المقدمة
لا تريد هذه المقالة التطرق إلى المدنية بوصفها حاضنة الرأسمالية ومحرك الحداثة البورجوازية، ولا تريد وصف المدنية باعتبارها تقسيما اجتماعيا غيّر التاريخ إلى حداثي وتقليدي، ولا تريد أخذ المدنية بوصفها بداية تكوين الدولة ودخول التاريخ إلى عهد الأمة الدولة.
إنها تريد ما هو دون ذلك، وعلى مستوى الحياة اليومية التي يعيشها كل فرد في الأحواز. لذلك المقصود من المدنية هنا هو أمر حدوسي بسيط، يدل على أهل المدينة بوصفهم مدنيون يقطنون المدن، وأنماط سلوكهم فيها، في جميع المدن الأحوازية. ولذلك يتم السؤال عما تعنيه المدنية في الأحواز؟ ولماذا هي على هشاشة؟ كما يدعي هذا المقال.
في معنى المدنية
المدنية هي صفة مشتقة عن اسم مدينة، وتطلق على مجموعة من البشر يسكنون في مدينة. فهم مدنيون لأنهم يقطنون المدينة ويأتون منها. كما أنهم مدنيون لأن المدنية طبعت صفاتهم، ومنحتهم خلالا ميزت سلوكياتهم، وحددت عيشهم بصفة عامة: كأنْ يقول أحدهم أنت مدني لأنك تسكن في المدينة، وتُظْهِر في مدينتك التي تسكن فيها سلوكا معينا في الملبس والمسكن والعمل والتعامل إلخ. وبناء على ذلك يمكن عد المدنية، قبل كل شيء، ثقافة خاصة بالمدنيين، أي من يسكنون المدينة، لتكون في هذا المعنى مجموعة من السلوكيات الخاصة بالحياة داخل المدينة، وتلك التمظهرات التي يمتاز بها المتحضرون المدنيون. وإذن تعني المدنية هنا سلوكياتٌ وثقافةٌ في الحياة داخل المدن، تجعل أهل المدينة، مدينة الأحواز العاصمة وعبادان والمحمرة والخفاجية والسوس ومعشور إلخ، أصحاب تصرفات وسلوكيات تناسب مدنيتهم.
ولكن هذا لا يعني قط بأن كل الصفات التي تتواجد في المدينة هي نوع من الثقافة مدنية، ومن ثم بأن هناك مدنيات لكلها ميزاتها وصفاتها. وذلك لأنه لو تم التسليم بذلك ستُفقد إمكانية النقد، ويحدث دور باطل من المصادقة على جميع السلوكيات. كلا بل للمدنية صفات مبدئية وأولية، إحقاقها هو من يسمح بالقول بوجود مدنية. وإذا تم القبول بأن أبرز صفات المدنية، كما ينتقيها هذا المقال، هي الفردية، والتسامح، والتقدم، وحقوق المرأة، فإن البحث في كل هذه المفاهيم في المدينة الأحوازية يثبت هشاشة فيها كلها، ومعاطب في فاعليتها في الساحة المجتمعية، مما يجعل المدنية الأحوازية هشة، ومما يخل بهذه المدينة، ويجعلها أشبه بالقرية حتى بات من المبرر الحديث عن قرى أحوازية توسعت بشكل معيوب فصارت قرية/مدينة الأحواز وقرية/مدينة الخفاجية وقرية/مدينة عبادان وهكذا. وأبرز الأسباب التي تصب لصالح هذا التصنيف، تصنيف المدن الأحوازية بالقرية هو فقدانها المدنية، أو عدم توطيد الثقافة المدنية فيها، بالمعنى المشار إليه.
وبما أن الأحواز محتلة من قبل الفرس والنظام الإيراني، فهنا سيتم وضع الفرس موضع المقارنة مع العرب، الشعب الأحوازي، في مدنية كل منهما، بدل عزو الهشاشة في المدنية إلى المحتل. وهكذا إذا رأيت حب الوطن والانتماء إلى الجماعة عند الفارسي أشد من العربي الأحوازي، تم التصريح بذلك فقط، تزامنا مع ترك الأسباب التي أدت إلى ذلك، لأن الهدف هو فقط التنبيه والتحذير من التدهور المدني الذي يعاني منه الأحواز بكل مدنه وفئاته المدنية والمدينية معا.
الفردية
تتجلى الفردية لدى الفرد المدني، وعند صاحب الثقافة المدنية، في قبوله المسؤولية الفردية بالدرجة الأولى. وخير تجل للمسؤولية الفردية فهو في حرية الضمير: فتجد الفرد المدني المتمحور على ذاته الذي ينظر لنفسه على أنه قطب الكون، بأنه حر في اختيار العقيدة، وحر في تحديد الدين، دونما خشية من الجماعة، أو خشية من الخروج عن المألوف من العادات، ودونما خشية من التضرر. حرية الضمير الناتجة عن قبول المسؤولية لدى الفرد، هي ركيزة الثقافة المدنية، وهي التي تسمح بنشوءها وتوطيدها وتقدمها.
وهنا إذا وضع العربي في الأحواز موضع المقارنة مع الفارسي، تجد الفارسي المستوطن أكثر فردية من العربي صاحب الأرض، ليس في الانعتاق من البنيات القديمة، نظير الدين والقبيلة فحسب، بل في الجرأة على تجربة الجديد، وفي قبوله تلك التبعات التي قد تنجم عن ميله نحو تجربة الجديد. ليس هذا فحسب بل تجد العربي الأحوازي ممثل في كثير من الأحيان: فتارة يضطر إلى إظهار نفسه «با کلاس» خاصة أمام الفرس، وتارة يظهر نفسه أمام إخوته وعشيرته بأنه متدين أو كريم، وتارة أخرى يظهر نفسه بأنه مطلع مثقف؛ كل ذلك دون أن يتصرف على سجيته، من منطلق ثقته بالنفس وبفرديته، الفردية التي تثبت مسؤولية الفرد الواعية عن اختياره للشكل الذي يتمظهر عليه، والسلوك الذي يصدر عنه.
ثم للمسؤولية الفردية تجليات أخرى أيضا تكشف لنا أبعادا جديدة، وتثبت مدى وجودها في الفرد الأحوازي، هي الفردية المسؤولة عن ذاتها اقتصاديا. فهنا على عكس الأعجمي الذي يستند على ذاته في نشاطه الاقتصادي تجد معظم الأفراد في عموم الأحواز يعيشون في إطار الجماعة فيتوقعون وصول الإمداد من قريب غني، أو معونة من أب، أو من فيض يأتي من كل مكان ماعدا مساعي الفرد ومقدار جهده وسعيه. إنها من مخلفات انعدام المسؤولية في الفرد من دون شك، ومن مخلفات عدم وعي الثقافة المدنية التي تقتضي اعتماد الفرد كليا على جدارته ومهارته ومقدار ضبط الأمور كشروط النجاح.
وفي الحياة اليومية تتمظهر المسؤولية في أمور بسيطة وبسيطة جدا. فهنا إذا أردت مثالا يسيرا يجري كل يوم في الحياة المدنية ويدل على مقدار المدنية بين إنسانيين فارسي مستوطن وعربي صاحب أرض، وجدت المستوطن يلتزم بمسؤولية نظافة الأحياء والمدينة أكثر من التزام العربي صاحب الأرض. كما إنك إنْ نظرت له تجده يتصرف بالمرافق العامة (من أضواء في الأحياء والشوارع، ومن أشجار ومن زينات إلخ) تصرف اللامبالي بل المهدر (ومن هنا امتناع السلطات البلدية من تخصيص موارد لتجميل الأحياء العربية بمبرر قيام الأطفال والشبان على إتلافها (صدقا أو كذبا)) لأنه لا ينظر لنفسه لبنة من لبنات البناء والإعمار، بل لا يعير لذاته تلك الأهمية التي تضعه بين المواطنين المساهمين في الشأن العام. إنه بهذا المعنى وبصراحة لا يجد في نفسه محلا للإعراب في مدينته بل كأنه زائدة فيها.
ليس هذا وحسب، بل تتجلى المسؤولية الفردية المدنية في مستويات أعلى وأخطر من ذلك بكثير، أكبر مظاهرها هي حب الجماعة والوطن والشعور التام بالانتماء لهما. وهذه من أكبر القضايا التي ترتد بتبعات جسام على الأحواز وشعبها وتاريخها ومستقبلها. فبينما ترى الفارسي المدني عند ما يسمع أخبار بلاده تفيد بوقوع الدولة في نقص في الكهرباء، حديث الساعة هذه الأيام، يلتزم بتعاليم خفض الإهدار والاستخدام، وراح يستشعر بمسؤوليته عن ذلك؛ ولكنك إن ذهبت للأحوازي، إلى المناضلين الذين تصطادهم الاستخبارات هذه الأيام، وجدتهم يتنصلون كليا عما بدر عنهم من انتماء للأحواز والانتماء لها، دقائق بعد إلقاء القبض عليهم. وذلك ناتج من دون شك عن عدم توطيد المسؤولية الفردية والضعف في تحمل تبعات الاختيارات والعقائد التي يؤمن الفرد بصدقيتها، دون توقع مزية أو منفعة. كما إنك إن نظرت إلى المعارض الفارسي والمناضل الأحوازي، وجدت ذاك يصر على عقيدته من منطلق مسؤليته الفردية، بينما هذا يحاول أن يجد طريقة للتخلص من معتقله وإن تطلب ذلك التنكر لجميع عقائده وإيديولوجيته. وبغض النظر عن اختلاف مستوى التعذيب والتقتيل الذي يتعرض له كل منهما، ولكن ذلك لا يمكن إلا أن يندرج في إطار المسؤولية الفردية مهما كانت التبعات.
ولا تختص هذه الهشاشة في الفردية ضمن الثقافة المدنية في الشعب الأحوازي فحسب، حتى ليظن المرء بانتقاص لها، شعبا وأفرادا، كلا بل هي مشترك كل الذين يبتعدون عن الثقافة المدنية، فترى بالمثل القروي الآتي من أقصى المناطق الفارسية يتصرف بالمال العام وبالانتماء للجامعة والوطن ومراعاة القانون ونحو ذلك، مثل ما يتصرف الأحوازي هش المدنية.
النزوع نحو التقدم
ثم إذا تجاوزنا النطاق الفردي إلى النطاق الجماعي، نطاق الروح السارية في المدنية، وجدناها روحا تنشد التقدم والتطور نحو الأحسن. فعقدة الشخصية المدنية والفرد المدني، والجماعة المدنية المنبثقة عن التدرج من الفرد إلى الجماعة والمجتمع، هي نشدان التقدم على الدوام، والابتعاد عن الجمود والدوران في الحفاظ على الموجود والوقوع في محافظة لا شعورية. وإذا تم التسليم بأن نشدان التقدم يقابله الحفاظ على الموجود والوضع الراهن، فذلك سيعني أن محرك هذه الحالة، حالة الرضا بالموجود، هو الخشية من الجديد، والخوف من التجربة. ومن هنا ترى الشخص البعيد عن الثقافة المدنية، مرتاب في القدوم نحو الجديد والحديث، متسمك بالقديم وما هو مألوف. ولذلك ينعكس هذا التمسك بالمألوف لدى الأحوازي تقوقعا في نطاق حياته القديمة، في بيته وملبسه وعقائده على وجه الخصوص، لا يتحرك في إطار تحرك الزمن وتقدمه وتطوره.
وحب المألوف هذا، وكونه يعمل كحاضنة تضم الأحوازي العربي وتمنحه الطمأنينة لا شعوريا، هو الذي يجعله مستقبلا التغيير من الخارج إما على صيغة القسر والإجبار(نظير الاحتلال بحد ذاته) وإما على صيغة التغيير غير المشعور به (نظير تغيير اللغة وإدخال الكثير من المفردات الفارسية إلى العربية وتلوث العربية بشتى التعابير الأعجمية). ومن هنا تجد معظم الفئات العربية في المجتمع الأحوازي ترى في المناضل شخصا «’متعافي يدور طلايب’ وهذا يعني أن هذا الشخص جاحد ويبحث عن المشاكل»! لأنه يرفض ما ألفه الشعب غير المدني من احتلال منذ قرن. كما يسمع الفرد الذي يعيش في الأحواز مرارا هذه الجملة البغيضة والمذلة عند ما يحرض على رفض الاحتلال، أو أقل من ذلك: المطالبة ببعض الحقوق العربية في إطار دولة الاحتلال، يسمع هذه الجملة على الدوام «’خلينا ناكل إعويشتنا’ وهذا يعني دعنا نعيش حياتنا بدون مشاكل»! كل ذلك ينبع، من دون شك، عن عدم وجود ثقافة مدنية تتنصل من المألوف ولا تجد في التغيير بدعة أو أمرا مخفيا.
وإذا أردنا النزول إلى الحياة المعيشة، كما التزم هذا المقال التحرك في نطاقها، فكلنا نسمع ونرى كيف يأتي «اللري» من أعلى الجبال ومراعي الماعز يأتي للأحواز العاصمة، ثم تراه بمرور بضع سنين يتمظهر ويتصرف كالطاعن في المدنية، في زيه وتصرفاته ومعتقداته ومدنيته بكل دلالاتها، بينما ترى العربي الأحوازي وقد تقادم على وجوده في المدينة جيلين أو ثلاث، وهو يتصرف تماما كما يتصرف ابن عمه في القرى الأحوازية وفي سلفه. إنها المدينة ومستوى تجذرها بين الشعب الأحوازي وحثها على التقدم، والحب في التقدم، والنظر للتقدم سنة الحياة.
ومن آيات نشدان التقدم، هو حب الجماليات، واحتلالها في الحياة مكانة كبيرة، نضرب عليها أمثلة من أجل تقريبها للفهم، في إطار الحياة المعيشة دوما. فإنك إذا ذهبت هكذا إلى العربي في حي الثورة وفي إرفيش وفي كوت عبدالله وفي مختلف الأحياء العربية في عبادان وغيرها، وجدت البيوت العربية إما تبقت على حالها، وحافظت على شكلها الذي رأيته منذ عقد أو سنوات، بينما ترى بيوت الفرس أجمل من العربية؛ (وبغض النظر عن الفقر كسبب رئيس في انعدام المقدرة على التغيير في الأثاث والبيوت) فإن الجمال هنا يعني العناية بما هو موجود ومتاح والسعي لجعله أجمل وأحلى. فبغض النظر عن الأثاث الباهض الثمن، فإن الجمال يعني هنا العناية بتصميم البيوت، من طلاء وترتيب ألوان ومنح زوايا عاطفية للأهل والذوين، والاهتمام بفضاء البيت ليبدو أجمل إلخ.
وإذا ما أردت فهم معنى العناية بالجماليات لإثبات المدنية، أتينا على الفن والموسيقى، حيث بقيت الموسيقى، والغناء كأبرز صورها، تصنف من قبل كل الشعب الأحوازي، حتى المثقفين منهم، كأمر قبيح ومعيب: حيث يوصف الفنان بـ «الكاولي». ورب من الطريف التذكير بأن الفئة المتثاقفة إن غضبت على مغن ما، فإنها سرعان ما تذهب لتلذعه بنعته «كاولي» للنيل منه، ولإثبات مستوى الجماليات التي يتمتع بها المدني الأحوازي. كما بقت الفروع العلمية الخاصة بالجماليات محل رفض من قبل الشعب الأحوازي، نظير الفنون الجميلة، حيث نادرا ما ترى اختيار الأفراد لها، حتى إذا رغب الفرد يأتي رفض أسرته واستصغارها وسخريتها من هذه الفروع قاتلا لاندفاع الشاب والشابة لها.
ثقافة الحوار والتسامح
لا يمكن أن يمر يوم في شوارع مختلف المدن الأحوازية من دون صراع ومعركة في شوارعها بين راكبي المركبات، في قلب المدن في ساحاتها العامة في ذروة المرور وتجوال الأفراد. فهذه ظاهرة تكاد تكون يومية ومن صلب المعالم الأحوازية الروحية لتكرار حدوثها. إنها العنف المتجذر في الروح العربية الذي يجعل كل أحوازي مستعد في لحظة ما من اللحظات أن يتحول إلى إنسان نازق. بينما إذا ذهبت إلى المدن الفارسية الباقية، وهذه بشهادة جل الأحوازيين الذين ذهبوا إلى باقي المدن الإيرانية، قل ما تجد مثل هذه الظاهرة المعيبة في أصفهان وشيراز ومشهد وغيرها.
وهذه الصفة نابعة عن ضيق صدر الفرد الأحوازي للحوار وابتعاده عن المناقشة والتحادث ومبادلة الآراء والإتيان بالقول ونقيضه. إذ غالبا ما تكون الحوارات بين الأفراد قصيرة، سرعان ما تتحول إلى مناكفات، كما تسبق الحوارات معتقدات تجعل الحوار منصة من أجل الانتقاص من الشخص، لا محلا لمحك الأفكار واختبار الآراء والتأكد من قوتها أو ضعفها، ومكسبا لإثراء المعتقدات. كما أن طقوس الحوار الأحوازي تتميز بعدم السماح للفرد المقابل بالكلام، وعدم توزيع الوقت للتعبير والبيان بين الطرفين، والصياح بصوت عال وجهوري إلخ.
ثم تتضح استحالة القيام بحوار أو تبادل نظر في شرطي الحوار، وهما حسن الاستماع، وقبول الآخر بوصفه صاحب حق للتعبير عن الذات. وهما منعدمان أو يكادان، حيث تكاد ثقافة الاستماع تكون منعدمة تماما بين المتحاورين في المدن الأحوازية، وتكون الجمل قصيرة متتالية تتلاحق هكذا نظرا لما قاله المتخاصم/المتحاور، وليس تعبيرا عن فكرة مسلفة معدة سابقا هي نتيجة تفكر الفرد أو قبوله موضوعا أو معتقدا أو مسلكا. إلى جانب ذلك لا ينظر المحاور الطرف المتحاور معه كصاحب حق في التعبير عن رأيه، بل هو إما منحرف عن جادة الحق والصواب الذي يعتقده هو، أو شخص مريب يريد أن ينال منه أمام الجمع ويقزم مكانته.
ولا يحتاج البحث في ثقافة الحوار بين الأحوازيين إلى كثير من الكلام، حيث يكاد يجمع القوم على انعدامها. والطريف في كل ذلك هو أنه على الرغم من تأكيد الكل على تدني ثقافة الحوار، ولكن المحذر والمشير إلى ذلك ذاته، عندما يوضع في حوار ويسترسل في مناقشة في مكان ما أو منصة ما، يتحول هو مباشرة إلى تلك الثقافة الفاسدة من الحوار فيذهب يخون ويطعن في الشرف وينال من احترام الطرف المحاور، ويتشبث بكل شيء من أجل إمضاء كلامه أو إثبات عقيدته أو فرض رأيه. وإذا كانت هذه الحالة سائدة في الداخل والخارج، فإن خطورتها في الداخل أكثر، لقابليتها إلى التحول إلى صراع بالأيادي وصراع بين القبائل! ومن هنا لا يجد المثقفون الحقيقيون منصة للنقد وبيان فساد العقائد والقيم السائدة في المجتمع الأحوازي. كما أن الكثير من هؤلاء المثقفين أنفسهم لا يقبلون النقد ولا يخطر على بال أحدهم أن يستمع إلى نقد على ما كتب أو ما صرح به من أحد، لعل في نقده تكون إفادة أو صواب أو إصلاح.
وضعف ثقافة التحاور هنا يتصل بقوة مع التمسك بالقدسيات وكثرة التابوهات في هذا المجتمع. ومن هنا لا محل للتسامح مع الجديد، سواء جديد المعتقد أو جديد العادات أو جديد الملبوس إلخ. لذلك كل شيء هو محدد من قبل، سواء من حيث طريق الزواج، أو من حيث علاقة الأب بالأبناء، أو من حيث المعتقد واعتناق الغرائز المذهبية. فعلى سبيل المثال إذا كانت طرق الزواج قديما تتم عبر اختيار الآباء، فإن الدخول إلى المدينة، وتغيير ظروف الحياة المدنية في المجتمع المدني، لم يشفع لكثيرين من فئات الشعب بإدراك ذلك، وظل الأفراد يقدسون تلك العلاقات التي لم تنعقد إلا ضمن إطار الزواج، مبتعدة عن العلاقات المفتوحة التي هي سمة المجتمع المدني. وهنا يجب الملاحظة بأن وجود علاقات خارجة عن نطاق المألوف، أو وجود حالات من اعتناق عقائد جديدة، وغير هذا وذاك من الخروج عن النمط القديم، لا يعني كل ذلك قط وجود تسامح أَذنَ بحدوث ذلك، بل ظلت هذه الحالات مسكوت عنها ليس أكثر، إذ لم تنل القبول ولا الشرعية في الوجود؛ بل هي حالات تم غض الطرف عنها، وتركها تسير من دون مبالاة بها. وشتان بين القبول والشرعية، وبين غض الطرف والسكوت عن حالة ما جرت في المجتمع.
كما أن التابوهات المجتمعية في المدنية الأحوازية الهشة، تكتنف الفرد من جميع الجوانب، فتذهب له تحرم عليه جميع الملذات، وتضع أمامه أطرا من الممنوعات والمحظورات تجعله يعيش حياة، الأصل فيها الأمر الممنوع والحرام، والفرع فيها الحل والسماح. ومن هنا تتجذر تلك السلوكيات التي تخفي ما في صدور، وتجعل السلوك والبيان والتمظهر مراع للطرف المقابل، وليس تعبيرا عن مكنون الفرد وما هو عليه: إنها النفاق بحد ذاته، حيث يتحول النفاق إلى أقل الطرق ضررا للفرد عند ما يوضع أمام كثرة الحرام والممنوع، فيجد كتمان النزوع نحو الممنوع أقل الطرق جلبا للمتاعب. ولذلك تجد الأحوازي مهيأ ومستعدا تماما من أجل تقلب الأحوال، وبعيدا عن الثبات، الثبات على عقيدة، أو على مصلحة عامة، أو على موقف، لأنه نشأ في ظل هذه الظروف التي جعلت التمسك بشيء ما يساوي العقاب والتأديب.
فاعلية المرأة
لا تستوجب المدنية دخول المرأة إلى الساحة العامة وتحقيقها لكامل الفاعلية الفردية والبشرية، من حيث تغيير الرؤى والعقائد حولها فحسب، بل إن الشروط المادية والمجتمعية للثقافة المدنية تستوجب هي الأخرى، وبقوة حضور المرأة ودخولها إلى ساحة تأدية الأدوار العامة. فإن المدينة في نظرة معيشة تحتاج إلى طبيبات ومعلمات ومهندسات وشاعرات وقيادات نسوية، تماما مثلما تتطلب تقسيم عمل لا يمكن أن يكون نافذا وذا كفاءة إلا إذا قام نصف المجتمع، من النساء، القيام بأدوار فيه. فإن مثل هذه الحياة المدنية، في نظرة تقنية، لا يمكنها أن تبعد هكذا نصف السكان من النساء في أية عملية تريد القيام بها، عمرانية وعلمية وثورية إلخ، إلا يختل بنائها الحضاري بشكل عام.
وبينما جرت تحولات كبيرة للنساء في الأحواز، طيلة العقدين المنصرمين على وجه الخصوص، بيد أن النظرة إلى المرأة ظلت تعاني في جوانب عديدة ملخصها في: الرؤية تجاه المرأة، والنشاط الاقتصادي.
لم يحقق المجتمع الأحوازي في مدنيته الهشة قطيعة مع رؤيته التقليدية تجاه المرأة العربية في شتى الجوانب، وظلت النظرة المهيمنة لها، تصنفها على أنها كائن منقوص، أو أقل شأنا ومنزلة من الرجل في جميع المجالات. ومن منطلق هذه الرؤية تعاني المرأة الأحوازية من انعدام الاستقلال في شؤون حياتها، سواء تعلق الأمر بحريتها في الاختيار وتحقق الذات من حيث حرية السفر أو حرية الملبوس أو حرية العلاقات، أو تعلق الأمر بالنظر لها كعورة أو شيء يجب صيانته من التعرض، المفهوم في تابو الناموس والشرف. ومن أجل ذلك أصبحت المرأة الأحوازية تعاني من تشوه في العقلية والقوى الإدراكية، كما هو بائن. ولا يتعلق هذا الخلل في الفاهمة بذات المرأة العربية ألبتة، بل هو حصيلة القولبة المجتمعية لها، حيث قولبت سلوكيات المرأة ببنيتها المهيمنة بقالب جعلها عالة على الرجل، عاجزة عن اتخاذ قرارات مصيرية، مترددة الشخصية، متوجسة مرتابة لا تثق بأحد إلا بعد طول مكث ليس بعد التحقق أو الاختبار، بل مجرد تقادم الزمن والاعتباد على الرؤية أو المراودة كفيلة بحصول الثقة.
كما أن البنية الاقتصادية الأحوازية الثنائية جعلت هي الأخرى المرأة منقوصة: فمن جهة لا يصادق الإسلام على تقسيم متساو للإرث بين المرأة والرجل، ومن جهة أخرى لا تمنح المنظومة القبلية حق الميراث للمرأة كليا. أضف إلى ذلك منع الأسر من السماح لعمل البنت العربية، واشتراط الأزواج بعدم خروج المرأة وعملها.
كل ذلك يجري في جوار من المستوطنين تتمتع فيه الفارسية المستوطنة بحريات عامة في حياتها، تتجلى في حريتها في اختيار لباسها، وحريتها في الخروج من البيت، وحريتها في اختيار شريك حياتها وحريتها عن التزامها بتعاليم إخوتها الرجال كبروها سنا أو يصغروها. وكل تلك التجليات هي محل ملاحظة الأحوازيين أنفسهم، خاصة الشاب الأحوازي الذي يرتبط مع المستوطنات فيجد فيهن من الحرية والاستقلال واحترام الأسرة لها ما لا يجد في الأحوازية.
ولعل أكبر دلالة على مكانة المرأة في الشعب الأحوازي، وهو ما تم التأكيد عليه مرارا في معهد الحوار، هو أحد أسباب الامتناع المجتمع الأحوازي العربي عن دعم انتفاضة جينا أميني التي كانت أيقونتها المرأة، وكانت انتفاضة المرأة بحق؛ حيث نعتقد أن ذلك يدل على تدهور مكانة المرأة العربية، وعدم اعتراف المجتمع الأبوي الرجولي الأحوازي بحقها في السفور، أو حقها عن التعبير عن الرأي، أو حقها في البروز والظهور حتى، ناهيك عن حقها في القيادة وتأدية أدوار ثورية سياسية.
الختام
وفي الختام نرجو أن يكون القارئ قد لاحظ حركتنا في هذا المقال في إطار الحياة المعيشة اليومية، دون الولوج في صلب النظريات والفلسفات الداعمة للمدنية أو المبرهنة عليها، أو المؤرخة تكوينيا لها.
فهنا أريد لهذه المقالة أن تشبه تسجيلا ليوميات من يتردد بين المجتمع العربي الأحوازي في مختلف المدن الأحوازية العربية، وبين المدن الفارسية الكثيرة، فيسجل في ذهنه ملاحظات حول السلوكيات الخاصة بالعرب في مدينتهم، في عبادان والمحمرة والخفاجية والسوس إلخ، وبين السلوكيات الخاصة بأولئك في مدنهم طهران وشيراز وأصفهان إلخ. فيسجل شعوريا ولا شعوريا هكذا وجود سلوكيات عند الفرس أكثر تلائما مع المدنية بالمقارنة مع سلوكيات العرب في مدنهم.
وبما أن الملاحظات هذه تم كتابتها هنا، فكان لا بد من الارتكاز على صفات بعينها، من ضمنها يتم التطرق إلى بعض تلك المظاهر، تكون أكثر ترتيبا للعرض على القاريء وفهم المقصود. فكانت تلك الصفات العامة للمدنية، هي الفردية، والتسامح وثقافة الحوار، ونشدان التقدم، وحضور المرأة.
ففي الفردية يكون الفرد صاحب مسؤولية فردية تنبع من ذاته وتقديره لنفسه، يجنح فيها نحو حب الوطن، والالتزام بقانون الجماعة، والحفاظ على مقدرات المجتمع من مرافق عامة ونظافة الشوارع وغير ذلك من السلوكيات المعيشة يوميا. بينما تدل ثقافة الحوار والتسامح على تلك الثقافة الأحوازية المتسارعة نحو التصادم والخصام، وكثرة الصراعات والتابوهات واحتلال الممنوع والحرام والمحظور لحيز كبير من ملذات الحياة تحت طائل القيم والعادات المألوفة.
أما نشدان التقدم فهو ظاهر في جميع مناحي الحياة، خاصة في تلك المتعلقة بالجماليات الظاهرة على البيوت والفن واحترام الموسيقى والفنانين إلخ. أما حضور المرأة ونشاطها في المجتمع فهو بوصلة المدنية، ومن شروطها المادية والمعنوية معا.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات
لكم مني خالص الاحترام والتقدير والدعاء لكم بالتوفيق والصحة والنجاح الدائم.