأحوازي الشائك، والتصريح بأقوال تؤيد التشدد على المواقف، أو الثبات عليها، دون مراعاة حال الأسير أو المعتقل. فمن السهل القول بوجوب الثبات على معتقداتنا التي كنا نصرح بها في العلن وعند نشاطنا، بين الأصدقاء وفي الأماكن الآمنة والمألوفة؛ ومن السهل أيضا التأكيد على ضرورة الابتعاد عن التعامل مع العرب العاملين في الجهاز الاستخباري المحتل وعدم طلب المساعدة منهم؛ وغير ذلك من المواقف. ولكن كل ذلك على الرغم من صدقه ومبدئيته، قد يحمل الأسير المناضل الأحوازي ما لا يحمل عقباه، وقد يبدو كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة.
خذ مثلا أسيرا وقع بيد الاحتلال الإيراني، في سجونه المظلمة، فيسأله المحقق «اللوري» عن معتقده في ولاية الفقيه؛ ويسأله عن رأيه في الفرس في الأحواز؛ ويسأله عن رأيه في تحرير الأحواز إلخ، كيف يجب أن يجيب؟ إذا قال برفض الولاية، وإذا قال عن الفرس بأنهم مستوطنين، وإذا قال بأن الأحواز محتلة ورفض تسمية «خوزستان»، فإن مصيره سيكون الشنق المحقق، أو المؤبد كأكثر الأحكام رأفة به ومعجزة إذا صدرت لمن يقول بذلك. ثم ما تأثير ذلك إذا صرح به، وباحتلال الأحواز، وهو في زنزانة لا يعلم فيه أحد، حيث لا وجود لإعلام يغطي اقتياده أو معاناته، وجهل بمكان اعتقاله لدى أقاربه في كثير من الأحوال.
فما هو الموقف من الأسر والاعتقال إذن؟
ارتباك في التسمية ارتباك في الرؤية
إنها إشكالية فعلا، وقضية ليس من السهل التخلص منها، وانشغال يمتلك العقل والضمير ومكانة الإنسان الأحوازي بمثابة كائن ينشد الكرامة الإنسانية.
وربما لاحظ القارئ في بداية الأمر كيف ارتبك هذا المقال في تسمية من تلقي السلطات الإيرانية القبض عليه: هل هو معتقل، هل هو رهينة، أم هو أسير؟ وذلك لأن لكل تلك المفاهيم والمصطلحات معاني ودلالات مجتمعية وسياسية.
فإذا قلت بأنه معتقل أطلقت هكذا لفظا قانونيا تسري نافذيته بين مواطنين في دولة ينتمون إليها، ويدينون بالولاء لها، يعتقدون بشرعيتها وجوديا، وأنها دولة تمتلك الشرعية لاستخدام القوة الفائقة. فهنا يكون الاعتقال عبارة عن حالة صدرت ضد «مواطن» ارتكب جريمة، أو اتهم بجريمة، من قبل سلطات شرعية، تم إلقاء القبض عليه والوضع رهن الاعتقال من أجل التحقق من تهمته، هل هي صادقة عليه أو مجرد تهمة غير ثابتة. وكل ذلك من دون شك لا يصدق على المناضل الأحوازي الذي تشن سلطات الإيرانية ضده حملة واسعة لارتهانه، لأنه لا يعترف بشرعية دولة اسمها إيران، ولا يعترف بشرعية استيلائها على الأحواز، بل هو يرى في ذلك احتلالا صارخا.
ثم إذا أطلقت عليه اسم رهينة، فذلك ابتعاد عن الواقع، لأن الارتهان قد يدل على عصابة أو مجموعة من المجرمين لا على سلطة ونظام وسيستم ممنهج من القمع والقتل نظير النظام الإيراني. وإذا كانت هذه التصرفات مشتركة بين السلطات الفارسية وهذه العصابات الإجرامية، بيد أنه لا يصلح مثل هذا الاسم لوصف الواقع والدلالة عليه.
أما إطلاق مفهوم الأسير فهو يحمل معه رمزية كبيرة، وسيدل على وقوع تصادم بين أمتين متحاربتين، بينهما نسبة حرب قائمة، كل طرف فيها عند الاحتجاز يصبح أسيرا، بالمعنى الرمزي للكلمة. وعلى الرغم من هذه الرمزية التي قد ينقصها الاعتراف الدولي اللازم للمصادقة على حالة الأسر، بيد أن تَسَري إطلاقها، والإصرار على استخدامها في الأدبيات العامة وأدبيات العامة سيضفي عليها التداول المطلوب لشرعنتها دوليا.
ومن أجل ذلك يتبين أن أفضل المصطلحات، من حيث الرمزية والدلالة على الواقع، هو هذا المصطلح، مصطلح الأسير للإطلاق على المعتقل الأحوازي الذي وقع عند محاربته مع الأمة الفارسية ودولتها القائمة، بأسرهم، بينما هو يدافع عن أمته العربية في الأحواز الواقعة تحت احتلال واستعمار الفرس. ولا يجوز قط التخفيف من شأن الكلمات، ودورها في صياغة الواقع المعاش وفهمه، بل إنها تقولب الواقع وتصوغه بالشكل الذي يتم استخدامها. ومن أجل ذلك يتكفل مفهوم الأسير بتغيير النظرة إلى المناضل الذي حجزته السلطات وسلبت منه حريته ووضعته في السجون.
الأسير/المعتقل
وبعد التثبت من المصطلح الأفضل للإطلاق على من يتم اعتقاله من قبل السلطات، فإن السؤال الأهم هنا، والسؤال الذي ابتدأ به هذا المقال، هو كيف على الأسير أن يتعامل عند وقوعه بيد السلطات الأمنية؟
إنه في البداية لا بد من التصريح بأن المناضل الأحوازي عند الأسر يتحول إلى ثلاث أصناف:
ألف) المتنكر الندمان التائب: وهؤلاء هم من له تصور مشوه عن الواقع، وعن القضية الأحوازية، ما إنْ يتبين بعد أسرهم فسادها حتى ينصدمون ويصبحون من أشد الناس عداوة للشعب الأحوازي ومن المنتقمين عليه. ويتمحور تصورهم الخاطئ حول: رد فعل الشعب تجاه أسرهم، إذ يتوهمون بحدوث هبة جماهيرية لنصرتهم؛ أو تشكيل مجموعات تتداول أخبارهم إعلاميا؛ أو متابعة أسرهم قضائيا ولدى السلطات وعدم نسيانهم إلخ. وبينما هم محقون في بعض هذه التوقعات، بيد أنها تظل توقعات موهومة، لأن الشعب الأحوازي لم يهب لنجدة أسير لغاية الآن، وليس من الصحيح في الوقت الراهن التعويل عليه، ولا على الأصدقاء الأقارب حتى. وينبع توهمهم كذلك من القضية الأحوازية وتبني النضال أيضا، إذ كل واحد منهم يتوقع أنه هو محرر الأحواز، وهو صاحب القيادة، وهو تشه فارا الأحوازيين إلخ. بينما التاريخ النضالي لدى كل الأمم يثبت أنهم قلة يسيرة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين مَن اشتهروا بنضالهم، نظير لينين وتشه ونظير جمال عبدالناصر، وغيرهم، والحال أن في النضال كان من هو أعظم من هؤلاء ولكن التاريخ جعله منسيا، وراحت تضحياته في سبيل صدق معتقده لا يعرف بها أحد أو إلا من أوتي من العلم. وبعد الأسر وانقضاء فترته، يخرج هؤلاء بين من ينطوي على نفسه ويضبط أمور حياته يراوغ في تحسين اقتصاده؛ وبين من يلتحق بالسلك الاستخباري ويصبح عميلا؛ وبين من يلتحق بالقبيلة أو المذهب وينصهر فيهما. إنهم قوم تائبون نادمون!
ب) الأصولي الراديكالي الراسخ: وعلى النقيض من هؤلاء تقف الصفوة المختارة، مقدم النضال وأهله وخُلانه. هؤلاء قبل الأسر وفي الأسر وبعده (على أمل تحريرهم) يبقون ثابتون على النضال، لا يتزعزع صدق معتقدهم، ولا ترتبك عقد شخصيتهم الوثيقة، ولا ينال إرهاب الاحتلال وأمنه من عزيمتهم شيئا. وعلى الرغم من التقدير الكبير لمكانة هؤلاء، بيد أن هذه الراديكالية في النضال تسببت في استشهاد بعضهم على يد النظام، وتأييد حكم البعض الآخر، والمكوث فترات طويلة في السجن، مما عاد بتبعات عليهم سلبتهم حريتهم؛ وخسارة للشعب الأحوازي بعدم حضورهم في المجتمع، والحرمان من أطروحاتهم النظرية والعملية معا، لأنهم يتمتعون برؤى ثاقبة، ودراسات عالية، وثقافة نضالية وعلمية مميزة يقل نظيرها بين الشعب الأحوازي. وهذا بالتحديد هو ما جعل النظام يخشى من تأثيراتهم، فراح يقتل بهم ويلقي بهم في السجون المؤبدة.
ج) المعتدل البراغماتي الذكي: وبينما الفئة الأولى مرفوضة تماما، والفئة الثانية ليست في متناول الكل، وهي قل ما توجد في أحد إلا في أفراد وشخصيات استثنائية نبيلة، فإن الموقف النهائي والعملي والمعقول من الأسر بالنسبة للمناضل هو موقف الاعتدال والبراغماتية الذكية. فهنا الطريقة المثلى هي أن يسلك الأسير طريقة لا يصادق تماما على تبنيه القول باحتلال الأحواز وأن النظام الإيراني محتلا، ولا يجنح إلا موالاة النظام ونكران جميع الحقوق الحقة للشعب الأحوازي. ولتقريب المعنى يأتي المثل التالي: فإذا ما حدث وألقي القبض على فرد، فهو قد يستطيع أن يؤكد بأن «إيران دولة» متعددة القوميات، ولكن هذه القوميات ظُلمت، ولأننا نريد إحقاق حقوقها من أجل الحفاظ على التعايش السلمي، فعملنا على تحقيق الحقوق الخاصة بالعرب بشكل سلمي، منعا لميل باقي الفئات والأطراف إلى العمل العسكري.
فهذا النهج يسمح أولا بتخفيف الوطأة على الأسير، والبقاء على احتمالية تحريره من قيد الأسر، من جهة، ويساعد كذلك تدريجيا على الارتقاء بالقضية الأحوازية، إلى مستوى الحقوق في عيون السلطات الإيرانية المحتلة. وبعبارة أخرى إذا ما رابط الأسير على هذا النهج، نهج التصريح بالحقوق القومية الأحوازية في إطار النظام القائم، في معتقله، فإن النظام يضطر حينها إلى البحث عن حلول للتعامل الأمثل مع هذه المطالبات، وذلك يؤدي إلى عدة مكاسب: منها الابتعاد شيئا فشيئا عن تجريم كل المطالبات؛ والابتعاد عن الفتك بالمناضلين بمجرد كشف انتمائهم القومي؛ والبحث عن استشارات والاستفادة من تجارب السجناء الوطنيين الأحوازيين القدماء من أجل التعامل الأمثل مع قضايا الشعب الأحوازي إلخ. فلقد اتجهت السلطات الأمنية، في كثير من الحالات، إلى طلب الاستشارة من مثقف مناضل تم أسره، لأنه تعامل معهم بذكاء، وقال أنه يريد التحسين من ظروف التعايش السلمي، وظهر بمظهر صاحب الحلول، فصار من أصحاب الرأي. كما سقط في كثير من الحالات الأسير إلى عميل للنظام الإيراني وتم استدراجه فانطلت عليه الحيلة فباع قضايا شعبه وصدق عقيدته وشرفه.
ثم الأخطر في كل ذلك هو ثبات الأسير في معتقله، على مبادئه ورؤاه. وذلك لأن أي نوع من التنصل من القضايا القومية (نظير التعليم باللغة الأم، وممارسة التقاليد العربية، وحرية تأسيس النقابات ذات الطابع القومي، ونظير مناهضة التهميش والتمييز الممنهج ضد الاحوازيين) التي هي قضايا ما دون التصريح بتحرير الأحواز (وضرورة التصدي للنظام القائم بشتى الطرق حتى إحقاق تقرير المصير) من شأنها أن تؤثر على الرقي بالقضية الأحوازية من حالتها الراهنة التي يفرض عليها النظام شتى صنوف التعتيم، إلى حالة التداول في إطار المطالبة بالحقوق الأساسية الأخرى التي هي ما دون التحرير.
وهنا يتبين دور المثقف الوسطي الأسير في يد الاحتلال، إذ يأخذ على عاتقه الحفاظ على مبادئه من جهة، خاصة تلك المبادئ التي تقر باحتلال الأحواز؛ والسعي لجعل القضايا العربية الأحوازية محل تداول الجميع، سواء أجهزة النظام أو المجتمع الأحوازي ذاته.
المجتمع
وما دام الحديث بلغ المجتمع الأحوازي فلا بد من الإقرار بأنه مجتمع خال عن حاضنة مجتمعية للمناضل ولا يتداول قضاياه. ويظهر ذلك عبر رواية تداولها النشطاء عن وزير الاستخبارات الإيراني عند زيارته الأحواز إذ قال: إنكم أيها الشعب الأحوازي خير من الشعب الكوردي، لأننا لو ألقينا القبض على أحوازي «ضد النظام»، نجده اتخذ قرار معاداة النظام لمفرده، بينما الكوردي المناهض للنظام ليس وحيدا بمعاداته، فتجد أمه في إحدى الأحزاب، وأبوه عضو في تنظيم وهكذا.
وهذا الوصف على الرغم من طابعه الشعبوي ولكنه يعكس إلى حد ما واقع المجتمع الأحوازي بالنسبة إلى احتضان النضال وتبني القضية العربية الأحوازية ومنحه الدعم لها؛ سواء عبر دعم عوائل الأسرى، أو عبر نهوض المحامين العرب لنصرة قضية الأسرى قضائيا، أو عبر رمزية نضاله وإكرامه من حيث المنزلة المجتمعية. وإذا سلمنا بهشاشة القاعدة المجتمعية الأحوازية الحاضنة للكفاح والمناضل، فيجب القيام بذلك من أجل تعزيز الحاضنة المجتمعية المطلوبة:
- تسير انتفاضات بين كل فترة من أجل التذكير بالقضية الأحوازية وجعلها حية بين الشعب: وذلك لأن الانتفاضات تعمل لإنعاش للعشب وإعادة تداول القضية، وتوطيدها بين الأجيال الناشئة.
- استغلال الإعلام ومقدرته من أجل تحويل النضال إلى قيمة في المجتمع. خاصة في عصر باتت القيم المجتمعية المقبولة تشتق عن وسائل الإعلام والتواصل، وأصبحت لهذه الوسائط تأثيرات عظيمة على قبول فكرة أو مناهضة معتقد.
- محاربة المستوطنين بكافة الطرق والأشكال وفرض مقاطعة تامة ضدهم. لأن هذه الفئات فضلا عن مشاركتها في قمع الشعب الأحوازي وتفقيره وازدراءه، فإنها قائمة على أساس مشطب الوجود العربي لغويا وثقافيا وسياسيا. لذلك أي استهداف لها هو بمثابة تعطيل المخططات الاستعمارية الرامية إلى ذلك من جهة، واكتساب شرعية للنضال وإيقاظا له.
- العناية بالعمل الثقافي القومي: لأنه بمثابة الروح الذي تسري في الشعب الأحوازي، والجسر الذي يسمح للمجتمع بالوصول إلى تبني قضيته العادلة في سبيل التحرير من الاحتلال.
- محاربة البنى القديمة، الدين والقبيلة، وإسقاطها من حيز الرمزية والقيمة والتأثير والانتماء. لأنهما ساهما كثيرا في انحراف بوصلة الكفاح الأحوازي عن جادته السالكة، وإشغاله بقضايا هامشية أبعدته عن درك الواقع على حقيقته.
- تعميق الفكر والتنظير السياسي والثقافي والاجتماعي تجاه النضال الوطني الأحوازي، وغرس المبادئ الأخلاقية النضالية لدى الأجيال الجديدة الأحوازية.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات