السبت, مارس 15, 2025
دراساتإعدام المستقبل وقتل الحلم: قراءة في الزمان وسردية النفط في الأحواز

إعدام المستقبل وقتل الحلم: قراءة في الزمان وسردية النفط في الأحواز

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 المقدمة

  تُعتبر الغيزانية أكبر مقاطعة تابعة للعاصمة الأحواز، وتقع في الشرق من الطريق الذي يربط العاصمة بالمدن رامز والخلفية ومعشور والحجار السبعة. وبينما بلغ تعداد السكان في عام 2018 في هذه المقاطعة 25 ألف نسمة، يُتوقع أن يقارب هذا العدد في الوقت الراهن 30 ألف نسمة، بناءً على نسبة المواليد في هذه المناطق. وعلى الرغم من الثروة الكبيرة في الغيزانية، المتمثلة بحقول النفط والغاز، لم تشهد المنطقة هذه تنمية مستدامة فحسب، بل عصفت بها مختلف الكوارث والأزمات البيئية والاجتماعية. 

 وقد شهد الاقتصاد المحلي القائم على الرعي والزراعة انهيارًا بسبب عاملين رئيسيين: أولها، تدشين «سد مارون 1»، الذي أدى إلى تدهور التربة وبالتالي انعدام إمكانية الزراعة؛ وثانيها، تشديد النشاط النفطي والبتروكيماوي الواسع، الذي أسفر عن تدمير البيئة، وتلوث الجو ومصادر المياه، وانتشار مختلف الأمراض بين السكان نتيجة هذا النشاط الصناعي.

ولم يقتصر تأثير الملوثات الصناعية والمتغيرات البيئية على تدمير الزراعة، بل تسببت أيضًا في ظاهرة العواصف الرملية، التي تحمل الجزيئات المتطايرة الناجمة عن حرق المنتجات والمشتقات النفطية، حيث توجد هناك 900 بئر من النفط. 

 وكل ذلك فاقم من انتشار  الأمراض السرطانية والربو وضيق التنفس وأمراض الجلدية بشكل كبير؛ حتى تسبب كل ذلك، بناء على الكثير من التقارير الطبية، بتكرار حالات ميلاد أجنة مشوهة، وغيرها من الحالات غير المسبوقة في تاريخ هذا الوطن.  

وإلى جانب الأزمات البيئية فقد تميزت هذه المقاطعة بانعدام البنية التحتية والتمييز في توزيع الثروات، مما خلق فقرا ممنهجا شمل معظم السكان. فعلى الرغم من إنتاج مليارات الدولارات من نفط الغيزانية وغازها، لا تتمتع الكثير من قُرَى المنطقة بالمياه الصالحة للشرب أو بشبكة غاز منزلي. ولم يفضِ هذا التدهور في المرافق العامة إلى تراجع في جميع جوانب الحياة فحسب، بل أجبر الكثيرين، خصوصًا الشباب، على مغادرة الغيزانية طلبًا لحياة أفضل وهروبًا من الوضع البائس. ورغم أن القوانين التي تسنها شركات النفط الناشطة تنص على ضرورة تعيين القوى العاملة المحلية من أبناء المنطقة، إلا أن سياساتها اتجهت دائمًا نحو جلب عمالة من المستوطنين الفرس، مما أدى إلى تفشي البطالة في أطراف الحقول النفطية الكثيرة.

لقد جعل تمتع الغيزانية بثروات طبيعية نظير النفط، ثم المياه الوفيرة، جعلها مثالا صارخا لمفارقة الثروة الطبيعية الهائلة والفقر المدقع: فوفرة المياه هنا، التي من شأنها جعل المنطقة مزدهرة وبعيدة عن أية أزمات طبيعية، قد ضاعفت الأزمات وفاقمت التلوث البيئي، نتيجة سياسات النظام، حتى نتج عن كل ذلك تدهور عام في الوضع الصحي، خاصة في ظل انعدام المرافق الصحية من مشافي ومستوصفات كان بناء عشرات منها ممكنا بعوائد بضعة أيام من التنقيب النفطي الدائر فيها دون كلل.

