المقدمة
لقد كانت سياسات النظام الإيراني، منذ فترات طويلة، تضع نخب الشعب الأحوازي أمام خيار يتوسط بين الهجرة والسجن، أو القتل والمنفى. فكان الفرار من آلة البطش الفارسي هو الخيار الأمثل، ليستقر المطاف بكثيرين منهم عند شتى دول العالم، خاصة الغربية منها. وبينما كان ختام هذه الهجرة ينتهي بالاستقرار وبحياة كريمة نسبيا، وفردية في الأعم الأغلب، تحول الأمر في الأعوام القليلة الماضية، وباتت تظهر حالات من النشاط لم يكن لها نظير من قبل. وذلك عندما أظهرت فئات في المنفى، نشاطا استثنائيا، وتبن للقضية لم يشهده التاريخ: إنه نشاط الجالية الأحوازية في أستراليا، الذي يمكن اعتباره بقوة بدايات تكوين وعي قومي عربي أحوازي في الشتات.
فقد يستطيع المتابع لشأن هذه الجالية أن يسجل بسهولة مختلف النشاطات والندوات والفعاليات والمظاهرات والتجمهرات إلخ، التي سيرتها هذه الجالية، وسهرت من أجل إقامتها، وسعت من أجل تنفيذها بأفضل الطرق. فأخرجتها على أحدث الصور المدنية، والصياغات الحديثة، حتى نالت بها عناية الأستراليين، وجلبت انتباه الأجهزة الحكومية واهتمام الدولة المستضيفة لهم (وهي دولة باتوا ينتمون إليها ويحملون جنسيتها) إلى درجة أخذ يتحدث عن هذا النشاط نواب برلمانيون، وباحثون مرموقون، وبلديات مسؤولة.
ومن أجل كل ذلك، ومن أجل التنويه بهذه الأعمال القومية العربية الأحوازية، وتقدير طابعها الحديث المدني، يتم قراءة أبرز صفات هذه الأنشطة والفعاليات، من جهة، والخروج بتوصيات متواضعة من جهة أخرى، للرقي بهذا العمل المنقطع النظير.
التعريف بهذه الجالية: جيل انتفاضة 2005
إنه على الرغم من ظهور هذا النشاط الأحوازي-الأسترالي في الأعوام القليلة الماضية، ليس القائمين عليه بحديثي العهد في تبني القضية، ولا يمكن اعتبار اهتمامهم بوطنهم نوستالجيا غير شعورية، أو حنينا عاطفيا؛ بل إنهم جيل انتفاضة الخامسة بعد الألفين. فبعد أن هب الشعب في مطلع الألفية الثانية (2005)، وخرج بانتفاضة عارمة عمت الأحواز بكل مدنها وحواضرها وقراها، قاد النظام الإيراني بجنون حملة أمنية شاملة عارمة انتقم بها من هذه الانتفاضة والشعب الذي أقامها، فراح هكذا عشرات الآلاف بين قتيل تحت التعذيب شهيدا، وبين من ضاع مغيبا، وبين مؤبدات تصدرها المحاكم الشوفينية في دقائق، وبين من سلم بجلدته فحالفه الحظ بتمكنه من الخروج من إيران.
وهذا الجيل الناشط اليوم في أستراليا، هو من بقايا الناجون من تلك الانتفاضة. وإذا كان السؤال يثار على الفور عن الفاصل الزمني بين هذا التاريخ وبين بضع سنوات من حياة هذا النشاط، موضوع الحديث، فيأتي الجواب مسارعا أيضا بأن متطلبات المنفى والهجرة هي التي حالت دون مباشرة النشاط القومي العروبي من قبل هؤلاء بمحض النجاة. وذلك لأن اختيار البلد المستضيف والوصول إليه عبر اللجوء، لا شك، قد تطلب سنوات حتى يتم بها ترتيب الحياة قانونيا قبل كل شيء، ثم اقتصاديا ونفسيا إلخ، لتستتب الحياة وترتكز على مستوى مستقر يسمح بالعودة إلى الأصل: قضية التحرير المنشود.
وما إنْ تحصل هؤلاء على استقرار نسبي حتى عادوا إلى نصرة قضيتهم، بعد أن نصروها يوم كانوا في الوطن الأم، وشاركوا في الانتفاضة مشاركة كبيرة وفاعلة، قبل أن يظفر بالأحواز النظام العنصري فيضع نخبة أمام خيار القتل والسجون، أو المنفى والهجرة. وبينما كانت أساليب نصرة القضية في الداخل هي الكفاح المسلح، والمظاهرات السلمية المدنية، والنشاط الحزبي القليل، وغير ذلك، فإنه من البديهي أن يكون النشاط في الخارج مختلفا عن أنواع ذلك النشاط، وأن تختلف أساليبه بالنظر إلى الزمان والمكان الذي يتم فيه.
وهكذا جاء النشاط الأحوازي الرامي إلى تحرير الوطن المغتصب في أستراليا (البلد الثاني) بهذه المواصفات وعلى هذه الشاكلة:
-
التحرر من العمل التنظيمي
حيث يعد العمل غير المنظم الصفة الأبرز لهذا النشاط، وهي صفة النشاط المدني المعاصر في الوقت الراهن. فجميع الاحتفالات والمهرجانات والمَسِيرات إلخ، التي تقيمها هذه الجالية تأتي من محض أفكارهم وبدعم ذاتي، وبتخطيط وتنفيذ مدني يجتمع عليه هؤلاء في غرفة عمليات مصغرة، دون أن يكون لأي تنظيم، قديم أو حديث، تأثير أو إملاء عليهم.
وهذا إلى جانب منحهم مزيد حرية في العمل والحركة، يفرض عليهم الحاجة إلى الإبداع، ومضاعفة الجهود. ففي ظل غياب تنظيم يتمتع بتراتبية فيه تقسيم الواجبات وتحديد المهام وسبل الوصول، يصبح طريقة الظهور في مظاهرة أو إقامة احتفالية أو مهرجان إلخ، بحاجة إلى إبداع طرق جديدة، وإلى التطرق إلى سبل مبتدعة لم تُطْرق من قبل. وهذا هو الطابع الملحوظ في هذا النشاط، إذ كانت جميع الخطوات تتم بهيئة جديدة مبتكرة، وبجهود فردية قد يقوم بها بضعة أشخاص.
ومن هنا تأتي الصفة التطوعية في هذا الحراك، إذ لا يقوم الأفراد بالنشاط نتيجة التزام مفروض، بل العمل الطوعي هو دافع الحركة وقوامه. ومن أجل ذلك ينشأ جو من العمل يخيم عليه التفاني والتعاضد والتضحية من أجل إنجاح المهمة، على حساب المنافسة والعرقلة والانتقاص، لإفشال العمل الذي قد يقوم به خصم داخل التنظيم. وهذا هو سر استمرار مثل هذا العمل ونجاحه، كما يتم التطرق له لاحقا، حيث نجحت هذه الجهود في فترة قصيرة في ما عجزت عنه تنظيمات أحوازية لعقود. إنه العمل الطوعي الذي تتحد فيه الذوات، ويصبح الكل متوحدا في غاية واحدة، الكل مشترك فيها بمحض إرادته وقناعته وإيمانه.
-
الابتعاد عن الانقياد الحزبي
وكما كان العمل غير التنظيمي صفة هذا النشاط، فإنه جاء كذلك متحررا من الانتماءات الحزبية وطرق العمل الإيديولوجي. فبدل أن تكون المسيرات والاحتفالات والنشاط المدني سبيلا إلى البيانات الرنانة، أو منصة لنصرة أفكار معينة، أو جماعة بعينها، لم تكن كل الفعاليات إلا تعبيرا عن التواجد الأحوازي، وتأكيدا على الصلة الواعية بين الوطن الأم والمنشأ والوطن الثاني.
وخلافا للمظاهرات الحزبية التي لم تنجح الكثيرة منها حتى في إظهار علم موحد للجميع، كانت الوحدة هي الظاهرة على نشاط هذه الجالية، سواء في العلم الأحوازي الموحد، أو بمستوى التنظيم الجيد، أو بالمقدرة على جلب أكبر قدر من الانتباه من قبل الإعلام المحلي، أو تعاطف الأحياء التي تقام بها مثل هذه النشاطات.
ثم الابتعاد عن العمل الحزبي، وإظهار النشاط بصفة مدنية جعله يظهر بمنظر العمل الأهلي، غير الربحي وغير المؤدلج، مما منح تعاطف فئات كبيرة من المواطنين الأستراليين من جهة، ومنح النشاط حرية التحرك عبر إبعاد أية شبهة حزبية يمكن أن تستخدم ضده من جهة أخرى. فهنا كانت الأجهزة الحكومية أمام حراك غير منتم إلى أي مسميات أو أحزاب سوى ذلك الانتماء إلى الوطن، وإلى لغته وثقافته وعاداته وتاريخه. وكل تلك محل اعتراف بل وتقدير من قبل البلد المستضيف، يمكن أن ينظر لهاء غناء له، أو أن يخصص الدعم لاستمراها وتعزيزها. وما كان ذلك ليتحصل لهذه الجالية لو كانت تسير ضمن الأطر الحزبية، التي ينظر لها بارتياب وتخوف.
-
التنشئة المجتمعية العربية
ولا يمكن حصر تميز هذا النشاط في الجانب التنظيمي الحزبي المشار إليه فحسب، بل إنه أظهر أمرا غاية في الخطورة والتأثير، حين تجاوز مجرد الفعاليات الاحتفالية، إلى دخوله في إطار التنشئة المجتمعية. فلقد أثبتت مراقبة هذه الفعاليات بأن القائمين عليها لم يكتفوا في نشاطهم الفردي وجهودهم الخاصة بهم وبدائرة أصدقائهم، بل إن النشاط شملهم هم بزوجاتهم وأبنائهم معا.
وهذا بالتحديد هو ما جعل أفضل الأوصاف الشاملة لهذا النشاط هي بأنه نوع من التنشئة المجتمعية الأحوازية، وتوريث الأبناء والأجيال القادمة القضية الأحوازية وحب الوطن، والانتماء للعروبة. فبينما نرى في النشاط في الداخل حالة مؤسفة يكون الأب فيها شبه مناضل ويكون الأبناء مستعجمين، تكون الحال هنا اتحاد بين الوالدين والأولاد، ثبات على العروبة الأحوازية يسري من الأب والأم إلى الأبناء بصور راقية، ودون توقع لنيل جاه أو رقي حزبي أو متاجرة بالقضية من أجل حفنة مال أو ظهور إعلامي أو الحصول على لجوء. إنها معتقدات وإيمان بالقضية من أجل أحقيتها، ومن أجل ما تحمله روح المؤمنين بها من إباء عن التغطرس الفارسي المحتل وكل ما جلبه على الشعب طيلة قرن من احتلاله.
وكل ذلك بالإضافة إلى ما قيل سابقا، يضمن سريان هذه القيم النضالية بين الأجيال، وسيجعلها قضية متداولة، يمنع موتها بموت المؤمنين بها، وإتيان أجيال ضائعة لا تدري من شأن تاريخها وماضيها وعروبتها ووطنها شيئا. إنه أشبه بالضمان المجتمعي الذي سيضمن استمرار المطالبات العربية الأحوازية بالحقوق القومية والسياسية والحضارية (بكلام واحد) عبر استمرار الأجيال المؤمنة بها. فصور الفعاليات تلك وصور الأطفال المرتدين الزي العربي ليست مجرد استعراض مفرح جاء تسلية ومرحا، بل هي في صميم الوعي بضرورة تربية الأبناء وتنشئتهم على قيم الآباء، قيم الحرية وعدم الرضا بالظلم والعروبة، والأحواز وطنا سليبا غاية كل أحوازي تحريره.
-
النشاط النسوي
لمَ لا تكون القيم متوارثة، وقد ترضعها الأمهات إلى الأبناء لدى هذه الجالية التي أظهرت نوعا من النضال جديدا ومبتدعا: فأول ما يمكن اعتباره إنجازا للقضية هي ذلك الحضور والنشاط والتأثير البالغ والخطير للنساء الأحوازيات العربيات التي يمكن عد دورهن في كل ذلك هو دور القطب من الرحى.
فبينما تخلفت المرأة الأحوازية في الداخل، نتيجة البنيات القبلية والدينية والنظام الإسلاموي المعادي للمرأة، عن إكتمال التشخص النسوي بلوغا بظهور نساء مناضلات، وبينما ارتمت المرأة في بعض بلدان المنفى ولدى بعض الأسر شبه المناضلة في أحضان التفسخ الخلقي من جهة، أو الارتداد السلفي الرجعي من جهة أخرى، أثبتت هذه المجموعات النشطة نوعا آخر من التمظهر النسوي، وباتت النساء هن من يمنحن الأمومة لهذا الحراك، وهن من يعتلين بصوت الأحواز النسائي.
ومن ضمن النشاط النسوي الظاهر في الاحتفاليات المقامة هو الظهور بالزي الأحوازي، «الثوب والشیلة»، وخياطة الأعلام، والقيام بطهي «الكليجة» المعروفة الأحوازية وإطعامها للمارة والمتسوقين من الأجانب، وعرض الأكلات الشعبية الأخرى نظير «السياح»، مما خلق من جهته تأثيرا على المتذوقين من غير العرب، وحتى بعض العرب من غير الأقطار، جعلت المدخل للقضية شيء من هذه الأكلات الشعبية. ولا يمكن التقليل من هذه الأعمال، بل هي نوع من الفن الراقي، والذكاء الأصيل الذي يأخذ بيد الجاهلين بقضية ما، بمأخذ يسير وبسيط، ثم يعلو به إلى ما يريده ويصبوه من التعريف بالأحواز حضارة وتاريخا وعروبة ووطنا.
إن إضفاء هذا الطابع الأنثوي إلى القضية، لم يراعي جماليات الحياة وفنها الراقي المتمثل بالرقي النسائي فحسب، بل إنه منح المرأة مزيد من تأكيد الذات، والإيمان بمدى الدور الذي يمكنها فعله في شؤون خطيرة نظير شأن تحرير وطن، وتربية الأجيال على القيم السامية، وانعتاق المرأة من شرنقتها العربية الأبوية إلى أفق صناعة الأجيال وتحرير الأوطان. ومن هنا يمكن اعتبار النساء المشاركات نماذج وأمثلة للمرأة الأحوازية يحتذى بها، إذا ما تمكن الإعلام من إظهار هذا الجانب النسوي، والتركيز على مستوى القدرات والمؤهلات التي تمتعت بها المرأة هناك عند إتاحة الحرية اللازمة والإمكانيات الداعمة.
-
استمالة الأجيال الأحوازية القديمة والجديدة
ثم إن التنشئة المجتمعية هذه لم تسري بشكل خطي إذ صح القول، أي لم تشمل الأبناء فحسب، بل إنها عملت بشكل شمولي إعجازي حين رجعت بالأجيال التي هاجرت من قبل، واستمالتهم، وجعلت عدة كبيرة من الأحوازيين التائهين، غير المنتمين أو قل شبه المستعجمين الذين جرفهم تيار التفريس تقريبا، جعلتها تهتم بعروبتها وأحوازيتها، وتشارك مشاركة خجولة في الفعاليات.
وليس في ذلك شك بأن استمرار هذا النشاط سيعود بهذه الفئات إلى عروبتها بشكل قوي ومؤكد، ويقضي على بقايا التفريس، عبر كشف تأثيراتها فيهم لسيما في لغتهم وفي معتقداتهم وفي رؤيتهم الكونية عموما. ولتأكيد تأثير هذه العملية من بث الوعي والقضاء على تلوث التفريس في الأحوازيين، يمكن سرد أمثلة لتقريب المعنى للمتلقي: لم يعد هذا الجيل المستلب يعتبر نفسه جزء من الجالية الإيرانية، ولم يعد كثير الاحتكاك بالفرس الأستراليين هناك بل راح يتصل بالأحوازيين أولا، ثم بالجالية العربية هناك ثانيا بوصفه عربيا ينتمي إلى هذا الفضاء القومي والحضاري؛ كما بات يبتعد هذا الجيل المنصهر تقريبا في التفريس عن سماع الأغاني الفارسية بل اتجه، بفضل هذا النشاط، إلى الأغاني العربية شيئا فشيئا؛ كما لم يعد هذا الجيل غير آبه بالعربية يعلم الأبناء الإنكليزية حصرا بل بات يميل نحو تعليم العربية للأبناء والاعتزاز بالانتماء للعروبة قومية وهوية ووطنا.
-
الدعم المالي للخارج والداخل
ليس هذا وحسب بل إن هذه الفئات استطاعت أن تعتلي بنفسها وتشخصها عبر ما اتاحته الحياة في مجتمع سوي. وذلك بعد أن تمكنت من ضبط أمورها في الحياة، من مأكل وصحة وتأمين إلخ، سرعان ما ارتقت بشكل قيمي إلى الأمور المتعالية في الحياة البشرية، ولم تتقوقع في ملذات الحياة الغربية. إنها تعالت بشكل سليم بإنسانيتها، وفق التراتب الهرمي الذي قاله مازلو: فبينما لم يعمل هذا التراتب الهرمي لدى شريحة واسعة من الأحوازيين (إذ بمجرد استقرار حياتهم في الغرب شذوا عن كل شيء سوى الكحول والنساء) جاء الاستقرار المادي النسبي الذي تمتعت به هذه الجالية منصة للبحث عما هو أرقى وأجل، فراحوا يتقنون لغة البلد المستضيف، ثم اهتموا بالمعنويات من فن وقيم، وتوجوا تشخصهم بتبني القضية الأحوازية والتضحية من أجلها.
ومن أولى هذا الرقي بالتشخص هو التضحية بالأموال الحاصلة من راتبهم إلى القضايا العلمية الخاصة بالشعب الأحوازي ونخبه، وهكذا باتوا يخصصون جزء من الراتب الحكومي، الذي يبقى راتبا عاديا في الدولة الأسترالية، إلى دعم النشاط العلمي، من معاهد أو ندوات أو كاتب في الداخل إلخ، خدمة للغاية، وإيمانا بالمبدأ المدني الحاصل في الحياة المدنية.
ولا يمكن تقدير هذا العمل الذي يبدو يسيرا إلا إذا قورن ببعض الحالات التي فقدت فيها القضية بوصلتها، وتحولت إلى مطية لكسب المصالح الفردية، مما أدى ذلك إلى نفور الاجيال اللاحقة عن بعض الجهات المدعية النضال، لأن هذه الحالات الفردية حجبت الصورة العامة عن المناضل والنضال الأحوازي المتصف بالالتزام. فخلافا على هذا التصرف الشاذ، تركت هذه الجالية بأموالها النظيفة أثرا على تمشية بعض الأمور الثقافية الأحوازية وساهمت فيها مساهمة تذكر.
-
استجذاب النخب الأسترالية
ومن غرائب الحياة البشرية في هذا السياق بالتحديد، هي قوة المعتقد الصادق في الحياة ومقدرته على التحقق وتغيير الواقع. وهذا هو الذي حصل، من جراء نشاط الجالية الأحوازية، في أستراليا الوطن، حيث لوحظ نجاح في استجذاب نخب أسترالية، جلبهم الفضول إلى فحص القضية، والبحث في خلفيات هذا النشاط الصادر عن مواطنين أستراليين من غير البشرة البيضاء.
وقد شمل هذا الاجتذاب طيفا واسعا من النخب الأسترالية، بين كتَّاب أخذوا يكتبون في الصحف المحلية عن الأحواز، ويتناولون تزامنا مع ذلك ممارسات النظام الإيراني العنصري ضد شعبها، ومحاولات هذا الشعب الحفاظ على هويته وثقافته وتاريخه، ومدى تمسكه وحبه بعروبته. وبين نواب في البرلمان صدرت تصريحات رسمية عنهم، بوصفهم ساسة هذا البلد، طالبوا فيها الدولة الإيرانية المحتلة رسميا بالكف عن ممارستها الوحشية والعنصرية ضد «الأقلية العربية الأحوازية»، حسب وصفهم، والسماح بممارسة الوجود القومي لها. وبين وفود من وزارة الهجرة الأسترالية الذي تطلب من الجالية المشاركة في النشاطات الرياضية للدولة، بعد تأسيسها فريق كرة قدم أحوازي يساهم بشكل فعال في النشاط الرياضي.
ثم إضافة إلى كل ذلك نجحت هذه الفعاليات في جلب عناية البلدية المشرفة على الأحياء والمدن التي تقام فيها، وباتت البلدية تمنح كل التعاون اللازم لإنجاح عمل هذه النخبة، وربما ستمنح البلديات في مقبل الأيام الدعم اللازم لمثل هذه الفعاليات، وقد تدرج عددا منها ضمن الطابع الذي يمثل المدينة، وجزء من ثقافتها وتعدديتها.
- تخوف السفارة الإيرانية من ذلك
وهذا بالتحديد هو ما أرعب السفارة الإيرانية في كانبرا، واضطرها إلى رفع شكوى وتذمر من نشاط هذه الجالية إلى الحكومة الأسترالية، مطالبة إياها بمنع مثل هذه النشاطات المخلة بـ«المصلحة الإيرانية»، على حد وصفهم. ويكفي نجاحا لهذا العمل هذه الشكوى من جهة، ورفض الدولة الأسترالية الاستجابة للدعوات الإيرانية من جهة أخرى.
وقد يمكن أن يعمل مثل هذا التصرف الإيراني كداعم للحراك بصورة أو بأخرى، ويجلب حماية من الدولة الأسترالية، ودعما منها لتوطيد هذا العمل الذي هو عمل مصيب وفق المنظومة الأخلاقية والثقافية والسياسية الخاصة بها. ومن أجل ذلك يمكن النظر إلى هذه الشكاوى الإيراني على أنها تذمر يخدم أكثر من أن يضر، ولا يجب الانصياع له أو التخوف منه.
التوصيات
وبینما لا یخلو کل عمل بشری من نقاط قوة وضعف، تأتي هذه التوصيات المختصرة بهدف تعزيز العمل وتطويره؛ ومساهمة متواضعة تنوه بهذا النشاط وتعتز به، وإنْ لم تشارك به.
- تربية نخب أحوازية مزودة بالعلم والمؤهلات الحديثة اللازمة، من أجل أن تكون مهيأة لتبوؤ مناصب في أستراليا في البرلمان، وفي الحكومة، وفي المجالس البلدية، تكون هي الصوت الأحوازي الأصل الأسترالي التأثير.
- استغلال الاعتراف بالذات الذي تمتعت به هذه الجالية وأبنائها في مزيد من تأكيد الشخصية الأحوازية وتمثيلها خير تمثيل، وتعريف العاملين بها. فهنا لا تعد هذه الجالية مثال لأسرتها أو باقي المتواجدين في المنفى والمهجر، بل هم يمثلون بلد ووطن هو الأحواز، مما يلقي على عاتقهم مسؤولية قومية حساسة.
- مخاطبة الغرب والدولة باللغة التي تفهمها، والتحلي بالصفات الحديثة:
ثقافيا: بوضع القضية في إطار الحفاظ على التمظهرات الوجودية لكل جماعة من لغة الأم والعادات والزي؛ واجتماعيا: عبر التأكيد على التعددية وضرورة الحفاظ على الكيانات الأخرى والتنديد عملية الهيمنة المفروضة من قبل النظام الإيراني؛ وسياسيا: بالتأكيد على حق تقرير المصير، أو الحكم الذاتي؛ وقانونيا: التذكير بجرائم النظام التي ترتقي للتطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الشعب الأحوازي.
- وختاما مراعاة الجانب الأمني والاستخباري، واطلاع الجهات الأسترالية بإحتمالية قيام النظام الإيراني بإرسال مندسين يستهدفون هذه الفعاليات والقائمين عليها. وهذا ما فعله النظام الإيراني حين قام بتهديد أسر الجالية هذه في الداخل، وأخذ بمضايقتهم من أجل الضغط على ترك هذه النشاطات أو التأثير السلبي عليها.
- وهذا بالتحديد يستوجب تخصيص أفراد في جميع الفعاليات والمسيرات والاحتفالات ترصد الأشخاص المشبوهين ومراقبة تصرفاتهم، ثم إبلاغ السلطات الأسترالية عنهم. وقد تستخدم السلطات الإيرانية أحوازيين من أجل النفوذ إلى هذه المجموعات ومن ثم استدراجها للداخل أو استهدافها بطرق مختلفة.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات