المقدمة
تحاول هذه الدراسة استقصاء الأسباب الكامنة وراء تراجع الحراك الأحوازي خلال العقد الأخير، وغياب الحراك الثوري الجماهيري الشامل كما كانت تشهده الأحواز في الأزمنة السابقة. إن الإجابة على هذا السؤال تستدعي تناول العديد من العوامل التي ساهمت في هذا الفتور، بيد أنه يمكن إجمال أهم الأسباب المؤثرة في ذلك ضمن العوامل المجتمعية، والثقافية، والسياسية.
وفي هذه المسببات التي تترابط في الحياة العامة لدى الأفراد والجماعة، ومن دون أن يكون هناك تمايز ملحوظ، يوجد مستويات من الضغط والارتباك ما يكفي لجعل الحياة العامة تتأثر بها، مما تسبب بتأخر كافة الفاعليات البشرية وتحديد ما يجري عليها، سواء بالرفض أو القبول أو التعاطي: فعلى سبيل المثال: جعل ارتباك الساحة المجتمعية، نتيجة الالتقاء بين نخب قديمة وحديثة، التأثير مختلط، وجعل النشاط مرتبك، مما أفضى كل ذلك إلى فتور المشهد في الوقت الراهن. كما أدى ارتباك القيم وعدم تناسقها وتجذرها إلى ضياع وانعدام المحفزات الباعثة على العمل والإقدام، وهكذا.
ودون الإطالة في المقدمات، يركز هذا البحث على تلك الساحات ومدى تأثيراتها على سكون الساحة الأحوازية في المطالبة بالحقوق القومية للشعب الأحوازي من دولة الاحتلال الإيرانية.
الأسباب المجتمعية
تشير الأسباب المجتمعية إلى تلك العلاقات القائمة فيما بين الأفراد، كأفراد، وفيما بينهم كجماعات. كما تشير إلى تلك البنى التي ينشط فيها الأفراد بنوع من النشاط خاضعين أو متمتعين بنوع من الفاعلية والتعاطي معها. وليس الغرض هنا البحث في العلاقة البينية بين الأفراد وفيما إذا كان الفرد يتمتع بحرية العمل والاختيار في ظل هيمنة البنية، بل تتوخى هذه الدراسة إيضاح العلاقة التفاعلية بين هاتين الساحتين. وبناءاً على ذلك فإن ما يجري في الساحة المجتمعية الأحوازية مثلا، والذي يعتبر من أبرز أسباب ضعفها ومعوقا من معوقات استمرار الحراك الشعبي، هما عاملين رئيسين: الفقر وغياب النخب. ويتم إدراج الفقر هنا لأن غياب المعلومات الاقتصادية والأرقام الرسمية الصحيحة تشكل مانعا أساسيا أمام تخصيص فقرة اقتصادية بحالها تكشف بالأرقام والإحصائيات الدقيقة عن الفقر المستشري وتحول دون مقارنة الماضي.
الفقر
لا يمكن أن يُنظر للأوضاع الأحوازية العامة بمعزل عن ما يجري على دولة الاحتلال الإيراني من عقوبات اقتصادية خانقة وتدهور اقتصادي شامل. فالنظام يمر في الوقت الراهن بأزمات متشابكة متعددة، على رأسها الأزمة الاقتصادية، لكن تبقى حصة الأحواز من كل تلك الأزمات مضاعفة ومزدوجة. فقد شهد الوضع العام تضخما كبيرا منقطع النظير، بلغ في بعض الحالات مستويات فاقت 300 بالمئة، مما أزّم الوضع الاقتصادي وأفقد شريحة واسعة مقدرتها الشرائية. ولكن ما يجعل الوضع الاقتصادي أشد وطأة على الأحوازيين هو مضاعفة النتائج الآتية من الضغوط الاقتصادية عليه مقارنة بالشعب الفارسي المحتل؛ ذلك لأن الأحوازي على عكس الفارسي الذي كان يتمتع، إلى قبل عقد من الزمان، بأوضاع اقتصادية مستقرة وقوية، له من المدخرات ورأس المال والسكن والاستثمارات ما جعله يستند عليها في الأوضاع الراهنة من التدهور الاقتصادي، على العكس من ذلك وجد الأحوازي نفسه أمام لا شيء، في ظل فقر مستمر منذ عقود لم يسمح له سوى بالقوت اليومي، بعيدا عن تمكنه من أية استثمارات أو مدخرات. وهكذا أصبح الفقر مضاعفا عليه، مما فاقم الأوضاع المعيشية إلى درجة لا تطاق، حيث تنعدم فيها إمكانية الحياة.
ومن أجل ذلك بالتحديد تحولت الاهتمامات تحولا خطيرا وجوهريا، من تقليل الاهتمام بالمعنويات والعروبة والقيم وما يمكن تسميتها بالأمور القيمية، إلى الانشغال المفرط بالأوضاع المعيشية الضرورية، ضمن جهود يومية قاسية سعيا لتوفير بعض مستلزمات الحياة الفردية والأسرية. وهنا بالتحديد ترهلت معظم الاهتمامات وغابت عن دائرة الاهتمام، وأصبحت القيمة العامة هي التركيز على أكبر قدر من المكنة الاقتصادية لأنها الحاجة المفقودة. كما تحول الاقتصاد من ضرورة يسعى خلالها الفرد إلى شؤون أخرى في الحياة، إلى قيمة بحد ذاتها تغطي على القيم الأخرى. وهكذا انصرفت فئات كبيرة من المجتمع إلى الجهود المضنية الرامية إلى تحصيل الشأن المادي وتحسينه، ما يعني أن تخصيص معظم الوقت والجهود في الحياة اليومية، وعدم بقاء وقت أو زمن يمكن أن يعتني بباقي الجوانب المعنوية، ناهيك عن تبني القضية أو وعيها أو الشعور بها.
وتنقسم تبعات الفقر إلى تبعات قصيرة فردية وتبعات بعيدة حضارية: ففي الجانب الأول يجلب الفقر أنواع العقد النفسية للفرد، ويحصره بما لا يتجاوز عن الغرائز والاحتياجات الحيوية. وهذه التبعات فردية على الرغم من كثرتها ولكنها محدودة ومحصورة بالنطاق الفردي. بيد أن التبعات البعيدة الاجتماعية هي الأخطر وهي ما ساهمت في تردي الوضع المجتمعي النضالي الراهن. فقد تحولت القضية الأحوازية من قضية سامية تتطلب تضحيات مادية ومعنوية إلخ، إلى مطية للفرار من هذا الفقر، بعد أن وجد من فاقم الفقر وضعه فيها وسيلة للوصول إلى القوت اليومي، أو توفير بعض متطلبات الحياة عبر ما تمنحه المنظمات أو الأفراد لهذا الشأن. وغني عن القول أن مثل هذا التوجه من السهولة أن يتحول إلى الوشاية بالاخر، أو إلى الانخراط في مشروع التفريس، أو إلى كل ما يمكن أن يوفر للشخص الفقير (أو المفقر بالتعبير الأدق) ما يحتاجه من مستلزمات حياته الواجبة.
وهكذا تسبب الفقر في ارتباك الساحة على المستوى الفردي بإفساده اتزان الفرد وتمتعه بحالة سوية تسمح له بلوغ التشخص الفردي، من جهة، وبجعل الأفراد في المجتمع منهمكين في الاحتياجات الغريزية التي لا تسمح لهم بتجاوز هذا النطاق المتعلق بالجانب الحيواني للإنسان من جهة أخرى. أما على المستوى الجماعي فقد تسبب الفقر بترك القيم والمعنويات على الهامش، بعد أن بات التركيز الأساسي على المادة سيد الموقف، وبعد أن أصبحت الجوانب الأخرى أولويات ثانوية وفرعية أمام الأولوية القصوى والأولى وهي توفير احتياجات الحياة المادية.
غياب النخب القومية وتعزيز النخبة التقليدية
ويبدو من الغريب جدا ما يحدث في التاريخ الأحوازي خصوصا، والتاريخ العربي عموما، من انتعاش المرجعيات التقليدية القديمة وعودتها بقوة. إذ يشهد المجتمع اليوم عودة الشيوخ، شيوخ القبائل وعلماء الدين، إلى الهيمنة على الساحة المجتمعية بكل ما تحمل، وسيطرتهم على التأثير المجتمعي وإدارة المجتمع، ومزاحمة الفئات الحديثة في الأدوار، بل وإبعادها عن تأدية أية أدوار تذكر. ولا بد من التفريق بين تأثير شيوخ العشائر والقبائل وبين شيوخ الدين، حيث تفوق المكانة القبلية المكانة الدينية بمراحل كبيرة، وتكاد تكون هي المهيمنة على الشؤون العامة.
ولم تتولد هذه الحالة عن فراغ، بل إن التكوين التاريخي هو من سمح بهذا الانتعاش، ومنح كل تلك الأدوار، وهو تاريخ ثنائي الإخفاق: إخفاق البنى القديمة في تجديد نفسها وملائمة الواقع المتجدد من جهة، وإخفاق البنيات الحديثة في إزاحة البنى القديمة ذاتها من الوجود، وإحلال بنى جديدة محلها. ونتيجة لذلك تغيبت النخبة القومية الحداثية متعددة التوجهات، وجالت بدلا عنها النخبة القبلية المذهبية سلفية الثقافة.
ومن هنا تأثرت القضية الأحوازية بغياب النخبة الحداثية التي تعتقد بالرؤية القومية وتعمل على بث الأفكار القومية، وتتبنى القضية بوصفها قضية كفاح من أجل تحرير وطن: الوطن الذي لا يعني وفق المنظومة القبلية سوى نطاق القبيلة، و«السلف» أو «العرب» الذي فيه التجمع القبلي «الأصل»؛ بينما الوطن في المفهوم الديني هو اللامكان، هو حيز في الغيب يجري في فلك الأمة ومن يعتنق دينها. وفي ظل هذه الرؤية للوطن أصبحت الساحة خاضعة وساكنة لا تشهد أي حراك أو انتفاضات، لا يعلو فيها سوى صوت المحتل وصوت القبيلة.
وتتجلى المفارقة في كل ذلك في أن النخب الحداثية القومية الأحوازية حملت معها، في موضعها الجديد، رسوبات عميقة وراسخة من لوثات القبيلة أو المذهب، بشكل شعوري أو لاشعوري، حتى أصبحت عودة المكبوت عند هذه الجماعات من النخبة والشرائح التي تمثل المد الحداثي في المجتمع، هو عودة القبلية والانتماء لها، أو عودة المذهب، في تلك اللحظات الفارقة التي يصاب بها الفرد أو تصاب بها جماعة أو أمة حيث تعود إلى اللاشعور. ثم إن القيم المولودة من رحم الحداثيين أيضا حملت معها معالم تلك البنى القديمة، فأفرغتها عن مضمونها وجعلتها قيما لا تشبه التوجهات الحداثوية ولا التقليدية، بل هي بين هذا وذاك: فإذا كان التنظيم المسلح، وإذا ما كان عمل المركز الثقافي، أو إذا ما كان النشاط الفكري من كتابة كتب ومؤلفات وغيرها، يعني إظهار الفردية لصاحب العمل والفاعلية من جهة وإثباتا لمسؤوليته الاجتماعية والقومية من جهة أخرى، فلم تبدو هذه الجوانب للمجتمع سوى طلب السعي إلى التسلط على الآخرين والتفاضل عليهم، والتربع على عرش الأفضلية! وتلك لا شك معاطب هي من رسوبات القيم القديمة والتأثيرات التي تركتها على الدوائر الحديثة الناشئة.
الأسباب الثقافية
لم تقتصر الأسباب التي أدت إلى تراجع الساحة الأحوازية وغياب أي حراك مناهض للاستبداد والاحتلال على الفقر وعودة التقاليد القديمة البالية، بل كان للساحة الثقافية دور كبير في إرباك هذا المجتمع وضياع بوصلته نحو غاية التحرر. فالنظرة الخاطفة إلى الساحة الثقافية تشير إلى ذلك الارتباك القيمي الذي عصف بالمجتمع عصفا خطيرا منقطع النظير في التاريخ الأحوازي بشكل عام. وتشير الأسباب الثقافية أولا إلى القيم السائدة في المجتمع ومدى تجذرها والتزام الناس بها أو انعكاسها على الواقع في الساحة المعيشة، من جهة، وإلى موضع اللغة بوصفها الوعاء الذي تدور الثقافة فيه وتتولد عنه من جهة أخرى.
الارتباك القيمي
وأول ما يقال أو يجب أن يقال عند تناول الدور القيمي في المجتمع، هو ذلك الانشطار أو الحالة الانتقالية فيما بين القيم الجديدة والقيم القديمة. فهذا الانشطار القيمي هو أعظم إشكالية تواجه المجتمع، كما أن جميع الاصطفافات التي حدثت، أو من المتوقع حدوثها، إنما ترجع لذلك، بعد أن واجه الفرد والجماعة، عموما نمطين من القيم: القيم القديمة التي ما تزال قوية ومؤثرة وفاعلة، والقيم الجديدة التي باتت ملحة يوما بعد يوم، وهذه الأخيرة تُعَدُّ جذابة للأبناء، مما يضعهم في مواجهةٍ مع آبائهم من الجيل القديم، الأمر الذي ينشئ شرخاً عميقاً يُهدد الروابط بينهما، ويعمق الفجوة بين ما هو قديم وما هو جديد.
وليس من الضروري إثبات حدوث ذلك أو البحث فيه، بل إنما المقصود بذلك هو أن الشعب نفسه، بكامل فئاته وشرائحه، وجد نفسه مثقلا أمام هذا التجاذب، يميل حسب الظروف إلى أحد الأطراف، ليعود في ظروف مجاورة أو متزامنة إلى الطرف الآخر، إيابا وذهابا. وبين هذا التأرجح فمن البديهي والمتوقع تماما أن تصبح القضية الأحوازية، وقضية التحرير، قضية إلى جانب باقي القضايا في أفضل الأحوال، إذا لم تكن منسية تحت وطأة كل تلك التجاذبات. فهذه الوطأة لا تظهر لمجرد اختيار بين هذا النمط من التعبير والالتزام أو ذاك، بل هي دوامة تبتلع الفرد وتملي عليه شروط السلوك، وما يلزم عنها وما يتبعها. فقضية الوطن على سبيل المثال، تتطلب من الفرد التخلي عن القبيلة والانتماء إلى الأحواز وطنا ودولة، ولكن التخلي عن تلك البنية يعني في نفس الوقت الحرمان وفقدان الحماية التي كانت توفرها له أمام الصراع القبلي الدائر في المجتمع منذ القدم. وبالمثل تتطلب القيم الحديثة حرية الفرد في تقرير المصير وحرية الضمير بينما يجد الفرد نفسه يبحث عن زوجة لم ترتبط بأحد في الجامعة لصعوبة قبول ذلك منه (أو منها لا فرق) أو رفضه غير الشيعي بوصفه صاحب عقيدة معطوبة. وكل تلك التجاذبات والحيرة لا تسري بشكل شعوري مما يوهم بالأمل بالتحكم بها ووضع حد لطغيانها، بل تنبع قوتها وخطورتها لأنها تنبع من اللاشعور، وتظهر فجأة لتسيطر على سلوك الفرد، دون أن يدرك ذلك أو يجد نفسه في مواجهة ما يتعارض مع وعيه وسلوكياته الحديثة.
وبينما يكون الفرد العادي غير المختص منهمكا بصورة حسية وبشكل يومي بهذه التجاذبات، فإن الانتماء للقضية والكفاح من أجلها يتطلب وقتا وجهودا وتفكيرا وحياة، وهي غير متوفرة لديه، ولا يمتلك إمكانية تفوق نطاق استطاعته. فهنا يبدأ الفرد يومه، ومن ثم حياته كلها، بهذه القضايا التي تطغى على اهتمامه وانشغاله، ولن يتبق له ما يمكنه أو يساعده على أكثر من ذلك (وسيتم البحث في هذه النقطة بالذات وفي دور النخبة هنا في التحديد في النيابة عن الأفراد في التوجيه والإرشاد).
