الأربعاء, فبراير 5, 2025
مقالاتتطورات النهج الامني الايراني في قمع الاحوازيين

تطورات النهج الامني الايراني في قمع الاحوازيين

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 المقدمة 

تهدف هذه الورقة إلى دراسة التاريخ الطويل للسياسات القمعية التي استخدمتها الأنظمة الإيرانية المتعاقبة ضد الأحوازيين، وخاصة استهداف تلك الشخصيات السياسية والثقافية والفكرية المناضلة في الماضي والحاضر والتي كانت ولازالت طليعة المدافعين والمطالبين بحقوق الشعب الأحوازي. وسوف تتعمق الورقة في شرح تاريخ السجون المختلفة وزنازين الحبس الانفرادي المستخدمة تاريخيًا وحاليًا لاحتجاز السجناء السياسيين الأحوازيين.

وتستكشف الورقة الأساليب القمعية المستخدمة خلال نظام الشاه المخلوع والجمهورية الإسلامية الحالية، وتسلط الضوء على التهم المتنوعة الموجهة ضد السجناء الأحوازيين، وتوضح جذور وكيفية ظهور الاتهامات، وتشرح آثارها وتبعاتها ضد السجناء من المناضلين. كما تتناول أساليب التعذيب الجسدي والنفسي الوحشية المستخدمة لانتزاع الاعترافات القسرية وأسلوب التعذيب النفسي لكسر إرادة هؤلاء المناضلين.

والهدف الأساسي من هذه الورقة، هو توضيح كيف نجحت إيران في بناء  استراتيجية أمنية قمعية حول القضية الأحوازية. حيث تقوم الورقة بتحليل كيف تبنت الأنظمة الإيرانية المتعاقبة سياسة أمنية تبرر قمع المطالب الأحوازية  المتعلقة بالحقوق الوطنية والسياسية والثقافية والاقتصادية. ومن هذا التحليل، تنطلق الورقة لتسليط الضوء على الآثار والتبعات الأوسع لهذه السياسات الامنية القمعية على المجتمع الأحوازي ونضاله المستمر منذ قرن من أجل نيل الاعتراف بحقوقه المشروعة.

تاريخ السجون في الأحواز منذ عام 1925

قبل الدخول في صلب الموضوع ينبغي شرح موضوع السجون شرحاً تاريخياً، ليصبح القارئ على دراية بسيرورة السجون في الأحواز منذ عام 1925م، أي بعد احتلالها  وضمَّها بالقوة إلى بلاد فارس التي سُميّت بإيران لاحقاً أثر اقتراح “سعيد نفيسي” هذه التسمية على شاه ايران رضا بهلوي.

وعليه، كان عام 1925 بداية الانتفاضات والثورات الأحوازية ضد النظام المحتل آنذاك، وبداية قمع النظام لها، فكانت مواجهته لكل تلك الانتفاضات والتحركات الثورية تتم بالقمع الدموي الذي طال القرى والمدن وشمل النساء والشيوخ والأطفال، ارتكب خلالها النظام الإيراني جرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. ربما لم تخرج تلك الثورات على شكل هبة جماهيرية كبرى، في بدايات الاحتلال، لكن دخول كفاح الشعب الأحوازي المرحلة السياسية-الثقافية غيّر من أساليب النظام في التصدي لها، فتطور لقصف بالطيران وتسيير الجيش إلى الاعتقالات والتصفيات للمناضلين والنشطاء، خاصة بعد تأسيس الاستخبارات الإيرانية السيئة السمعة المعروفة باسم “السافاك”.

السافاك الإيراني وقمع الأحــوازيين

لم يترك السافاك الإيراني منذ تأسيسه عام 1956م، فرصةً لقمع المثقفين والمناضلين في الأحواز إلا واستغلها، حتى بات مجرد سماع اسمه مثاراً للرعب بين عموم الناس. وقد كان حصة الفئة المثقفة من اعتقالات هذا الجهاز أعلى الحصص، فبمجرد اشتباهه بانتماء مثقف أحوازي  لشعبه كان يعتقله ؛ خاصة في تلك الواقعة التي قام خلالها باعتقال الشاعر الأحوازي ضياء الدين الخاقاني، بسبب قصيدة عربية ألقاها في جمع من المثقفين في مدينة المحمرة الأحوازية، وهذا أحد الامثلة فقط! وقد تعرض الشاعر خلالها للسجن والتعذيب عبر أساليب وحشية من بينها وضع السجين في الثلج، مما أدى إلى شلل إحدى ساقيه وتلف في الرئتين لازمه حتى آخر حياته.

وكان اللافت للنظر أن تعامل السافاك مع الأحوازيين  اختلف تماماً عن تعامله مع الفرس المعارضين  والقوميات الأخرى القريبة منهم ثقافياً ولغوياً، حيث أن التعامل الوحشي كان من نصيب الشعب الأحوازي، نظير التغييب القسري، والقتل تحت التعذيب، والاعتقال طويل الأمد دون محاكمة، وبث الرعب وما شابهه؛ بينما لم تنتهج هذا الأساليب في تعامله مع المعتقل الفارسي الذي يبقى يتحرك في إطار «الدولة الإيرانية» والحفاظ على سلامة أراضيها. كما أن الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية جعلت الأحواز محل اهتمام الحكومات في طهران مما جعل مواجهة أية بادرة ثقافية أو سياسية من أولويات الجهاز الأمني الغاشم. 

 

السـجـــون في فترة احتلال الأحـــــواز

السجون في الأحواز بعد عام 1925م تختلف عن السجون قبل هذا التاريخ، فقد تأسست بعد هذا العام لتكبيل الإنسان الأحوازي وتحطيمه نفسياً وجسدياً، وسحق كرامته الإنسانية المنتهكة أساساً. وترمز السجون في الأحواز بصورة عامة للتعذيب والمآسي، وليس مكانًا لإعادة التأهيل، حتى بالنسبة لسجناء الإجرام والملفات القضائية وغيرهم من السجناء. أما السجناء الثقافيين والسياسيين المطالبين بحقوق الشعب والمناضلين، فهم يتعرضون لأسوأ تعامل يمكن أن يحدث داخل المعتقلات، كما أن طرق التعذيب الإيرانية معروفة في العالم، سواء في عهد النظام الملكي المروج للعنصر الآري أو النظام الطائفي العنصري الراهن. وهناك نقطة بالغة الأهمية تشير إلى أن إدارة السجون لم تكن يوماً بيد مواطنين من الأحواز بل أكثرهم من الفرس ومن المناصرين للقومية الفارسية التي تناصر العرق الآري. وهؤلاء يتعاملون دون رحمة ومن منطلق عنصري ينتهك آدمية الأحوازي، ويعتبره نكرة. 

وينبغي معرفة خصوصية السجون بالنظر إلى ظروف الشعب الأحوازي، لأن القمع النفسي والثقافي والسياسي ينفذ بطرق ممنهجة لا تترك خيارات أمام الفرد لكي يعبر عن هواجسه وتطلعاته، بل تترصد شبكات الاستخبارات الواسعة لأية مجموعة أو شخص يبادر بعمل ثقافي أو سياسي مستقل عن العمل الذي ترتضيه الاستخبارات؛ سواء كانت “السافاك” سابقاً أو الاستخبارات راهناً.

المعتقلات السرية والسجون الظاهرة

وتنقسم السجون في الأحواز إلى قسمين: معتقلات سرية وسجون علنية. المعتقلات الـسـريـة مؤشر للجحيم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ وهي مختصة بالأسرى السياسيين وكذلك النشطاء الثقافيين والمناضلين. معتقلات وزنازين يتجنب الإعلام الفارسي، سواء من المعارضة أو من إعلام النظام الحديث عنها أو الاهتمام بتسليط الضوء عليها. مما يدل بوضوح على أن الإجماع بين النظام والمعارضة معقود على عدم إقامة أي اعتبار للإنسان الأحوازي، مع تشاركهما بضرورة قمع الحركات الأحوازية، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو نضالية. فالمهم قمع هذا الشعب المضطهد.

لذا ينبغي على المتابع لشأن السجناء معرفة أن التعامل مع السجناء السياسيين يختلف حسب قومياتهم، وكذلك حسب مطالبهم، فأسوأ معاملة تنتظر ذلك المعتقل، هو الذي يطالب بمطالبات قومية تتعلق بتحرير الشعب الأحوازي أو منحه حقوقاً قومية، ففي هذه الحالة لا يترك المحققون طريقة تعذيب إلا وينزلوها به لكسر عزيمته وشخصيته. وقياسًا على باقي السجون في جغرافية ما تُمسى إيران تعد سجون الأحواز جحيماً دنيوياً. 

حيث لا يمكن تحديد أماكن المعتقلات السرية أو الوصول إلى معلومات وافية عنها، لأن بوليسية الأنظمة الإيرانية وغياب حرية الصحافة والقضاء تبقي عليها سرية، بالرغم من كشف بعضها بواسطة السجناء ذاتهم. وكانت الكثير من إفادات المعتقلين السابقين، على سبيل المثال، تشير إلى معتقل سري قرب المطار الدولي في الأحواز العاصمة، وكذلك معتقلات سرية أخرى.

أما السـجــون الـظـاهــرة مختلطة ينزلها جميع الذين تصدر بحقهم المحكمة عقوبة قضائية، وإن كان فيها سجناء ثقافيين وسياسيين ومناضلين؛ ويطلق على القسم الذي يوجد فيه هؤلاء السجناء قسم سجناء “الأمن”. وتكتظ السجون الظاهرة بالسجناء، يتحول هذا الاكتظاظ عند ارتفاع درجات الحرارة في صيف الأحواز إلى تعذيب قاتل، خاصة عند وصول معدل الحرارة في الصيف إلى 50 درجة مئوية. وكذلك تفتقد هذه السجون لأقل الخدمات المطلوبة.  

وتضم الأحواز سجون كثيرة بحيث لا تخلو مدينة منها. ولا يخصص النظام الإيراني سجوناً للسجناء السياسيين بل يرفض الاعتراف بوجود معتقلين بهذه الصفة أصلاً! بينما يحاول تشويه السجناء السياسيين والثقافيين، وخداع الرأي العام الأحوازي والإيراني والعالمي لإبعاده عن التعاطف معهم.

ومن أبرز السجون التي تضم عدداً كبيراً من السجناء، هي من نصيب العاصمة الأحوازية، ثم باقي المدن:

سجن كارون: وهو أكثر السجون سوءاً في الصيت وأقدمها، فيه تم سجن الكثير من السياسيين. ويفتقد كارون لأدنى شروط الحياة، سواء في الجانب الصحي أو التغذية أو التعامل. ومن أبرز من نزل في هذا السجن كان: حاتم بن جعلوش المعروف باسم حته، وهو أحد رموز الكفاح الأحوازي، نزله في فترة السبعينيات من القرن الماضي. وقد عمدت سلطات النظام الإيراني قبل أعوام قليلة إلى إغلاقه ونقله إلى محل آخر، لأنه يقع بوسط المدينة بعد نموها، وكان مكاناً لتشويه السجناء وتعذيبهم.

سجن الهويرة (سبيدار): يقع هذا السجن أيضًا في الأحواز العاصمة، ولا يقل سوءًا عن كارون. وازداد نزلائه بعد إغلاق سجن كارون، رغم عدم استيعابه الأعداد التي جلبت إليه.

سجن شيبان: تم بناء هذا السجن خارج الأحواز العاصمة، في منطقة بعيدة عن أنظار المواطنين والمتابعين. ويضم في الوقت الحالي عدداً كبيراً من السجناء السياسيين والمناضلين والنشطاء الثقافيين، وغيرهم من السجناء الذين دخلوه بسبب اتهامات أمنية.

الـتـعـذيـب في السجون

وبينما تتفنن السلطات الإيرانية في تعذيب السجناء الأحوازيين وتصر على ذلك، نسعى هنا للتطرق إلى أساليب التعذيب ضمن عنوانين رئيسيين:

التعذيب الجسدي 

توظف الأنظمة الاستبدادية التعذيب والترهيب لقمع المعارض أو المخالف وكل من تشعر بأنه يشكل خطراً ضدها. وبينما التعذيب الجسدي يختلف من دولة إلى أخرى، تتميز السجون الإيرانية بأساليبها الوحشية، حيث تعد الاستخبارات الإيرانية من أسوأ الأجهزة فتكاً وبطشاً ضد الأفراد. 

ويزيد التعذيب والفتك بالسجناء والأسرى الأحوازيين على وجه الخصوص، حيث بات التعذيب الجسدي لأي سجين أحوازي أمراً مألوفاً، يتعرض الفرد فيه لتعذيب مكثف لفترات طويلة جداً في معتقلات الاستخبارات. ويشمل التعذيب الجسدي قلع أظافر اليدين والرجلين، وأحياناً تتكرر العملية مع المعتقل عدة مرات حتى يعترف أو يوقع على ورقة اعتراف معدة سابقاً بواسطة الاستخبارات. ومن تلك الأساليب المكررة هي التعذيب بالكهرباء أو أنواع الأسواط وأسلاك الكهرباء، يتم الضرب بها غالباً على الظهر أو باطن الأرجل. وهنالك طرق تعذيب قاتلة جداً يظل السجين يعاني منها لفترات طويلة: وهي إجبار السجين على شرب كمية كبيرة من الماء، ثم تكبيل يديه ورجليه، ثم لف مطاط على الآلة الذكرية لمنعه من التبول. ويبقى السجين على هذه الحالة حتى يعلن استعداده للاعتراف أو لقبول إملاءات الاستخبارات. وهذه من أسوأ طرق التعذيب المعروفة في المعتقلات. وأما شد السجين من رجليه إلى السقف فيمر به كل سجين. بجانب التهديد بجلب الأقارب كالأخ والأب للاستجواب، فهو ضمن قائمة أسلوب الحرب النفسية من قبل المحققين لتحطيم معنويات السجين. وهنالك طرق أخرى لا يمكن حصرها في دراسة واحدة.

الـتـعـذيـب الـنـفـسـي 

التعذيب النفسي هو مرحلة ما بعد انهيار الجسد، أو بعد فقدان السجين الإحساس بجسده. فالمحقق لا يترك السجين بعد نزع الاعتراف منه، بل يعمد إلى تحطيمه نفسياً وعصبياً. وهذه الطرق كانت مستخدمة في كثير من بلدان العالم، لكن بعض الدول غيرت من أساليب السجون بفعل التغيير الذي طرأ على الأنظمة، إلا أنها لم تتغير في إيران، حتى بعد تغير النظام الملكي، بل حافظ التعذيب على وحشية أساليبه وازداد بطشاً في النظام الإسلامي القائم.

ويستهدف التعذيب النفسي النيل من تماسك السجين والأسير، عبر إنزال شتى أصناف التعذيب، والتهديد بتعذيب الأب والأخ بعد جلبهما إلى السجن؛ وهذه من أساليب كسر عزيمة السجين وإيصاله إلى الانهيار. وأحياناً يتم جلب بعض الأقارب بالفعل ثم نقلهما إلى غرفة مجاورة، ليعلو صوت صراخهم وبكائهم المستمر لبعض الوقت، ثم بعدها يأتي المحقق ويتحدث بالتفصيل عن عملية التعذيب واعتراف الأب والأخ وابن العم ضد السجين، مما يفقد السجين تماسكه ويزداد تأزماً وانهياراً نفسياً تاماً.    

وفي أحيان أخرى يعمدون إلى خلق سيناريوهات وهمية، لتشكيك المعتقل بأفضل أصدقائه، أو حتى أقاربه، لتدمير معنوياته. وأحياناً يختلقون صوت قريبه أو صديقه الثقة ليظهروا للسجين أنه يتعامل أو يدلي باعترافات ضده.

ويعد المنع من النوم أيضاً من الأساليب التي تساهم في الانهيار العصبي للسجين، يتناوب عدة جلادين على ضربه أثناء الليل والنهار، مع حرصهم الشديد على ألا يغمض عينيه، حتى للحظات قليلة، فيبدأ بعدها بالهلوسة وتخيل أمور وهمية. وترافقه هذه الحالات لفترات طويلة، حتى بعد السجن، وأحياناً تتحول إلى أمراض نفسية مزمنة.

الزنزانة الانفرادية

ومن أساليب التعذيب الأشد فتكاً بالسجين، هي الزنزانة الانفرادية والمكوث فيها لفترات طويلة. فالسجن الانفرادي يمثل الصمت المطلق القاتل، والظلمة التامة؛ مما يجعل السجين لا يعرف التوقيت الذي يمر عليه، ولا الأيام التي تنقضي، لانعدام أية حركة حوله تمكنه من معرفة الأيام التي قضاها في السجن الانفرادي أو التوقيت اليومي: فنومه متقطع بين أوقات مختلفة طوال الوقت الممتد، الذي يمر بصورة مميتة، في صمت وظلمة. 

ومن أعراض هذا الأسلوب هو أن بعض السجناء، ممن قضى فترات تزيد عن العام الكامل في الزنزانة الانفرادية، لا يتعرف على نفسه ولا يستطيع التحدث أو التعرف على باقي الزملاء الذين كان على صلة معهم، إلا بعد مدة طويلة من خروجه منه. ولا أظن بأن الزنزانة الانفرادية في بلدان أخرى تبلغ المستوى الذي هي عليه في الأحواز، وما يتكبده السجين منها؛ وذلك بالنظر إلى العلاقات الاجتماعية الثقافية الواسعة التي اعتادها المعتقل في مجتمعه وبيئته في الثقافة الأحوازية، مما تجعل المنفردة للأسير الأحوازي أقرب إلى الموت البطيء. وهذه السمة الثقافية بالتحديد هي التي تجعل الزنزانة الانفرادية أكثر أذى.

السجينات الأحوازيات

تتعرض السجينات الأحوازيات إلى التعذيب كما يتعرض الرجل الأحوازي له، إذ لا يفرق الاحتلال بين الاثنين، لأنهما أصحاب مطالب قومية مشتركة، بل إن المرأة الأحوازية قد تتعرض لتعذيب وتحطيم أشد من الرجل، لأن الأنظمة الإيرانية المتعاقبة لم تتساهل مع وجود فئات نسائية واعية، تربي أجيالاً على القومية والعروبة. وقد انتهجت السلطات سياسة تخويف المرأة الأحوازية وترهيبها من القيام بأي عمل أو مبادرة، ثقافية أو سياسية أو حتى نسوية، لمنع تثقيف المجتمع الأحوازي.

وتفيد تصريحات السجينات الفارسيات التي تم سجنهن مع أحوازيات بأن السجينة العربية تتعرض للتعذيب والإذلال المضاعف لسببين: الأول لأنها أحوازية عربية، والثاني لأنها امرأة. وتفيد تصريحات الناشطة السياسية سبيدة غليان بمدى تعذيب العربيات اللاتي رافقتهن في السجون والتقت بهن. وكان هناك عديد من السجينات اللاتي تعرضن للتعذيب   وابقائهن في معتقلات معدومة من أبسط الخدمات الأساسية وسوء معاملة يندى لها جبين الإنسانية. 

والأمر المؤسف الذي يؤكد تعرض الشعب الأحوازي إلى مظالم مزدوجة من النظام من جهة، ومن المجتمع الفارسي ونخبته من جهة أخرى، هو أن النسويات الفارسيات لا ينشطن ولا ينتبهن لاعتقال المرأة الأحوازية. ولعل هذا الحدث الذي جرى في العام 2018 يعكس جيداً طريقة تعامل المجتمع الفارسي بجميع فئاته ونخبه وإعلامه ومعارضته مع القضايا الأحوازية، وهو حدث يتعلق بتزامن اعتقال الفتاة الأحوازية مائدة عموري، بعد القاءها قصيدة عربية، مع اعتقال مائده هزبري في طهران بسبب مشاركة رقصها على مواقع التواصل. فهنا تم تناسي اعتقال مائده عموري من الإعلام الفارسي وتم إهمال كل ما تعرضت له، بينما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار الفتاة الفارسية، واهتم بها كل الإعلام الفارسي المعارض، في داخل إيران وخارجها. وبين تركيز منظمات حقوق الإنسان الإيرانية على مائدة هزبري كان الإهمال من نصيب الفتاة الأحوازية. وقد كان هذا مدعاة لخيبة الظن بالنخبة الفارسية ومن بينهم أولئك العاملون في مجال حقوق الإنسان بالنسبة لكثير من الأحوازيين.

ولا يمكن الحديث عن السجينات والمعتقلات في الأحواز دون الحديث عن السجينة المحررة فهيمة بدوي، فهي رمز المرأة الأحوازية الحرة والمناضلة التي ضحت بأحلى سنين عمرها في سبيل حرية شعبها. وكان النظام الإيراني قد عمد إلى تنفيذ حكم الإعدام بحق زوجها أمامها كسراً لعزيمتها ونيلاً من ثباتها. لكنها تقبلت ذلك بكل ثبات، وأنجبت قبيل استشهاد زوجها ابنتهما الوحيدة في الزنزانة الانفرادية. وقد مكثت السيدة فهيمة في السجن 12 عاماً في ظروف قاسية جداً. وما يثير الدهشة والاشمئزاز من النظام الإيراني، هو أن السيدة بدوي تعرضت لمضايقات وتعذيب لأجل تسمية ابنتها، بعد أن أرادوا تغيير اسمها إلى اسم فارسي أو اسم مذهبي يتناسب مع عقيدة النظام الحاكم.

انتفاضة الحياة في السجون 2020

بعد انتشار جائحة كورونا في أنحاء العالم، أخفت السلطات الإيرانية تفشيها، ولم تتخذ أية إجراءات، حتى تسبب ذلك بارتفاع عدد المصابين في السجون. وخيّم بعد ذلك الذعر خاصة على سجون الأحواز التي تفتقد إلى أدنى مقومات الحياة، ناهيك عن مقومات الصحة، والتي تضم عدداً كبيراً من النزلاء. وبينما قدم السجناء اعتراضات إلى إدارة السجن، مطالبين برعاية صحية تحد من انتشار الجائحة، تجاهلت الإدارة هذه الاعتراضات والمطالب الإنسانية حتى تسبب هذا الإهمال غير الإنساني بانتفاضة السجناء لأجل الحياة، ولأجل ألا يموتوا في السجون، ثم استعد النظام لمواجهتهم وللتصدي لانتفاضتهم السلمية بالسلاح.

لقد كانت انتفاضة السجون محصورة في جدران المعتقلات، ولم تكن تجري في الشوارع لكي يصف النظام المنتفضين بالمدسوسين أو المرتبطين بأجندة أجنبية معادية، أو ينسب لهم استخدام العنف والسلاح. لقد كانت انتفاضة في السجن بأيد سلمية ليس عليها إلا القيود. وكانت مطالبات السجناء تركز على تخصيص حرية مشترطة إلى حين السيطرة على الجائحة، وإيقاف التعذيب اليومي، وتوفير الخدمات الصحية لمواجهة الفيروس. وكل تلك المطالبات قوبلت بالسلاح والقتل والتعذيب. وبينما أراد النظام بهذه الممارسات وأد انتفاضة الأسرى وإسكات صوتهم، سمع العالم والمجتمع العربي الأحوازي رسالتهم، وإن كان الثمن باهظاً تطلب أرواحاً كثيرة من السجناء الذين ماتوا برصاص قوات أمن السجون، وكذلك رصاص رجال الاستخبارات الذين تدخلوا لإخماد الانتفاضة التي وصل صوتها إلى العالم.

المحاكم في الأحواز

قد ترمز المحكمة إلى العدل في كثير من البلدان التي تنعم بقضاء مستقل وعادل، لكنها لا ترمز في الأحواز إلا للظلم والتمييز العنصري، سواء كان في محاكمات عامة أو سياسية.  وتتم محاكمة المعتقل السياسي بالتنسيق مع الاستخبارات، حيث لا يتم تعيين قاض في محاكم الأحواز، إلا بعد تزكيته من قبلهم، ليكون السلك القضائي متواطئاً معهم. وهكذا تتم مصادقة الأحكام الصادرة في وزارة الاستخبارات من قبل السلك القضائي دون أي اعتراض، بل قد يضيف إليها موارد أخرى تزيد من حكم المعتقل الأحوازي. ويتكرر ذلك كثيراً، لأنه تحول إلى طريقة يكسب فيها القاضي مكاسب ومناصب عبر استرضاء الاستخبارات. أضف إلى ذلك أن منصب القضاء بالأحواز ينطوي في كثير من الأحيان على مكاسب مادية كبيرة، لأن دخول الفرد إلى المحكمة يعني التورط بمشكلة كبيرة، مما سيضطره إلى دفع رشوة لبعض القضاة للتخلص من ورطته هذا برغم الفقر المدقع الذي يرزح تحت وطأته عموم الشعب الأحوازي. لذلك يلجأ أغلب المواطنين إلى العرف الاجتماعي لحل مشاكلهم بدل المحكمة. 

لا توجد في الأحواز محاكمات علنية، لا أمام الناس ولا أمام الصحافة المستقلة التي لا توجد في نظام شمولي يحكم بالترهيب. فالمحكمة غير علنية وفي الأغلب لا تتجاوز دقائق قليلة لإصدار حكم إعدام بحق فرد أو مجموعة، وهذا هو المعمول به في الأحواز منذ عقود غير قليلة. وتبدأ المحكمة عملها بالاعترافات المنزوعة بواسطة التعذيب لتوضع أمام القاضي، ولا يغير من هذه الاعترافات وأثرها في صدور الحكم تصريح السجين بأنها جاءت تحت التعذيب وغير حقيقية. حيث يقوم القاضي بالاعتماد على هذه الاعترافات التي انتزعت من السجين بالسوط بإصدار الحكم!

الجماعات المستوطنة الإيرانية/الفارسية 

بعد عام 1925م عمد النظام الإيراني إلى جلب الفرس من المدن الفارسية إلى الأحواز لأجل تغيير التركيبة السكانية. وفي عهد محمد رضا شاه قام النظام بسلب أراضي زراعية من المزارعين الأحوازيين وسلمها لمهاجرين من محافظات يزد ولورستان الإيرانية، في منطقة “چم اصخیل” ثم أطلق عليها بعد عملية الاستيطان “كيانبارس” وتعني الكيان الفارسي. وهذه الجماعات الفارسية هم من الفرس المتطرفين الذين يعتقدون بتفوق العنصر الفارسي الآري، ومدعومين من النظام سياسياً وثقافياً واقتصادياً. وقد لعبت هذه المجموعة دوراً كبيراً في اضطهاد الناس، بعد أن أصبح أبناء ذلك الجيل المهاجر رجالاً كباراً في الاستخبارات، وفي مناصب مفصلية في الأحواز.

والملفت في نشاط فئات من هؤلاء المستوطنين هو أن هناك جماعات متطرفة تكثف نشاطها على شكل ثقافي، لكن تركيزها الأساسي هو متابعة أي ناشط ثقافي عربي، ثم محاربته وإلصاق التهم به لشطبه والقضاء عليه نهائياً، عبر التمهيد للاستخبارات لاعتقال من يقوم بذلك النشاط. وهذه العملية يديرها جماعات تطلق على نفسها “بان إيرانيست” وهي مجموعة من الأفراد المرتبطة أمنيًا بالاستخبارات. وتروج للعنصر الآري وتفوقه على باقي الشعوب، ولديهم أفكار توسعية في المنطقة.

صناعة الاتهام لاستباحة الدماء 

بدأ تاريخ الاتهامات الأمنية منذ عام 1925، أي العام الذي دخل رضا خان الأحواز محتلاً. ومنذ ذلك العام، بدأ الشعب الأحوازي يشعر بهيمنة الفارسي نظاماً ومجتمعاً، وبدأ يشعر بأنه يجب عليه الظهور بمظهر يريده النظام له، من اللغة والثقافة والمجتمع والسياسة إلخ. إضافة إلى تحول اللغة العربية إلى العدو الأول للفرس، بعد أن منعت في المدارس والكتاتيب التي كانت في عهد الأمير خزعل. ولقد رأت السياسة الإيرانية أية بادرة ثقافية وسياسية بمثابة عدو لوجودها غير المشروع على أرض ليست لها. لهذا عمدت هذه السياسة في شرعنة اغتيال أي حراك ينبثق من رحم الشعب.

بداية الأمر ونظراً لطبيعة الصراعات في ذلك الوقت، كانت الانتفاضات والاعتراضات تظهر بصورة حركات قهرية ومسلحة، وكان النظام يرد على تلك الحركات بقسوة غير مبررة: حيث إذا ما قامت جماعة تتصدى للجيش الإيراني في منطقة ما، يقوم الجيش وقواته الأمنية باعتقال عدد كبير من أهالي تلك القرى. كذلك لأجل تفقير الناس كان أفراد الجيش يقضون على أبقار سكان المناطق وأنعامهم. وهذا بالتحديد هو ما جعل بعض المناضلين يفضلون ترك المناطق الآهلة بالسكان واختيار حياة متنقلة في الغابات والأهوار الأحوازية، في محاولة لتجنيب الأهالي تلك العقوبات التي ينزلها النظام على شكل عقاب جماعي.

وقد وظفت الأنظمة الإيرانية المتعاقبة متغيرات إقليمية وسياسية كثيرة لأجل الاستمرار في تدمير مقومات الحياة للشعب الأحوازي، وأكبر خطر تراه هم النشطاء الثقافيين الذين يحافظون على التماسك المجتمعي. لذا عمدت على شطب هذه الطبقة التي تبث الوعي بين أوساط الناس.

وعلى العموم يمكن شرح تاريخ الاتهامات وتبريرات النظام الإيراني لقتل واعتقال الأحوازيين وتعذيبهم والحكم عليهم بأحكام جائرة إلى عدة اتهامات وهي كما يلي:

الفراري (هارب ومطلوب للعدالة) 

هذا الاتهام بدأ في الأربعينيات من القرن الماضي، وامتد إلى السبعينيات، لكن ذروة توظيف هذا الاتهام لاعتقال كثير من الأحوازيين وإعدامهم كان في الستينات. والجدير هو أن هذه التهمة لم ترفق بتهم أخرى مثل التخابر مع جهات أجنبية، بل هي وحدها كانت كفيلة بالتعرض إلى القتل والمحاكم العسكرية الجائرة. ومن أبرز المتهمين بها هو المناضل حاتم بن جعلوش المعروف باسم “حتة”. كانت الجرائد في طهران تتحدث عنه يوميا وعن حراكه وكذلك تزايد شعبيته. وبهذا السبب بذل السافاك كل جهوده للقضاء عليه. كما واجه “ادعير البستان” من قبله تلك التهمة وتعرض للمطاردة؛ حيث كل من وجهت له التهمة هذه كان مصيره المطاردة والقتل.

ناصري

“الناصري” هي نسبة إلى الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي كسب شهرة واسعة بين العرب بسبب الكاريزما التي كان ينعم بها، وكذلك سياسته الثورية ضد الاستعمار. لكن بما أن النظام الملكي الإيراني ساءت علاقاته مع النظام المصري بتأثير من تأسيس جمهورية، سرعان ما أخذت تغازل الإيرانيين وكذلك الشعب الأحوازي، أخذت استخبارات “السافاك” آنذاك بتلفيق تهمة جديدة لاعتقال المناضل الأحوازي، وكذلك الناشط الثقافي، لتبرير تعامله الوحشي معهم وإنزال أحكام جائرة بحقهم.

وقد سعت الأنظمة الإيرانية دائماً في خلق عدو وهمي في أذهان المواطنين، ثم إلصاق تهم التعاون مع هذا العدو بالمعارضين والمناضلين الأحوازيين. هذه التهمة بدأت مع بزوغ نجم جمال عبد الناصر واستمرت إلى وفاته. وكانت الاتهامات دائماً تتأثر بالمتغير السياسي في المنطقة، وخاصة العلاقات مع دول الجوار. ومن أبرز الذين حكم عليهم بالإعدام في هذه الآونة، هم الشهداء الثلاثة: محي الدين آل ناصر، ودهراب، وعيسى المذخور.

البعثية

هذه التهمة كانت من أقسى التهم الواردة على السجين الأحوازي. فعندما استولى حزب البعث على الحكم في العراق ساءت العلاقات بين النظام العراقي والإيراني، وأخذ الإعلام الفارسي يخلق عدو افتراضي آخر، وعلى هذا الأساس قام ملك إيران بتأسيس حزب “رستاخيز” الذي هو ترجمة حرفية لاسم حزب البعث الحاكم في كل من سوريا والعراق.

ولقد تمكن الإعلام الإيراني من خلق أجواء عدائية تجاه النظام البعثي في العراق عبر تحريك مشاعر الناس طائفياً بواسطة رجال الدين الذين لم تتعكر العلاقة بينهم وبين النظام الإيراني في تلك الفترة. كما كان النظام الإيراني متخوفاً جداً من تأثير النظام البعثي على الشعب الأحوازي، لوجود حدود طبيعية ممتدة بين الجغرافية الأحوازية والعراقية، فضلا عن التقارب الثقافي بين الشعبين. لذلك ركز كل قوته الاستخبارية في الأحواز وعلى حدودها مع العراق. حيث كان “السافاك” يتعامل بقسوة مع أية حركة أو مبادرة يشعر منها بالخطر، خاصة في المدن المتاخمة مع العراق وبصورة أشد في مدينة المحمرة وعبادان. ومن أبرز الذين اغتالهم النظام بتهمة التعامل مع نظام البعث “الشيخ فيصل الحريزات” بعد قيام قوات السافاك بقتل جميع أفراد أسرته في بيته الواقع بقرية من قرى مدينة الخفاجية؛ وحصل هذا قُبيل ثورة 1979 بمدة قصيرة.

خَلْقي

تُنسَب تهمة “الخلقي” إلى أولئك الذين يحملون أفكاراً وتوجهات يسارية، ويناصرون الشعوب المضطهدة في سعيها لتقرير مصيرها ضد الاستبداد والاستعمار. وكلمة “خلق” بالفارسية تعني “الشعب”. وعندما يُوصف ناشط بأنه “خلقي”، فإن ذلك يعني أنه يساري ويدعم كفاح الشعوب من أجل التحرر والاستقلال وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية. كان التيار اليساري يستخدم مصطلح “خلق” للإشارة إلى الشعب العربي في الأحواز، فيما يُستخدم “خلق كردي” للإشارة إلى الشعب الكردي، و”خلق بلوشي” للإشارة إلى الشعب البلوشي. 

لقد استخدمت تيارات وحركات يسارية فارسية، مثل حزب توده، ذي التوجه اليساري ومنظمة مجاهدي خلق، هذا المصطلح لاستقطاب الشباب من الأحوازيين والكرد والتُرك. وقد ادعت نظرياً أنها تلبي مطالب الشعوب غير الفارسية وحقوقها. ومع ذلك، بعد مرور خمس عقود على وجود هكذا حركات، والتي اتخذت لها مقرات متعددة في الدول الغربية كمعارضة ضد النظام الإيراني القائم، لم تعترف بعد بحقوق الشعوب غير الفارسية.

لقد كانت هذه التهمة من صنع رجال الدين في خضم الثورة التي أطاحت بالملكية العنصرية، أدت إلى اعتقال الكثير من المطالبين بحق الشعب الأحوازي وحريته تحت تهمة الانتماء إلى “خَلقي”. ولكن بما أن عامة الناس كانت غارقة في الثورة التي حركتها العاطفة الجياشة بعيداً عن العقلانية السياسية، تغاضت الناس عن هذه الاعتقالات والمحاكمات الثورية التي كانت تصطف عشرات من السجناء في خط واحد فتقوم بإصدار الحكم والتنفيذ في الوقت نفسه. وهكذا حصدت التهمة أرواح كثيراً من النشطاء السياسيين والثقافيين، وكذلك المناضلين من الأحوازيين، كما كانت لفترة غير قليلة السبب الوحيد للقضاء على المعارض أو الشخص المطالب بحقه سياسياً وسلمياً.

ولن تتم الإشارة هنا إلى شخصيات تم إعدامهم بسبب هذه التهمة لأن العدد كبير جداً والإعدامات كانت عشوائية ومن دون محاكمات رسمية ومسجلة ولأنها قضية معروفة جداً في ذاكرة الشعب الأحوازي. هذا ولم تشمل هذه التهم، كما السابقات، الأحوازيين فقط بل شملت كل الشعوب غير الفارسية أيضاً.

صدّامي  

كما يتضح من التسمية فإن هذا الاتهام يرتبط مباشرة بشخص صدام حسين، رئيس جمهورية العراق آنذاك. وقد راجت هذه التهمة في نهاية الحرب الإيرانية-العراقية، ووحدات التعبئة التابعة للحرس الثوري كانت تشرف على اشاعتها والتعامل مع من وقف ضده. وكان الإعلام يكثف حملاته ضد صدام حسين الذي كان يسميه “الكافر” الذي لم ينظر له النظام الإسلامي الجديد وإعلامه كخصم سياسي فحسب، بل أضاف إلى الصراع السياسي بُعداً طائفياً لتحريك مشاعر الناس البسطاء الغارقة في المعتقدات الطائفية التي روج لها النظام الثوري. وهكذا كانت تهمة “الصدامية” تعني أنواع مشددة من التعذيب يعقبها الإعدام، برغم أنه لا وجود انتساب واقعي لهذه التهمة، لكن النظام كان يوظف هذا الاتهام للقضاء على الذين يطالبون بحقوق قومية للشعب الأحوازي.

ويثبت ذلك بأن النظام الإيراني وإعلامه الإيديولوجي يستفيد من المتغيرات السياسية في المنطقة للقضاء على أي حراك ينبثق عن تطلعات الشعب العربي التي ينسب اتهامات أو يربط نشاطه بأنظمة أو شخصيات قد تكون مدانة في المجاميع الدولية لكي يبرر عنفه تجاه هذه النشاطات الرامية لإحقاق الحقوق المسلوبة من الشعب الأحوازي.

انفصالي

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأت المحاكم تعاقب النشطاء السياسيين والثقافيين باتهام النشاط الانفصالي، وكانت الأحكام جائرة جداً تصل لحد الإعدام في الأعم الأغلب، ويذهب المتهم بالانفصال، الذي يرافقه اتهام “زعزعة الأمن القومي الإيراني” أيضا، ضحية ذلك. وهنا بدأ الإعلام الإيراني يربط هذه النشاطات بقوى أجنبية معادية يتهم هؤلاء النشطاء بالتعاون معها، على رأسها الولايات المتحدة، على الرغم من معرفته بعدم وجود أي دعم حقيقي للقضية الأحوازية من هذه الدول. ولكن مادام المتهم والمحكوم  عليه هو إنسان أحوازي، فتوظيف الاختلافات السياسية مع هذه الدول وإلصاق اتهامات بالنشطاء الأحوازيين بالتعاون معها وجد مبرره في الشارع الفارسي دوماً. 

الوهابية

تمخض هذا الاتهام بعد الاختلافات السياسية التي حدثت بين السعودية وإيران، وأخذ الحرس الثوري هذه الورقة الطائفية لاعتقال أي ناشط يقوم بعمل ثقافي أو سياسي في الأحواز. والملاحظ هو أن إطلاق هذا الاتهام كان من السهولة بمكان، حيث من السهل جداً العثور على ناشط تم اعتقاله وتعذيبه خلال فترات متقطعة بتهم مختلفة، ثم ألصقت به هذه التهمة كمبرر لاستمرار تعذيبه وإطالة فترة اعتقاله، بعيداً عن أي تجانس سياسي أو ثقافي بين الاتهامات. وعلى الرغم من ذلك يمكن لهذه الاتهامات أن تبين الجهة الراهنة التي تعاديها السلطات الإيرانية، حيث ينعكس أي من الاتهامات المذكورة للعدو الأول للنظام الإيراني، ويمثل مبرراً وحيداً للفتك بالناشط الأحوازي المكتوي بهذه التهم الملونة. فبينما كان العدو يوماً ما النظام العراقي في عهد صدام، فجأة اصبح الشعب العراقي شقيقاً وتحولت التهمة من صدامي إلى وهابي، في إشارة إلى عدو مفترض جديد هو المملكة العربية السعودية.

وقد بدأ هذا الاتهام بعد عام   منذ  اواخر التسعينات وتم  واستمر إلى اليوم، تطلقه السلطات جنباً إلى جنب اتهام الانفصالية، وقد حوكم الكثير من النشطاء بهذه التهمة الطائفية، الغير موجودة بين الشعب الأحوازي؛ غير أن الأنظمة الإيرانية، كما ذُكر آنفاً،  استلته من المتغيرات الإقليمية والسياسية للقضاء على أي تحرك في الأحواز. وسبب هذا التخوف ينبع من أن الأنظمة الإيرانية تعرف جيداً أن هذا الشعب يريد حقوقه المشروعة، لكن الطبيعة الاستبدادية هي التي ترد على النضال السلمي السياسي بالنار والرصاص.

داعشي

يقضي العشرات من الأحوازيين ولا سيما من النشطاء السنة فترات سجن طويلة في إقليم الأحواز لمخالفتهم للنظام الإيراني وخاصة بعد أحداث المنصة عام ٢٠١٨. لذلك الصق النظام عنوان الداعشي بهم لكي يتم التخلص من هؤلاء عن طريق السجون أو المشانق.

 الاستنتاج

استخدم النظام الايراني سياسة تراكم الاتهامات المختلفة ضد نشطاء الأحواز بهدف نزع الشرعية عن مطالب الشعب الأحوازي. كما لعبت هذه الاتهامات دورًا كبيرا في تحويل قضية الأحواز إلى قضية أمنية. من ثم، أمننة قضية الأحواز منحت إيران حرية التصرف ليس بهدف استهداف النشطاء الأحوازيين فحسب بل استخدمتها للتنكيل بالشعب بأكمله. بالتالي مكنت السياسة الامنية المفروضة على المجتمع الأحوازي من قبل السلطات الإيرانية مأساة طالت لعشرة عقود.

وهاكذا نجحت الدولة الإيرانية إلى حد كبير، عبر تجريم المطالبات الأحوازية التي تتعلق بالحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية والمدنية واللغوية والهوياتية وتصنيفها كتهديد “لأمنها القومي”. وهو ما يعني وضع قاموس اتهامات جاهز مسبقاً لتنفيذه وتطبيقه على الأحوازيين وعلى كل أعمالهم ونشاطهم الاعلامي والثقافي والسياسي من خلال استخدام تلك القوالب الامنية والعنصرية والعدائية المجحفة ضد كل المطالب الأحوازية العادلة والمحقة، أو منعها من الظهور ووأدها في مهدها قبل أن ترى النور! ما أدى إلى اعتبار مختلف النشاط الأحوازي السلمي جريمة مساس بأمنها القومي وتهديداً له. ويمكن فهم هذه الحالة ضمن نظرية “طغيان النظرة الامنية” والتي تعني، إضفاء الطابع الأمني لممارسات غير أمنية بتأثير صناع القرار والمتنفذين وتحويلها لتحديات أمنية تتطلب اتخاذ خطوات طارئة للتصدي لها.

 وكان الفيلسوف وعالم السياسة أشيل مبيمبي قد اصطلح سياسة الاستعمار القاتل أو” سلطة الحياة والموت” ‍(الإنجليزية: necropolitics) ليحدد به الأساليب التي تسيطر الدول الاستعمارية عبرها على الشعوب وإخضاع جميع مناحي حياتها. وهي نفس الأساليب التي يطبقها النظام الإيراني عبر استخدامه لآليات التعذيب والتهميش والنبذ ضد الشعب الأحوازي. 

 تعتمد السلطات الايرانية السردية الأمنية في التعامل مع مطالب الشعب الأحوازي العادلة كأداة لتبرير استخدام العنف ضده وشرعنة معاقبته. وقد أدى ذلك إلى اعتقال وأسر وتعذيب آلاف النشطاء لمحاولة اسكاتهم وعدم اعتراضهم على طمس هويتهم ولغتهم، وللتغطية أيضاً على نهب ثرواتهم الاقتصادية وتدمير البنية والبيئة الأحوازية.

وتتجسد استراتيجية إضفاء النظرة الأمنية على مطالب الاحوازيين ضمن اتخاذ سياسات وأساليب متنوعة كاتهامهم بالإرهاب أو السعي إلى الانفصال أو العمالة لدول معادية. وتم إضفاء الشرعية القانونية على هذه الممارسات من خلال سن تشريعات تحد من حرية التعبير وتمنع التحزب والنقابات، مما سلب إمكانية الاحتجاج السلمي كلياً، وتعاملت معه على أنه خرق للقانون.

وقد أحكمت السلطات الإيرانية عبر اجهزتها الأمنية رقابتها على الشعب الأحوازي، عبر تطبيق منظومة تجسس واسعة على تواصلهم، سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مما تسببت بخلق بيئة من الخوف والرعب أدت إلى أخذ الحيطة والحذر من التعبير عن الرأي في الفضاء الافتراضي خشية البطش الأمني.

وانعكس هذا النهج سلباً على ممارسة الأنشطة الثقافية والأدبية في الأحواز، سيما وأن النظام منع تعليم اللغة العربية لتسهيل تطبيق سياسة التفريس، في محاولة مفضوحة لطمس الهوية العربية وتجفيف الرافد الحضاري والثقافي وفصل الأجيال الراهنة الاحوازية عن ماضيها.

ختاماً، أدى إضفاء الطابع الأمني على مطالب الشعب الأحوازي بحقوقه إلى تبعات جسيمة وانعكس سلباً على النهج السلمي لتحقيقها. كما أنه شرعن لاستخدام أساليب القمع والعنف والاستغلال ضده، وأنتج مزيداً من التهميش والنبذ والطرد والمعاقبة. لذا فإن الخيار الأنسب للتغلب على هذا النهج، هو تحديه ومواجهته حتى انتزاع الاعتراف بأحقية المطالب الأحوازية في  كافة حقوقه المشروعة . 

ولمواجهة هذه السياسة الأمنية الممنهجة ضد القضية الأحوازية وحقوق الشعب الأحوازي، فإن ذلك يتطلب فهم طبيعة سياسة القمع النظام الإيراني وتوثيق جرائمه وكشف هذه السياسة أمام المجتمع الدولي بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان الكبرى وكذلك وسائل الإعلام العالمية، وهذا العمل يتطلب جهوداً جماعية يجب أن يقوم بها نشطاء حقوق الإنسان والأكاديميون والباحثون الأحوازيين. 

 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

 

 

ملحوظة: تم نشر هذه الورقة في عام 2023 ولكن تم تحديثها وإعادة نشرها يوم الأربعاء 05 فبراير 2025

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

2 COMMENTS

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here



error: Content is protected !!