وعلى العموم تتناول هذه الدراسة  فيلما وثائقيا عن النفط في الغيزانية، وتحاول إلقاء الأضواء على بعض جوانبه. في بداية الفيلم يظهر رجال وأطفال على بعد بضعة عشر مترا عن الآبار النفطية وحقول الغاز ومشاعلها الوهاجة. بداية سرعان ما تكشف عن صدمة للمشاهد. هؤلاء الرجال والأطفال، جميعهم معًا، ورغم أنهم لا يبتعدون عن الحقول سوى عشرات الأمتار، وقد قضوا كل حياتهم بجانبها يلعبون ويعملون ويعيشون ويموتون، إلا أنهم لا يعرفون شيئًا عنها.

صدمة من دون شك… صدمة ليست نابعة عن جهل بالمعلومات أو بتفاصيل هذه الحقول، بل الصدمة كل الصدمة تظهر في تلك البنية الثانوية خلف هذا الجهل، تلك العملية من الاحتلال والاستعمار العقلي والإدراكي الذي جعلت الناس يجاورون حقلا ويقضون كل حياتهم بقربه دون أن يثار فضولهم عنه، دون أن يسألوا عن عمله عن طبيعته عن سبب وجوده. إنها من دون شك عملية في قولبة الإدراك والوعي. وهذه العملية التي تدار بشكل ممنهج تعرف بإدارة الإدراك الجمعي (Collective Perception Management). ستتم المحاولة هنا لفضح جانب يسير من جوانبها المتشعبة. 

إن السؤال الذي يجب طرحه ليس عن سبب جهل هؤلاء الأفراد بطبيعة العمل والنشاط القائم على قربهم، بل السؤال الصحيح هو عن تلك الظروف التي أدت إلى أن يكون السؤال عن النشاط الدائر في موطنهم سؤالا غير موضوعي ينتمي إلى اللامفكر فيه؟ إن هذه الحالة لا تشير إلى الحرمان الاقتصادي حصرا، بل هي تدل على نوع من إعدام المستقبل والقضاء عليه، وذلك لأن الماضي قد تمت إعادة صياغته لهم على شكل يناسب من قام بتلك الصياغة، ليتم عبرها تجميد الراهن، وهكذا إغلاق المستقبل. 

تحاول هذه الدراسة كشف كيفية عمل الاحتلال الإيراني على استراتيجية معقدة تهدف إلى هندسة الزمان والسردية الأحوازية. استراتيجية لم يتم تنفيذها عن طريق الأدوات الاقتصادية والتعليمية فحسب، بل إنها وجدت طريقها عبر تنظيم الآفاق الفكرية للشعب الأحوازي. إن دراسة هذا الوثائقي القصير لم تظهر القضاء على المستقبل بوصفه حامل الفرص والاحتمالات فحسب، بل إنها تظهر كيفية انعدام المستقبل بوصفه حامل الأمل والأحلام: لقد كان كل من يقف إلى جنب تلك الحقول، من الرجال والأطفال، من دون ماض، من دون مستقبل. 

وستتم كشف تلك العملية في هذه الدراسة عن طريق تحليل الاستعمار الإدراكي، وإعادة رواية السردية، وإعدام المستقبل.

السردية 

تسلم الشمس مكانها، رويدا رويدا، بينما مشاعل الغاز ما تزال تتوهج. يقف هناك عدد من الأحوازيين، تغطيهم الثياب العربية المهترئة، وعلى جبينهم نصب تلمع فيه نيران المشاعل. يسألهم الصحفي باللغة الفارسية عن «هذه نيران خلفكم فما هي؟». يصمت الرجال إلى لحظة. بعضهم يدير بوجهه. بعضهم يبتسم. بعضهم يرجع فينظر للخلف بفضول. ولكن الكل لا يملك إجابة. إن هذه المشاعل المتقدة صباح مساء، ليست في نظرهم سوى رتابة يومية لا تثير الانتباه. إنها جزء من الحياة اليومية الرتيبة: تماما كما هي رتابتهم مع الفقر، والإهمال. النفط المتدفق، والغاز المسال الجاري، والثروات التي تنأى إلى هناك، إلى العاصمة الإيرانية وباقي المدن الفارسية المركزية، لتتحول إلى طرق معبدة، وأبراج مشيدة، وجامعات، ومنتزهات، ومكتبات، كلها لا تعني لهم شيئا. لقد سرقت الدولة، دولة الاحتلال، بشركاتها ورأس مالييها، الذهب الأسود عن هؤلاء، دون أن يعلم أحدهم، ودون أن يدريك ما  سُرق منه، وما كان تحت تصرفه وقد أنتزع عنه. 

ممارسات الدولة والسجن الإدراكي

لم يعد الاحتلال والاستعمار في الأحواز مجرد عملية لفرض الهيمنة الاقتصادية أو السياسية. بل إنه تحول إلى نوع من حياة السلطة، التي تبقي الكافة في حالة تعليق عن طريق التحكم بطرق الإدراك وممارسة العيش. إن هذا التعليق علاوة على كونه وقوف أمة مقابل محتلها، كذلك هو عبارة عن حالة ذوات معلقة فيما بين الحضور والغياب: شعب يعيش في موطنه دون أن يمارس الحياة فيه، ودون أن يكون له حضور حقيقي في موطنه. إنه إذا كان الاحتلال القديم قد فرض هيمنته عبر تواجده المادي والاحتلال المباشر للأوطان، فإن الاحتلال الحديث يضارع الاستعمار الحديث بابتعاده عن الحضور المباشر، ونيل الغاية عبر السيطرة غير المحسوسة على الوعي. 

لم تعد عملية الاحتلال الإيراني الفارسي بحاجة إلى فرض هيمنة مادية مباشرة على الشعب الأحوازي لتسلب عنه ثرواته ونفطه، بل كل ما يحتاج في ذلك هو إبعاد النفط عن حيز المفكر فيه وعن القضايا المعيشة في الحياة اليومية: فالنفط ما زال هناك، وما زالت المشاعل تتقد، ولكنها لم تعد من الأمور التي يمكن التفكير فيها، ولم تعد في حيز الإدراك. إن مثل هذه الحالة هي صنيعة نظام النسيان المفروض الذي تكون وظيفته شطب الأمر المادي الحاضر والمعيش مفهوميا وإدراكيا. 

 لم يكن الرجال الواقفون بالقرب من الحقول النفطية ضحية لعملية اقتصادية، بل هم نتاج سجن وعيٍّ قيد إدراكهم وذاكرتهم التاريخية، وشعورهم بملكية موطنهم وأرضهم، حتى أصبحوا يجهلون ما سلبه الاحتلال والاستعمار الإيراني منهم.  ولا يمكن تحليل هذا الواقع بمجرد التحليل الاقتصادي والاستغلال، بل يجب تناول القضية بكامل أبعادها الخفية، حيث إنها عملية للقضاء على إمكانية ممارسة الملكية، وشطب التحول إلى ذات تاريخية. لم يعد الاحتلال والاستعمار في هذه الحالة عبارة عن سردية لما تم أخذه وتم انتهابه، بل هو نوع من التشويش على إمكانية تحصيل الوعي بالفقدان. فعند ما يتم سرقة شيء ما من أحد، يمكنه عندها، في الحالة العادية، الكفاح من أجل إعادته، ولكن عندما يكون المسروق مجهول به، فحينها ليس ثمة شيء قد فُقد، حتى تتم المطالبة بإعادته. والخطير في كل ذلك هو أن هذه العملية لم تمض في الساحة السياسية والاقتصادية فحسب، بل إنها تكررت في إعدام المستقبل، وإنعدام تصور بديل له أو ميلاد حلم؛ وهكذا لم يعد الشعب يتصور مستقبلا يكون هو فيه صاحب ثرواته، لأن إمكانية مثل هذا المستقبل منعدمة من الأساس. 

وهكذا دأب الاحتلال المستعمر على إعادة إنتاج الصمت واللامبالاة بدلا عن المقاومة. وفي النظرة الأولى قد يظهر الشعب الأحوازي على شكل ضحية، ولكن الاستعمار الإيراني الحديث قد استكثر عليه أيضا الشعور بالضحية بالفعل: إنه شعب يعيش حياة سجن فيها وعيه، أو جُعل وعيا مقولبا لا يطال إلا ما سُمح له ولا يفهم إلا ما حقن به: فحياة الشعب الأحوازي هكذا كأنها حياة لم تشهد حربا ضروسا لثماني سنوات، وكأنها لم تسجل أية نهب لكل المقدرات. إنها حياة خالية عن احتلال.

إن الواقع ظل هو على حاله، بيد أن كل ما تغير هو أفق الإدراك وحدود الوعي. ما زال النفط هناك، دون أن يشعر به أحد. والثروات ما زالت تسلب دون أن يتطلب ذلك استخدام العنف. إن هذا النظام من الاحتلال والاستعمار نجح في تشويه الواقع عبر قولبة ما يمكن رؤيته وتجربته وملامسته، دون أن يقدم مباشرة على كبت أحد. وهكذا تحولت الأحواز إلى مثال صارخ للاحتلال على المستوى الإبستيمولوجي: عندما تجاوز الاحتلال المستوى الاقتصادي والسياسي، وبلغ مستوى النظام المعرفي الذي يهندس الواقع، ويعكس الحرمان فيه والاحتلال ونهب الثروات، على سبيل المثال لا الحصر، إلى حالة يصبح الحرمان والاحتلال والنهب غير مشعور به، لا مفكر فيه؛ بل هو غير كائن وغير حادث أصلا. لم يقدم منطق الاحتلال الإيراني على نهب المصادر والموارد فحسب، بل هو ينهب الوعي والإدراك، ليميت الذات، وليطفئ هكذا صوت الرفض ويعدم إمكانية الشعور بالعالم ووعيه. هذه حالة تحول فيها الاحتلال من مجرد حدث تاريخي إلى وضع معرفي: أمة تعيش في موطنها ولكنها علقت من الشعور له بانتماء، أمة لها كل الثروات وهي عاجزة عن وعي امتلاكها لثرواتها، أمة حية ولكنها منعدمة الحياة كذات فاعلة في التاريخ. 

اللفياثان الإيراني والعبث بالرغبة 

تنعقد الرغبة، من وجهة نظر سيكولوجية، في ما تصنفه فقدانا: فالإنسان لا يرغب في شيء إلا بعد ما يشعر بأنه فقده، أو يشعر بأنه منع عنه منذ البداية. ولكن عند ما لم يتواجد شيء أمام الفرد أو لم يولد في خاطره، بوصفه ممتلكا، فإنه لم يشهد ميلاد الرغبة فيه أو انبثاق الرغبة فيه من الأساس. وهذه هي بالتحديد طريقة الدولة الإيرانية المحتلة، منذ قيامها في العهد البهلوي إلى الجمهورية الإسلامية، في تعاملها مع الشعب الأحوازي: فلم تنبثق الرغبة في النفط بوصفه موضوع الرغبة أو ما يرضيها، لأنه لم يكن حاضرا ضمن النظام الدلالي الخاص بشعب هذه الأرض. إنهم لا يمتلكون النفط وثرواته فحسب، بل أنهم عاجزون عن درك معنى غيابه، وهذا يعكس دور النظام الإيراني في قولبة نظام اللاوعي للذوات الأحوازية، بشكل لا يشعرون به فقدان شيء. 

إن ما رواه هذا الوثائقي لا يمكن أن يعد جهلا يسيرا، بل هو عملية معقدة من القولبة والعبث في النظام الرمزي: يقف أفراد من الشعب الأحوازي أمام آبار النفط دون أن يكون النفط مفهوما معاشا، أو مفهوم له دلالة برانية، أو مصداقا خارجيا. فهؤلاء لا يتوفرون على إجابة لسؤال الصحفي فحسب، بل لا يبدو أنهم يدركون بأنهم يجهلون شيئا ما. هذه حالة صنيعة قنوات خاصة في النظام الرمزي. فهنا لا تقوم الدولة بإعادة تحديد الواقع وصناعته وقولبته عبر السيطرة على المصادر فحسب، بل هي تقولب الواقع كذلك عبر شطب دوال من تسلسل المعنى. فعند ما يسقط دال عن نظام لغوي ما، يحدث حينها فقدان معنى معين مرتبط بذلك الدال نهائيا. 

دال النفط والسؤال عن الفقدان 

إذا ما افتقدت اللغة التي أفكر بها وأدرك بها العالم كلمة أعبر بها عن «امتلاك النفط» حينها لا يمكن تجربة شيء اسمه امتلاكي للنفط أو ما يتعلق بذلك. لم تقم دولة الاحتلال ولاستعمار الإيراني بنهب النفط وإبعاد الكافة عن ثرواته فحسب، بل هي قامت بشطب دال النفط عن التسلسل الرمزي بالآن ذاته. وهذا هو ما وضعَ الشعب الأحوازي، بمن فيهم أهل الغيزانية على وجه الخصوص، أمام عالم يفتقد إمكانية وضع الأسئلة. إنهم لا يمتلكون النفط فحسب، بل هم عاجزون عن وضع سؤال عن سبب عدم امتلاكهم له. لا يمكن وضع السؤال إلا إذا كنت قادرا على وعي الفقدان بوصفه أمرا ممكن الحدوث. لكن عندما يكون النظام الرمزي مقولبا على شكل تكون فيه بعض الممكنات غير ممكنة، حينها لا يمكن الشعور بنقص شيء ما، ويبدو كل شيء في محله طبيعي الحدوث. 

إن العبث بالرغبة على يد دولة الاحتلال الإيراني لم تجعل البحث عن النفط وثرواته وكيفية استغلالها، تجعله أمرا مستحيلا، بل إن وجود النفط من عدمه، أو الشعور بمكانه ومدى تأثيره بات مستحيلا وغير وارد بالدرجة الأولى. هنا لم تتقوم عملية العبث هذه عبر الكبت والعنف، بل عبر صناعة لاوعي تجعل من غير الموضوعي تواجد النفط والشعور به ضمن نطاق هذا الوعي المفروض. لا يحتاج هذا النوع من الاحتلال والاستعمار إلى أدوات قاهرة معروفة، لأنه يجعل الناس لا تشعر بحاجة، لا تشعر بفراغ، ولا تشعر بضرورة البحث عن شيء ما يتعلق بالنفط وما يمكنه أن يؤثر به على الوقع. أجل إنهم يقفون إلى جانب مشاعل الآبار ولكنها لا تعني لهم شيئا يتعلق بملكيتهم عليها ومدى ثرواتها العائدة لهم، كما لا تعد لهم آبارا ترتبط بهم أو شيئا ما يتعلق بهم ويعنيهم هم.

هذه بنية تكونت إثر عملية استغرقت عقودا من الزمن: عملية قوامها شطب حق الملكية، ونهب الثروات وإبعادها عن الحياة المعيشة، وإنتاج وبث وعي يكون فيه النفط لا مفكرا فيه، وتنظيم أمر رمزي يكون فيه الفقدان غير مشعور به. ولم تقع هذه العملية في المستوى الاقتصادي والسياسي فحسب، بل إنها جرت في مستوى اللاشعور الجمعي بكل قوة. ويفيد الجانب السيكولوجي بأن انعدام الرغبة في أمر ما، يجعل أمرا ما غائيا غير مرئي وإنْ كان أمام ناظري الفرد. وهذا بالتحديد هو ما حصل في هذا الوثائقي. 

يشتعل النفط في الخلفية، خلفية المشهد، بيد أن الناس عاجزون عن رؤية ذلك. ولا يعني هذا المشهد عجز أعينهم عن مشاهدة الآبار ونشاطها واشتعالها، بل يعني أن آبار النفط في النظام الرمزي الخاص بهم يفتقد للمعنى. وإذا ما افتقد أمرا ما معناه، فإنه ينعدم تماما من الوجود. إنهم عاجزون عن وضع السؤال، لأنهم لا يعلمون بوجود شيء يجب السؤال عنه. وهذه هي إدارة اللاشعور بطريقة لا يفقد الناس ملكيتهم بل يسلب عنهم إمكان التفكير بالملكية. لا تنشأ الرغبة في مثل هذه الحالة، ولا يكون الفقدان حاصلا عن تجربة الفقدان. إنهم حرموا عن شيء لم يكونوا يمتلكونه يوما، وهذا جعلهم لا يدركون ما فقدوه من الأساس. 

إعدام المستقبل ونافذة إيفرتون

إعدام المستقبل(defuturing) هو مفهوم يدل على الأساليب البنيوية والممنهجة التي تُحْرم شعبا أو قومية أو أمة عن حق التنمية والتقدم والمساهمة في صناعة المستقبل وتقرير المصير. وتمارس هذه العملية عادة من قبل القوات القمعية أو الدول الاستعمارية البوليسية، وتنطوي على سياسات نظير تدمير البنى التحتية الاقتصادية، والسيطرة على المصادر الطبيعية، ومنع الاستثمار، وفرض الفقر والاعتماد الاقتصادي. ولكن إعدام المستقبل لا يعني فرض الفقر فحسب، بل هو نوع من الهندسة الاجتماعية تمنع تكوين رؤى بديلة لمجتمع ما وتجعله في حالة أبدية من الانكماش وانعدام الاستقرار والاعتماد. وتتزامن هذه السياسة مع التصدي للهوية الثقافية، وتدمير الذاكرة الجماعية، وإعدام إمكانية التنظيم السياسي بشكل تجعل الشعب المستعمَر مقيدا بقيد احتياجاته اليومية الغريزية بدلا عن مطالبته بمستقبل حر بديل.

ويعد إعدام المستقبل استراتيجية مهمة لفرض الهيمنة على المجتمعات ومنع أي مقاومة. وعبر احتكار الموارد يعمد المحتل إلى تغيير التركيبة السكانية، وإضعاف المؤسسات التعليمية والثقافية، تمهيدا لتوطيد الاعتقاد بأن المستقبل منعدم، ولا يمكن تصور مستقبل للشعوب المستعبدة غير الزمن الراهن والنظام المتحكم عليه وقبول الوضع القائم. يتحول إعدام المستقبل بالاحتلال والاستعمار المرافق له من كونه ظاهرة عسكرية اقتصادية، إلى قناة عقلية وسيكولوجية تفقد بها أمة قوة تصورها المستقبل وتخيله، وتجتر بدلا عن ذلك حالة من الجمود والانقياد والاستعباد الأبدي. 

ومن أهم الاستراتيجيات التي تقابل بها سلطة الاحتلال الشعب الأحوازي هي نظرية نافذة إوفرتون، التي تحدد الأفكار والخطابات «المقبولة» و«المشروعة» في المجتمع، وتحدد مستوى تمطيط هذا المقبول والمشروع بمرور الزمن. وتشير هذه الاستراتيجية إلى إمكانية إدارة الرأي العام على يد الحكومات والإعلام ومؤسسات السلطة عبر التحول من منع فكرة ما إلى تنظيم حدود شرعيتها الخطابية. فبناء على هذه الاستراتيجية يوجد في المجتمعات نطاق من الأفكار يبدأ من الأفكار المرفوضة وينتهي بالسياسات المقبولة. وهكذا لا يمكن القبول إلا بتلك الأفكار التي تقع ضمن نطاق «نافذة إيفرتون» بوصفها أفكارا تعبر عن خيارات عقلانية وقابلة للنقاش والتداول. وكل فكرة تقع خارج هذا النطاق، فهي تصنف إما على أنها متطرفة، وغير معقولة وغير موضوعية، وإما يتم حجبها في الطرح ضمن الخطاب العام. 

ويستخدم الاحتلال الإيراني في الأحواز نافذة إوفرتون لإدارة الرأي العام فيما يتعلق بموقفه من النفط وملكية الشعب له. فلم يكن يوما يحتاج النظام الإيراني إلى منع الشعب عن تداول موضوع النفط، بل كل ما كان يجب هو منع اقتراب هذا الموضوع من نطاق الخطابات المشروعة. فهنا لا تحدد نافذة إيفرتون نطاق الأفكار فحسب، بل هي تحدد المستقبل أيضا. وهكذا وقع الشعب في دائرة مفرغة من التصريحات التي لا يمكن عبرها تصور المستقبل وتخيله، بل إن المستقبل لم يعد ممكنا إلا في حالة انبثاقه عن سردية متسقة، أي ذلك الماضي المتصل بالراهن الذي يسمح بإستقبال محدد. أما الأحواز فالسردية فيها مبعثرة، حيث يقف الناس أمام مشاعل النفط التي ترمز إلى تاريخ كان فيه النفط ملكهم، وليس إلى مستقبل يمكن أن يعود النفط فيه إلى ملكيتهم. إنهم تجمدوا في زمان لا يتحول فيه الماضي إلى ذكرى، بل أن الراهن هو تكرار مفرغ، ومستقبل مستحيل. 

وهنا عند هذه النقطة بالتحديد تتفعل نافذة إوفرتون. فعند ما يشطب الماضي عن السردية، تلقائيا يكون المستقبل مشطوبا، وخارجا عن نطاق الإمكان. فعند ما تقوم دولة الاحتلال الإيراني بتقزيم الخطاب الخاص بالنفط، لا تكتفي بإعادة كتابة تاريخ هذا الشعب وملكيته فحسب، بل هي تقضي على ذلك المستقبل الذي يمكن أن يقوم هذا الشعب بالمطالبة بإعادة ملكيته على النفط، وإعدام مثل هكذا مستقبل عن ساحة الممكنات. فإعدام المستقبل، ها هنا، لا يعني عدم وصول الناس للنفط وتمتعهم بخيراته، بل يعني أن النفط لا يمكن أن يدخل زمنيا في حيز الممكنات. لم يقم الاستعمار الإيراني عبر نافذة إوفرتون بفرضها على المجتمع فحسب، بل إنه أراد عبر تلك النافذة التحكم بإمكانية حدوث التغيير أيضا، وجعله تغييرا يجري ضمن الممكنات المقبولة في نطاق النظام. وهكذا يكون المستقبل امتداد للراهن حصرا، دون أية قطيعة، دون طريق بديل، ودون المصادقة على إمكانية عرض سردية أخرى تتكسر على يديها قيود الوضع القائم. 

وليست السلطة هنا احتكار المصادر، بل هي عبارة عن تحديد ممارسة الزمان وتجربته: الماضي الذي يتم سرده، والراهن المستغرق في السكون، والمستقبل الذي لا يظهر كخيار موضوعي ممكن. إن الشعب الأحوازي لم يحرم من النفط فقط، بل إنه فُصل عن الزمان، فصله المحتل عن الزمان، في حالة يستحيل فيها الرجوع نحو الماضي، لا يمكن الانتظار، بل هي لحظة ممتدة تشتعل فيها مشاعل الحقول النفطية وآبارها أمام الناظرين، دون أن يعلم الناظر عنها شيئا. 

الاستنتاج

لم ينشط الاحتلال الإيراني في نهب المصادر الاقتصادية والكبت المادي حصرا، بل عمل أيضا على إدارة الوعي وتنظيم حدود التفكير. فهنا بدلا أن يكون النفط قضية ملموسة ومطالبة يومية في الحياة المعاشة للشعب الأحوازي، تمت صياغته بشكل لا يكون فيه خارج النطاق حصرا، بل يقع إلى ما وراء التفكير، في حيز اللامفكر فيه. ليست هذه الاستراتيجية تكتيكا سياسيا لحظيا، بل هي استعمار زمني يعدم المستقبل، يتم فيه شطب الماضي ومسحه، ليدور الراهن في دوامة عبثية أبدية، ويكون المستقبل معدوما لا يقع ضمن دائرة الممكنات. 

إن القوة الحقيقية هنا لا تنبع في المنع، بل هي في تحديد ما يمكن نطقه، وما يمكن السؤال عنه، وما يمكن عرضه كقضية وإشكالية. إن الشعب الأحوازي وإنْ وقف على القرب من الحقول النفطية، فإنه لا يعتبرها أمرا يجب السؤال عنه، بل أنه واقع أجنبي نكرة غير مفهوم. إنها بالتحديد تلك اللحظة التي لم يعد الاستعمار فيها بحاجة إلى الكبت والقمع، لأنه تمكن من النيل من إمكانيات المقاومة وإعدامها قبل أن تينع بل قبل أن تتولد.

 وفي ظل هذه الظروف، فإن أي تغيير في الأوضاع لا يمكن أن يكون ممكنًا، إلا إذا تم كسر أطر التفكير المهيمنة والحدود الخطابية وإعادة بنائها. وما دامت قضية النفط في اللغة والتعليم والذاكرة التاريخية للشعب الأحوازي لم تتحول إلى  «ما یمکن أن یمتلكوه»، فإن أي مطالبة من قبلهم ستدور في فلك المستحيل، في فلك غير الممكن. لا يتفتح المستقبل أمام الشعب الأحوازي إلا إذا أدرج الماضي في سرديته، وأخرج الراهن من حالة التعليق واللازمنية أو الأبدية. فبدون عملية إعادة البناء السردي هذه، سيظل المستقبل هو الراهن الممتد الذي يقف فيه الشعب قرب حقول النفط دون أن يدرك ضرورة التفكير فيه ودون أن يحوله إلى موضوع للسؤال.

 

 

 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

تنبيه : اللفياثان الإيراني:  تعني الأصول السياسية لسلطة الدولة الإيرانية الحديثة

 

 

 

   

 

  

 

    

 

   

 

  

 

 

 

 

 

 

 

      

  

  

 

  

 

 

   




 

     





 

   

 

 

   

 

 

 

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here



error: Content is protected !!