وبينما لم يشفع للقيم القديمة تكرارها لقرون متمادية أمام القيم الحديثة ومنافستها لها، فقد دخلت القيم الحديثة على المجتمع عبر واسطة غير أمينة ومشوهة: هي الفارسية. لم يتعرف المجتمع الأحوازي على القيم الحديثة الآتية من الحضارة الغربية عموما بصورة مباشرة وعبر اتقان اللغات الأوروبية، وليس من خلال التماس مع الغرب والسفر إليها أو التعاطي معها، بل جاء ذلك التعرف عبر النخبة الفارسية واللغة الفارسية والمجتمع الفارسي الذي كان هو الواسطة في وصول كل تلك القيم إلى المجتمع العربي الأحوازي، بعد أن فرض على هذا الشعب الفارسية، وبعد أن شبعته بثقافتها وبات عليه التعاطي والتفاعل معها في المستوطنات وفي كل ربوع الوطن. من هنا يمكن الحكم على مدى جودة هذه القيم، بل وصحتها أو صحة ناقلها، ناهيك عن الدعوة إلى تبنيها أو شرعية تبنيها؛ وذلك لأن الوسيط الناقل لهذه القيم إنما انتقى منها ما يلائم دولته ومجتمعه، وليس بالضرورة أن تكون عملية الانتقاء تلك ملائمة للوطن الأحوازي أيضا. وهكذا أصبح الشعب أمام قيم منتقاة من قبل الفرس، وبات يتفاعل معها على سبيل القبول أو الرفض أو محاولة التكيف معها، وهكذا تكرر ذلك الإنهاك في التعاطي معها، مما جعل الجمود نتيجة منطقية لهذه الظروف السائدة.
التفريس
وأكبر ما يظهر قلق هذه القيم، بل وضرورة مسائلتها والتعاطي معها بمنطق موضوعي واع، هو ذلك الوعاء الذي حملها معه، وأصبح وسيطا بينها وبين المتلقي العربي الأحوازي الذي وجد نفسه تحت وطأتها وضرورة اتخاذ موقف منها. فأكثر ما يكشف تلاعب الفارسية والفرس بهذه القيم هو عملية التفريس، إذ بينما تؤكد القيم الحديثة على التعددية وضرورة صيانة اللغة الأم، جاءت الحداثة الفارسية على شكل تفريس للآخر غير الفارسي وبثت في ذلك عملية معقدة وطويلة الأمد على يد السلطة وأجهزتها، لنكران العربية وجعلها علامة التخلف والازدراء وكل ما هو قبيح.
وقد تمكنت عملية التفريس من اصطياد نخب المجتمع، خاصة في الثمانينات والتسعينات، وما تزال تفعل وإنْ خفت وتيرتها بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. ففي تلك الفترة المشار إليها التي شهدت ميلاد شبه طبقة وسطى جاء التلازم المفروض بين العربية والتخلف سببا رئيسا في تحول جل المحتكين بالمستوطنين الفرس إلى التفريس، لأنهم على تعاط يومي معهم في الجامعات ودوائر التوظيف الحكومي والمستوطنات التي سمحت لهم بالسكن. وهكذا عكست عملية التفريس الجاري على لشعب، عبر التلاعب بسير خطى النخبة، النخبة العربية، من تكوين قومية ومواطنة والتأكيد على الحقوق القومية، إلى الاستحالة بالفارسية والاستلاب ونسف قضايا الوطن الأحوازي ونبذ العربية والتبريء منها.
لكن على الرغم من ذلك فقد كانت عملية التفريس، في إطار الأسباب المؤدية لجمود الساحة، قد عملت كسيف ذو حدين إذ تمكنت من جهة من استحالة نخب كثيرة في الفارسية وقضت عليهم وعلى أسرهم التي كونوها فيما بعد لتحرم الشعب من قواه ونخبه الذين كان بإمكانهم إنشاء أثر وتغيير واقع؛ ومن جهة أخرى جعلت هذه العملية الصراع العربي الفارسي على الوطن الأحوازي العربي، صراعا رهن موضوع الساعة، مما ضمن لقضية التحرير والاحتلال أن لا تنسى وأن لا تصبح معتادة، بل هي تعكس صراعا معالمه تبدأ عند الخروج من البيت بل في البيت نفسه في قنوات التلفاز الفارسية وغيرها.
ومن هنا ونتيجة لهذه الحقيقة، حقيقة التفريس كسيف ذي حدين، له وعليه، التبست هذه العملية مرة أخرى بعيون المجتمع حينما ظهرت اليوم، في الوقت الراهن على شكل مواطنة عالمية، والنظر إلى الانتماء كعلامة قصر نظر وتخلف بل وعنصرية. وبينما للمواطنة العالمية والانتماء لها شروطها، وهو شعار طوباوي جميل، تروج النخب الفارسية والشعب الفارسي إلى المواطنة العالمية، في نطاق الحدود الإيرانية، والتي من شروطها التخلي عن السعي للتشبث بلغة الأم والاكتفاء باللغة الفارسية بوصفها لغة عابرة للقوميات تمثل إيران بكل ما فيها من شعوب وحضارات. ويبدو جليا من ذلك أنها مغالطة المصادرة عن المطلوب، بيد أن ذلك بات يتداول في المجتمع الأحوازي، ما حال دون الزخم اللازم لتفجير حراك وانتفاضات. (وفي هذا السياق وبمناسبة تزامن عيد الفطر، عيد العرب، بعيد النوروز، عيد الأعاجم، لم يفت المستوطن اللوري وبعض النخب العربية المستلبة فرصة التأكيد على المواطنة العابرة للقوميات هذه، وبات الحديث الزائف يدور حول بيوند نخل وبلوط أطلقه الفرس بمساعدة العرب كأحدث صور من صور التفريس والأساليب غير الملموسة التي تظهر ضمنها وتمارس من خلالها ).
الأسباب السياسية
وفي مقدمة الأسباب التي تقف خلف جمود الساحة عن كل حراك قومي جماهيري، قرابة العقد، هي الأسباب السياسية، إلى جانب الأسباب الثقافية المتعلقة بالقيم الانتقالية والتفريس والأسباب المجتمعية. فهنا يحتل السبب السياسي الموضع القيادي، وله تعود الشروط الكافية لإيجاد حراك أو تسيير انتفاضة أو إشعال ثورة. وفي مقدمة الأسباب السياسية التي آلت بالمجتمع إلى كل هذا الفتور هو غياب النخب، وعدم وجود العمل المؤسسي الحقيقي.
غياب النخب
وكما أشرنا في الفقرة السابقة (فقرة الارتباك القيمي) بأن دور النخبة في صراع القيم الحديثة والقديمة هو دور قيادي في إرشاد العامة وتوجيههم، حيث تعد الفترات الانتقالية الأرضية الخصبة للدور النخبوي وصناعة الشخصيات الكاريزمية المنتفضة للشعب، كان هذا الدور على العكس من كل ذلك منعدما أو خاليا عن التأثير لأسباب كثيرة متداخلة.
لقد شهد الأحواز مذبحة نخبه بين التفريس، والتفقير، واليأس، والاعتقال، والهجرة، والجهل. وبينما تنقسم هذه المسببات العامة إلى أسباب نابعة من الواقع الفردي وأسباب خارجية يفرضها نظام الاحتلال، فإن التقييم الصحيح لهؤلاء النخب هو أنهم ليسوا نخبا بالمعنى الأتم للكلمة، ليس من حيث توافر امكانية التأثير فحسب، بل لافتقارهم التسلح باللغات الغربية، لغات العلم والتقانة والحداثة، ومن حيث الإحاطة بالعلوم والاختصاصات، فضلا عن المكانة المجتمعية التي لم تسمح لهم، بأبنيتها القديمة، بالاستحواذ على مواقع التأثير والنفوذ. من هنا فإن النخبة ظلت مجرد أسماء لم تتجاوز سوى نطاق أصحاب الشهادات الجامعية الذين لا يمتلكون سوى رفض الواقع واللوم عليه، دون القدرة على بلورة بديل يقنع الجميع، أو الأكثرية، ودون القدرة على صناعة كيانات أو ظروف بإمكانها التعامل مع الواقع والتعاطي معها رفضا أو تأثيرا أو تفاعلا.
وبشكل عام في ظل عدم توافر نخبة فكرية، وتقنية، وعسكرية، وقيادية: وفي كافة هذه الأصعدة الأربعة يفتقد المجتمع إلى ميلاد نخب فاعلة لأسباب كثيرة. وبينما يعتمد البعض النخب التقليدية حصرا، فأن المقصود هنا بالدرجة الأولى هي النخب الحديثة التي تتشخص ضمن الساحات الأربعة. كما يعني مفهوم النخب هو تلك الجماعات التي توجه الواقع فكريا من جهة، وتقوم بإدارته وقيادته من جهة أخرى. فهي هنا كتلة قيادية تؤدي دورا توجيهيا بالتحديد، سواء تم ذلك التوجيه عبر القوة الناعمة، أو عبر استخدام الأساليب المباشرة والقهر المادي.
ومن أبرز أسباب غياب نخبة في المستويات الأربعة تلك هي ذلك الاتصال الفردي الجماعي بالوقت ذاته: فهنا يولد الفرد في حيز زمني ومكاني يكون مهيأ سلفا من أجل تنشئة محددة، تصب لمصلحة استمرار الهيمنة الفارسية، وهذا يعني ميلاد الفرد ضمن ظروف خاصة قاهرة لذاته وتشخصه القومي؛ ولكن بما أن للأفراد، بوصفهم أنا جماعية، القدرة على التحرر من البنية والظرف القاهرة المهيمنة سلفا، يتبين من ذلك القصور الفردي في النخبة التي أهملت، أو تقاعست، عن كسر القيد هذا، وعملت هي بوعي منها أو من دون وعي على إعادة إنتاجه واستمراره. وبغض النظر عن تضافر الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة فإنها تتحرك ضمن هذا الحيز الذي يتعاطى فيه الفرد مع الجماعة لميلاد ظروف محددة هي ظروف الحياة في نطاق الاحتلال الفارسي. ومن أجل ذلك تعذر لغاية الآن ميلاد النخبة القومية القادرة على مجابهة الاحتلال والتصدي له، وخلق واقع جديد تتغير فيه المعادلة لصالح الشعب، ويقيم علاقات مغايرة كليا عن العلاقات الراهنة القائمة على حساب مصلحة الأحواز العامة.
انتهاء العمل التنظيمي
وهو عمل نخبوي بالدرجة الأولى، حيث يكون العمل التنظيمي عبارة عن اجتماع نخب حول فكرة جامعة وهيكل تنظيمي عملي يسمح على إدارة العمل بسرعة متناهية ويساعد في السيطرة على أرض الواقع. فهنا ليس من الوارد الحديث عن انتفاضة جماهيرية شاملة، تندلع أولا ثم تولد عنها قيادات ميدانية وفكرية، بل إن الحالة على العكس من ذلك تماما حيث العمل التنظيمي هو من يؤدي إلى حدوث انتفاضة يتم التحكم بها وتوجيه بوصلتها من قبل العمل التنظيمي نفسه.
ومن أبرز المكتسبات التي تتمخض عن العمل التنظيمي الذي كان غيابه سببا رئيسيا في الفتور والسبات الذين تشهدهما الساحة الأحوازية، هو تزايد الوعي على أوسع نطاق. فهنا لا يمكن عكس القضية كما هو عند معظم المناضلين في الخارج والداخل، إذ يشترطون وجود وعي شامل ومؤكد كشرط المضي في المواجهة، بل الانتفاض عبر العمل التنظيمي هو الذي يؤدي إلى ميلاد الوعي وبثه وتوطيده. وهكذا تكون العملية ليس أقصر من حيث الزمني، بل هي الملتزمة بمنطق التاريخ، وماضي الأمم التي عانت من الاحتلال أو الاستعمار في العصر الحديث. وتقدم الانتفاضة على حدوث أي وعي يراعي تلك الحقيقة من أن جميع البنى المفروضة من قبل الاحتلال تمنع الوعي وتكوينه وميلاده وبثه، ولذلك لا سبيل إلى ذلك الوعي القومي إلا إذا حدثت انتفاضة نخبوية تنظيمية تكسر هذه السائد، بما توفر لديها من التحرر من قيدها، ثم بموازاة كسر قيود الحواجز تلك يكون التمهيد لبث الوعي على أكبر نطاق جماهيري.
ومن مميزات العمل التنظيمي المساهمة المباشرة والقوية في تنشئة واعداد النخب القومية، وصناعة القيادات من رحم العمل الثوري المنظم، وهو ما يجعل كل انتفاضة وثورة خير ظرف لصناعة القيادات القادرة على إكمال المهمة أو تغيير بوصلتها نحو الطرق الأكثر جدارة في إصابة الغاية المثلى وهي التحرير. وهذا يعني أن مثل هذا الحراك هو الكفيل، أكثر من غيره، في تربية العناصر التنظيمية الحزبية التي تعي العمل التنظيمي وتلتزم بمنطق حركته، مما ينقذ الأحواز من هذا النقص في العناصر الناشئة على هذا السلوك التنظيمي.
ثم إن العلم الإستراتيجي اتجه نحو سياسة مبتدعة عند وجود مواجهة بين طرفين فارق القوة كبير بينهما، هي استراتيجية المواجهة غير المتناظرة، يعمد فيها الطرف الضعيف إلى إحداث استراتيجيات في المواجهة تتجنب كليا الصدام المباشر مع المتفوق كليا، ويلجاء بدلا عن ذلك إلى الالتواء عليه لإحداث الاختراق فيه والتغلب عليه. وهذه هي الاستراتيجية المثلى في الوضع الراهن، إذ لا يمكن الدعوة إلى هبة جماهيرية عارمة قد ثبت امكانية تصدي النظام الإيراني لها بالنار والحديد، والقضاء عليها. ثم من شأن هذا الصدام اللاتناظري تعطيل المشاريع الهادفة إلى استمرار الهيمنة، وهي مشاريع نظير الاستيطان الذي يكاد يودي بالقضية الأحوازية ويقضم الوطن الأحوازي بكامل عروبته ويجعله وطنا متعدد الأعراق بين الفرس والعرب، مما يجتث حلم قيام الدولة الأحوازية من الجذور.
الاستنتاج
هكذا يتبين إذن كيف أدت الأسباب الثلاث، المجتمعية والثقافية والسياسية، إلى فتور وخلو الساحة الأحوازية منذ عقد عن أية انتفاضة جماهيرية شاملة، كما شهدها التاريخ واعتادت عليها الأجيال جيلا بعد جيل. فمن حيث الجانب المجتمعي كان للفقر واحتلال النخبة التقليدية ساحة التأثير والقيادة والتوجيه الأثر الأكبر فيما آلت إليه الأوضاع من انهماك الفرد في القضايا المختصرة على القوت اليومي، والاعتداد بالنسب واختصار الوطن على قرية القبيلة وحيزها الضيق. وتبين في الجانب الثقافي كيف عمل ارتباك القيم بين الحديث والجديد، والتأرجح اليومي بين القيم الحديثة والقيم القديمة عمل على تذبذب فردي وجماعي من أولى نتائجه الابتعاد عن الإقدام والعمل. ثم تبين في التفريس كيف كانت الحداثة الآتية عبر الفرس حداثة زائفة نقلت عبر الفارسية للأحوازي ما أريد له نقله، ليتصور الحداثة مواطنة عالمية تسمح بهيمنة الفرس الأبدية على العرب. أما الجانب السياسي فما يزال يظهر بقوة كيف أفضى غياب النخبة الفردية والأنا الجماعية الإيديولوجية على ترك الساحة مرتبكة بين حالة انتقالية يصطاد فيها الفارسي ما يسمح باستمرار وجوده. كما تبين موضع العمل التنظيمي من كل ذلك بوصفه المنقذ الوحيد لاستنهاض الأمة واستيقاظ الشعب من سباته ونومه وخنوعه.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات